أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّالِثُ و الْعِشْرُون-















المزيد.....


الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّالِثُ و الْعِشْرُون-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 14:42
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ مفارقة الفراغ: أن تفقد كل شيء لتمتلك كل شيء كوني

تطرح مسألة فراغ الوعي كشرط لفتح بوابة العدم الكوني إشكالية فلسفية وميتافيزيقية تذهب إلى أبعد من مجرد التقنية الطقسية؛ فهي تمس جوهر العلاقة الأنطولوجية بين الذات و الموضوع. في الفلسفة السحرية العميقة، يُعتبر وعي الساحر هو المرآة التي يجب أن تُصقل حتى يختفي عنها كل إنطباع مادي أو فكري، لكي تعكس الفراغ المطلق للكون. إن العدم الكوني لا يمكن الولوج إليه عبر الإمتلاء الذهني، لأن الأفكار، بطبيعتها، هي صور مشكلة و محدودة تنتمي إلى عالم الوجود القائم. لذا، فإن تحقيق حالة العدم الداخلي (Internal Void) ليس مجرد صمت عابر، بل هو عملية تفريغ أنطولوجي تهدف إلى جعل وعي الساحر متسقاً بنيوياً مع العدم الكوني. لكي تفتح البوابة، يجب أن يصبح الساحر هو البوابة نفسها، وهذا لا يحدث إلا عندما يتطابق اللاشيء الذي في الداخل مع اللاشيء الذي في الخارج. يمكن تحليل هذه الحالة بوصفها كيمياء التجريد؛ حيث يتخلى الساحر عن لغته، ذاكرته، وتطلعاته الشخصية، ليصل إلى نقطة الصفر الوجودي. إن الوعي الممتلئ بالأفكار هو وعي ثقيل ومقيد بقوانين السبقية والمنطق، وهو ما يشكل حاجزاً يحول دون التماس مع القوى الأولية للعدم. عندما يفرغ الساحر عقله، فإنه يمارس نوعاً من المحاكاة الميتافيزيقية للعدم؛ فهو يصنع في داخله فضاءً لا يحوي شكلاً ولا معنى، وبموجب قانون التجاذب بين المتماثلات، ينجذب العدم الكوني نحو هذا الفراغ الداخلي. في هذه اللحظة، يتلاشى الفصل بين الأنا والكون، ويصبح الوعي ناقلاً فائقاً للقوى الميتافيزيقية. الفراغ التام من الأفكار هو، إذن، حالة من الإستعداد المطلق، حيث لا يوجد عائق يمنع تدفق الإحتمالات اللانهائية التي يسكنها العدم. الساحر هنا لا يفكر في العدم، بل يصبح عدماً، ومن خلال هذه الصيرورة، تنهار الجدران الفاصلة بين الوجود واللاشيء. علاوة على ذلك، يمثل هذا الفراغ الذهني حالة من الحرية الجذرية التي تتطلبها الممارسة السحرية العليا. الأفكار هي في جوهرها قيود، فهي تربط الوعي بالنتائج و التوقعات والمفاهيم المسبقة. أما الوعي العدمي، فهو وعي غير مشروط، قادر على إحتواء المتناقضات و توجيه الطاقات الخام دون تحريف. إن فتح البوابة إلى العدم الكوني يتطلب قوة إرادة مجردة من الرغبة؛ فكل رغبة هي فكرة، وكل فكرة هي شكل، والعدم يهرب من الأشكال. لذا، فإن الساحر يجد نفسه في مفارقة مذهلة؛ يجب أن يمتلك إرادة فولاذية ليحقق الفراغ، ولكن يجب أن يكون الفراغ تاماً لكي تعمل الإرادة. هذا السكون النشط هو الذي يحول الوعي من مستقبل سلبي للواقع إلى محرك أصيل للعدم. إن تحقيق العدم الداخلي هو الفعل السحري الأسمى، لأنه يعني التغلب على غريزة الإمتلاء البشرية، والوقوف في عراء الكينونة حيث الصمت هو اللغة الوحيدة القادرة على محاورة الفراغ الكوني. إن وعي الساحر في حالة الفراغ التام لا يمثل غياباً للوعي، بل يمثل تكثيفاً له في أنقى صوره. إنه وعي شاهد يتجاوز الثنائيات، أنا/آخر، وجود/عدم. إن البوابة إلى العدم الكوني لا تفتح بمفتاح فكري، بل تفتح بالتخلي؛ التخلي عن كل ما هو موجود داخل العقل لفسح المجال لما هو ممكن في غيابات العدم. الساحر الذي ينجح في جعل ذهنه مرآة سوداء خالية من أي صورة، يصبح هو نفسه النقطة التي يتجلى فيها المطلق. إن حالة اللاشيء الذهني هي الضريبة الميتافيزيقية للوصول إلى كل شيء كوني. ومن هنا، يبرز المعنى العميق لوجود الساحر؛ إنه الكائن الذي يجرؤ على إعدام أفكاره الخاصة، لكي يمنح الكون فرصة للتعبير عن قواه الخام من خلاله، محولاً وعيه الشخصي إلى إمتداد للهاوية الخلاقة التي بدأ منها كل شيء وإليها يعود.

