أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثاني- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية














المزيد.....

نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثاني- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 15:00
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الفصل الثاني: ولادة الإمبراطورية الكلدانية وصعود الأمير الذي خاض حرب الميراث

لم يكن صعود نبوخذنصر مجرد لحظة تتويج على عرش بابل، بل خاتمة سلسلة طويلة من التحولات العسكرية والسياسية التي شكلت مصير الشرق الأدنى القديم. في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، كانت الإمبراطورية الآشورية تتصدع تحت وطأة الحروب الداخلية والانقسامات الدموية بين النبلاء والملوك، بينما بدأت القوى الإقليمية كالفرس والميديين والمصريون تتنافس على السيطرة على الشام، المنطقة الاستراتيجية التي تشكّل الممر الحيوي بين مصر وبلاد الرافدين. في هذا المشهد المليء بالتحديات، ظهر نبوخذنصر كأحد أكثر القادة وعيًا واستراتيجية، شاب عرف منذ صباه أن الإرث الحقيقي لا يُقاس بالمجد الشخصي فقط، بل بالقدرة على إعادة رسم خريطة القوى في المنطقة.

وُلِد نبوخذنصر في قلب بابل، حيث الطين والآجر هما لغة الحياة اليومية، وترعرع وسط قصص الأجداد عن الإمبراطوريات الساقطة، عن ملوك شادوا المدن وأهملوا الحكمة، وعن مدن ارتفعت في الصباح وسقطت في المساء. كل هذه القصص شكلت في ذهنه إدراكًا مبكرًا: القوة ليست فقط في الجيش أو الاقتصاد، بل في فهم التاريخ والسياسة والسيطرة على الرموز الثقافية والدينية. لقد أدرك منذ نعومة أظافره أن المدينة الحقيقية لا تُقاس بارتفاع أبراجها، بل بمدى تأثيرها على ذاكرة الشعوب، وعلى قدرة الحاكم في فرض إرادته بذكاء ودهاء.

مع انهيار آشور وسقوط نينوى على يد تحالف الميديين والكلدانيين سنة 612 ق.م، بدأ نبوخذنصر يرى أمامه الفرصة الذهبية لبابل. كان يعلم أن وراثة العرش لا تعني تلقائيًا امتلاك الإمبراطورية؛ إذ إن التحدي الأكبر يكمن في حسم النفوذ العسكري والسياسي والسيطرة على المراكز الحيوية، من نهر الفرات إلى شواطئ المتوسط، ومن صحراء الجزيرة إلى حدود الشام الخصبة. كان على الشاب أن يثبت نفسه ليس فقط كابن للملك، بل كقائد قادر على إعادة رسم مصير الأمة، وتثبيت سيطرة السلالة الكلدانية على إرث حضاري عمره آلاف السنين.

تجسّد صعوده في معركة قرقميش سنة 605 ق.م، التي كانت لحظة فارقة في التاريخ. واجه الجيش المصري بقيادة الفرعون نخو الثاني، الذي جمع جيشًا متعدد الأعراق: المصريون النوبيون، المرتزقة اليونانيون، الكاريون، الليبيون، وكلهم يمثلون قوة عسكرية مركّبة، ليست بالهينة على القادة العاديين. لكن نبوخذنصر لم يعتمد على حجم الجيش فقط، بل على الاستراتيجية، ومعرفته العميقة بأرض المعركة، وقراءة التحركات السياسية والاقتصادية للخصم. فاز نبوخذنصر في معركة فاصلة أظهرت ليس فقط قوته العسكرية، بل حنكته كقائد قادر على توجيه المصائر الكبرى لصالحه. بهذه النتيجة، انسحب المصريون من الشام، وانتهى نفوذهم هناك بشكل دائم تقريبًا، وفتح الطريق أمام نبوخذنصر ليؤسس إمبراطورية لا تُهزم بسهولة.

بعد المعركة، عاد نبوخذنصر إلى بابل، ليجلس على العرش خلفًا لوالده نبوبلاسر، وهو الابن الذي أخذ على عاتقه عبء التاريخ كله، رجل في الثلاثين من عمره صار سيدًا لبلاد الرافدين. لم يكن هذا مجرد انتقال سلطة، بل بداية عهد جديد، مرحلة تتطلب ليس فقط القوة العسكرية، بل أيضًا القدرة على التنظيم الداخلي، وفرض النظام، وإعادة تشكيل التحالفات، وتثبيت الولاءات عبر الجزية والسياسة الذكية التي تجمع بين الحزم والمرونة.

نبوخذنصر لم ينسَ أن القوة الحقيقية تأتي من التحكم في قلب الشعب وفي قلب الخصوم. كان يعرف أن السيطرة على المدن لا تكفي، وأن الحكمة في إدارة الإمبراطورية تكمن في مزيج دقيق من الرعب والإعجاب، من الجزاء والعقاب، من الإنجاز المعماري والمشروع الرمزي. فبينما شيد الزقورات ورفع البوابات، كان يعلم أن ما يزرعه من هيبة سيُذكره التاريخ من خلال المجد الذي بنى، وأيضًا من خلال الخراب الذي فرضه على من تحدوه.

في هذه المرحلة المبكرة من حكمه، بدأ نبوخذنصر يضع أساسات الإدارة الإمبراطورية: تنظيم الجيش، توطيد حدود بابل، فرض الجزية على المدن المتمردة، وإقامة نظام رقابي على التجار والحرفيين لضمان أن الثروة والمواهب تتدفق لصالح العاصمة. كان يعي تمامًا أن الحكم لا يكون ثابتًا إلا إذا أُحكمت السيطرة على كل جانب من جوانب الحياة العامة والخاصة، وأن أي ثغرة يمكن أن تُستغل من المنافسين الإقليميين، أو حتى من الداخل نفسه.

