أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثامن- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية















المزيد.....



نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثامن- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 09:17
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الفصل الثامن: مدينة لا تُضاهى – بابل لؤلؤة في ذروة مجدها

بابل كرمز للعظمة والتناقض

في أعماق التاريخ القديم، حيث تتشابك خيوط الطين مع بريق الذهب، وتتداخل أنين المنفيين مع أصداء الاحتفالات الملكية، تبرز بابل كجوهرة الشرق الأدنى، مدينة لا تُضاهى في ذروة مجدها تحت حكم نبوخذنصر الثاني (حكم من 605 إلى 562 قبل الميلاد). بينما كانت أورشليم تتحسر على أطلال الهيكل المقدس، الذي أحرقه هذا الملك نفسه عام 587 قبل الميلاد، وتئن تحت وطأة الحصار والسبي البابلي الذي أودى بآلاف اليهود إلى النفي، كانت بابل تتألق في عظمة معمارية وثقافية تجسد رؤية نبوخذنصر للسلطة المطلقة، للعلم المتقدم، وللمجد الإنساني الذي يتحدى السماء. هنا تكمن المفارقة الكبرى: المدينة التي جسدت قمة الحضارة البشرية، كانت أيضًا مصدر دمار لمدن أخرى، كأنها لوحة فنية مرسومة بالطين والدماء، بالذهب والرماد. 
بابل، عاصمة الإمبراطورية النيوبابلية، لم تكن مجرد تجمع حضري على ضفاف نهر الفرات في جنوب العراق الحديث، بل كانت نموذجًا حيًا للتناقض الإنساني: مدينة بناها ملك عسكري قاسٍ، لكنها أصبحت مركزًا للإبداع الهندسي والفكري. نبوخذنصر، الذي ورث عرشًا مهزوزًا من والده نابوبولاصر مؤسس الإمبراطورية النيوبابلية، حوّل بابل إلى عاصمة إمبراطورية تمتد من الخليج الفارسي إلى البحر المتوسط، مستخدمًا غنائم الحروب لتمويل مشاريع بناء هائلة. بوابة عشتار، الشهيرة بلونها الأزرق اللازوردي المزخرف بالرخام المزجج والنقوش البارزة للأسود والتنانين، لم تكن مجرد مدخل شمالي للمدينة، بل رسالة صريحة لكل قادم: هنا عاصمة إمبراطورية تمتد سلطتها فوق الأرض، هنا الملك الذي يحكم بالحديد والطين، لكنه أيضًا باني لا يُضاهى، مجدد يرفع المدينة نحو السماء، ليصبح الطين نفسه مرآة لمجد الآلهة.  هذه البوابة، التي بنيت حوالي 575 قبل الميلاد، كانت جزءًا من جدار دفاعي يبلغ طوله 11 ميلًا، محصنًا بأبراج وخنادق مائية، يحمي قلب المدينة من الغزاة، بينما يدعو الزوار إلى الإعجاب بجمالها الفني.
طريق الموكب، الذي يمتد لمسافة نصف ميل من بوابة عشتار إلى مركز المدينة الديني، كان شاهداً حياً على الاستعراضات الملكية والاحتفالات الدينية السنوية، مثل عيد أكيتو الذي يحتفل بتجدد السنة وتتويج الملك. هذا الطريق المرصوف بالطوب المزجج، المزين بنقوش أسود وتنانين وثيران، لم يكن مجرد ممر، بل سرد تاريخي يروي إنجازات نبوخذنصر، ويعكس تعقيد الإدارة البابلية التي مزجت بين الهندسة المدنية والرمزية الدينية. يمر الزائر بين الجدران العالية، محاطًا بالقنوات والجسور التي تربط أحياء المدينة، مؤكدًا أن بابل ليست مجرد مدينة، بل نموذج للحضارة المنظمة، حيث يتدفق نهر الفرات عبرها، مقسمًا إياها إلى نصفين شرقي وغربي، ومغذيًا شبكة قنوات ري تجعل الصحراء المحيطة خصبة كجنة أرضية. 
الزقورة، المعروفة باسم إيتمنانكي (بيت أساس السماء والأرض)، كانت قلب المدينة الروحي، برجًا مدرجًا يرتفع سبع طبقات نحو السماء، مغطى بالطوب المزجج بالألوان الزاهية، وعليه معبد مردوخ إله بابل الرئيسي. نبوخذنصر لم يبنها فقط للطقوس الدينية، بل لتكون رمزًا للقوة السياسية، حيث يصعد الكهنة درجاتها لمراقبة النجوم والتنبؤ بالمستقبل، مما يعكس التفاعل بين الدين والسياسة، بين السماء والأرض، بين البشر والآلهة. كل خطوة على تلك الدرجات العالية كانت تذكيرًا بأن الإمبراطوريات الكبرى تُبنى على طاعة وقانون، لا على العشوائية والفوضى، وأن الملك هو وسيط بين الآلهة والشعب. 
أما الجنائن المعلقة، التي وصفتها المصادر اليونانية القديمة كإحدى عجائب العالم السبع، فكانت رمزًا آخر لهذا التناقض الجميل والمأساوي: سواء كانت موجودة فعليًا كتراسات خضراء معلقة على جدران القصر، مبنية لإرضاء زوجة نبوخذنصر أميطس ابنة ملك الميديين التي اشتاقت إلى جبال وطنها، أو كانت انعكاسًا لمهارة الهندسة البابلية في الري والزراعة، فإنها تجسد القدرة على خلق الجمال وسط القوة. ملك يعرف كيف يبني الروعة، وفي الوقت نفسه يحرق الهيكل في أورشليم ويأخذ الأسرى، مثل دانيال ورفاقه الذين أصبحوا جزءًا من النخبة البابلية. التناقض هنا ليس في الأفعال فحسب، بل في الذاكرة التي تحتفظ بكل هذه التفاصيل، بحيث تصبح المدينة مرآة مزدوجة: بابل للبناء، يهوذا للحرق، الطين للذهب، والنار للمجد. 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الحياة الاجتماعية في بابل: طبقات المجتمع وديناميكياتها

كانت بابل في زمن نبوخذنصر الثاني مجتمعًا نابضًا بالحياة، تُدار طبقاته وفق نظام صارم ودقيق يعكس قوة الدولة وثراءها. في شوارعها المرصوفة بالطين المحروق، وبين معابدها العالية وأسواقها المزدحمة، تشكّل مجتمعٌ متعدد الطبقات، تتداخل فيه المصالح الاقتصادية مع الهياكل الدينية والسياسية، في نسيج يعكس ازدهار المدينة وصرامة إدارتها.

طبقة الأويليو: نخبة السلطة والمال والدين

في أعلى الهرم الاجتماعي وقف الأويليو، وهم الأحرار ذوو الامتيازات الكبرى، وتشمل:
الكهنة، النبلاء، كبار التجار، قادة الجيش، وموظفي البلاط الملكي.
كانوا يعيشون في أحياء محصنة داخل الأسوار الداخلية—قريبين من الزقورة ومعبد إيساجيلا—حيث تنتشر المنازل الواسعة المبنية من طوب مختوم بختم الملك.
امتلك هؤلاء أراضي زراعية شاسعة على ضفاف الفرات، يديرونها عبر شبكات من العمال والعبيد، ويشرفون على التخزين المركزي للشعير والتمر والزيوت.

ولأن الكهنة كانوا الوسطاء بين البشر والآلهة، فقد تمتّعوا بنفوذ هائل. كانوا يشرفون على التقويم الفلكي، وعلى جداول الأعياد، وعلى إدارة المعابد التي تحولت إلى مراكز مالية وعلمية. وكانت عائلات معينة مثل أسرة ناسو (Nabû-šum-līšir) تتوارث المناصب الكهنوتية، مما عزّز طبقة دينية شبه مغلقة تتحكم في المعرفة والطقوس والاقتصاد معًا.

طبقة الموشكينو: عماد المدينة وقلبها المتحرك

أما الموشكينو—أحرار الطبقة الوسطى—فقد شكلوا الفئة الأكثر نشاطًا في الحياة اليومية. هؤلاء شملوا:
الحرفيين، النسّاجين، البنّائين، التجار الصغار، الكتبة، المزارعين، أصحاب الورش، والعاملين في النقل النهري.

كانوا يعيشون في أحياء مزدحمة، مثل الأحياء الشرقية قرب قناة أرتميسو أو المنطقة المحاذية لسوق نرجال.
تبدأ أيامهم عند شروق الشمس، حين تنفتح أسواق الخضرة، وأسواق اللحوم، ومحال النسيج التي اشتهرت بها بابل.
في تلك الأسواق كان يُباع الشعير، والقمح، والسمسم، والتمر، والصوف الممشّط، والفخار، والخرز، وتماثيل الطين الصغيرة التي كانت تُصنع لتقديمها للآلهة أو لبيعها للزوّار.

الملفت أن المرأة البابلية—خصوصًا في هذه الطبقة—حافظت على حقوق قانونية لم تُمنح للنساء في حضارات لاحقة.
كان بإمكانها:
امتلاك العقارات، إدارة الأوقاف الصغيرة، توقيع العقود، رفع الدعاوى، وحتى طلب الطلاق في حال الإساءة—كما تنص عليه مواد واضحة امتدت من إرث قانون حمورابي حتى العصر النيوبابلي.
كانت بعض النساء يدِرن مشاغل نسيج، أو يشتركن في التجارة عبر القنوات.

طبقة الواردو: العبيد… لكن بنظام حقوقي

في قاعدة الهرم الاجتماعي كانوا الواردو—العبيد—وتنوعت أوصافهم: أسرى حرب، مدينون، أو عبيد منزل.
لكن العبودية البابلية لم تكن مطلقة كما في روما لاحقًا؛ فقد حافظ العبيد على حقوق أساسية:
كان لهم الحق في الزواج، تربية الأطفال، شراء حريتهم، وحتى امتلاك ممتلكات صغيرة.
كان السيد ملزمًا بإطعامهم والسماح لهم بالعمل خارج أوقات الخدمة.
وفي كثير من الحالات، كان العبيد المتعلمين يعملون ككتبة أو محاسبين—وهي مناصب راقية مقارنة بعبودية الأمم الأخرى.

اقتصاد بابل: ثروة تُسيّرها المياه

كان ازدهار بابل قائمًا على شبكة مذهلة من الري، تتفرع من الفرات كأوعية تنقل الحياة إلى الأراضي الصحراوية.
قنوات مثل قناة بالوس وقناة شتتمان-إنليل كانت تربط بين الفرات والدجلة، مما أدى إلى تكوين مناطق زراعية خصبة تنتج الشعير والقمح والسمسم والكروم.
الزراعة شكلت قاعدة الاقتصاد، ثم جاءت الصناعات الحرفية لتُكمل صورة الرخاء.