_ نزع الأقنعة البدئية: المواجهة الكبرى مع الصمت الذي يسكن الرمز

تطرح فكرة إعتبار العدم المحتوى المطلق للاوعي الجمعي الذي يستمد منه السحر أفقاً فلسفياً وسيكولوجياً يتجاوز الطروحات التقليدية لمدرسة يونغ التحليلية؛ فبينما يُنظر للاوعي الجمعي عادةً كمخزن للنماذج البدئية (Archetypes) والصور والميثولوجيات، فإن الذهاب إلى أن العدم هو لب هذا المحتوى يعني تحويل اللاوعي من مجرد أرشيف للذاكرة البشرية إلى منبع أنطولوجي للوجود نفسه. في هذا الإطار، لا يعود السحر مجرد إستحضار لرموز قديمة، بل يصبح عملية غوص في الفراغ المطلق الذي تسبح فيه كل تلك النماذج. العدم هنا ليس فراغاً من المعنى، بل هو الحالة السائلة التي تسبق تبلور المعنى؛ إنه الرحم الميتافيزيقي الذي تتشكل فيه الصور قبل أن تقتحم وعينا. الساحر، بهذا المعنى، هو الغواص الذي يتجاوز الطبقات السطحية للاوعي الشخصي والجمعي ليصل إلى القاع العدمي حيث لا توجد صور، بل طاقة خام وإحتمالات لا نهائية، ومن هناك يستمد القدرة على إعادة تشكيل الواقع. يمكن تحليل هذه العلاقة بوصفها كيمياء الفراغ؛ حيث تُمثل النماذج البدئية مثل البطل، الأم الكبرى، الظل مجرد تجليات أو تكثفات لهذا العدم الأساسي. إذا كان اللاوعي الجمعي هو المحيط، فإن العدم هو الماء في كينونته الأولى قبل أن يتخذ شكل الأمواج. الساحر يدرك أن قوة الرمز السحري لا تنبع من الرمز ذاته، بل من الخلاء الذي يفتحه الرمز نحو العدم المطلق. فعندما يستخدم الساحر طلسماً أو إشارة، فهو في الحقيقة يفتح ثقباً في جدار الوعي ليسمح لقوة العدم الكامنة في اللاوعي المطلق بالتدفق. هذا المنظور يجعل السحر عملية تفريغ وليس إمتلاء؛ فلكي يستمد الساحر القوة، يجب عليه أن يفرغ النماذج البدئية من حمولتها التاريخية والثقافية ليصل إلى جوهرها العدمي، حيث تكمن القدرة على الخلق من اللاشيء. العدم، بصفته المحتوى المطلق، هو الحالة التي تلتقي فيها كل الأضداد و تتلاشى فيها كل الثنائيات، مما يمنح الساحر نقطة إرتكاز خارج حدود المنطق البشري المعتاد. علاوة على ذلك، يفسر هذا الطرح عالمية السحر وتجاوزه للحدود الثقافية؛ فبينما تختلف الصور الرمزية من حضارة لأخرى، يظل العدم هو اللغة المشتركة والصمت الكوني الذي يخاطبه السحرة في كل زمان ومكان. إن إعتبار العدم هو المحتوى المطلق للاوعي الجمعي يفسر لماذا يتطلب السحر العالي حالة من الفناء أو التلاشي؛ لأن الذات البشرية يجب أن تتماهى مع هذا المحتوى العدمي لكي تتمكن من تحريك قواه. الساحر لا يستخدم اللاوعي الجمعي كأداة خارجية، بل يذوب فيه ليصل إلى منطق العدم، حيث لا زمان ولا مكان. القوة السحرية المستمدة من هذا الفراغ هي قوة أولية (Primordial Power)، سابقة على نشوء اللغة والمجتمع؛ ولذلك فإن السحر غالباً ما يبدو لا عقلانياً أو فوضوياً بالنسبة للوعي المنظم، لأنه يستمد منطقه من العدم الذي هو أصل كل نظم ولكنه لا يخضع لأي منها. يظهر أن السحر هو التكنولوجيا النفسية التي تسمح للإنسان بالتواصل مع العدم المختبئ في أعماق لاوعيه. إن إعتبار العدم محتوىً مطلقاً يحول اللاوعي الجمعي من سجن للتاريخ إلى بوابة للحرية المطلقة؛ فالنماذج البدئية ليست سوى أقنعة يرتديها العدم لكي يستطيع الوعي البشري التعامل معه دون أن يحترق. الساحر الأصيل هو الذي يجرؤ على نزع هذه الأقنعة واحداً تلو الآخر، ليواجه الصمت المطلق الذي يسكن في قلب كل رمز. إن تحقيق الذات السحري، في هذا السياق، هو الإدراك بأن أنا الساحر و العدم الكوني و اللاوعي الجمعي هم حقيقة واحدة متصلة. السحر ليس إستحضاراً لقوى خارجية، بل هو إستيقاظ للعدم الكامن في داخلنا، وهو إعتراف بأن أعمق طبقات هويتنا ليست شيئاً، بل هي ذلك الفراغ الإلهي الذي يمنح الوجود معناه من خلال صمته المطلق.