وبينما كان يفرض النظام العسكري والسياسي، بدأ نبوخذنصر في إبراز الوجه الرمزي لسلطته. كان كل مشروع بنائي، من الزقورات إلى بوابات الجنائن المعلقة، بمثابة رسالة واضحة: هذا ملك لا يرفع المدينة فقط، بل يرفع الحضارة نفسها. وفي الوقت نفسه، كانت التحركات العسكرية ضد يهوذا والممالك الصغيرة رسالة أخرى: هذا ملك لا يتسامح مع العصيان، والتمرد على إرادته يُواجه بالحزم والقسوة، حتى لو كانت هذه التمردات صغيرة نسبيًا مقارنة بالحجم الإمبراطوري لبابل.

هكذا، اكتملت أيها النبلاء مرحلة ولادة الإمبراطورية الكلدانية وصعود نبوخذنصر: الشاب الذي تربّى على الطين، صعد ليصبح ملكًا مسيطرًا، حازمًا، واستراتيجيًا، يوازن بين الحروب والبناء، بين الرعب والإعجاب، بين الذهب والنار، وبين الطين والذاكرة. لم يكن مجرد ملك يحكم الأرض، بل مؤسس إرث مزدوج، سيمتد أثره عبر التاريخ، ويظل محورًا للجدل بين الأمم، بين البناة والهدامين ، بين من عاشوا على أطلال بابل ومن عاشوا على أطلال الهيكل.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رايان الذي روى عطش مليون إنسان
- ومضات من بريق ضوء في ماريلاند: رحلة باميلا واتسون عبر سكون ا ...
- الهندسة الأخلاقية للكون: قراءة في فلسفة براين لويس ومشروعه ف ...
- الوجه الخفي لليابان: من صليل سيوف فرسان الساموراي إلى رقة تل ...
- ليوبولد الثاني: الملك الذي امتلك قارّة وأباد شعباً
- ومضات من فن الرسام الإيراني -محمود فرشجيان- رائد المدرسة الر ...
- هيباتيا: شمس الأسكندرية المشرقة في عتمة التطرف والإرهاب
- أصدقاء الله: مأساة -الأنقياء- النور المقموع في جنوب فرنسا
- الوجه الآخر للعبث الإنساني في رحله صيد: حين يتحوّل الإنسان إ ...
- ذو نواس: القصة الأقرب إلى الواقع بين النقوش والروايات والتفس ...
- الوظيفة المرتبكة بين كفاءة الغرباء وثقة الأقرباء: حين تُدار ...
- التفكير التحليلي النقدي: وعي في زمن الفوضى الرقمية
- حياة تتجدد بعد تشيرنوبل: بين أثر الإشعاع النووي وقوة التكيف ...
- العنصرية: ضلال الروح البشرية في عتمة صندوق الاختلاف اللامتنا ...
- خلق الأعداء: آلية الهيمنة الأمريكية من خلال الدعاية والعمليا ...
- ديني: عظمة صغيرة في كهف سيبيري تحمل في طيّاتها سرّ التميز
- فنّ سرقة الفقراء بالوهم: من “رأس المال الوهمي” إلى رهن البيت ...
- قراءة في كتاب “سحر التفكير الكبير” لديفيد شوارتز
- سجن الأوهام والبحث عن الذات: رحلة الإنسان بين الخوف والحرية
- الشجاعة التي لا تنكسر: صعود الروح في وجه الجدار العنصري


المزيد.....




- -سيبدأ قريبًا جدًا-.. ترامب يُلمّح إلى إمكانية تحرك بري في ف ...
- الصين تفرض ضريبة جديدة على الواقيات الذكرية وسط مخاوف صحية ب ...
- لغز الضمادة على يد ترامب: البيت الأبيض يؤكد -صحة الرئيس جيدة ...
- مادورو يتهم الولايات المتحدة بـ-القرصنة-.. وترامب يعلن قرب ب ...
- فائز يعيد كأس يوروفيجن احتجاجاً على مشاركة إسرائيل
- -كلير أوبسكير-الفرنسية تحصد جائزة أفضل لعبة لعام 2025
- العراق.. طفلة تبيع الماء وهي ترتجف من البرد
- عاجل | وزير خارجية لبنان للجزيرة: وصلتنا تحذيرات من جهات عرب ...
- كولومبيا تعرض منح مادورو اللجوء في حال تنحيه عن السلطة
- جرحى في هجوم أوكراني على روسيا وموسكو تستهدف منشآت نفطية


المزيد.....

- معجم الأحاديث والآثار في الكتب والنقدية – ثلاثة أجزاء - .( د ... / صباح علي السليمان
- ترجمة كتاب Interpretation and social criticism/ Michael W ... / صباح علي السليمان
- السياق الافرادي في القران الكريم ( دار نور للنشر 2020) / صباح علي السليمان
- أريج القداح من أدب أبي وضاح ،تقديم وتنقيح ديوان أبي وضاح / ... / صباح علي السليمان
- الادباء واللغويون النقاد ( مطبوع في دار النور للنشر 2017) / صباح علي السليمان
- الإعراب التفصيلي في سورتي الإسراء والكهف (مطبوع في دار الغ ... / صباح علي السليمان
- جهود الامام ابن رجب الحنبلي اللغوية في شرح صحيح البخاري ( مط ... / صباح علي السليمان
- اللهجات العربية في كتب غريب الحديث حتى نهاية القرن الرابع ال ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في علم الصرف ( كتاب مخطوط ) . رقم التصنيف 485/252 ف ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في منهجية البحث والمكتبة وتحقيق المخطوطات ( كتاب مخط ... / صباح علي السليمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثاني- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية