أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 16:06
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الفصل السادس: دانيال – النبي الذي صمد في قلب العاصمة التي حرقها الملك
بينما كانت جمرات الهيكل الأول في أورشليم ما تزال تتوهّج تحت الريح الباردة التي مرت فوق الأنقاض بعد سنة 586 ق.م، كما يوثق سفر الملوك الثاني (2 ملوك 25:8-9) وسجلات الطين البابلية المكتشفة في نيبور، كان دانيال يقف في قلب مدينة أخرى؛ مدينة لم تعرف يومًا معنى الانكسار: بابل.
المدينة التي لم يكن فيها شيء يُترك للصدفة؛ لا جدار ولا بوابة ولا برج ولا سوق ولا قناة مائية، كما يصفها نبوخذنصر نفسه في نقوشه الأثرية المحفوظة في المتحف البريطاني، حيث يتباهى ببناء جدرانها الضخمة التي بلغ سمكها سبعة عشر مترًا، وببوابة عشتار المرصعة بالطوب الأزرق المزجّج، يصوّر فيها أسودًا وثيرانًا رمزية للقوة الإلهية.
كانت بابل عالمًا قائمًا بذاته؛ تختلط فيه عبقرية الهندسة مع غرور الملوك، وتتجاور فيه حدائق معلّقة فوق طبقات من الطوب المشويّ، بينما في أسفلها صوامع لحبوب الشرق، وأروقة يمشي فيها الكلدانيون بثيابهم البيضاء المنسدلة، يتحدثون عن النجوم كما لو أنها أبناء لهم، مستندين إلى لوحات فلكية اكتشفت في سيبار تعود إلى القرن السادس ق.م وتثبت تفوقهم في علم الفلك.
ومع ذلك، كان في قلب هذه المدينة العظيمة رجل واحد لا يشبههم: يحمل ذاكرة شعب منكسر، ورؤية تتجاوز عظمة نبوخذنصر وأعمق من قوائم الطين التي تحفظ سجلات الضرائب والفتوحات. كان اسمه دانيال، الذي يصوره سفر دانيال (1:1–7) شابًا نبيلًا أُسر في الموجة الأولى من السبي البابلي عام 605 ق.م، وهو حدث موثق في السجلات البابلية مثل لوحات نبوخذنصر التي تذكر غزو يهوذا.
لم يأتِ دانيال إلى بابل مختارًا، بل جاء مرغما ضمن أوائل الأسرى الذين أخذهم نبوخذنصر سنة 605 ق.م عندما كان لا يزال وليًا للعهد، قبل سقوط أورشليم الكامل بأحد عشر عامًا، كما يفصل ذلك علماء التاريخ مثل ويليام أولبرايت في دراسته The Babylonian Chronicle التي تربط بين النصوص البابلية والتوراتية. وقد حرص الملك البابلي، كما تذكر السجلات التوراتية والبابليّة، على انتقاء أبناء النبلاء اليهود الذين هم بدون أي عيوب خلقية أو أخلاقية: «لا عيب فيهم، حُسان المنظر، ماهرون في كل حكمة، فاهمون بالعلم» (دانيال 1:4)، مستلهمًا سياسة آشورية سابقة في دمج النخب الخاضعة لضمان الولاء، كما يوثق ذلك في Annals of Ashurbanipal.
كان نبوخذنصر يريد بناء إمبراطورية لا تعتمد فقط على السيف، بل على العقول التي ستنشأ داخل جدران بابل، بحيث تصبح ولاءاتها ممتزجة بالهواء الذي تتنفسه واللغة التي تتكلمها. وكان دانيال وجيله يمثلون مشروع “محو ناعم” عبر الامتزاج الثقافي، كما يناقش جون كولينز في كتابه The Apocalyptic Imagination الذي يرى في سفر دانيال ردًا على هذا الضغط الثقافي.
كان عمر دانيال حينها نحو سبعة عشر عامًا، مستندين إلى السجلات الأكادية التي تذكر أعمار «الأسرى النبلاء» في سياق مشابه، مثل لوحات نيبور التي تصف نقل الشباب اليهودي للتدريب. وصل إلى بابل فدخل برنامجًا تعليميًا صارمًا مدته ثلاث سنوات يتعلم فيه اللغة الآرامية — لغة الإدارة الإمبراطورية — ويغوص في الفلك والرياضيات والأساطير والطب؛ علوم بلغ فيها الكلدانيون مستوى يسبق زمنهم، كما تثبته لوحات الرياضيات البابلية الموجودة في متحف اللوفر. كان البرنامج أشبه بما نسميه اليوم «مدرسة النخبة الإمبراطورية»، حيث لا يُقبل الخطأ ولا يُسمح إلا بالامتثال الكامل، مستندًا إلى نموذج تعليمي بابلي موثق في نصوص مثل The Babylonian Theodicy.
