أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 21:18
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
أمةٌ تصنع شعرها من بين الشقوق
ليست اليابان كغيرها من الأمم. إنها بلد جُبل على التناقض الوجودي، يعيش في الحافة الدائمة بين حدّ السيف وحدّ الزهرة. من جغرافيتها الضيقة، حيث الجبال البركانية تلتهم المساحات والمحيط يطوّق الجزر، وُلد الإنسان الياباني ليحتضن الخطر كقدر محتوم. انقسمت روحه منذ البدء إلى نصفين لا يلتقيان إلا في أعماق النفس: نصفٌ هو وشم النار، يتجلى في الساموراي وصراعات الشوغونات التي امتدت قروناً، ونصفٌ هو وشم الندى، يتجسد في الغيشا برقصاتها الهادئة، والهايكو الذي يلتقط اللحظة العابرة كأنه يقبض على أنفاس الطبيعة نفسها.
هذا التناقض الأصيل هو ما صاغ حساسيته الجمالية وعمّق فهمه لفلسفات مثل “وابي” و”سابي” و”كينتسوغي”، التي لا تكتفي بإعادة تشكيل المكسور، بل تحوّله إلى لحظة إعلان جديدة عن الهوية. فالأمة التي ذاقت الزلازل والبراكين والمجاعات والحروب تعلّمت مبكراً أن الشقوق ليست دليلاً على الضعف، بل على النجاة.
⸻
من عصر الساموراي إلى تشكّل الهوية: صراع الروح والمادة
كان عصر الساموراي امتداداً طبيعياً لبيئة قاسية، حيث الموارد شحيحة والطبيعة محاصِرة. مع سيطرة الشوغونات، أصبح للسيف سلطة تتجاوز سلطة الكهنة والإمبراطور معاً. لم يكن الساموراي مجرد جندي؛ بل كائناً طقسياً يمارس حياته كأنه يؤدي صلاة يومية: يمشي بانضباط، يتحدث بوقار، ينظف سيفه كأنه ينظف مرآة روحه.
كان معنى “تاتاكاي” يتجاوز مفهوم الحرب ليمسّ صراع الإنسان مع ذاته. كان الساموراي مطالباً بأن يكون صارماً مع نفسه أكثر مما هو صارم مع عدوه. لذلك ولدت مفاهيم مثل “بوشيدو” – طريق المحارب – حيث الكمال الأخلاقي جزء من الكمال القتالي. وفي الثقافة الشعبية، أصبحت الرموز الحيوانية مثل “شيرو تورا” (النمر الأبيض) تجسيداً للقوة النقية والحراسة الروحية.
وعندما دخلت اليابان عصر إيدو، هدأت الحروب لكن لم تهدأ الروح. احتفظ الياباني بعظام أجداده الساموراي داخل وعيه، بينما سمح لجلده الخارجي بأن يلين ويتلطف. هكذا بدأ المجتمع ينتقل تدريجياً من عصر الدم إلى عصر الفن، دون أن يتخلى عن القيم الصارمة التي شكلت أساس هويته.
⸻
الهايكو: حين يصبح الصمت لغة
لم تكن اليابان لتعرف رقتها لولا فلسفة “الزن” التي جاءت لتؤطر الإحساس الداخلي العميق المجرد من الضجيج. سمحت الزن للياباني أن يرى العالم كمرآة، وأن ينصت إلى الطبيعة بوصفها معلّماً، لا مجرد محيط خارجي. ومن هذا الوعي الراسخ وُلد شعر الهايكو.
ظهر الهايكو في القرن السابع عشر، لكنه سرعان ما تحوّل من لعبة لغوية إلى طريقة حياة: قصيدة لا تتجاوز سبعة عشر مقطعاً صوتياً، لكنها تختزن موسماً كاملاً أو دهشة وجودية كاملة. كتب باشو –أشهر شعرائه– هايكو أصبح بوصلة الروح اليابانية:
“بركةٌ قديمة، ضفدعٌ يقفز— صوت الماء.”
هذه القصيدة الصغيرة ليست وصفاً للطبيعة؛ إنها وصف للإنسان عندما يصبح جزءاً من الطبيعة. رأى الياباني في الهايكو تمريناً على النزاهة الروحية: أن تقول كل شيء دون أن ترفع صوتك، وأن تمسك باللحظة قبل أن تهرب، وأن تكون شاعراً دون ضوضاء.
الهايكو ليس فناً منقرضاً، فهو اليوم يُدرّس في المدارس، ويُكتب على بطاقات القطارات، وتتناقله الأجيال كتقليد لغوي حيّ يعكس حساسية الأمة تجاه الزمن وتغيراته.
⸻
ثقافة الرقة في حضرة القسوة: الغيشا وتوازن الأنوثة
الغيشا ليست مجرد فتاة تُغني وترقص كما يسوّق الغرب صورتها؛ إنها أسطورة متحركة في الذاكرة اليابانية. إنسانة تعلمت كيف تحوّل الرقة إلى أداة قوة، والنعومة إلى سلطة.
في مجتمع ياباني ذكوري بامتياز، كان للرجل دور محوري في توجيه الحياة العامة، بينما تقع على المرأة مسؤولية بناء الجمال الداخلي الخفي. لكن الغيشا استطاعت أن تحوّل هذا الموقع الهامشي إلى قوة ناعمة تتسلل من بين الفراغات. كانت بارعة في إدارة الحوار، في تحريك المزاج العام، وفي التأثير على الرجال الذين يعتقدون أنهم يمسكون زمام السلطة بينما هم يتأثرون بنبرة صوت أو نظرة عين.
وتشبه هذه الثنائية إلى حد كبير ما عرفته مجتمعات الشرق الأوسط، حيث يقف الرجل كثقل اجتماعي ظاهر بينما تمسك النساء بخيوط متخفية تشكل الوجدان العائلي والعاطفي. المرأة اليابانية، مثل كثير من نساء العرب، عاشت تاريخاً من توزيع الأدوار المجتمعية بشكل غير متوازن، لكنها في الوقت نفسه ابتكرت طرقاً للنفوذ الهادئ من خلف الستار.
في اليابان الحديثة، ورغم التحولات الضخمة، لا تزال بعض الملامح التقليدية حاضرة: المرأة التي تُشجَّع على اللطف، الصمت، وفنون التواصل؛ مقابل رجل يُتوقع منه الانضباط والعمل المتواصل. لكن المفارقة أن النساء اليابانيات اليوم أصبحن من أكثر نساء العالم تعليماً واستقلالاً، وصار حضورهن في الاقتصاد والفنون والعلوم جزءاً من التجربة اليابانية الجديدة التي تحاول التوفيق بين القديم والجديد.
⸻
الكبرياء الذي لا ينكسر: الموت كخيار وجودي
في اليابان، الموت ليس مجرد نهاية، بل هو لغة وجودية تعكس فلسفة الكبرياء العميق والالتزام بالقيم التي تحكم الفرد والمجتمع. الساموراي، منذ قرون، لم يُعلّموا فقط فن القتال، بل كانوا يُدرّسون على مفهوم الموت كاختيار متعمد، طقس يختبر الروح قبل الجسد، وشرف يُقاس بقدرة المرء على مواجهة النهاية بلا خوف.
ظهر “السيبوكو” – الانتحار الطقوسي – كرمز لهذه الفلسفة: سيف يُدخل في البطن لا لقتل النفس بل لتأكيد السلطة الأخلاقية للفرد، لتأكيد أن الإنسان يمتلك السيطرة على مصيره حتى اللحظة الأخيرة. لم يكن هذا فعل يائساً، بل إعلاناً أخيراً بأن الكبرياء أعلى من البقاء، وأن الكرامة ليست امتدادًا للحياة، بل للروح التي لا تُقهر.
تطور هذا المفهوم خلال الحرب العالمية الثانية إلى طقوس “الكاميكازي”، حيث طار الشباب نحو الموت، حاملين طائراتهم المحملة بالمتفجرات، وابتسامة على وجوههم، رافضين فكرة الهزيمة. لم يكن موتهم عبثاً، بل استمرارًا لفلسفة الساموراي: أن الانكسار عارٌ، وأن الموت في سبيل الشرف هو أكمل حالات التمرد على القدر القاسي.
اليابان المعاصرة ما زالت تحتفظ بصدى هذه الفلسفة في الحياة اليومية: من الانتحار الفردي إلى الالتزام بالعمل حتى حد الإرهاق والموت الرمزي، وصولاً إلى احترام الصمت والانضباط، والانحياز للقيم الجماعية على حساب الراحة الشخصية. كل هذه المظاهر، رغم اختلاف أشكالها، تحمل نفس الروح القديمة: الكبرياء الذي لا ينكسر، والوفاء لفكرة الشرف، وتحويل كل تجربة حياتية إلى اختبار للانضباط الأخلاقي والروحي.
⸻
الجانب المظلم: حين تغرق الجمالية في الدم
وراء كل نافذة مطلية بالخشب، وراء كل حديقة مرتبة بدقة، وراء كل هايكو يلتقط لحظة المطر، يقف تاريخٌ من الدم والسلطة المطلقة. اليابان، تلك الأمة التي صنعت من الانضباط والجمال رمزًا حضاريًا، لم تكن بمنأى عن القسوة، ولم تخلُ لحظاتها الكبرى من ظلال المذابح والفواجع.
خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومع توسع الإمبراطورية اليابانية، تحولت فلسفة الشرف التي عرفها الساموراي إلى أداة تبرير للهيمنة. في منشوريا، أقامت اليابان الوحدة 731، حيث أجرى الجيش الإمبراطوري تجارب طبية وبشرية مروعة على الأسرى المدنيين والعسكريين الصينيين والكوريين. الأطفال والنساء والأشخاص الضعفاء أصبحوا أدوات لتجربة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وكتب التاريخ عن هذه الوحشية بصمت مرعب: تجارب على التجميد، التعقيم، نقل الأمراض.
لم تتوقف الفظائع عند ذلك، فقد شملت الاحتلال في الصين ومانشوكو، حيث تم فرض المجاعة المنظمة، والاستغلال الوحشي للعمالة، والإعدام العشوائي للمدنيين، وسياسات الترهيب التي حولت المدن إلى ساحات رعب. وفي الفلبين وكوريا، شهدت شعوب كاملة صدمات نفسية واجتماعية هائلة نتيجة القمع، والاختفاء القسري، وتجارب التعذيب الممنهجة، كما وثقت في الأرشيفات العسكرية والاعترافات الرسمية بعد الحرب.
حتى داخل اليابان نفسها، كان نظام التعليم، والانضباط الاجتماعي، ونظام العمل الصارم يحمل منطقًا قاسيًا: شباب تُربّى أرواحهم على الامتثال التام، والتضحية المطلقة، والموت كخيار نبيل. جيل الكاميكازي لم يكن مجرد ضحايا الحرب، بل نتيجة تراكم عقلي لقرون من فلسفة الانضباط والموت والشرف، تحوّل إلى أداة سياسية وعسكرية.
التناقض هنا صارخ: نفس الأمة التي تُقدّس الصمت والفن، وتستمتع بالهايكو وتفاصيل الطقوس البسيطة، قادرة على أن تحول نفسها إلى آلة للدم. الجمال والرهافة والكرامة تُستغل في بناء مجتمع يبرر القسوة باسم الواجب الوطني. حتى بعد نهاية الحرب، ظل هذا الإرث القاسي يلمس المجتمع الياباني بطرق خفية: الانتحار الجماعي، الانتحار الفردي في أحياء المدن، مشاهد انعدام الأمل في ضحايا الحروب، وحتى اليوم، يظل موضوع الانتحار والطغيان الاجتماعي مرتبطًا بطريقة غير مباشرة بتاريخ الكبرياء القاسي.