التجارة العابرة للقارات: بابل مركز الشرق

كانت بابل نقطة التقاء لثلاث قارات؛ منها تمر السلع النادرة التي تشتهر بها الحضارات البعيدة:
– اللبان والمر من اليمن
– النحاس والفضة من الأناضول
– الخشب من لبنان
– اللؤلؤ من سواحل عُمان والخليج
– العاج والأحجار النفيسة من الهند
– التوابل والأقمشة الدقيقة من وادي السند
– النبيذ وزيت الزيتون من فينيقيا

كل ذلك يجعل من بابل عاصمة تجارية عالمية، يسير في طرقاتها التجار الآراميون بلغتهم المميزة، بينما تعبر الجمال والقوارب النهرية محملة بالبضائع.

القطاع المصرفي المتطور: بيت إيجيبي نموذجًا

كانت بابل أيضًا مركزًا ماليًا بامتياز. اشتهرت بيوتها المصرفية، وأشهرها بيت إيجيبي (Egibi Family)، وهي مؤسسة مالية أقرب إلى بنك حديث.
قدمت هذه البيوت:
– القروض بفوائد ثابتة
– الودائع
– التحويلات المالية
– رهن الأراضي
– إدارة أموال التجار
– عقود الشراكة التجارية عبر الرحلات البعيدة

في سوق نرجال، غرب المدينة، كان يتم تداول الفضة والذهب كعملات معيارية.
وكان الكاتب البابلي يسجل كل معاملة على لوح طيني، مختومًا بختم التاجر أو الموظف.

هذه الصورة الاجتماعية الغنية تُظهر أن بابل لم تكن مجرد مدينة إمبراطورية، بل نسيجًا إنسانيًا معقدًا.
مدينة تضم الكهنة الذين يقرأون حركة النجوم، والتجار الذين يعبرون الصحاري، والنساء اللواتي يدِرن الأعمال، والعمال الذين يشيدون المعابد، والمزارعين الذين يجعلون من الصحراء فردوسًا صغيرًا.

بابل كانت مجتمعًا يعمل كجسد واحد؛
لكل طبقة دور، ولكل فرد مكان، ولكل مهنة وظيفة في ماكينة إمبراطورية كانت تعرف معنى النظام والثراء والتنظيم.


ــــــــــــــــــــــــ

دور الكهنة بين الطقوس والشرائع في نظام الجسر بين الآلهة والملك

الكهنة في بابل كانوا ليسوا مجرد رجال دين، بل عماد النظام السياسي، يشكلون طبقة نخبوية تتحكم في الاقتصاد والسياسة. في معبد إيساجيلا، المخصص لمردوخ، كان الكهنة يديرون أراضي هائلة، يعمل فيها آلاف العبيد، ويجمعون الضرائب الدينية التي تمول الدولة. نبوخذنصر اعتمد عليهم لتبرير حكمه، إذ كان الملك يُعتبر ابن مردوخ، ويشارك في طقوس مثل عيد أكيتو، حيث يجدد العهد مع الإله في الزقورة. الكاهن الأعلى، المعروف بـ”شيشجالو”، كان يتنبأ بالمستقبل عبر مراقبة الكواكب في مرصد إيتمنانكي، مما يؤثر على قرارات الحرب والسلام.  هذا الدور جعل الكهنة شركاء في السلطة، يوازنون بين التقاليد الدينية والطموحات الملكية، كأنهم حراس السماء في مدينة من طين.

كانت بابل أكثر من مدينة مزدهرة؛ كانت نظامًا كونيًا يرى سكانه أن الآلهة هي التي تحفظ حركة العالم، وأن البشر جزء من نسيج مقدّس يجب إرضاؤه عبر الطقوس والقوانين. في هذا العالم الروحي الهائل، أصبحت الديانة البابلية ليست مجرد عقيدة، بل إطارًا قانونيًا وسياسيًا وأخلاقيًا ينظّم كل تفاصيل الحياة.

مردوخ: الإله الذي صُنعت له مدينة تشبه السماء
في مركز هذا الكون يجلس مردوخ، الإله الذي ارتفع نجمه منذ العصر البابلي القديم، ليصبح في زمن نبوخذنصر السيّد المطلق لإرادة الآلهة والبشر. معبد إيساكيل، بجدرانه المصنوعة من اللبن المطبوخ والمكسوة باللازورد، كان أشبه بقلب المدينة، لا تتوقف فيه الترانيم، ولا تُغلق أبوابه إلا لحظة واحدة في السنة تُعتبر من أخطر لحظات العالم الروحي: عيد الأكيتو.

الأكيتو: اللحظة التي يُعاد فيها خلق العالم
في الأيام الاثني عشر لعيد الأكيتو، كانت بابل تتحول إلى خشبة مسرح كوني؛ يخرج تمثال مردوخ من إيساكيل إلى بيت أكيتو عند ضفاف الفرات، ثم تعاد طقوس الخلق كما وردت في “إنوما إيليش”، فيشهد الناس انتصار مردوخ على تيامات، وتثبيت النظام الكوني من جديد. لم تكن هذه مجرد طقوس احتفالية، بل ضمانة كي لا يسقط العالم في الفوضى. ولهذا كان الملك نفسه يخضع لامتحان روحي مهين، يُصفع أمام تمثال مردوخ ليبرهن أنه لا يحكم إلا بإرادة الإله، وأن سلطته ليست إلا وكالة بشرية عن سلطة كونية.

الكهنة: طبقة تحكم من وراء الحجاب المقدّس
الكهنة البابليون كانوا أكثر من موظفين دينيين؛ كانوا حراس النظام الكوني، والعقول المدبرة للمعرفة الفلكية واللغوية والقانونية. في معبد إيساكيل وملحقاته، كتبوا النصوص الطقسية، وسجّلوا مواقع النجوم، وفسّروا الأحلام، وصاغوا القرارات الملكية بصيغة توافق النواميس الإلهية.
الكاهن الأعلى، شَنكَكو، كان صاحب سلطة تضاهي سلطة كبار القادة السياسيين، فهو الذي يقرر صلاحية الملك للعرش، وينظّم موارد المعبد الاقتصادية الهائلة، التي شملت الأراضي الزراعية والورش الحرفية ومخازن الحبوب.

