|
|
الخلل في التفكير: بين ضرورة الأولويات ورفاهية الكماليات
أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 14:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لا يُربك الإنسان ما يراه حوله بقدر ما يُربكه ما يتشكّل داخله دون أن ينتبه. فليس ضجيج العالم هو ما يخلخل التوازن، بل اختلاط الأصوات في الوعي، حين تتشابك الحاجة مع الرغبة، ويتخفّى الضروري في هيئة المغري. العالم لا يفرض ثقله دفعة واحدة؛ إنه يتسرّب بهدوء عبر تفاصيل يومية مألوفة، حتى يغدو الاعتياد أكثر حضوراً من السؤال، وأكثر إقناعاً من التمييز.
في البداية، لا يبدو أن شيئاً قد اختلّ. الأشياء ما زالت في أماكنها، القرارات تُتخذ، والحياة تمضي. لكن الإحساس الذي يرافق هذا المضي يتغيّر بصمت، كأن المعنى فقد شيئاً من كثافته، وكأن الفعل صار يسبق الفهم بخطوة. عندها لا ينهار الوعي، بل يختلّ ميزانه. لا يعود السؤال: ماذا أريد؟ بل يتحول، دون انتباه، إلى سؤال أكثر غموضاً وإرباكاً: كيف فقدت القدرة على معرفة ما أحتاجه حقاً؟
حين تتساوى الحاجة مع الرغبة في التجربة المعاشة، لا يعود الفرق واضحاً في الوعي. ما كان ضرورياً يفقد ثقله، وما كان عابراً يكتسب إلحاحاً. لا يحدث هذا لأن الإنسان قرر التخلي عن أولوياته، بل لأن طريقة حضوره في العالم تغيّرت. الانتباه لم يعد موجهاً نحو ما يحفظ التوازن، بل نحو ما يطالب بالاستجابة السريعة. وهكذا، لا يُختار الفعل لأنه الأجدر، بل لأنه الأوضح في اللحظة.
نحن لا نعيش زمناً فقيراً بالإمكانات، بل زمناً فائضاً إلى حد الإرباك. الخيارات تُعرض بكثافة، لكن المعنى يُسحب منها بهدوء. كل إمكانية جديدة لا تُضاف إلى التجربة، بل تزاحم ما قبلها. ومع هذا التزاحم، يفقد الوعي قدرته على التمييز الهادئ، ويتحول الاختيار إلى فعل اندفاعي، لا لأن الإنسان فقد حريته، بل لأن زمن الفعل صار أقصر من زمن التأمل. المعنى لا يختفي، لكنه لا يجد الوقت الكافي ليترسّخ.
في هذا السياق، يظهر الخلل في التفكير بين الأولويات والرفاهيات لا كخطأ عابر في الحكم، بل كتحوّل في كيفية ظهور الأشياء في الوعي. الرفاهية لا تُعاش كإضافة، بل كضرورة ملحّة. والأولوية لا تختفي، لكنها تُزاح إلى الخلف، خارج مجال الانتباه المباشر. الوعي لا ينكرها، لكنه لا يلتفت إليها. وهنا لا يكون الخلل في القرار ذاته، بل في بنية التجربة التي سبقت القرار، وفي المسافة التي نشأت بين الفعل ومعناه.
هذا الخلل لا يُختبر كأزمة واضحة، ولا يعلن عن نفسه بضجيج. إنه يعمل بصمت. يبدأ بقرار صغير لا يبدو مصيرياً، ثم يتحول إلى عادة لا تُراجع، ثم يستقر كنمط حياة لا يُسأل عنه، بل يُدافع عنه. لا لأنه صحيح، بل لأنه أصبح مألوفاً.
ومع مرور الوقت، لا يشعر الإنسان بأنه فقد السيطرة، بل يشعر بأن حضوره صار أقل كثافة. لا يتوقف عن الفعل، لكنه لم يعد يشعر أنه منبع الفعل. الحياة تُعاش، لكن دون امتلاء. الأفعال تتكرر، لكن دون رسوخ. وكأن الوجود تحوّل إلى سلسلة من اللحظات المتجاورة، لا مساراً متصلاً له اتجاه. عندها، لا تُطرح الأسئلة الكبرى بصوت عالٍ، بل تظهر كهمس داخلي متأخر: لماذا يبدو كل شيء في مكانه، ومع ذلك لا أشعر أنني في مكاني؟
⸻
حين تختلّ البوصلة: توصيف غير مباشر للخلل
الخلل في التفكير لا يعني غياب العقل ولا ضعف القدرة على الفهم، بل غياب الترتيب الداخلي الذي يمنح المعنى وزنه الحقيقي. هو حالة يعرف فيها الإنسان ما هو مهم، لكنه لا يتصرّف على أساس هذه المعرفة. حالة يدرك فيها الفارق بين الضروري والكمالي، بين ما يحفظ استمراره وما يزيّن لحظته، ثم يعكس هذا الفارق في الممارسة اليومية دون أن ينتبه.
في هذا الخلل، لا تُلغى الأولويات، بل تُزاح. لا تُنكر، لكنها تُؤجَّل باستمرار، حتى تفقد حضورها الفعلي. يصبح المهم معروفاً، لكنه غير مُلحّ، بينما يتقدّم العابر لأنه يطالب بالاستجابة السريعة. وهكذا، لا يختفي الوعي، بل يُفرغ من قدرته على التوجيه.