وفي وسط هذا الانضباط، رفض دانيال أن يأكل من طعام الملك، لأن ذلك الطعام كان يمر عبر طقوس وثنية تُعد «نجسة» حسب الشريعة اليهودية (دانيال 1:8–16). كان هذا الرفض بداية الفاصل الكبير بين دانيال وبين مشروع الذوبان الثقافي الذي أرادت بابل فرضه، مشروع يُرى تاريخيًا كجزء من استراتيجية الإمبراطوريات القديمة للسيطرة، كما يشرح تريمبر لونغمان.
ومع أنه لم يكن معارضًا صريحًا، فقد جمع بين الذكاء السياسي والإيمان الثابت. أدرك أن بابل ليست مجرد قوة قاتمة، بل حضارة هائلة تتجاوز حدودها الجغرافية. تعلّم من الكلدانيين أسرار النجوم، ومن السحر البابلي رمزية الأشياء وكيف تتحول الطاقة الروحية إلى لغة سياسية، مستندًا إلى لوحات فلكية اكتشفت في بابل تثبت استخدام النجوم لأغراض سياسية. أدرك أن البقاء في قلب الإمبراطورية يحتاج إلى القدرة على العيش في الظل دون أن ينطفئ، كما يظهر في دوره كمستشار بعد تفسير الأحلام؛ حيث صار رمزًا للتوازن بين الواقع المادي والبعد الروحي.
⸻
حلم نبوخذنصر وتمثال الممالك حلم نبوخذنصر وتمثال الممالك
في السنة الثانية من ملكه (603 ق.م)، حلم نبوخذنصر حلمًا غامضًا، لم يبوح به لأحد، وطلب من حكماء بابل تفسيره معًا (دانيال 2:1–13). فشل الجميع، فأصدر الملك أمرًا بإعدامهم، وهو ما يعكس الطبيعة الاستبدادية للحكم البابلي ورهبة الملك من الأسرار التي قد تهدد سلطانه. وهنا ظهر دانيال، مؤمنًا بأن الرؤية ليست من البشر، بل من «إله السماء» (دانيال 2:28)، وقد اجتمع مع رفاقه الثلاثة: حننيا وميشائيل وعزريا (شدرخ وميشخ وعبدنغو) في صلاة جماعية طالبوا فيها الهداية، متوسلين إلى الله لتفسير الحلم قبل مواجهة الملك.
ظهر التمثال في الحلم بأبعاد مهيبة: رأس من ذهب، يمثل القوة المطلقة لبابل وهيبتها التي لم تعرفها المدن الأخرى؛ صدر من فضة، يرمز إلى الميديين والفرس، الذين سيخلفون بابل بعد قوتها الذهبية؛ بطن من نحاس، دلالة على الهيمنة اليونانية وثقافتها المنتشرة؛ ساقان من حديد، قوة الرومان العسكرية التي لا تقهر تقريبًا؛ وأخيرًا قدمان من خليط الحديد والطين، تجسيد لتشتت الممالك اللاحقة وضعفها النسبي، حيث يلتقي الصلابة بالهشاشة، والوحشية بالانقسام.
أضاف دانيال تفسيرا جوهريا: الحجر «الذي قُطع من جبل بلا يد» ليس مجرد رمز، بل يمثل مملكة الله الأبدية التي ستتجاوز كل إمبراطورية بشرية، قوة مستقلة لا تحدها الحدود الجغرافية ولا يسيطر عليها البشر، لتؤكد أن التاريخ البشري مهما عظمت إمبراطورياته، فإن خطة الله تفوق كل قوة أرضية.
هنا يتجلى البُعد الرمزي والرسالة الأخلاقية: الحلم لا يكتفي بوصف تسلسل الممالك، بل يكشف عن تذبذب السلطة بين الكبرياء الإنساني والتدبير الإلهي، ويظهر دور دانيال كجسر بين العالمين: عالم القوى السياسية المتوحشة، وعالم الإيمان الذي يرى ما وراء الظاهر.