المعابد: مراكز عبادة واقتصاد وإدارة
لم يكن المعبد مكانًا للصلاة فقط، بل مؤسسة اقتصادية تشرف على الأراضي والبنوك وتوظيف العمال. معبد إيساكيل لوحده كان يدير آلاف العمال، ويملك قطعانًا من الماشية، وقوافل تجارية تتحرك بين الخليج و الأناضول.
أما الزقورة، برج بابل الشهير، فكانت تُرى كجسر يربط السماء بالأرض؛ كل طبقة فيها رمز لعالم كوني، وكل درجة على السلم كانت عبارة عن صعود روحي يُقرّب الكهنة من معرفة الآلهة.

القوانين والتشريعات: الدين كنظام يُدير الحياة اليومية
القانون البابلي، وإن كان مستقلاً عن الدين ظاهريًا، إلا أنه كان مبنيًا جذريًا على فكرة العدالة الإلهية التي يمثلها شمش إله الشمس والحق.
استمر تأثير قانون حمورابي في العصر النيو-بابلي، رغم مرور قرون، في مبادئ مثل:

• مسؤولية الدولة عن حماية الضعفاء
• تحديد أسعار السلع والخدمات
• تنظيم الزواج والطلاق والميراث
• مسئوليات البنّائين والتجار والكتبة
• حقوق النساء في الملكية والتجارة

كانت هذه القوانين تُقرأ في مناسبات دينية داخل قاعات المعبد، ليبقى المجتمع متذكّرًا أن العدالة ليست مجرد تشريع بشري، بل وصية سماوية.

الطقوس اليومية: سحر الحياة العادية
داخل المعابد، كان اليوم يبدأ قبل شروق الشمس بإنارة النار المقدسة، وتنظيف تمثال الإله من الغبار، وتقديم الخبز والتمر والنبيذ.
وكانت الطقوس تُدار وفق جدول صارم: تراتيل، تقديم قرابين، قراءة نبوءات من الكبد (العِرافة)، واستشارة المراصد الفلكية لتحديد المناسبات.

حتى المرض والجريمة والنزاع كان يُعاد تفسيرها دينيًا؛ فالكهنة يعالجون المريض عبر طقوس تطهير، ويكتبون تعاويذ على ألواح طينية تُدفن تحت عتبات البيوت، لحماية الأسرة من الشرور.

الأعياد: زمن ينكسر فيه الزمن
إلى جانب الأكيتو، كانت هناك أعياد:
• عيد تموز، حيث تُبكى موت الإله الشاب الذي ينزل إلى العالم السفلي
• عيد ننسون، إلهة الحكمة، المرتبط بولادة الملوك
• أعياد موسمية مرتبطة بالحصاد والريّ

كانت الأعياد أداة سياسية لربط الشعب بالمدينة، وإظهار وحدة الطبقات، إذ ينزل الملك من قصره، ويختلط بالعامة، ويشارك في القرابين.

ـــــــــــــــــ

مكانة النخبة البابلية: فخامة تُصنع في الظل ومسؤولية تُدار من خلف الأبواب المغلقة

كانت النخبة البابلية — المكوّنة من طبقة الأويليو، من النبلاء والكهنة وكبار التجار — أشبه بطبقة تعيش عند حافة المقدّس. حياتها لا تُرى إلا من بعيد، لكنها كانت المحرّك الصامت لإمبراطورية نبوخذنصر. هؤلاء الذين أتيح لهم أن يسكنوا قرب القصور والمعابد، في الربوة العليا من المدينة، عاشوا في فضاء معماري مشبع بالرموز: أرضيات من الطوب المزجج، جدران مطعّمة باللازورد، أعمدة تستورد أخشابها من جبال لبنان، وحدائق تتدلى منها نباتات عطرية تُسقى من قنوات فرعية تصل مباشرة من الفرات.

داخل قصور مثل القصر الجنوبي لنبوخذنصر، كان كبار النبلاء يحضرون الولائم الملكية التي تمتد لساعات، يُقدّم فيها لحم الغزال المشوي، والسمك النهرّي، والخبز المخمّر، والتمر المدهون بالعسل، ونبيذ يأتي من كروم الأناضول وفينيقيا. ولكن هذه الرفاهية لم تكن مجرّد استهلاك؛ كانت رمزًا للقوة، لأن الوليمة كانت مناسبة سياسية تُعاد فيها صوغ التحالفات، ويُظهر فيها الملك ثراءه أمام الطبقة التي تستطيع أن تسانده أو أن تُربك حكمه.

وكان التجار الكبار — مثل أسرة إيجيبي الشهيرة التي أدارت أكبر مؤسسة مالية في بابل — يمثّلون الذراع الاقتصادية للنخبة. لم تكن البنوك البابلية مجرد أماكن لإيداع الفضة، بل مؤسسات تموّل بناء الأسوار، وحفر القنوات، وتنظيم التجارة بين الخليج والهلال الخصيب. النفوذ المالي لهذه العائلات كان يصل مباشرة إلى البلاط، إذ يُستشارون في سياسات الضرائب، وضبط أسعار الشعير، وتمويل الحملات العسكرية.