_ هيبة الفراغ: صمود الإرادة في مواجهة عماء الإحتمالات

تطرح إشكالية إنتقال القصد العقلي (Intentionality) من حيز الوعي الذاتي المحدود إلى فضاء العدم اللامادي الواسع واحدة من أعظم المعضلات في الفلسفة السحرية و الميتافيزيقية؛ إذ كيف يمكن للفكرة التي هي نتاج بيولوجي ونفسي مقيد، أن تخترق جدار المادة لتؤثر في الفراغ الكوني الذي لا تحكمه قوانين المنطق البشري؟ يكمن التفسير الفلسفي العميق في أن القصد العقلي للساحر لا ينتقل عبر المكان أو الزمان بالطريقة الفيزيائية التقليدية، بل عبر عملية التوافق البنيوي؛ حيث يجب على القصد أن يتجرد من كثافته النفسية ويتحول إلى تردد خالص يتماهى مع طبيعة العدم. الساحر هنا لا يرسل فكرة إلى الخارج، بل يصهر الحدود بين الداخل والخارج، محولاً إرادته إلى قوة موجّهة تسري في نسيج اللاشيء. هذا الإنتقال يتطلب تحويل القصد من رغبة شخصية (Desire) إلى إرادة محضة (Pure Will)، وهي الحالة التي يتجرد فيها العقل من صوره الذهنية ليصبح قوة إشارية قادرة على التأثير في الإحتمالات اللانهائية التي يسكنها العدم. يحدث هذا الإنتقال من خلال ما يمكن تسميته بقنطرة الرمز؛ فالقصد العقلي بمفرده يظل سجيناً في الوعي الفردي ما لم يجد لغة يفهمها العدم. هذه اللغة ليست كلمات منطوقة، بل هي رموز إهتزازية تعمل كوسط ناقل. الساحر يقوم بتشفير قصده داخل رمز أو طلسم أو طقس، وهذا التشفير يمثل عملية ضغط ميتافيزيقي تحول الطاقة العقلية المشتتة إلى شعاع مركز. عندما يفرغ الساحر وعيه كما ناقشنا في حالة العدم الداخلي، فإنه يصنع فراغاً مغناطيسياً يجذب القصد المشفر نحو العدم الكوني. في هذه اللحظة، لا يعود القصد فكراً، بل يصبح معادلة كونيّة تسعى للتجلي. إن العدم، بكونه رحماً لكل الإحتمالات، يستجيب للقصد ليس لأنه يفهمه بالعقل، بل لأنه ينفعل به؛ فالقصد القوي يمثل إضطراباً في سكون العدم، وهذا الإضطراب هو الذي يبدأ في تشكيل المادة من اللاشيء تماماً كما تتشكل بلورات الثلج حول ذرة غبار في فضاء بارد. علاوة على ذلك، يعتمد إنتقال القصد على مفهوم التماثل الأنطولوجي بين الوعي و العدم؛ فالفلسفات الباطنية تؤكد أن أعمق نقطة في الوعي البشري هي من نفس جوهر العدم الكوني. لذا، فإن الساحر لا ينقل قصده إلى مكان غريب، بل يستدعيه من أعماق ذاته ليتصل بجذوره الكونية. القصد السحري هو الخيط الذي يربط بين الوجود والعدم، وهو يتطلب حالة من الهوس المقدس أو التركيز الأحادي الذي يلغي العالم المحيط. عندما يبلغ الساحر ذروة التركيز، يختفي العالم القائم من وعيه، ولا يتبقى سوى القصد و العدم. في هذه الفجوة الوجودية، ينزلق القصد من كونه فكرة حبيسة الدماغ ليصبح قانوناً طارئاً في فضاء العدم. الإنتقال هنا هو قفزة كمية (Quantum Leap) ميتافيزيقية؛ حيث يتجاوز القصد عتبة الوعي المادي ليصبح قوة طبيعية قادرة على إعادة ترتيب جزيئات الواقع، لأن العدم لا يقاوم الإرادة التي أصبحت واحدة" معه. يظهر أن إنتقال القصد العقلي هو عملية تأليه إرادية؛ حيث يرفض الساحر دور المراقب للكون ليقوم بدور المشارك في صياغته. إن نجاح هذا الإنتقال يعتمد على مدى قدرة الساحر على قتل الذات الشخصية أثناء الطقس؛ فكلما قلت الأنا، زاد نفاذ القصد في العدم. القصد السحري هو الكلمة الخالقة التي تخرج من صمت الروح لترسم في عماء العدم صوراً للواقع الجديد. إنه يثبت أن العقل ليس مجرد مرآة تعكس الواقع، بل هو محرك يمتلك مفاتيح الدخول إلى فضاء اللامادة، حيث لا توجد قيود سوى حدود الإرادة وقدرتها على الصمود أمام هيبة الفراغ. السحر، بهذا المعنى، هو علم الملاحة في العدم، والقصد العقلي هو البوصلة التي تحول اللاشيء إلى شيء ذي معنى وقوة.