الأولوية ليست ما نُصرّح به ولا ما نؤمن به نظرياً، بل ما نُعيد إنتاجه بالفعل: ما نمنحه وقتنا حين نكون متعبين، وما نصرف عليه مالنا حين نكون قلقين، وما نستهلك فيه طاقتنا حين نكون مشتتين، وما نسمح له باحتلال انتباهنا حين لا يراقبنا أحد. عند هذه النقطة تحديداً، ينكشف الترتيب الحقيقي للحياة، لا كما نحب أن نراه، بل كما نعيشه فعلاً.
أما الرفاهية، فليست خطأ في ذاتها، ولا نقيضاً مباشراً للمعنى. لكنها تتحول إلى عبء حين تتجاوز موقعها، وحين تزاحم ما يحفظ الاتزان الداخلي. تصبح مشكلة حين لا تأتي بعد الاكتفاء، بل تحلّ مكانه، وحين لا تكون إضافة، بل تعويضاً خفياً عن فراغ غير معترف به.
حين تُدار الحياة بردود الفعل، تتقدّم الرفاهيات تلقائياً، لأن الأولويات لا تظهر إلا في مساحة وعي قادرة على التمهّل.
هذا الخلل لا يولد من قرار فردي معزول، بل يتشكّل داخل بيئة ذهنية تكافئ السرعة أكثر مما تكافئ الدقة، وتُعلي من الإشباع الفوري على حساب التراكم، وتُقنع الإنسان بأن ما يستجيب له فوراً أحقّ مما يتطلّب صبراً. ومع التكرار، لا يعود الخلل موضع تساؤل، بل يتحول إلى نمط مألوف في التفكير، ثم إلى طريقة غير مرئية في إدارة الحياة.
⸻
البعد الاجتماعي: كيف يُعاد تعريف الضرورة
في الفضاء الاجتماعي المعاصر، لا تُفرض القيم بالقوة ولا تُعلن كقوانين صريحة، بل تُزرع عبر التكرار. تتكرّر صورة محددة للحياة “الناجحة” حتى تفقد صفتها الاختيارية، وتتحول تدريجياً من إمكان فردي إلى معيار عام، ثم من معيار إلى ضغط غير مرئي، يُمارَس بصمت لكنه فعّال. عند هذه النقطة، لا يعود السؤال متعلّقاً بما هو صائب أو مناسب، بل بما هو متوقَّع اجتماعياً.
المشكلة لا تكمن في السعي إلى الراحة أو الجمال أو الرفاه، فهذه في جوهرها نزعات إنسانية طبيعية، بل في توحيد شكل الرفاه وتجريده من سياقه الشخصي، حتى يصبح نموذجاً واحداً يُقاس عليه الجميع. حينها، لا يعود الفرد يسأل: هل هذا يعكس احتياجي الحقيقي؟ بل يتحول سؤاله، دون وعي، إلى: كيف سأبدو إن لم أتبنَّ هذا النمط؟ وهكذا، ينتقل مركز القرار من الداخل إلى الخارج، من التجربة الذاتية إلى نظرة الآخرين.
أخطر أنواع الفقر هو أن يشتري الإنسان ما لا يحتاجه، ليحافظ على صورة لا تمثّله.
تحت وطأة هذا الضغط الصامت، تبدأ الأولويات بالتراجع لا لأن قيمتها انتقصت، بل لأنها لا تمنح الاعتراف الفوري. يُؤجَّل التعلّم لأنه بطيء العائد، وتُؤجَّل الصحة لأنها لا تُرى، وتُؤجَّل العلاقات لأنها لا تُقاس، وتُؤجَّل الراحة النفسية لأنها لا تُعرض. كل ما لا يُنتج أثراً سريعاً يُدفع إلى الهامش، باسم “الآن”، وباسم “اللحظة”، وباسم “الفرصة التي لا تُفوّت”، حتى تصبح الحياة نفسها سلسلة من التأجيلات المتراكمة.
بهذا المعنى، لا يكون الخلل في ترتيب الأولويات شأناً فردياً محضاً، ولا نتيجة ضعف شخصي، بل تعبيراً عن عقد اجتماعي غير مكتوب، يعيد تعريف النجاح بوصفه مظهراً، لا استقراراً، ويقيس القيمة بما يُمتلك، لا بما يُحتمل، ويكافئ ما يُعرض أكثر مما يحفظ التوازن. ومع الزمن، يتشرّب الفرد هذا المنطق، لا لأنه اقتنع به، بل لأنه لم يعد يرى بديلاً واضحاً له.
⸻
العلاقات تحت الاختبار: حين تتصادم القيم
حين يختل ترتيب الأولويات، لا يبقى الأثر محصوراً في التجربة الفردية، بل يمتدّ تلقائياً إلى الدوائر الأقرب، حيث تُختبر العلاقات في أكثر نقاطها حساسية. فالعلاقات الإنسانية، في جوهرها، لا تقوم على النوايا وحدها، بل على ما يُمنح لها فعلياً من وقت، وحضور، واستقرار، وتوافق غير معلن في القيم. إنها تحتاج إلى موارد لا تُقاس بالأرقام فقط، بل بالانتباه والالتزام والاستمرارية.
لكن حين تُستنزف هذه الموارد في رفاهيات استعراضية، أو في سعي دائم لإرضاء صورة خارجية، يصبح التوتر نتيجة منطقية لا عرضاً طارئاً. فالعلاقة التي لا تجد ما يكفي من الحضور، تبدأ بالشعور بالإهمال، والعلاقة التي تُؤجَّل باستمرار باسم الانشغال، تبدأ بفقدان الأمان. لا يحدث الانهيار فجأة، بل يبدأ بتآكل بطيء في الإحساس بالمشاركة، وكأن العلاقة صارت تعيش على الهامش.