أما الكهنة، وهم أرقى طبقة في المجتمع بعد الملك، فكانوا مركز المعرفة: يكتبون النصوص الطقسية، يديرون أملاك المعابد، ويشرفون على التعليم في مدارس الكتبة. بفضلهم استمرت النصوص الكبرى — مثل “إنوما إيليش” و”جلجامش” — محفوظة على الألواح الطينية، منقوشة بدقة، تنتقل من جيل إلى آخر. كان الكاتب البابلي الذي ينقش سطراً من جلجامش لا يقوم بعمل أدبي فقط؛ بل يؤدي طقسًا من طقوس الذاكرة الجماعية.

ولأن الإمبراطورية كانت كيانًا متعدد الأعراق، لم تكن النخبة حكرًا على البابليين وحدهم. فقد صعد إلى مواقع النفوذ مستشارون أجانب مثل دانيال، ذلك المنفي القادم من أورشليم، الذي أصبح أقرب ما يكون إلى “العقل الثاني” للملك. وجود شخصيات كهذه داخل مركز السلطة يعكس مرونة بابل السياسية وقدرتها على دمج الغرباء في نسيجها، ما داموا يخدمون الدولة ويحافظون على النظام الكوني الذي تمثله معابد مردوخ ونابو.

وفي الوقت نفسه، حملت هذه النخبة مسؤولية ثقيلة، فرفاهيتها كانت مرتبطة بواجبات واضحة: حماية تقاليد البلاد، تمويل المشاريع العامة، الإشراف على الحياة الاقتصادية، وضمان انتقال التراث. كانت مكتبات مثل مكتبة آشوربانيبال — التي ورث البابليون الكثير من محتواها — تشهد على ذلك الدور؛ فالنبلاء والكتبة رعاة المعرفة، يسجّلون الأحلام، يرسمون الخرائط الفلكية، ويعيدون نسخ النصوص التي تكوّن ذاكرة بلاد الرافدين.

وبهذا أصبحت النخبة البابلية طبقة تعيش بين الفخامة والواجب، بين السلطة والرعاية، بين متعة الولائم وضبط قوانين الإمبراطورية. إنهم أصحاب الامتياز الأعلى، لكنهم في الوقت نفسه حملة الإرث الذي يُعرّف بابل كأمة، وكعاصمة للكون في نظر سكانها.

ـــــــــــــــــــ

المرأة البابلية: الوجه المشرق والخفيّ في المدينة

في بابل، لم تكن المرأة مجرد ظلّ لرجل أو ملحقًا بيته؛ كانت كيانًا اجتماعيًا واقتصاديًا فاعلًا، تُستشار، وتبيع، وتشتري، وتكتب العقود، وتدير البيوت، وتشارك في نسج الذاكرة الثقافية التي شكّلت هوية المدينة. يكشف لنا الأرشيف الطيني الهائل — ألواح العقود والزواج والميراث والديون — عن عالم نسائي نابض، يتعارض مع الصورة النمطية للمرأة في المجتمعات القديمة، إذ شهدت بابل حضورًا أنثويًا واضحًا، يزداد قوة كلما اقتربنا من الطبقات المتوسطة والعليا.

في الحياة الاجتماعية، كانت المرأة مركز البيت، لكن البيت البابلي لم يكن مجرد مأوى؛ كان وحدة اقتصادية قائمة بذاتها. المرأة، سواء كانت من طبقة الموشكينو أو الأويليو، كانت تشرف على إنتاج النسيج، وإدارة مخازن الحبوب، وتربية الأطفال، وتعليمهم القواعد الأولى للقراءة والطقوس البيتية. وكانت تخرج إلى الأسواق في أحياء مثل سوق نِرجال أو سوق مردوخ، تبيع الأقمشة والزيوت والعطور، وتتفاوض مع التجار، وتحمل أختامها الخاصة التي تثبت هويتها القانونية.

وفي الحياة الاقتصادية، كانت المرأة البابليّة تمتلك حقًا كاملاً في الملكية الفردية، وفقًا لقانون حمورابي الذي ورثته الحقبة النيوبابلية. كانت تستطيع أن تشتري الأراضي، أن ترهنها، وأن تدير مشروعات صغيرة مثل مطاحن الحبوب أو ورش النسيج، وتشهد العقود على وجود نساء يشاركن في شراكات تجارية مع رجال أو نساء أخريات، وبعضهن كوّن ثروات مستقلة عن أزواجهن. والأهم أنها كانت تتمتع بحق طلب الطلاق في حالات الإهمال أو سوء المعاملة، وهو امتياز لم تعرفه معظم المجتمعات القديمة.

أما في الحياة الثقافية، فقد ارتبطت المرأة ارتباطًا وثيقًا بالطقوس، خصوصًا في الاحتفالات الدينية للآلهة النسائية مثل عشتار. كانت المرأة البابليّة تزيّن الطرق خلال الأعياد الكبرى، وترتّل الأناشيد، وتشارك في مواكب “أكيتو” التي تُحتفل ببداية السنة الجديدة. بعضهن كنّ كاتبات ماهرات، ينسخن النصوص الدينية والأسطورية داخل المعابد أو المدارس الرسمية، وتشير النقوش إلى وجود كاهنات متخصصات في الموسيقى والإنشاد، يشاركن في إحياء الطقوس في معبد عشتار ومعبد نابو.

وفي السياسة، لم تكن المرأة حاكمة بشكل مباشر، لكنها مارست تأثيرًا بارزًا من وراء الستار. زوجات كبار الموظفين والكتبة ورجال الدين كنّ يلعبن دورًا سياسيًا غير معلن، تتحكم الواحدة منهن في شبكات القرابة والتحالفات داخل البلاط. فمن خلال الزواج، والمهر، وتوزيع الثروة، كانت المرأة تُعيد تشكيل علاقات القوة بصمت، وتُرسّخ نفوذ أسرتها. وتذكر النصوص أسماء نساء لعبن أدوارًا أساسية في تثبيت مكانة عائلاتهن داخل الإدارة الملكية، وأخريات قدّمن تبرعات ضخمة للمعابد، مما منحهن مكانة خاصة لدى الكهنة.

