أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الاطفال والشبيبة - أوزجان يشار - رايان الذي روى عطش مليون إنسان















المزيد.....

رايان الذي روى عطش مليون إنسان


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 09:11
المحور: حقوق الاطفال والشبيبة
    


شرارة في قلب طفل لم يتجاوز السادسة

في يومٍ شتائيٍّ عاديٍّ من عام 1998، داخل صفٍّ ابتدائيٍّ متواضع في بلدة كمبتفيل الصغيرة بمقاطعة أونتاريو الكندية، حدث ما لم يتوقعه أحد أيها الأفاضل، وهنا أبدأ.

معلمة الصف الأول السيدة نانسي بريست كانت تشرح لتلاميذها الذين لم تتجاوز أعمارهم ستة أعوام كارثةً يعيشها أطفالٌ في الجهة الأخرى من الكوكب: أطفالٌ يموتون عطشًا، أو يشربون ماءً ملوثًا بالطفيليات، لأن أقرب مصدر ماء نظيف قد يبعد ساعاتٍ من المشي. وأضافت جملةً بسيطةً كانت كفيلة بتغيير التاريخ:
«بئر ماء نظيفة في إفريقيا لا تكلف أكثر من 70 دولارًا كنديًا تقريبًا».

بينما كان زملاؤه يرسمون أو يتثاءبون، جلس الطفل رايان هريلجاك يحدّق في كوب الماء أمامه كأنه يراه لأول مرة. في تلك اللحظة انشقّ وعيه: كيف يمكن لشيءٍ يحصل عليه بمجرد مدّ اليد أن يكون سبب موت طفلٍ مثله؟

عاد إلى البيت، وقال لوالدته سوزان بهدوءٍ لا يليق بطفلٍ في عمره:
«أريد 70 دولارًا لحفر بئر في إفريقيا».



من النوافذ المغسولة إلى الصدمة الأولى

لم تبتسم الأم ابتسامة التشجيع السهلة. قالت له الحقيقة القاسية التي يجب أن يتعلمها كل من يريد تغيير العالم:
«لن أعطيك المال. إذا أردت أن تشتري بئرًا، اعمل واكسبها بنفسك».

فبدأ رايان رحلته. غسل نوافذ الجيران، كنس أوراق الخريف، نظّف الممرات، جمع زجاجات العودة. وبعد أربعة أشهر من العمل اليومي بعد الدوام المدرسي، جمع 70 دولارًا بالضبط. حمل المبلغ في مظروفٍ ورقيٍّ وذهب مع والديه إلى مقر منظمة WaterCan في أوتاوا، متوقعًا أن يسلّم المال ويعود بصورةٍ للبئر.

لكن الموظفة نظرت إليه بحنانٍ ممزوج بالحزن وقالت:
«يا رايان، 70 دولارًا لا تكفي إلا للقليل من الأنابيب. تكلفة بئر يدوية كاملة في أوغندا حاليًا حوالي 2000 دولار».

كان من الممكن أن يبكي، أو يعود خائبًا، أو ينسى الأمر كله. لكنه اكتفى بنظرة قصيرة وقال جملةً ستُكتب في تاريخ العمل الإنساني:
«حسنًا… سأعود بالباقي».



عندما يتحول الحلم الطفولي إلى حركة مدنية مجتمعية

خلال الشهور التالية، تحوّل رايان إلى خطيبٍ صغير. كتب رسائل، تحدّث أمام الكنائس، وقف في أسواق البلدة، وأقنع المدارس الأخرى بتنظيم حملات جمع تبرعات. كان يشرح بكلماته البسيطة:
«أنا لا أطلب منكم أن تحفروا البئر، أطلب منكم فقط أن تساعدوني في إنقاذ أطفالٍ لا أعرفهم».

وفي يناير 1999، وبعد أقل من عام على الشرارة الأولى، وصل الخبر:
تم حفر أول بئر في العالم تحمل اسم طفلٍ في الثامنة من عمره.

موقعها: مدرسة أنغولو الابتدائية في شمال أوغندا.
اسمها الرسمي: Ryan’s Well – بئر رايان.



الممر البشري الذي هتف باسم طفل كندي في قلب إفريقيا

في صيف 2000، سافر رايان لأول مرة إلى أوغندا. وعندما هبطت الطائرة الصغيرة، وجد مئات الأطفال والكبار يصطفون في ممرٍّ بشريٍّ طويل يهتفون:
«رايان! رايان!»

سأل المرشد في ذهول طفولي:
«هل يعرفون اسمي حقًا؟»
فأجابه الرجل بابتسامةٍ واسعة:
«يا ولدي، كل إنسان في دائرة مائة كيلومتر يعرف اسمك الآن».