الخلافات التي تنشأ في هذه المرحلة لا تكون في جوهرها خلافات مالية، حتى وإن اتخذت المال ذريعة ظاهرة. فالمال هنا ليس سبباً، بل رمز. السؤال الحقيقي لا يكون: كم نملك؟ بل: ماذا يعني هذا الامتلاك لكل واحد منا؟ هل يُنظر إلى المال بوصفه أداة أمان واستقرار؟ أم وسيلة تعويض عن فراغ عاطفي؟ أم أداة لإثبات القيمة والنجاح في نظر الآخر؟
في هذا الاختلاف غير المُعلن في المعنى، تتصادم القيم. كل طرف يتحدث بلغة مختلفة، حتى وإن استخدم الكلمات نفسها. وحين لا يُفهم هذا التصادم، يتحول الحوار إلى سلسلة من الاتهامات، ويتحوّل النقاش من محاولة فهم إلى محاولة إثبات، ومن تقارب إلى محاسبة.
العلاقة لا تنهار بسبب قلة الإمكانات، بل بسبب اختلاف تعريف الأمان.
ومع تكرار هذا الخلل، تفقد العلاقة مرونتها. يصبح الحوار صراعاً، والتفاهم سجلاً للحساب، والسكينة حالة مؤقتة تُنتزع ولا تُعاش. يتراكم التوتر حتى يغدو مزمناً، لا لأنه بلا حل، بل لأن جذره لم يُسمَّ. وحينها، لا تنكسر العلاقة فقط، بل ينكسر الإحساس بأن هناك مساحة آمنة يمكن العودة إليها.
في هذا السياق، لا يكون الخلل في الحب أو الالتزام، بل في اختلال الميزان القيمي الذي يحدد ما يُقدَّم أولاً، وما يُؤجَّل دائماً. فالعلاقات، مثل الكائنات الحيّة، لا تموت من الجوع وحده، بل من الإهمال الطويل الذي لا يُنتبه له إلا بعد فوات الأوان.
⸻
البعد العملي: قرارات صغيرة… آثار طويلة
على المستوى العملي، لا يظهر الخلل في التفكير في لحظات مصيرية نادرة، بل في التفاصيل اليومية التي تمرّ بلا مساءلة. لا في القرارات الكبرى التي يُستعد لها طويلاً، بل في تلك الاختيارات الصغيرة المتكررة التي تُتخذ تلقائياً، والتي لا يُعاد التفكير فيها لأنها تبدو غير مؤثرة بمفردها. غير أن تراكمها هو ما يشكّل المسار الفعلي للحياة.
الإنفاق، والوقت، والجهد، وحتى الانتباه… كلها موارد محدودة بطبيعتها، لكنها تُدار في كثير من الأحيان وكأنها بلا تكلفة حقيقية. لا يُشعَر بثمنها لحظة استخدامها، بل يظهر الأثر لاحقاً، حين يصبح الاستنزاف واقعاً لا تفسيراً. ما يُصرف بسهولة، يُستعاد بصعوبة، وما لا يُراقَب، يُهدر بصمت.
ما لا يُراقَب يُستنزف، وما يُستنزف يُربك، وما يُربك يُفقد السيطرة.
حين تُمنح الرفاهيات أولوية لا تستحقها، لا تكون النتيجة متعة خالصة، بل سلسلة من الآثار المتداخلة. يبدأ الأمر بضغط مالي خفي يتسلل إلى الإحساس بالأمان، يتبعه شعور مؤجل بالذنب لا يُعاش فوراً، ثم تتراكم التأجيلات: أهداف تُرحّل، خطط تُجمَّد، خطوات طويلة الأمد تُستبدل بإشباعات آنية. ومع الوقت، لا يعود الذهن صافياً، بل مُثقلاً، مشتتاً، في حالة استنفار دائم دون سبب واضح.
الأخطر من ذلك أن هذا النمط لا يُشعِر صاحبه بأنه في مأزق. على العكس، قد يمنحه وهماً بالراحة، لأن الرفاهية تخفف التوتر لحظياً، وتمنح إحساساً زائفاً بالتحكّم. لكن هذا الإحساس لا يدوم، بل يُستبدل بإرهاق أعمق، لأن الجهد لم يُوزَّع بوعي، ولأن الموارد استُهلكت في غير موضعها.
ومع استمرار هذا المسار، لا تُفقَد السيطرة دفعة واحدة، بل تتآكل تدريجياً. تتراجع القدرة على التخطيط، ويضيق هامش الاختيار، ويصبح القرار ردّ فعل لا فعلاً مقصوداً. عندها، لا تكون المشكلة في نقص الإمكانات، بل في الطريقة التي أُديرت بها، وفي القرارات الصغيرة التي صُنعت دون أن يُنظر إليها بوصفها ما هي عليه فعلاً: لبنات المسار كله.
⸻
الوقت: الرفاهية الأكثر إساءة للاستخدام
الوقت هو المورد الوحيد الذي لا يمكن تعويضه، لا لأنه محدود فحسب، بل لأنه يتلاشى بمجرد استخدامه. ومع ذلك، يُهدر بسهولة مذهلة، لا عن جهل بقيمته، بل لأن الإنسان لا يشعر بثمنه لحظة إنفاقه. المال يُنقص الحساب فوراً، الجهد يُظهر التعب سريعاً، أما الوقت فينسحب بصمت، دون إشعار فوري بالخسارة، وكأن غيابه لا يترك أثراً مباشراً.