_ الواقع الثالث: مزيج صمت العدم وضجيج المادة

تطرح فكرة مادية الأفكار عبر فعل السحر إشكالية أنطولوجية كبرى، حيث يظهر السحر هنا ليس كعملية إستعراضية للقوة، بل كجسر كيميائي كوني ينقل المعنى من حالة السيولة المطلقة في العدم العقلي إلى حالة التصلب و التحيز في الوجود المادي. في هذا السياق، يُنظر إلى الأفكار قبل تجليها السحري بوصفها كائنات عدمية؛ أي أنها تملك إمكانية الوجود لكنها تفتقر إلى ثقل الكينونة. الساحر، من خلال طقوسه و إرادته، يمارس دور المكثف الكوني الذي يسحب الفكرة من فضاء اللاحيز واللازمان داخل العدم العقلي ويضغطها عبر قنوات الإرادة لتدخل في نسيج الواقع الحسي. السحر، بهذا المعنى، هو علم تجسيد اللاشيء، حيث تتحول الفكرة من محض إحتمال ذهني بارد إلى قوة فاعلة، مادية، وقادرة على إحداث تغيير فيزيائي أو قدري، مما يجعل من فعل السحر محاولة لخرق الحدود الفاصلة بين الروح والمادة، وبين العدم والوجود. يمكن تحليل هذه العملية بوصفها صراعاً بين التجريد و التجسيد؛ فالأفكار في العدم العقلي تمتاز باللانهاية لكنها تفتقر إلى الفاعلية، بينما الوجود المادي يمتاز بالفاعلية لكنه مقيد بالحدود. الساحر يرفض بقاء أفكاره حبيسة الفراغ الذهني، ويرى في هذا البقاء نوعاً من الموت الوجودي للفكرة. لذا، يقوم بفعل السحر كنوع من الولادة القسرية، حيث يستخدم العدم كمادة خام. في الفلسفات الباطنية، لا يُعتبر العدم فراغاً فارغاً، بل هو أثير ممتلئ بالصور الكمونية. الساحر لا يخلق شيئاً من لا شيء بالمعنى الحرفي، بل هو يُظهر ما كان مخفياً في طيات العدم العقلي. إن فعل المادّة هنا يشبه عملية الترسيب الكيميائي، حيث تتحول الفكرة الغازية بفعل الضغط الروحي والتركيز الطقسي إلى واقع صلب. هذه القفزة من اللامادي إلى المادي هي جوهر الإعجاز السحري، وهي تطلب قوة تجسيد هائلة قادرة على إقناع الكون بأن هذه الفكرة تستحق أن تأخذ حيزاً من الوجود. علاوة على ذلك، تعكس مادّة الأفكار رغبة الساحر في تحقيق السيادة على الطبيعة عبر فرض نظام الوعي على فوضى العدم. عندما تتحول الفكرة إلى مادة، فإنها تصبح حقيقة يضطر الكون للإعتراف بها. هذا المسار يتطلب ما يُعرف في المدارس الهرمسية بالكلمة الخالقة (Logos)، حيث لا تعود الكلمة مجرد رمز صوتي، بل تصبح إهتزازاً مادياً يعيد ترتيب الجزيئات في الفضاء. الساحر الذي ينجح في مادّة أفكاره يثبت أن العدم العقلي ليس سجناً، بل هو مستودع أسلحة. إن الخطورة في هذه العملية تكمن في أن المادّة تعني أيضاً التقييد؛ فبمجرد أن تخرج الفكرة من العدم العقلي إلى الوجود المادي، فإنها تفقد لانهايتها وتخضع لقوانين الزمن والتحلل. السحر، إذن، هو تضحية بالخلود الفكري للفكرة مقابل سلطتها المادية المؤقتة، وهو ما يضع الساحر في قلق دائم بين رغبته في التجسيد وخوفه من أن تصبح أفكاره المادية قيووداً جديدة تبتلعه. بإختصار، يُعد فعل السحر المحاولة الأسمى للإنسان للتحرر من عدمية الفكر عبر يقين المادة. إن مادّة الأفكار هي البرهان العملي على أن العقل البشري ليس مجرد مراقب للكون، بل هو شريك في بنائه. الساحر هو الكيميائي الذي يمزج بين صمت العدم و ضجيج المادة ليخلق واقعاً ثالثاً. إن العدم العقلي ليس سوى المرحلة الأولى من الوجود، والسحر هو المرحلة النهائية التي تعطي للفكرة جسداً ووزناً وتأثيراً. و بهذا، يتحول السحر من كونه خرافة إلى كونه أنطولوجيا تطبيقية؛ حيث يصبح الهدف النهائي للساحر هو تحويل الكون بأسره إلى إنعكاس مادي لأفكاره التي كانت يوماً ما غارقة في عتمة العدم، محققاً بذلك وحدة الوجود بين ما يُتخيل وما يُلمس.