⸻
الكبرياء ومرض نبوخذنصر
في حلم الشجرة العظيمة (دانيال 4:1–37)، يروي الكتاب الحدث من منظور الملك نفسه، ليمنحنا نافذة نادرة على تجربة ملك بابل الأعظم في لحظة ضعف نادر. رأى نبوخذنصر شجرة تمتد إلى السماء، فظلت العالم بأسره، ومنحت الطعام والظل للناس والوحوش والطيور على حد سواء. فجأة، ظهر “مراقب من السماء”، وأمر بقطع الشجرة وترك جذورها في الأرض لسبع سنوات. تفسير دانيال كان صادمًا: الشجرة هي الملك نفسه، وكبرياؤه سيُخفض، وسيُبعد عن البشر ويعيش مع الحيوانات، ليعلم أن العليّ مسيطر على مملكة الناس (دانيال 4:25).
هذا الحلم ليس مجرد رمز أدبي، بل يلتقي مع سجلات تاريخية دقيقة مثل Nabonidus Chronicle، التي تذكر انخفاض نشاطات نبوخذنصر في العامين الأخيرين من حكمه (حوالي 563–562 ق.م)، فترة تميزت بغيابه شبه الكامل عن الشؤون الإدارية اليومية وبانحسار مشاركته في القرارات العسكرية والسياسية، وهو ما يعكس تجربة واقعية لتدهور القدرة على الحكم.
في تلك الفترة الغامضة من حكم نبوخذنصر، عاش الملك خارج نطاق المجتمع البشري، بعيدًا عن قصور السلطة وأروقة البلاط. انقطع عن البشر، وانتقل إلى السهول والغابات، حيث كان يأكل العشب مثل البهائم، متجسدًا في صورة مروعة للانفصال عن الحضارة. هذا السلوك، الموثّق ضمن ما يفسره بعض الباحثين بأنه اضطراب boanthropy، يعكس كيف يمكن للقوة المطلقة أن تنهار أمام الكبرياء غير المنضبط، وكيف يتحول الحاكم إلى كائن يعيش غريزيًا، مبتعدًا عن الإدراك الطبيعي للمجتمع والسلطة.
في نفس الوقت، يتقاطع هذا الانفصال مع رمزية حلم الشجرة العظيمة: الشجرة التي امتدت إلى السماء تمثل الكبرياء البشري والسيطرة المطلقة، بينما سقوطها وترك جذورها لمدة سبع سنوات يرمز إلى هذا الانحطاط الغريب للملك، وهو درس صارخ عن هشاشة القوة، وعن أن العظمة المادية لا تقي من فقدان العقل والهوية أمام التدبير الإلهي.
هكذا، يظهر نبوخذنصر ليس فقط كملك عظيم، بل كرمز حي للتقلب بين العظمة والكبرياء والانكسار، فيما يظل دانيال ناظراً إلى هذا الدرس العميق، شاهداً على هشاشة القوة، ومرشدًا على الطريق الذي يوازن بين الحكمة والسياسة والروحانية.
من جانب آخر، يمكن قراءة الحلم بطريقة رمزية بحتة، كما يفعل بعض الباحثين: فهو تحذير فلسفي من أن الكبرياء البشري لا يحمي الملك من الخضوع للقوانين الإلهية. فالشجرة التي امتدت إلى السماء كانت تمثل القوة والسطوة، لكن نهايتها المأساوية تظهر أن التوازن بين العظمة والكبرياء هش، وأن كل سلطان بشري مؤقت أمام التدبير الإلهي.
وبهذا، يجمع الحلم بين البعد النفسي للملك، والدرس الروحي والسياسي: حتى أقوى ملوك الأرض، مَن يعيش في فخ الكبرياء ويتجاهل حدود السلطة، معرض للسقوط، والنجاة الحقيقية تأتي من التواضع واعتراف الإنسان بمبدأ أعلى يحكم مصير الممالك والشعوب.
⸻
رفض أصدقاء دانيال للتمثال ومصيرهم في النار
في إحدى اللحظات المفصلية، أمر نبوخذنصر بإنشاء تمثال ذهبي ضخم، وجعل كل الحاضرين في بابل يسجدون له. كان الهدف واضحًا: اختبار ولاء النخبة الجديدة، وفرض الهيمنة الرمزية على أيقونات القوة والثقافة. هنا، برزت بطولة ثلاثة من رفاق دانيال: حننيا وميشائيل وعزريا (شدرخ وميشخ وعبدنغو)، الذين رفضوا الانصياع للسلطة الملكية، متمسكين بإيمانهم وتقاليدهم الدينية، رافضين أن يقدّموا السجود لتمثال يُمثل قوة بشرية على حساب الواجب الروحي.