الساعات التي تُستهلك بلا وعي لا تُشعِر بالخطر وهي تمرّ، لأنها لا تُحدث ألماً آنياً. لكنها تعود لاحقاً في صورة آثار متراكمة: تأخّر عن الذات قبل أن يكون تأخّراً عن الآخرين، ندم لا يرتبط بلحظة واحدة بل بسلسلة فرص لم تُلتقط، شعور بالفراغ رغم الامتلاء بالانشغال، وإحساس غامض بأن الحياة تمضي… دون أن تُمسك.
الوقت لا يضيع دفعة واحدة، بل يُسرق على شكل دقائق غير محسوبة.
حين يُدار الوقت بوصفه مساحة مفتوحة للملء العشوائي، لا بوصفه وعاءً للمعنى، يتحول إلى رفاهية مستهلكة لا مورد مُدار. لا يعود السؤال: فيما قضيت وقتي؟ بل: أين اختفى؟ ومع تكرار هذا النمط، تصبح الأيام متشابهة، والأسابيع سريعة، والسنوات خفيفة الوزن في الذاكرة، لأنها لم تُحمَّل بما يكفي من الحضور.
إدارة الوقت بمنطق الرفاهية تعني أن يُمنح لما هو أسهل، لا لما هو أعمق. لما يشتّت، لا لما يبني. لما يملأ اللحظة، لا لما يشكّل المسار. وهكذا، لا تُعاش الحياة كسرد متصل له اتجاه، بل كسلسلة من الانشغالات المتلاحقة، كل واحدة منها تبدو مبرَّرة بمفردها، لكنها مجتمعة تُفرغ الزمن من معناه.
ومع مرور الوقت—وهي مفارقة قاسية—يكتشف الإنسان أن أكثر ما استنزفه لم يكن جهده ولا ماله، بل فرص الحضور الكامل. وأن ما فقده لم يكن ساعات فقط، بل إمكانية أن يكون شاهداً على حياته، لا مجرد عابر فيها. عندها، لا يصبح السؤال كيف نُدير الوقت، بل: كيف نعيد إليه مكانته بوصفه أعمق أشكال المسؤولية تجاه الذات؟
⸻
البعد النفسي: الجذور غير المرئية
نفسياً، لا يمكن مقاربة الخلل في ترتيب الأولويات بوصفه مجرد سوء تقدير أو ضعف إرادة، لأن جذوره تمتد إلى الطريقة التي يعمل بها العقل نفسه. فالعقل الإنساني لا يتحرك دائماً بدافع البحث عن الصواب أو المنفعة بعيدة المدى، بل تحكمه، في كثير من الأحيان، حاجة أعمق وأسرع: الراحة الإدراكية. أي تقليل التوتر، وتجنّب الصراع الداخلي، والوصول إلى حالة مؤقتة من الاطمئنان، حتى لو كان ذلك على حساب المعنى أو الاستقرار لاحقاً.
لهذا، يميل العقل تلقائياً إلى اختصارات نفسية تجنّبه الجهد: يميل إلى المتعة السريعة لأنها تمنحه مكافأة فورية، ويميل إلى القرار الأسهل لأنه يجنّبه الحيرة، ويميل إلى التبرير بعد الفعل لأنه لا يحتمل الاعتراف بالتناقض.
هذه الآليات لا تعمل بوصفها انحرافاً مرضياً، بل بوصفها وظائف دفاعية طبيعية. المشكلة لا تبدأ من وجودها، بل من تحوّلها إلى نمط مهيمن على القرار. فعندما يختار الإنسان رفاهية على حساب أولوية، لا يكون ذلك دائماً نتيجة جهل بالعواقب، بل نتيجة تفضيل لا واعٍ لتخفيف التوتر اللحظي على حساب عبء الانتظار أو الصبر أو المواجهة.
وحين يلي هذا الاختيار شعور بعدم الارتياح، لا يتجه العقل مباشرة إلى تصحيح السلوك، بل إلى حماية صورته عن نفسه. هنا يبدأ بناء القصة التبريرية: قصة لا تُروى للآخرين بقدر ما تُروى داخلياً، هدفها الأساسي ليس الفهم، بل التهدئة. يُعاد تأويل الفعل، وتُخفّف حدّته، وتُختلق له أسباب مقنعة، لا لأنه صائب، بل لأنه أقل إيلاماً.
التبرير ليس كذباً على الآخرين، بل محاولة فاشلة للسلام مع الذات.
في هذه اللحظة، يتكوّن ما يمكن تسميته بالتنافر الداخلي: حالة يعرف فيها الإنسان أنه لم يختر ما يخدمه على المدى البعيد، لكنه يرفض الإحساس الكامل بهذه المعرفة. فينشأ الانقسام الصامت بين ما يُدركه العقل، وما يسمح به الشعور. لا يُمحى الخطأ، لكنه يُدفن تحت طبقات من التبرير، فيتحول من حدث قابل للتصحيح إلى نمط يتكرر.