⸻
اليابان بين الميراث الحيّ والمنقرض: عبق الماضي واندفاع الحاضر
إذا كانت اليابان تُقرأ كسلسلة من الحدائق الدقيقة والهايكو المبهج، فإن روحها الحقيقية تكمن في صراعها مع الماضي الذي لم يمت، ومع حاضر يحاول استيعاب إرث أمة تقف على حدود القسوة والجمال في آن واحد. الميراث الياباني يتوزع بين ما انتهى بلا عودة، وما ظل حياً نابضًا في حياة الناس اليومية.
على صعيد الميراث المنقرض، نرى طقوس الساموراي الرسمية، وانقضاء سلطة الشوغونات، والزمن الذي كان يُفرض فيه الانتحار الطقوسي كخيار شرف، كل ذلك أصبح جزءاً من المتاحف والكتب والأفلام التاريخية، لكنه لم يعد جزءًا من الواقع. لم يعد للشخص الياباني العادي اليوم ارتباط عملي بهذه الطقوس، لكنها ما زالت تؤثر في مخيلة الأمة وفي شعورهم بالانضباط، والشرف، والتقدير للأعراف القديمة.
لكن ما هو حيّ ومستمّر يفيض تأثيره في كل لحظة من حياة الياباني المعاصر: الانضباط في المدارس وأماكن العمل، تقديس التفاصيل، احترام الطقوس اليومية، الصمت المعبّر، الصبر الطويل، صناعة الجمال من أبسط الأشياء. من المشهد الحضري إلى الريف، نلمس كيف أن الياباني يقدّر الوقت، الصمت، الترتيب، وكيف أن هذه القيم الموروثة لم تندثر مع زوال نظام الساموراي بل تكيّفت مع العصر الحديث.
الهايكو يمثل نموذجًا حيًّا لهذا الميراث، فهو فن صغير في الحجم لكنه ضخم في التأثير، ينقل عبره اليابانيون قيم الانتباه للحظة الواحدة، والتأمل في الطبيعة، والارتباط العميق بالماضي، دون أن يفقدوا القدرة على التجديد.
فن احتساء الشاي، الذي كان جزءًا من ثقافة الغيشا والنخبة اليابانية، تحول من ممارسة نخبوية إلى طقس شعبي يومي، يُدرّس للأطفال، ويُمارس في المكاتب، ويستخدم في العلاج النفسي الحديث، ليصبح جسراً بين الماضي والحداثة. أما فلسفة “كينتسوغي”، فهي لم تعد مجرد تقنية لإصلاح الفخار المكسور، بل أصبحت رمزًا عالميًا للقبول بالندوب وإعادة اكتشاف الجمال في الانكسار، وهو درس فلسفي عميق يُعلّم العالم أن الشقوق ليست عيباً بل فرصة للولادة من جديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في النهاية ما علينا سوى احترامٌ هذه الثقافة العظيمة رغم تناقضاتها
تبقى اليابان ثقافةً مُرهفة وقاسية في آنٍ واحد، أمة بنت حضارتها على حافة السيف، وجعلت من الكسور جمالاً يُعاد ترميمه بذهب، وخلقت من لحظات المطر شعراً يُقرأ كالصلاة. لكنها أيضاً أمة اختبرت أقصى درجات الاستبداد، ودفعت شعوباً كثيرة إلى الألم، قبل أن تعود من رماد هيروشيما وناغازاكي لتقدّم للعالم درساً عظيماً: أن السقوط ليس نهاية، وأن الانكسار حين يُعاد ترميمه -كما في “كينتسوغي”- قد يصبح لحظة ميلاد جديدة.
نرفع احترامنا لهذه الثقافة العميقة، بكل تناقضاتها وظلالها ونورها؛ لأنها تُذكّر العالم بأن الجمال لا ينفي القسوة، وأن التاريخ لا ينحاز إلى طرف واحد، وأن الأمم تُبنى دوماً على الشقوق التي تعلمت أن تلمع.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