في ذكرى جحيم شباط


صوت الانتفاضة
الحوار المتمدن - العدد: 7880 - 2024 / 2 / 7 - 23:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يصعب أن أقول ما كانته
تلك الغابة القاسية، الحريّف، القوية
التي تبعث الخوف في الفكر!
الجحيم.. دانتي.
الساعة الثامنة وبضع دقائق صباح جمعة بارد من العام 1963، جلال الأوقاتي "قائد القوة الجوية" يستقل سيارته، يرافقه ولده الصغير، ذاهبا الى محل لبيع الحلويات، لا يعلم انه سيكون "ساعة الصفر"، ينزل من سيارته مطمئنا، يترجل اثنان من سيارة كانت تترصده، يشهرون سلاحهم ويطلقون النار عليه، يصاب في كتفه، حاول الهرب، لكنهم كانوا مصممين على قتله، فاخترقت رصاصة راسه، ليسقط على الرصيف، والغادرون القتلة لاذوا بالفرار واختفوا؛ صوت ولده الجالس في السيارة وحده من اخترق جدار الصمت وهو يصيح "بابا.... بابا"، وفي لحظة سقوط الأوقاتي أعلنت ساعة قيامة هذا البلد.

وضع البعثيين والقوميين خطة الانقلاب، كان علي صالح السعدي هو الذي أعاد تأهيل حزب البعث، وقد أسس شبكة من "لجان الإنذار"، والتي كانت الشكل الجنيني ل "الحرس القومي"، تم تحديد ساعة الصفر وكان من المفترض ان تكون عند الساعة التاسعة من صباح كانون الثاني 1963، وبالفعل بدأ تنفيذ الخطة في 24 كانون الأول 1962، فقد أعلن الطلبة البعثيين والقوميين الاضراب بحجة ان الشرطة قامت بضرب الطلاب دفاعا عن ابن فاضل المهداوي، "رئيس محكمة الشعب"، لكن النوايا الحقيقية كانت لصرف الانظار عن الاستعداد لقيادة انقلاب ضد قاسم.

تم تأجيل موعد الانقلاب الى 25 شباط 1963، لكن المعلومات قد تسربت لحكومة قاسم، فقام باعتقال علي صالح السعدي وصالح مهدي عماش؛ وقد دب الذعر بين أوساط الانقلابيين، فقرر البقية منهم الإسراع بتنفيذ الانقلاب يوم الجمعة من شباط 1963.

عند الساعة التاسعة وأربعين دقيقة من صباح ذلك اليوم المشؤوم صدر البيان رقم واحد: "تم بعون الله وضع حد لنظام عدو الشعب عبد الكريم قاسم"، بدأت ملحمة الموت والعذاب، حلق منذر الونداوي بطائرة "الهنتر"، ليعلن بدء مسيرة الفوضى ودولة العصابات والعوائل، مهرجان هاديس للقتل والتعذيب والاغتصاب والملاحقة، خلال يومين فقط قتل أكثر من خمسة الاف انسان اتهم بالشيوعية واليسارية، تم ملاحقتهم من بيت الى بيت، كانت عملية اصطياد مارسها فاشيو البعث والقوميين، مجهزين بفتاوى دينية قذرة، وإذاعة تبث لهم أسماء الشيوعيين ومناطق سكناهم.

كالعادة فان دور المخابرات الامريكية والبريطانية لم يكن ليخفى على أحد، فما قاله الملك حسين ملك الأردن في حديث مع الصحفي محمد حسنين هيكل كان تصريحا ومكاشفة واضحة جدا، حيث قال بالحرف "ان ما جرى في العراق في 8-شباط-1963 قد حظي بدعم الاستخبارات الامريكية... لقد عقدت اجتماعات عديدة بين حزب البعث والاستخبارات الامريكية، وعقد أهمها في الكويت"؛ ويذكر خالد علي الصالح، عضو القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك:

"جاءنا طالب شبيب باستعداد احدى الجهات لتزويد حزب البعث بالمال والسلاح، إذا كنا نسعى للتخلص من حكم عبد الكريم قاسم... وطلب فؤاد الركابي توضيح ذلك.. فقال ان هناك مكتب مجاور للمكتب الذي اعمل به، فيه مجموعة من العاملين الامريكان وقد اتصلوا به وعرضوا عليه استعداد أمريكا تزويد حزب البعث بالمال والسلاح"، والأكثر توضيحا هو ما صرح به روبرت كومر عضو مجلس الامن القومي الأمريكي في عهد الرئيس كينيدي حيث قال " ان الانقلاب مكسب لنا"، وهذا ما أكده علي صالح السعدي بجملته "جئنا بقطار امريكي".

كان الثامن من شباط يمثل كل "الحقد الأسود" ضد الحياة، قتل الالاف من خيرة شباب وشابات هذا البلد، واعتقل الالاف، ومورس عليهم شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي، فقد اكتظت السجون والمعتقلات، المئات محشورون في غرف صغيرة، متروكين دون ماء او طعام، لقد أطلقوا العنان لوحوش كاسرة لا تعرف اية قيم او اخلاق، مارست الوحشية بكل تفاصيلها، تمسكت بلغة واحدة، لغة القتل، ونفت كل حوار وتمسكت بحوار الدم.

شاكر خصباك في روايته "الحقد الأسود"، وعلى لسان بطله "رشاد" كان ينادي زوجته "ندى"، ويشكو اليها الامه ومعاناته:
" ان هذا المكان هو الجحيم بعينه. لقد أدركت ان عذاب البشرية لا حدود له، لقد فاض قلبي بالحزن والأسى ولم يعد فيه متسع لمزيد؛ فكيف سأواجه الالام التي تخبئها لي الأيام في هذا المكان يا ندى، كيف"؟
طارق فتحي