ومع تكرار هذا المسار، لا يعود التنافر حالة عابرة، بل يصبح حالة نفسية مستقرة نسبياً. يعرف الإنسان أنه يؤجل ما هو مهم، ويستنزف نفسه فيما هو عابر، لكنه يتعايش مع هذا التناقض عبر تسكينه لا معالجته. وهكذا، لا يُستنزف المال أو الوقت فقط، بل يُستنزف الإحساس بالانسجام الداخلي. ويصبح الثقل النفسي غير مفهوم المصدر: تعب بلا سبب واضح، قلق بلا خطر محدد، شعور دائم بأن شيئاً ما ليس في مكانه.
في هذا المستوى، لا يكون الخلل في التفكير مجرد خطأ في الاختيار، بل خللاً في العلاقة مع الذات. فحين يتكرر التنازل عن الأولويات دون مساءلة حقيقية، يفقد الإنسان ثقته بقراراته، ثم يفقد تدريجياً قدرته على الإصغاء إلى صوته الداخلي. لا لأنه اختفى، بل لأنه لم يُؤخذ على محمل الجد طويلاً.
⸻
الرفاهية كتعويض نفسي
في حالات كثيرة، لا تُطلب الرفاهية بوصفها متعة خالصة أو اختياراً واعياً، بل تُستدعى بوصفها ملاذاً. ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة للهروب من شيء أثقل: من تعب متراكم لم يُعترف به، من فراغ داخلي لا يُسمّى، من إحباط لم يجد لغة، أو من شعور خفي بعدم القيمة لا يُقال بصوت عالٍ. عندها، لا تكون الرفاهية إضافة إلى الحياة، بل محاولة لترميم صدع لم يُفهم بعد.
هذا النوع من التعويض لا ينبع من الرغبة، بل من الحاجة إلى التخدير المؤقت. الرفاهية هنا لا تُختار لأنها تمنح معنى، بل لأنها تُخفف الإحساس بالثقل للحظة. إنها تُشبه استراحة قصيرة من مواجهة الذات، لا استثماراً في توازنها. ولهذا، فإن أثرها ينتهي سريعاً، ويترك خلفه فراغاً أوسع، لأن السبب الجذري لم يُلامَس.
التعويض المؤقت لا يعالج الألم، بل يؤجله. لا يُنهي القلق، بل يُسكّنه. ومع كل مرة يُستخدم فيها هذا الأسلوب، يزداد العبء النفسي تعقيداً، لأن الإنسان لا يواجه ما يُتعبه، ولا يتخلّص منه، بل يُراكم فوقه طبقة جديدة من الإنهاك.
كل متعة لا تُبنى على احتياج حقيقي، تتحول لاحقاً إلى عبء نفسي.
ومع تكرار هذا النمط، لا يبقى التعويض خياراً عابراً، بل يتحول إلى آلية شبه تلقائية. كل ضغط يستدعي متعة، وكل متعة تخلّف ضغطاً إضافياً، فتتشكل دائرة مغلقة: ضغط لا يُفهم → تعويض لا يُشبع → ضغط أكبر لا يُحتمل. وفي هذه الدائرة، لا يشعر الإنسان أنه يهرب، بل يشعر فقط أنه “يحتاج المزيد”، دون أن يعرف مما يحتاج أن يبتعد.
الخطر في هذا المسار لا يكمن في الرفاهية نفسها، بل في تحوّلها إلى لغة وحيدة للتعامل مع الألم. حين تُستبدل المواجهة بالإنفاق، والتأمل بالاستهلاك، والاعتراف بالإلهاء، يفقد الإنسان تدريجياً قدرته على قراءة إشاراته الداخلية. لا لأنه لم يعد يشعر، بل لأنه اعتاد إسكات الشعور بدل الإصغاء إليه.
في هذا المستوى، تصبح الرفاهية عبئاً مزدوجاً: تُنهك الموارد، وتُضعف الصلة بالذات. تُخفف الألم لحظة، لكنها تُطيل عمره. وتمنح شعوراً عابراً بالتحكّم، بينما تُعمّق الإحساس بالعجز على المدى الطويل.
⸻
الإدمان الناعم: حين تصبح الرفاهية عادة
لا يبدأ الإدمان دائماً بسلوك صاخب أو متطرف يمكن ملاحظته بسهولة. في كثير من الأحيان، لا يُشبه الإدمان الصورة النمطية التي نحتفظ بها عنه، بل يتسلل في هيئة عادات “مقبولة”، يومية، لا تثير القلق ولا تستدعي المقاومة. يبدأ كخيار بريء، ثم يتوسع بهدوء، حتى يفقد الإنسان قدرته على التمييز بين ما يختاره، وما يُستدرج إليه.
الإدمان الناعم لا يقوم على الإفراط الفجّ، بل على التكرار المريح. لا يُبنى على الرغبة الجامحة، بل على الاعتياد. سلوك يتكرر لأنه متاح، لأنه سهل، لأنه يمنح إحساساً سريعاً بالراحة أو الانتماء أو السيطرة. ومع الوقت، لا يعود يُمارس لأنه يُمتع، بل لأنه صار جزءاً من الإيقاع اليومي، وغيابه يخلّ بالتوازن المؤقت الذي اعتاد عليه الفرد.
إدمان الشراء، على سبيل المثال، لا يكون دائماً سعياً إلى الامتلاك، بل محاولة لتنظيم شعور داخلي مضطرب. إدمان الترفيه لا يكون دائماً بحثاً عن المتعة، بل هروباً من الفراغ أو الصمت. وإدمان المقارنة لا ينبع دائماً من الغيرة، بل من فقدان معيار داخلي ثابت للقيمة. هذه الأشكال لا تُدان اجتماعياً، بل تُقدَّم أحياناً بوصفها أنماط حياة عصرية، بل ويُكافأ عليها صاحبها بالقبول أو الإعجاب.