أما في الطبقات العليا، فقد ظهرت المرأة كراعٍ للفنون والتعليم. كانت بعض النبيلات يملكن مكتبات خاصة داخل القصور، ويشرفن على تعليم أطفالهن القراءة والكتابة، ويرسلنهم إلى مدارس الكتبة. وتشير بعض الألواح إلى أن نساءً من النخبة تبرعن بأموال لترميم معابد مثل معبد “إيساكيلا” الخاص بمردوخ، وموّلن نُسّاخًا لنسخ ملحمة جلجامش ونصوص “إنوما إيليش”.

وفي الطبقات الدنيا، كانت النساء يعملن في الحقول، ويقمن بدور جوهري في الزراعة والري، خصوصًا في المناطق المحاذية لقنوات الدجلة والفرات. وكان بعضهن يعملن كخبازات، صانعات جعة، أو حرفيات في معامل الطوب، ما جعل المرأة جزءًا من دورة الإنتاج اليومي التي غذّت الإمبراطورية.

هكذا، لم تكن المرأة البابلية هامشًا، بل مركزًا لدوائر متعددة من الفعل ، اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، وسياسية بما يضفي على المدينة نبضها الحي. وفي الوقت الذي كان فيه الرجال يشيدون الأسوار والزقورات، كانت النساء يشيدن تماسك المجتمع، ويمسكن في أيديهن خيوط الحياة اليومية التي بدونها لم تكن بابل لتقوم أو تزدهر أو تبقى إشعاعا في الذاكرة الإنسانية.

ـــــــــــــــــــ

تأثير العمارة البابلية على فارس واليونان: إرث نبوخذنصر الذي تجاوز الجغرافيا والزمن

حين يقف المؤرخون أمام الأبنية البابلية الكبرى — من بوابة عشتار إلى الزقورة إلى القصر الجنوبي — فإنهم في الحقيقة يقفون أمام بصمة رجل واحد: نبوخذنصر الثاني. لم يكن هذا الملك مجرد قائد جيوش يحاصر أورشليم ويهدم الهيكل، بل كان عقلًا معماريًا عظيمًا، صاغ من الطين واللبن رؤية حضارية أصبحت النموذج الذي اقتدت به إمبراطوريات لاحقة. الفرس واليونان لم يرثوا بابل وحدها؛ لقد ورثوا خيال نبوخذنصر نفسه.

الفرس الأخمينيون، عندما دخل كورش الكبير بابل سنة 539 ق.م، لم يدخل مدينة عادية، بل دخل عاصمة أعيد تشكيلها على يد ملك رأى أن المدينة هي المرآة الأعظم لقوة الحاكم. لذلك لم يدمّر كورش شيئًا؛ بل ترك الأعمال المعمارية الكبرى كما هي، وسمح للكهنة بخدمة مردوخ، وبدأ الأخمينيون في تمثّل روح العمارة النبوخذنصرية داخل عاصمتهم الجديدة برسيبوليس. كانت بوابة عشتار النموذج الأولي الذي استُلهمت منه “بوابة كل الأمم” في برسيبوليس؛ نقوش الحيوانات الأسطورية، التناظر الهندسي، الألوان الفاخرة — كل ذلك بدا كأنه امتداد مباشر لأسلوب نبوخذنصر الذي جمع بين الرمزية الدينية والعظمة السياسية.

حتى حدائق برسيبوليس المدرّجة، التي شيّدت لاحقًا، تحمل أثر فلسفة الجنائن المعلّقة، تلك الأعجوبة التي ارتبطت بالنبوخذنصر وحنينه — وفق الرواية الكلاسيكية — إلى إسعاد زوجته أميتيس القادمة من ميديا الجبلية. سواء كانت الجنائن المعلّقة حقيقة أم أسطورة، فإن العالم القديم كله آمن بأنها عمل نبوخذنصر، ومن هذا الإيمان تشكّلت أولى النماذج الفارسية للحدائق الملكية المرتفعة، التي تعكس مبدأً بابليًا بسيطًا وعظيمًا: الجمال ليس ترفًا، بل جزء من شرعية الملك.

أما النظام الهيدروليكي الذي صنع خصوبة بابل — القنوات، السدود، والجسور — فقد نقله الفرس حرفيًا إلى فارس، فظهرت لاحقًا “قنوات قنات” الشهيرة التي صارت هوية الريّ الفارسي، لكنها في الأصل امتداد لثورة هندسية بدأت على ضفاف الفرات برعاية نبوخذنصر.

اليونانيون، من جهتهم، رأوا في بابل مدينة شديدة الغرابة والرهبة. حين كتب هيرودوت عن بابل، كان يصفها بعين المسافر الذي يرى مدينة أكبر من خياله. الأسوار الثلاثية المترامية، الشوارع التي تُقسّم المدينة بزوايا دقيقة، الزقورة التي ترتفع طبقة فوق طبقة كأنها سلّم إلى السماء — كلها كانت بالنسبة إلى الإغريق درسًا في كيف يمكن للسياسة والدين والمعمار أن تتحد في كيان واحد. والأهم أن كل ذلك كان من تصميم ملك واحد، اسمه نبوخذنصر.