_ المرايا الفارغة: المواجهة الأخيرة بين الهوية واللاشيء

تطرح مسألة الإتصال المفرط بالعدم واحدة من أخطر القضايا السيكوميتافيزيقية في مسيرة الساحر، حيث يتحول العدم من مادة للعمل إلى ثقب أسود يهدد بإبتلاع الأداة نفسها، و هي الوعي. إن الإدراك البشري بطبيعته يقوم على التمييز (Discrimination) بين الأشياء، وعلى خلق حدود فاصلة بين الأنا والعالم الخارجي. عندما يشرع الساحر في ممارسات تقتضي الإنغماس الكلي في العدم، فإنه يكسر هذه الحدود عمداً؛ إلا أن الإستمرار في هذا الإتصال يؤدي إلى حالة من السيولة الإدراكية حيث يعجز الوعي عن العودة إلى القوالب المنطقية. هذا الإضطراب ليس مجرد خلل وظيفي، بل هو تآكل أنطولوجي؛ فبما أن العدم لا يحتوي على صور أو قوانين أو زمن، فإن الوعي الذي يطيل المكوث فيه يبدأ بفقدان مرجعياته الحسية، مما يؤدي إلى تلاشي الذات التي لم تعد تجد ما ترتكز عليه لتعريف نفسها، فتصبح الهوية مجرد صدى باهت في فراغ لا متناهٍ. تتجلى خطورة هذا التآكل في ظاهرة إنحلال المركز، حيث يفقد الساحر قدرته على التمييز بين الخيال والواقع، وبين الإرادة الذاتية و التدفقات الخارجية. إن العدم، بكونه فضاء الإحتمالات المطلقة، يغمر الوعي بفيض من الصور والمعاني التي تفتقر إلى التماسك المادي، مما يولد نوعاً من الدوار الوجودي. هذا الدوار يؤدي إلى تآكل الحدود التي تحمي الأنا من التحلل؛ فالوعي يحتاج إلى الآخر وإلى المادة لكي يدرك وجوده، و لكن في حضرة العدم المطلق، يغيب الآخر وتنتفي المادة، فيجد الوعي نفسه وجهاً لوجه مع مرآة فارغة. هنا، يبدأ الإدراك بالتشظي، حيث يرى الساحر نفسه في كل شيء ولا شيء في آن واحد، وهو ما يفسر حالات الجنون السحري التي وصفتها المدارس الباطنية بأنها الضياع في الهاوية، حيث تنهار القدرة على العودة إلى الواقع المشترك ويصبح الساحر سجين عوالمه الخاصة التي لا شكل لها. علاوة على ذلك، يؤدي الإتصال المفرط بالعدم إلى ما يمكن تسميته بالإغتراب الميتافيزيقي، حيث تصبح الحقائق المادية في نظر الساحر مجرد أوهام تافهة مقارنة بعظمة الفراغ. هذا الإحتقار للمادة يؤدي إلى تآكل الغريزة الحيوية؛ فالوعي الذي يتماهى مع العدم يبدأ في الإنفصال عن الجسد ومتطلباته، مما يؤدي إلى