خطورة الإدمان الناعم تكمن في أنه لا يُشعر صاحبه بفقدان السيطرة، بل يمنحه وهماً معاكساً: وهم التحكّم. يعتقد الإنسان أنه يستطيع التوقف متى شاء، لأنه لم يصل إلى “الحدّ الخطر”. لكنه لا يلاحظ أن الحدّ ذاته يتحرك معه، وأن ما كان استثناءً صار قاعدة، وما كان خياراً صار حاجة غير مُعلنة.
أخطر ما في العادة، أنها تتوقف عن طرح الأسئلة.
حين تتحول الرفاهية إلى عادة، يتوقف الوعي عن مساءلتها. لا يُسأل: لماذا أفعل هذا؟ ولا: ماذا يعوّض هذا السلوك؟ بل يُمارس الفعل لأنه مألوف، ولأن التكرار منحَه شرعية زائفة. وهنا يفقد الإنسان شيئاً جوهرياً: المسافة التأملية بينه وبين سلوكه. لا يعود الفعل معبّراً عن اختيار، بل عن استجابة تلقائية.
ومع الزمن، لا يكون الخطر في السلوك ذاته، بل في ما يرافقه من تآكل بطيء للحرية الداخلية. فالعادة التي لا تُساءل لا تبقى عادة، بل تتحول إلى بنية خفية تنظّم اليوم، وتستهلك الوقت، وتحدّد الأولويات دون أن تعلن عن نفسها. وهكذا، لا يشعر الإنسان بأنه أدمن، بل يشعر فقط بأنه “لا يستطيع الاستغناء”، دون أن يعرف عمّا يحاول في الحقيقة ألا يواجهه.
الإدمان الناعم، بهذا المعنى، ليس انفصالاً فجائياً عن الذات، بل ابتعاد تدريجي عنها. كل مرة يُستدعى فيها السلوك لتسكين شعور غير مفهوم، تُؤجَّل فرصة الفهم خطوة أخرى. ومع تراكم هذه الخطوات، يصبح الفعل أكثر حضوراً من المعنى، وتصبح العادة أكثر قوة من السؤال.
⸻
إعادة التوازن: كيف نُصحّح المسار
تصحيح الخلل في ترتيب الأولويات لا يتطلب انقلاباً جذرياً ولا قرارات صاخبة تُعلن القطيعة مع الماضي، بل يتطلب شيئاً أكثر صعوبة وأعمق أثراً: عودة واعية إلى الترتيب. عودة لا تقوم على القمع أو الحرمان، بل على استعادة العلاقة السليمة مع الاختيار. فالتوازن لا يُبنى بالعنف مع الذات، بل بإعادة الإصغاء إليها بعد طول تجاهل.
الخطوة الأولى في هذا المسار ليست الفعل، بل التمييز. التمييز الواضح بين ما يحفظ الاستقرار على المدى الطويل، وما يمنح متعة مؤقتة سريعة الزوال. هذا التمييز لا يُمارَس كشعار، بل كفعل يومي يُعاد اختباره في القرارات الصغيرة قبل الكبيرة. أن يُسأل كل خيار: هل يدعمني أم يستهلكني؟ هل يضيف إلى حياتي أم يخفف ثقلها لحظة ليضاعفه لاحقاً؟
ثم يأتي التأجيل الواعي، لا بوصفه حرماناً أو إنكاراً للرغبة، بل بوصفه شكلاً من أشكال السيادة الداخلية. فالتأجيل هنا ليس رفضاً، بل اختيار للتوقيت، وإقرار بأن ليس كل ما يُرغَب فيه يجب أن يُلبّى فوراً. في هذا التأجيل، يستعيد الإنسان قدرته على القيادة، ويتحرر من الإلحاح الذي يُربك القرار ويختطفه.
ولا يكتمل هذا المسار دون مراجعة دورية صادقة للموارد: الوقت، والمال، والطاقة. مراجعة لا تُمارَس بروح المحاسبة القاسية، بل بروح الفهم. أين يتسرّب الجهد؟ أين يُستنزف الوقت؟ وأين يُنفق المال بوصفه تعويضاً لا حاجة؟ هذه المراجعة لا تهدف إلى جلد الذات، بل إلى إعادة توزيع الموارد بما يخدم المعنى لا الإرضاء المؤقت.
أما الخطوة الأكثر خفاءً، والأكثر حسماً، فهي الانتباه إلى المحيط الذي يطبع المعايير دون وعي. فالقيم لا تُكتسب دائماً عبر القناعة، بل عبر المعايشة. ما نراه يومياً، وما نُكافَأ عليه، وما نُقارن أنفسنا به، ينسلّ إلى قراراتنا دون استئذان. واستعادة التوازن تقتضي وعياً بهذه التأثيرات، لا انسحاباً منها، بل فكّ الارتباط الأعمى بها.
الحرية لا تعني أن تفعل كل ما تريد، بل أن تعرف لماذا تفعل ما تفعل.
في هذا المعنى، لا تكون إعادة التوازن مرحلة عابرة، بل ممارسة مستمرة. لا تعني الوصول إلى حالة مثالية، بل القدرة على تصحيح المسار كلما انحرف. فالحياة المتوازنة ليست حياة بلا رغبات، بل حياة تُدار فيها الرغبات ضمن سياق أوسع من المعنى، ويُعاد فيها ترتيب الأولويات كلما اختلطت الأصوات من جديد.