لقد تركت الزقورة أثرًا عميقًا على العمارة الهلنستية؛ فمعابد الإغريق لم تُبنَ على الأرض مباشرة، بل رُفعت على منصّات عالية (الستيلوباتي)، وهو ترجمة يونانية لفكرة بابليّة: المقدّس يجب أن يكون أعلى من المدينة. وحتى فكرة السلالم الطويلة التي تسبق المعابد الكبرى في الأكروبوليس، تحمل صدى الزقورات النبوخذنصرية.

الفكر العلمي لبابل — الذي ازدهر في مراصد إيتمنانكي التابعة لهيكل مردوخ — هو أيضًا جزء من إرث نبوخذنصر. فقد كان اهتمامه بتجديد المعابد وتنظيم الكهنوت سببًا مباشرًا لازدهار علم الفلك البابلي. هذه الجداول الفلكية انتقلت إلى اليونان عبر حرّان وسوريا، ثم إلى الإسكندرية، ومنها إلى بطليموس الذي اعتمد في “المجسطي” على نماذج حسابية بابليّة بحتة، كالجدول الشهير لدورات القمر.

لقد كان نبوخذنصر — رغم قسوته في الرواية اليهودية — أحد أكثر صُنّاع الحضارة تأثيرًا في العالم القديم. فكل بوابة ضخمة في برسيبوليس، وكل منصة معبدية في أثينا، وكل حديقة ملكية مرتفعة في العالم الهلنستي، تحمل في عمقها ظلًا من “عظمة بابل” كما أرادها أن تكون.

بابل التي أحرق من أجلها مدنًا، وجمّالها صار مثالًا، لم تندثر.
لقد بُعثت في فارس، فقد نقل الفرس كثيرًا من نظام العمارة البابلية ودقّتها وجمالها إلى برسيبوليس، مستوحين من بوابة عشتار وألوانها الزرقاء اللافتة ونقوشها الحيوانية المقدسة ثم بُعثت في اليونان، ثم بُعثت في كل مدينة رأت أن السماء يمكن أن تُمسّ بالحجارة.

ــــــــــــ

دوّر نبوخذنصر في تطوير علم الفلك البابلي

في قلب بابل، حيث امتدت حدائقها المعلقة وأبراجها الشاهقة كجسور بين الأرض والسماء، أطلق نبوخذنصر الثاني مشروعه الأعظم: مراصد إيتمنانكي. هذه الأبراج لم تكن مجرد إنجاز معماري، بل مركزًا للمعرفة والفلك، حيث جلس الفلكيون البابليون مثل نابو ريشو يسجلون حركات النجوم والكواكب، ويدوّنون الكسوف والخسوف بدقة مذهلة، ويحسبون دورات الزهرة والشمس والقمر وفق نظام رياضي متقن، يقسم الدائرة إلى 360 درجة ويقيس الزمن بدقائق وساعات، كأنهم يحاولون ترجمة السماء إلى لغة الإنسان.

دعم نبوخذنصر للفلك لم يكن اعتباطيًا، بل جزءًا من رؤيته الكبرى لإعلاء شأن بابل كعاصمة للمعرفة والحضارة. لم يكن هو عالمًا، لكنه راعٍ ومرشد، وفر للبشرية أدواتها الأولى لفهم السماء، وحوّل رصد النجوم إلى إرث حضاري خالد. كانت المراصد جزءًا من مشروعه الشامل لإعادة مجد الإمبراطورية، حيث تضافرت الهندسة والمعمار مع الرياضيات والفلك لتجعل من بابل مركزًا عالميًا للعلوم.

ومن هذه المراصد انطلقت المعرفة الفلكية لتصل إلى اليونان، حيث استند إليها بطليموس لتطوير النظام الفلكي الذي شكّل أساس علم الفلك الحديث. وهكذا، أصبح نبوخذنصر ليس مجرد ملك يبني المدن ويعلي الأعمدة، بل شمسًا ملكية أشرقت على المعرفة، محوّلة السماء إلى سجل دقيق للعظمة البشرية، ومرآة لحضارة قدرت أن تلتقط قوانين الكون قبل أن يعرفها العالم بأسره.

ــــــــــــــــ

الحياةاليومية حيث نبض الحياة في الطين والذهب

في شوارع بابل الضيقة، كان نبض الحياة اليومية يتنفس في كل زاوية، كما لو كانت المدينة نفسها كائنًا حيًا. في سوق نرجال، امتزج عبق التوابل مع رائحة الطين الرطب، وكانت أصوات التجار تصدح بالمساومة والصفقات، بينما تنساب الأقمشة المزخرفة على الأكتاف كأنها قصص من الحرير. الأطفال يركضون بين الأكشاك، حاملين الفواكه والخبز، والحمير تثقل الطرقات بالبضائع، فيما النساء يحملن جرار الماء من نهر الفرات، ويتبادلن الأخبار عن مشاريع الملك ونبوخذنصر، الذي يشيّد الزقورات والقصور، ويحوّل المدينة إلى مرآة لعظمته.

في أحياء الفقراء مثل حي إيريدو، كانت الورش الصغيرة تغلي بالحركة: الحرفيون يشقّون الطوب ويحرقونه، ويشكّلون التماثيل الحجرية والخشبية التي تزين المعابد، بينما تصدح أناشيد الكهنة لمردوخ، ويدور دخان البخور بين الأعمدة كحجاب يربط الأرض بالسماء. في الأزقة، يتداول الصبية الرسائل بين الأسر، ويعزف الموسيقيون الشعبيون على الأقواس والطبول ألحانًا تروي ملاحم قديمة عن الأبطال والآلهة، فتخترق أصواتهم الممرات كالنسيم.