وفي تلك الزيارة التقى جيمي أكانا، الصبي الأوغندي الذي كان يستيقظ في الثالثة فجرًا ليقطع مسافاتٍ طويلة حاملًا جراكن الماء، ثم يحاول الوصول إلى المدرسة. جيمي كان يتيمًا بسبب الحرب الأهلية. بدأت صداقةٌ عابرة للقارات، ثم تحولت إلى أخوّة، ثم إلى تبنٍّ رسمي.

جيمي أكانا صار ابنًا لعائلة هريلجاك في كندا، وتخرج مهندسًا، ويعمل اليوم في مشاريع المياه نفسها.



من بئر واحدة إلى أكثر من 1800 مشروع في 17 دولة

عام 2001، وهو لا يزال في العاشرة من عمره، أسس رايان مؤسسته Ryan’s Well Foundation. لم تكن مجرد جمعية خيرية تقليدية، بل رؤيةً مختلفة:

• لا نعطي الماء فقط، بل نُعلّم القرى كيف تصون البئر وتُصلحها.
• لا نبني مرافق صحية فقط، بل نربطها بالتعليم: المدارس التي تحصل على ماء ومراحيض نظيفة ترتفع فيها نسبة حضور الفتيات بنسبة 40%.
• لا نرسل المال فقط، بل نُشرك المتبرعين في قصص المستفيدين.

حتى نوفمبر 2025، نفذت المؤسسة أكثر من 1800 مشروع مائي وصحي، وفّرت مياهًا نظيفة وصرفًا صحيًا وتعليمًا لأكثر من 1.2 مليون إنسان في 17 دولة نامية، معظمها في إفريقيا جنوب الصحراء.



قراءة فلسفية في فعل طفولي غيّر معنى الامتياز

ما فعله رايان ليس مجرد عمل خيري. إنه انقلابٌ في مفهوم الامتياز نفسه.

في عالمٍ يُعلّم الأطفال في البلدان الغنية أن يأخذوا، جاء طفلٌ واحد وقال:
«امتيازي ليس مبررًا للصمت، بل اختبارًا للضمير».

وفي زمنٍ تُقاس فيه المسؤولية الاجتماعية بحجم الشركات، أثبت طفلٌ صغير أن أعمق مسؤولية تبدأ من سؤال:
«لماذا أنا أملك وهم لا يملكون؟»

رايان لم يُنشئ تبعية، بل شراكة. لم يُعطِ سمكة ولا صنارة، بل أعاد بناء العلاقة الإنسانية على أساس الندّية. جيمي أكانا ليس «مستفيدًا»، بل شريكًا وأخًا ومهندسًا يحفر آبارًا اليوم لأطفالٍ آخرين.



حفرٌ في الضمير أعمق من أي حفر في الأرض

قصة رايان ليست قصة ماء، بل قصة وعي.

وعيٌ بأن العالم غير عادل، لكنه قابلٌ للإصلاح إذا رفضنا أن نكون متفرجين.
وعيٌ بأن الرحمة ليست عاطفةً عابرة، بل قرارٌ يُتخذ كل يوم.
وعيٌ بأن الحرية الحقيقية ليست في أن نعيش بلا قيود، بل في أن نُحرّر الآخرين من قيودهم.

كل بئرٍ حُفرت في الأرض كانت انعكاسًا لبئرٍ حُفرت في ضمير إنسانٍ ما: طفلٍ في كندا، أمٍّ في أوغندا، متبرعٍ في أوروبا، مهندسٍ في تنزانيا.



دعوة مفتوحة لحفر بئرك الخاصة

رايان هريلجاك اليوم في الرابعة والثلاثين من عمره. لا يزال يرتدي قميصًا عاديًا، ويتحدث بهدوء، ويحمل الرسالة نفسها التي بدأ بها وهو في السادسة:
«الماء أساس الحياة… لكن الإرادة هي التي تُطلق الحياة فينا».

في عالمٍ يغرق في الضجيج، يبقى صوت هذا الصبي دليلًا حيًّا على أن التغيير لا يحتاج إلى جيش ولا ثروة ولا منصب. يكفي قلبٌ واحد يقول:
«أنا أستطيع».

يكفي إنسانٌ واحد يرفض أن يبقى متفرجًا على معاناةٍ يستطيع إنهاءها.

اليوم، أنت تقرأ هذه الكلمات.
ربما لن تحفر بئرًا في إفريقيا.
لكن بالتأكيد هناك عطشٌ حولك — عطش معرفة، عطش كرامة، عطش أمل.

ربما يكفي أن تُمد يدك، أن تُعطي ساعة من وقتك، أن تشارك قصة، أن تُعلّم طفلًا، أن تُصلح شيئًا مكسورًا.