تفاعل الملك كان فوريًا وقاسيًا: أمر بحرقهم في أتون النار المشتعلة، وهو مشهد درامي يظهر سطوة الحكم البابلي المتوحش، وحقيقة أن أي تحدٍ رمزي للسلطة كان يُعتبر خيانة تستحق الموت. النار كانت حامية ومكثفة، يزداد وهجها كلما اقترب الضحايا، لكنها لم تستطع أن تمحو إيمانهم، ولم تمس كيانهم الروحي.
هنا يظهر دانيال كرمز آخر للصمود: لم يكن مشاركًا في التجربة المباشرة للنار، لكنه كان الراصد الذكي والفكراني الذي يرى في إيمانه ومعرفته القوة الحقيقية. من خلال دعائه وحكمته، استطاع أن يُبقي على التوازن بين البقاء في قلب السلطة وبين عدم التنازل عن المبادئ. هذه الحادثة لم تكن مجرد اختبار للوفاء الديني، بل درس سياسي وروحي: قوة الإيمان والثبات تفوق أي سلطات بشرية، وأن الصمود الرمزي يمكن أن يهز كبرياء أقوى الملوك.
بعد الحادث، أُبرزت معجزة أخرى: الحريق لم يمسهم، والملك نفسه شهد عليهم بأعينه، معترفًا بقدرة إلههم على حماية المؤمنين. هذا الحدث لم يعزز فقط موقع دانيال وصحبه، بل أرسى قاعدة مهمة في التاريخ الروحي: أن السلطة البشرية مهما عظمت لا تستطيع تدمير الروح الصلبة، ولا محو الإيمان القوي.
وبهذا، يتضح دور دانيال كـ شاهد على التوازن بين القوة والروحانية، بين السياسة والإيمان، وكمرشد يجسد قدرة الإنسان على النجاة داخليًا رغم المحيط القاسي، وهو درس يتكرر مع أحداث لاحقة مثل سقوط بابل على يد كورش، حيث تتجسد الحقيقة نفسها: العظمة المادية مؤقتة، أما الصوت الروحي الصادق فدائم، يبقى شاهدًا على التاريخ.
⸻
سقوط بابل ووليّمة بلشاصر
رغم المكانة العالية التي بلغها دانيال في بلاط نبوخذنصر، كان شاهداً على التراجع التدريجي لقوة بابل بعد وفاة الملك عام 562 ق.م. خلال أقل من عقد، تعاقب أربعة ملوك على العرش، معظمهم ضعفاء أو ألعوبة بيد الكهنة والقادة العسكريين، فيما كان نابونيدوس يغيب عن المدينة سنوات طويلة، بينما فارس بقيادة كورش العظيم تتقدم بسرعة مذهلة، كما توثق أسطوانة كورش التي سجلت سقوط بابل عام 539 ق.م بدقة.
في تلك اللحظة المفصلية، أقيمت وليمة بلشاصر، حيث استخدم أواني الهيكل المنهوب من أورشليم، لتتحول الوليمة إلى مشهد رمزي يجمع بين الكبرياء البشري والتهديد الإلهي. فجأة، ظهرت الكتابة على الجدار: «منا منا تقيل وفرسين»، جملة أثارت الرعب بين الحاضرين. لم يستطع أحد تفسيرها إلا دانيال، الذي أعلن بقوة الرؤية: «قد وُزن الملك فوُجد ناقصًا» (دانيال 5:25–28).
تلك الليلة كانت لحظة التحقق الرمزي والواقعي معًا: سقوط أعظم مدينة في العالم، بابل، على يد كورش العظيم، بينما يظل نبي من نسل الأسرى يقرأ رسالتها الأخيرة. يؤكد اكتشاف أسطوانة كورش في بابل عام 1879 هذه الواقعة، ويبين كيف أن الاستبداد، والغياب عن الواقع، والكبرياء الذي لا يقترن بالحكمة، يفضي إلى الانهيار. رغم أن بلشاصر كان ولي عهد وليس ملكًا كاملًا، إلا أن رمزية الحدث ثابتة: القوة البشرية الزائلة يمكن أن تنهار أمام التدبير الإلهي، بينما دانيال، حافظ الذاكرة الروحية للشعب، يبقى شاهداً على النهاية وعلى الرسالة التي تتجاوز الزمان والمكان.
⸻
رؤى دانيال الخاصة
لم تقتصر مهمة دانيال على تفسير أحلام الملوك، بل امتدت إلى رؤى خاصة به، عميقة ومتفردة، تجمع بين التاريخ والرمزية الروحية. من أبرز هذه الرؤى، ما رآه في الليلة التي خرج فيها أربعة وحوش من البحر (دانيال 7:1–8): أسد بأجنحة، يرمز إلى القوة البابليّة، سريعة الطيران والهيمنة؛ دب، يمثل الإمبراطورية الميدية والفارسية، القوية الجاثمة على الأرض؛ نمر ذو أربعة رؤوس وأجنحة، إشارة إلى الغزو اليوناني وتشتت السلطة بعد الإسكندر الكبير؛ وأخيرًا وحش رابع لا يشبه أحدًا، رمزيًا للسلوقيين والاضطرابات التي شهدتها الإمبراطورية بعد تفرق الممالك، وهو الوحش الأكثر رعبًا، يعكس قوة مادية هائلة تتسم بالعنف والدمار، لكنها هشّة أمام خطة الله.
هذه الرؤى ليست مجرد خيال شعري أو نبوة بعيدة عن الواقع، بل كتابة تاريخية وروحية: دانيال يوثق بداية فترة السبي، مرحلة الانكسار والاضطراب، ويستشرف المستقبل الذي سيأتي بالتحرير والخلاص. كل وحش يمثل قوة سياسية ملموسة، ومع ذلك، يبرز الحجر الذي يأتي من جبل بلا يد، رمز المملكة الإلهية التي ستغلب على كل إمبراطورية بشرية، في إشارة إلى أن التاريخ البشري مهما امتدّ، يظل خاضعًا لقوة أبدية وعادلة.
يُظهر هذا البعد كيف أن دانيال، رغم كونه أسيرًا شابًا من نسل المنكوبين، ومقيمًا في قلب إمبراطورية متوحشة، أصبح كاتب التاريخ الروحي لشعبه، مسجلاً أحداث السقوط والصعود، والتقلب بين العظمة البشرية والانكسار، مقدمًا رؤى تربط بين السياسة والتاريخ والروحانية. بعض الباحثين مثل جون كولينز وأندرو هيل يرون أن بعض هذه الرؤى أضيفت لاحقًا في القرن الثاني قبل الميلاد لمواجهة تهديد أنطيوخوس الرابع، لكن الرسالة الجوهرية تظل واضحة: دانيال يجسد الوعي الذي يقرأ التاريخ من منظور الإيمان، ويثبت أن الصمود الروحي أقوى من الممالك الزائلة.
⸻
عاش دانيال نهاية حياته داخل مفارقة تاريخية ساحقة: مدينة هدمت هيكلها وامتدت جدرانها بالجبروت، لكنه وقف في قلبها شامخًا، شاهداً على سقوط العظمة البشرية وصعود الحقيقة الروحية. إمبراطورية حاولت محوه من الذاكرة والواقع، لكنها لم تستطيع أن تمحو صوته، أو تزيل أثر الحكمة التي حملها. لقد أثبت أن الكبرياء لا يسقط الهيكل وحده، بل يسقط الممالك أيضًا، وأن الإنسان الذي يحمي جوهره ووعيه أقوى من أي قوة مادية تحاصره.
وفي وليمة بلشاصر، حين ظهرت الكلمات الغامضة على الجدار: «منا منا تقيل وفرسين»، تحققت الرؤية مباشرة: سقطت أعظم مدينة في العالم بينما نبي من نسل الأسرى يقرأ نهايتها ويفسرها. لم يكن ذلك مجرد درس للملك أو للزمان، بل تحذير خالد لكل من يظن أن القوة المادية هي كل شيء، وأن الغرور قادر على البقاء.
هنا، في قلب العاصمة التي دمّرها ملكها، يظهر المعنى النهائي بوضوح: القوة ليست في الجيوش، ولا في العروش، بل في من يقرأ الرموز ويفهم الغيب، من يقف شامخًا بين سقوط الملوك وبقاء الرسالة. دانيال بقي واقفًا، صوته أعمق وأقوى من كل من عبر التاريخ ثم اختفى، شاهداً على أن الحكمة والصمود الروحي يتجاوزان الزمن والممالك، ويهيئان الطريق للفصول القادمة، حيث تكشف الرؤى مستقبل الأمم والمصير الذي يسبق الخلاص.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