إعادة المسار ليست عودة إلى الوراء، بل عودة إلى الذات. إلى تلك النقطة التي يكون فيها الإنسان حاضراً في قراراته، لا منقاداً لها. وحين يتحقق هذا الحضور، لا تختفي الرفاهيات، لكنها تعود إلى مكانها الطبيعي: إضافات لا بدائل، خيارات لا أوهام، ومتعة لا تُزاحم ما يجعل الحياة قابلة للعيش.
⸻
الوصمة النفسية: فهم بدل إدانة
غالباً ما يُقابَل الخلل في ترتيب الأولويات بحكم جاهز: ضعف، تسيّب، قلة مسؤولية، أو فشل في الانضباط الذاتي. يُنظر إلى من يعاني منه بوصفه هو المشكلة، لا بوصفه نتيجة لمسار طويل من الضغوط، والتشويش، والتعلم غير الواعي. هذا الحكم السريع لا يكتفي بتفسير السلوك، بل يُغلِق باب الفهم من الأساس، ويُحوّل الظاهرة الإنسانية إلى خطأ أخلاقي.
غير أن هذا التوصيف يتجاهل تعقيد التجربة النفسية والاجتماعية التي يتكوّن فيها السلوك. فالإنسان لا يختار دائماً من موقع الحرية الكاملة، ولا يُخطئ دائماً لأنه لا يعرف، بل كثيراً ما يُخطئ لأنه يُحاول التكيّف. يحاول أن يخفف ثقلاً، أو يسد فراغاً، أو يستعيد شعوراً مفقوداً بالأمان أو القيمة. وحين يُواجَه هذا السلوك بالإدانة فقط، لا يُصحَّح، بل يُدفَع إلى مزيد من الخفاء.
الوصمة النفسية لا تعالج الخلل، بل تُضاعفه. لأنها لا تطرح السؤال الصحيح: ما الذي حدث؟ بل تفرض حكماً نهائياً: ما الذي أنت عليه. وبهذا، يتحول السلوك من حالة قابلة للفهم والتغيير، إلى هوية ملتصقة بالشخص. لا يعود الإنسان من يخطئ، بل من “هو خطأ”. وهذه أخطر مراحل الانفصال عن الذات.
الخلل في التفكير بين الأولويات والرفاهيات ليس دليلاً على نقص القيمة، ولا علامة فشل وجودي، بل إشارة إنذار. إشارة إلى حاجة لم تُلبَّ، أو معنى تراجع، أو توازن اختلّ دون أن يجد من ينتبه إليه. هو عرض، لا جوهر. ومسار، لا حكم. ومن يُعامل العرض بوصفه هوية، يحرم الإنسان من إمكانية الشفاء.
الدعم الحقيقي لا يبدأ بالإدانة، لأن الإدانة تُغلق الحوار، ولا يبدأ بالنصح، لأن النصيحة قبل الفهم تتحول إلى عبء إضافي. الدعم يبدأ بالفهم: بفكّ السياق، بقراءة الدوافع، وبالاعتراف بأن الإنسان قد يضلّ لا لأنه سيئ، بل لأنه مُرهَق، أو مشوَّش، أو تُرك وحيداً مع أسئلة أكبر من أدواته.
بعد الفهم، يأتي إعادة التعليم: لا بمعنى التلقين، بل بمعنى إعادة بناء العلاقة مع الاختيار، ومع الزمن، ومع القيمة. تعليم لا يقول “افعل”، بل يشرح “لماذا تفعل”. لا يفرض نموذجاً، بل يساعد على اكتشاف البوصلة الخاصة بكل فرد.
ثم يأتي التمكين، لا بوصفه وعداً بالقوة، بل باستعادة القدرة على الفعل الواعي. تمكين يُعيد للإنسان ثقته بأنه قادر على إعادة الترتيب، وعلى تصحيح المسار، وعلى اتخاذ قرارات لا تحمي صورته، بل تحمي حياته.
في هذا المعنى، يصبح التعامل مع الخلل اختباراً أخلاقياً قبل أن يكون تحليلاً نفسياً. فإما أن نختار طريق الإدانة السهلة التي تُريح الحكم، أو طريق الفهم الصعب الذي يُنقذ الإنسان. والمقال كله، في جوهره، يقف عند هذا المفترق.
⸻
ما يبقى حين يهدأ الضجيج
حين يهدأ الضجيج، لا يحدث الكشف دفعة واحدة، بل يظهر على هيئة إحساس بسيط يصعب تسميته. إحساس بأن كثيراً مما استهلك الطاقة لم يكن ضرورياً، وأن ما أُجّل باسم الانشغال، أو الخوف، أو اللحاق، كان في الحقيقة أقرب إلى السلام مما ظنّ الإنسان. في لحظة صدق نادرة مع الذات، لا تُستعاد الأحداث، بل يُعاد ترتيب معناها.
لا يكتشف الإنسان أنه أخطأ في كل اختياراته، بل يكتشف أنه عاش طويلاً وهو يؤجّل ما كان سيمنحه التوازن، ويستجيب لما كان يطالبه بالإلحاح. لم تكن المشكلة في كثرة الرغبات، بل في غياب المسافة بينها وبين الحاجة. ولم يكن الإرهاق نتيجة الفعل، بل نتيجة العيش دون بوصلة واضحة.
حين تتراجع الرغبة، تظهر الحاجة بوضوح.