كل تغييرٍ عظيم بدأ بطفلٍ صغير رفض أن يُغلق عينيه.
ولهذا… ماذا لو كان رايان طفلًا أمريكيًا سيكبر ويصبح رئيسًا أمريكيًا؟
هل سيحفر الآبار في إفريقيا؟
هل سيبني المدارس؟
أم سيقضي وقته يفكر في بناء الأسوار بينه وبين جيرانه، ويخطط لقتل المزيد من البشر ليستولي على مواردهم، ثم يشتكي لشعبه من الهجرة غير الشرعية؟

إنها مجرد أسئلة … ولكن السؤال عن كيف لقّننا طفلٌ لم يتعدى عمره الستة سنوات درسًا في الإنسانية، وهكذا يكون العظماء حقًا.



المصادر :

• Ryan’s Well Foundation – التقارير السنوية 1999–2025
• وثائقي Return to Ryan’s Well – Journeyman Pictures
• تقارير BBC، CBC، The Guardian، National Geographic، وويكيبيديا (محدّثة حتى نوفمبر 2025)



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ومضات من بريق ضوء في ماريلاند: رحلة باميلا واتسون عبر سكون ا ...
- الهندسة الأخلاقية للكون: قراءة في فلسفة براين لويس ومشروعه ف ...
- الوجه الخفي لليابان: من صليل سيوف فرسان الساموراي إلى رقة تل ...
- ليوبولد الثاني: الملك الذي امتلك قارّة وأباد شعباً
- ومضات من فن الرسام الإيراني -محمود فرشجيان- رائد المدرسة الر ...
- هيباتيا: شمس الأسكندرية المشرقة في عتمة التطرف والإرهاب
- أصدقاء الله: مأساة -الأنقياء- النور المقموع في جنوب فرنسا
- الوجه الآخر للعبث الإنساني في رحله صيد: حين يتحوّل الإنسان إ ...
- ذو نواس: القصة الأقرب إلى الواقع بين النقوش والروايات والتفس ...
- الوظيفة المرتبكة بين كفاءة الغرباء وثقة الأقرباء: حين تُدار ...
- التفكير التحليلي النقدي: وعي في زمن الفوضى الرقمية
- حياة تتجدد بعد تشيرنوبل: بين أثر الإشعاع النووي وقوة التكيف ...
- العنصرية: ضلال الروح البشرية في عتمة صندوق الاختلاف اللامتنا ...
- خلق الأعداء: آلية الهيمنة الأمريكية من خلال الدعاية والعمليا ...
- ديني: عظمة صغيرة في كهف سيبيري تحمل في طيّاتها سرّ التميز
- فنّ سرقة الفقراء بالوهم: من “رأس المال الوهمي” إلى رهن البيت ...
- قراءة في كتاب “سحر التفكير الكبير” لديفيد شوارتز
- سجن الأوهام والبحث عن الذات: رحلة الإنسان بين الخوف والحرية
- الشجاعة التي لا تنكسر: صعود الروح في وجه الجدار العنصري
- القمامة والقدر: رحلة (كاري) من سلة المهملات إلى عرش الرعب


المزيد.....




- إسرائيل.. قضاة ومسئولون سابقون يعارضون قانون إعدام أسرى فلسط ...
- الأمم المتحدة: 127شهيدا مدنيا في لبنان بضربات إسرائيلية..
- -من الإغاثة إلى الموت-.. جدل حول مؤسسة غزة الإنسانية بعد إنه ...
- -من الإغاثة إلى الموت-.. جدل حول مؤسسة غزة الإنسانية بعد إنه ...
- العفو الدولية تتهم الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب في مدينة ا ...
- جنين.. الجيش الإسرائيلي يعلن قتل فلسطيني واعتقال 5
- فلسطين توقّع اتفاقية البرنامج الوطني التشاركي للصناعة مع منظ ...
- -المنظمات الأهلية- تطالب بإنقاذ النازحين ورفع الحصار عن غزة ...
- اغتيال سلطان الغني في جنين واعتقال خمسة متعاونين معه
- حماس: غزة تغرق في الخيام بسبب الأمطار ونطالب العالم بالإغاثة ...


المزيد.....

- نحو استراتيجية للاستثمار في حقل تعليم الطفولة المبكرة / اسراء حميد عبد الشهيد
- حقوق الطفل في التشريع الدستوري العربي - تحليل قانوني مقارن ب ... / قائد محمد طربوش ردمان
- أطفال الشوارع في اليمن / محمد النعماني
- الطفل والتسلط التربوي في الاسرة والمدرسة / شمخي جبر
- أوضاع الأطفال الفلسطينيين في المعتقلات والسجون الإسرائيلية / دنيا الأمل إسماعيل
- دور منظمات المجتمع المدني في الحد من أسوأ أشكال عمل الاطفال / محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي
- ماذا يجب أن نقول للأطفال؟ أطفالنا بين الحاخامات والقساوسة وا ... / غازي مسعود
- بحث في بعض إشكاليات الشباب / معتز حيسو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الاطفال والشبيبة - أوزجان يشار - رايان الذي روى عطش مليون إنسان