إضطراب في إدراك الزمن والمكان. الساحر قد يشعر بأن الأنا أصبحت هلامية، قادرة على التمدد في العدم لكنها عاجزة عن التكثف في نقطة واحدة. هذا التآكل في حدود الوعي الذاتي يجعل الساحر عرضة للإستحواذ العدمي، حيث لا تعود أفكاره نابعة منه، بل تصبح مجرد تموجات عشوائية في بحر اللاشيء. إن فقدان الحدود يعني فقدان التعريف، والكائن الذي بلا تعريف هو كائن يسير نحو الفناء الوجودي، محولاً السحر من أداة للسيادة إلى رحلة إنتحارية نحو صمت الأزل. يظهر أن الإتصال بالعدم يتطلب توازناً كيميائياً دقيقاً؛ فالعدم هو نار تضيء الإرادة ولكنها تحرق الوعي إذا إقترب منها أكثر مما يجب. إن تآكل حدود الوعي هو الثمن الذي يدفعه الساحر مقابل رؤية الحقيقة المطلقة لللاشيء. ولذلك، ركزت المدارس السحرية الرصينة على أهمية التجذير (Grounding) و ضرورة العودة إلى المادة بعد كل غوص في العدم. إن الذات التي لا تملك حدوداً قوية هي ذات لا تستطيع ممارسة السحر، لأن السحر يتطلب مركزاً يوجه القوة. وبدون هذا المركز، يصبح الإتصال بالعدم عملية تبخير للذات بدلاً من تجسيم للإرادة. الساحر العظيم هو الذي يلمس العدم بإصبعه لكنه يبقي قدميه مغروستين في طين الأرض، مدركاً أن إضطراب الإدراك هو الهاوية التي تبتلع الساحر قبل أن يبتلع هو العدم.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...


المزيد.....




- الصين تطلق -مناورات عسكرية واسعة النطاق- تحذيرًا من استقلال ...
- وزير الخارجية المصري يطالب بانعقاد مجلس الأمن الأفريقي بسبب ...
- حماس تؤكد مقتل قائدها محمد السنوار بعد أشهر من إعلان إسرائيل ...
- حركة حماس تؤكد مقتل الناطق باسم جناحها العسكري أبو عبيدة
- فريق صيني ينجح في التحكم بآلاف الطائرات المسيّرة في وقت واحد ...
- الثلوج الكثيفة تغلق المدارس في 14 ولاية تركية والأطفال يستمت ...
- من رمز الحرية إلى متهم بالكراهية - ماذا حدث لعلاء عبد الفتاح ...
- منظمة إسبانية: أزيد من 3 آلاف مهاجر ماتوا غرقاً في 2025
- زهران ممداني أبرز معارضي ترامب يتسلم رئاسة بلدية نيويورك الخ ...
- ما هي التحديات التي تواجهها مصر في العام الجديد؟


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّالِثُ و الْعِشْرُون-