في هذا الهدوء، يتبدّل السؤال. لا يعود: كيف أملك أكثر؟ ولا: كيف أبدو أفضل؟ بل: ما الذي يستحق أن أُعطيه وزني الحقيقي؟ هنا فقط، تستعيد الرفاهية معناها الطبيعي: لا كتعويض، ولا كبديل، بل كإضافة تأتي بعد الاكتفاء، لا قبله. وتستعيد الأولويات مكانتها، لا كواجب ثقيل، بل كمساحة أمان تُبنى ببطء.
الحياة المتوازنة لا تعني التخلي عن المتعة، ولا الهروب من الجمال، ولا الانسحاب من العالم. هي لا تعني التقشف، ولا القسوة على الذات، ولا مصادرة الرغبة. بل تعني الوعي: أن يعرف الإنسان لماذا يفعل ما يفعل، وأن يختار ما يختاره دون أن يُساق إليه. تعني أن تكون الرفاهية في مكانها، لا في موقع القيادة، وأن يكون القرار امتداداً للمعنى، لا هروباً منه.
وفي هذا المعنى، لا تكون الأولويات قائمة جاهزة، بل علاقة حيّة تتغير مع الزمن، وتُراجع مع التجربة، وتُعاد صياغتها كلما اختلطت الأصوات من جديد. فالتوازن ليس حالة نهائية يُبلغها الإنسان، بل قدرة مستمرة على التصحيح، وعلى التوقف حين يلزم، وعلى الإصغاء حين يعلو الضجيج.
في النهاية — لا بمعنى الخاتمة، بل بمعنى ما يتبقّى — نكتشف أن ما نحتاجه لم يكن يوماً المزيد من الأشياء، بل وضوحاً أعمق لما يستحق أن يكون في المقدمة، وشجاعة كافية لأن نعيش وفقه، لا وفق ما يُصفّق له القطيع في هذا العالم المرتبك.
⸻
المصادر 1. List of Cognitive Biases – Wikipedia 2. Cognitive Bias Cheat Sheet – Buster Benson 3. The Psychology of Luxury and Mental Health – Mayfair Therapy 4. Research on Materialism and Well-being – Psychological Science 5. Mental Health Stigma and Behavioral Patterns – Psychology Today 6. Behavioral Economics and Decision-Making – Gregg Vanourek
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نبوخذنصر الثاني: -الفصل التاسع والأخير- سيرة ملك بين الطين ا
...
-
نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثامن- سيرة ملك بين الطين البابلي و
...
-
نبوخذنصر الثاني: -الفصل السابع- سيرة ملك بين الطين البابلي و
...
-
نبوخذنصر الثاني: -الفصل الخامس- سيرة ملك بين الطين البابلي و
...
-
نبوخذنصر الثاني: -الفصل السادس- سيرة ملك بين الطين البابلي و
...
-
نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثالث- سيرة ملك بين الطين البابلي و
...
-
نبوخذنصر الثاني: -الفصل الرابع- سيرة ملك بين الطين البابلي و
...
-
نبوخذنصر الثاني: -الفصل الأول- سيرة ملك بين الطين البابلي وا
...
-
نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثاني- سيرة ملك بين الطين البابلي و
...
-
رايان الذي روى عطش مليون إنسان
-
ومضات من بريق ضوء في ماريلاند: رحلة باميلا واتسون عبر سكون ا
...
-
الهندسة الأخلاقية للكون: قراءة في فلسفة براين لويس ومشروعه ف
...
-
الوجه الخفي لليابان: من صليل سيوف فرسان الساموراي إلى رقة تل
...
-
ليوبولد الثاني: الملك الذي امتلك قارّة وأباد شعباً
-
ومضات من فن الرسام الإيراني -محمود فرشجيان- رائد المدرسة الر
...
-
هيباتيا: شمس الأسكندرية المشرقة في عتمة التطرف والإرهاب
-
أصدقاء الله: مأساة -الأنقياء- النور المقموع في جنوب فرنسا
-
الوجه الآخر للعبث الإنساني في رحله صيد: حين يتحوّل الإنسان إ
...
-
ذو نواس: القصة الأقرب إلى الواقع بين النقوش والروايات والتفس
...
-
الوظيفة المرتبكة بين كفاءة الغرباء وثقة الأقرباء: حين تُدار
...
المزيد.....
-
مصر ترد على ما أثير حول رسو سفينة أسلحة ومعدات عسكرية في مين
...
-
ما تفاصيل أزمة لاعب الوحدة الدمشقي ميلاد حمد بعد هتافات -مسي
...
-
الحرارة المهدرة من مراكز الحوسبة والتحليل الكهربائي: طاقة لل
...
-
قسد تعلن التوصل إلى -تفاهم مشترك- مع الحكومة السورية
-
طارق رحمن يعود لبنغلاديش من المنفى وعينه على رئاسة الوزراء
-
انتقادات لسياسة الطفل الواحد في الصين بعد وفاة -مهندستها-
-
خبراء أمميون: الحصار البحري الأميركي على فنزويلا ينتهك القان
...
-
هل يقترب حسم ملف الضباط السوريين في لبنان؟
-
لقطات وصور صادمة.. تحقيق للجزيرة يوثق محو إسرائيل أحياء كامل
...
-
خطة تسلح إسرائيلية ضخمة تثير تساؤلات عبر المنصات
المزيد.....
-
العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو
...
/ حسام الدين فياض
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي
...
/ غازي الصوراني
-
من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
/ غازي الصوراني
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
المزيد.....
|