ومع غروب الشمس، تتحوّل بابل إلى مهرجان حي: المشاعل تضيء الطرقات، القصور تعج بالولائم الملكية والمواكب الفخمة، حيث يزين الملوك والحراس ذهبياتهم ويجوبون الساحات على عربات مزخرفة، بينما تروي الحكايات البطولية التي تُسمع بصوت عالٍ من المنصات العامة قصص نبوخذنصر، وانتصاراته، وبطولات جنوده، في حين يلتقط المارة كل كلمة كما لو كانت جزءًا من أسطورة حية.

وفوق كل ذلك، كانت الزقورة العظيمة تهيمن على المشهد، شامخة كعين الآلهة، تراقب النجوم وتعيد تذكير البشر بأن حياتهم مرتبطة بالأقدار السماوية، وأن كل يوم في بابل هو لوحة تتشابك فيها الأرض مع السماء، الطين مع الذهب، والبسطاء مع الملوك، لتظل المدينة، بكل ضجيجها وروائحها وألوانها، رمزًا لروعة الحضارة وعبقرية الإنسان الذي يربط بين الحياة اليومية والكون الأزلي.

ــــــــــــــ

بابل في ذروة مجدها لوحة معقدة من الطين والذهب، حيث القوة والهندسة والرمزية تتشابك مع الألم والدمار خارج أسوارها، لتصبح نموذجًا خالدًا للإمبراطوريات، ومعلمًا للتناقض الإنساني: الملك الذي يحرق مدينة ويبني أخرى، الذي يأسر الشعب ويعلي الحضارة، الذي يجمع الطين والذهب في نفس اليد، ويترك للذاكرة البشرية صورة مزدوجة، لن تُمحى أبدًا. هذه المدينة، التي بلغ عدد سكانها 200 ألف نسمة، تذكرنا أن العظمة الحقيقية تكمن في التوازن بين القوة والجمال، بين الدين والعلم، وبين الماضي والمستقبل.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل السابع- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الخامس- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل السادس- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثالث- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الرابع- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الأول- سيرة ملك بين الطين البابلي وا ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثاني- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- رايان الذي روى عطش مليون إنسان
- ومضات من بريق ضوء في ماريلاند: رحلة باميلا واتسون عبر سكون ا ...
- الهندسة الأخلاقية للكون: قراءة في فلسفة براين لويس ومشروعه ف ...
- الوجه الخفي لليابان: من صليل سيوف فرسان الساموراي إلى رقة تل ...
- ليوبولد الثاني: الملك الذي امتلك قارّة وأباد شعباً
- ومضات من فن الرسام الإيراني -محمود فرشجيان- رائد المدرسة الر ...
- هيباتيا: شمس الأسكندرية المشرقة في عتمة التطرف والإرهاب
- أصدقاء الله: مأساة -الأنقياء- النور المقموع في جنوب فرنسا
- الوجه الآخر للعبث الإنساني في رحله صيد: حين يتحوّل الإنسان إ ...
- ذو نواس: القصة الأقرب إلى الواقع بين النقوش والروايات والتفس ...
- الوظيفة المرتبكة بين كفاءة الغرباء وثقة الأقرباء: حين تُدار ...
- التفكير التحليلي النقدي: وعي في زمن الفوضى الرقمية
- حياة تتجدد بعد تشيرنوبل: بين أثر الإشعاع النووي وقوة التكيف ...


المزيد.....




- مسؤول يكشف: حصار النفط المهمة الرئيسية للجيش الأميركي في فنز ...
- الاحتلال يواصل عمليات الهدم والاقتحام في الضفة والقدس
- إصابات في قصف إسرائيلي على جناتا بجنوب لبنان
- في رسالة إلى كيم.. ماذا قال بوتين عن -دور كوريا الشمالية في ...
- ماذا نعرف عن المسؤول العسكري الليبي الكبير الذي لقي مصرعه بت ...
- كأس الأمم الإفريقية 2025 : منتخب الجزائر يتفوق على نظيره الس ...
- هندوراس: فوز مرشح ترامب المفضل نصري عصفورة بالرئاسة بعد سباق ...
- بيت لحم تستعيد بهجة عيد الميلاد بعد عامين من الصمت بسبب حرب ...
- دعوة -للتطبيع- في العراق.. السوداني يرفض والصدر يندد والبطري ...
- تنديد دولي بخطة استيطانية في الضفة.. وهكذا ردت إسرائيل


المزيد.....

- معجم الأحاديث والآثار في الكتب والنقدية – ثلاثة أجزاء - .( د ... / صباح علي السليمان
- ترجمة كتاب Interpretation and social criticism/ Michael W ... / صباح علي السليمان
- السياق الافرادي في القران الكريم ( دار نور للنشر 2020) / صباح علي السليمان
- أريج القداح من أدب أبي وضاح ،تقديم وتنقيح ديوان أبي وضاح / ... / صباح علي السليمان
- الادباء واللغويون النقاد ( مطبوع في دار النور للنشر 2017) / صباح علي السليمان
- الإعراب التفصيلي في سورتي الإسراء والكهف (مطبوع في دار الغ ... / صباح علي السليمان
- جهود الامام ابن رجب الحنبلي اللغوية في شرح صحيح البخاري ( مط ... / صباح علي السليمان
- اللهجات العربية في كتب غريب الحديث حتى نهاية القرن الرابع ال ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في علم الصرف ( كتاب مخطوط ) . رقم التصنيف 485/252 ف ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في منهجية البحث والمكتبة وتحقيق المخطوطات ( كتاب مخط ... / صباح علي السليمان


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثامن- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية