أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - نبوخذنصر الثاني: -الفصل التاسع والأخير- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية















المزيد.....

نبوخذنصر الثاني: -الفصل التاسع والأخير- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 18:55
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الفصل التاسع: النهاية – سقوط مدينة، وبقاء الاسم

أولًا: أربع وأربعون سنة بين المجد والنار

امتدت سنوات حكم نبوخذنصر الثاني، منذ اعتلائه عرش بابل عام 605 ق.م بعد وفاة والده نابوبولاصر مؤسس الدولة النيوبابلية، على أربع وأربعين سنة كانت من أكثر الفترات كثافة في تاريخ الشرق القديم؛ زمنًا تواطأ فيه البناء والدمار، وارتفعت فيه المدينة والملك معًا إلى ذروة المجد والقسوة. ففي هذه العقود، لم تكن بابل مجرد عاصمة سياسية، بل مشروعًا كونيًا للخلود، أعاد فيه نبوخذنصر تشكيل المدينة بوصفها مركز العالم: زقورة إيتيمينانكي، التي لامس ارتفاعها واحدًا وتسعين مترًا، بدت كجسر بين الأرض والسماء، فيما أحاطت الأسوار الداخلية والخارجية بالمدينة كحلقة حديدية ممتدة لأميال، مكسوّة بطوب مزجج أزرق، تتقدمه أسود وثيران مجنحة، رموز القوة الإلهية والهيبة الإمبراطورية، كما تشهد النقوش البابلية المحفوظة اليوم في المتحف البريطاني واللوفر.

لكن الوجه الآخر لهذه السنوات لم يكن أقل حضورًا. فقد كانت أيضًا أعوام النار والسيف، حيث تحوّل التوسع الإمبراطوري إلى آلة تدمير منظم. أورشليم سقطت مرتين، عامي 597 و586 ق.م، ودُمّر الهيكل الأول، واقتُلع عشرات الآلاف من سكانه إلى المنفى البابلي، كما تسجل أسفار الملوك وإرميا، وتؤكده السجلات البابلية التي تفاخر بانتصارات الملك. وفي الوقت ذاته، رسّخ نبوخذنصر هيمنته الإقليمية عبر سحق جيش الفرعون المصري تاعو أبتاح (Taharqa)، فرعون مصر من الأسرة الخامسة في كركميش عام 605 ق.م، وفرض حصارًا طويلًا على صور دام ثلاثة عشر عامًا، حتى حوّلها عمليًا إلى جزيرة بعد أن ردم البحر للوصول إليها، في مشهد يلخص منطق الإمبراطورية: حين تعاند الجغرافيا، تُعاد صياغتها بالقوة، كما يروي هيرودوت. هكذا تشكّل حكم نبوخذنصر من ثنائية لا تنفصل: مدينة تُبنى لتكون أبدية، ومدن تُحرق لتؤكد هذه الأبدية



ثانيًا: مدينة الخلود – بابل في ذروة المجد العمراني

في سنة 562 ق.م انتهت حياة نبوخذنصر الثاني، لكن المدينة التي صاغها رفضت أن تموت. بابل في ذروة مجدها كانت إعلانًا صريحًا عن خلود السلطة عبر الحجر. قصره الملكي، الذي تجاوزت مساحته تسعمائة متر مربع، لم يكن مقرّ حكم بقدر ما كان مسرحًا للهيبة، جدرانه المصنوعة من الطوب المزجج تسرد بالصورة ما كانت الإمبراطورية تكتبه بالسيف: مشاهد صيد وحروب تُؤلّه الملك وتضعه في قلب الكون. ومن بوابة عشتار، ذات الزرقة اللازوردية، يبدأ طريق المواكب الممتد لأكثر من كيلومتر، حيث تصطف الأسود والتنانين في نقوش صامتة، كما كشفت حفريات روبرت كولدواي، شاهدة على نظام جمالي صارم يخدم فكرة واحدة: أن بابل خُلقت لتُرى وتُهاب.

غير أن ذروة المجد لم تكتمل إلا بما وصفه المؤرخ اليوناني ديودوروس الصقلي في مكتبته التاريخية (الكتاب الثاني)، حين تحدّث عن الحدائق المعلقة بوصفها معجزة هندسية تتحدى الطبيعة، تُرفع فيها مياه الفرات عبر نظام هيدروليكي معقّد إلى مصاطب شاهقة، فتتحول الصحراء إلى فردوس مُعلّق. هنا لم تعد العمارة مجرد بناء، بل خطابًا حضاريًا يقول إن الإنسان قادر على قهر الجغرافيا وإعادة تشكيل العالم وفق رغبته.

لكن هذا الخلود العمراني ترك خلفه ظلًا لا يقل كثافة عن نوره. فبالنسبة للشعوب المغلوبة، ولا سيما اليهود، كانت بابل اسمًا آخر للرعب والمنفى. السبي لم يكن حدثًا سياسيًا عابرًا، بل لحظة تأسيس قاسية أعادت تشكيل الوعي الديني ذاته؛ ففي غياب الهيكل، وُلدت يهودية النص والصلاة، الدين الذي يستطيع أن يعيش بلا أرض ويستم. هذا الانكسار يتكثف صوتيًا وشعوريًا في سفر مراثي إرميا، حيث تُصوَّر أورشليم كأرملة مهجورة، تجلس على الرماد وتبكي حجارتها، بينما يلوح في الخلفية صمت بابل المنتصرة، مدينة الخلود التي بُني مجدها على ذاكرة الآخرين المكسورة.



ثالثًا: موت الملك بين السجل البابلي والأسطورة الدينية

حين نقترب من لحظة موت نبوخذنصر الثاني، تتراجع الأسطورة أمام الطين، ويعلو صوت السجل الإداري البارد. فالمصادر البابلية، وعلى رأسها السجل البابلي (Babylonian Chronicle)، وهي ألواح طينية دوّنها كتبة البلاط بدقة صارمة وحُفظت اليوم في المتحف البريطاني، تسجل وفاة الملك سنة 562 ق.م بعد حكم استمر ثلاثة وأربعين عامًا، دون أي إشارة إلى انقلاب، أو اغتيال، أو نهاية دموية. هذا الصمت الوثائقي ليس نقصًا، بل دلالة؛ إذ تعكس هذه السجلات ميل الدولة البابلية إلى توثيق الأحداث الكبرى ببرودة قانونية، لا تُعنى بالدراما بقدر ما تُعنى بالاستمرارية السياسية، ما يرجّح أن موت نبوخذنصر كان طبيعيًا، في قصره، وعلى سرير الملك الذي جعل من بابل مدينة لا تنام.

وتدعم هذه القراءة التقديرات العمرية التي يقدّمها مؤرخون مثل ويليام فوكسويل أولبرايت، الذي ربط بين النصوص البابلية والتوراتية، مرجّحًا أن الملك توفي وهو في الثمانين تقريبًا، بعد أن استهلكته الحروب والمشاريع العمرانية والإدارة اليومية لإمبراطورية مترامية الأطراف. في هذا السياق، يبدو موته هادئًا، خاليًا من المفاجآت، أشبه بانطفاء مصباحٍ أضاء طويلاً أكثر منه سقوطًا مدوّيًا.

غير أن هذا الهدوء الأرشيفي لا يصمد طويلًا أمام الرواية الدينية، التي رفضت أن تترك الملك يموت كأي بشر. ففي سفر دانيال (الإصحاح الرابع)، يُعاد تشكيل نهاية نبوخذنصر بوصفها عقابًا إلهيًا على الكبرياء، حيث يُصاب الملك بما يشبه الجنون، فيُطرَد من بين البشر ويعيش كالحيوان، يأكل العشب ويفقد وعيه السلطوي لسبع سنوات. هذه القصة، التي طالما قُرئت بوصفها وصفًا حرفيًا لمرض غامض، يرى عدد من الباحثين المعاصرين، مثل فيليب لونغ، أنها نص رمزي كثيف، يعكس إما أزمة نفسية حقيقية – مثل حالة البوانثروبي، الاعتقاد بالتحول إلى حيوان – أو، على الأرجح، فترة غياب سياسي أو تراجع فعلي عن الحكم لم يُرِد الكتبة البابليون توثيقه صراحة.

ويزداد هذا الاحتمال تعقيدًا حين نقارن سفر دانيال بسجلات أخرى مثل سجل نابونيدوس (Nabonidus Chronicle)، التي تشير إلى فترات اضطراب وغموض في السلطة البابلية في السنوات الأخيرة من حكم نبوخذنصر وخلفائه، ما يفتح الباب أمام قراءة وسطى: ملك لم يُقتل، ولم يُسقَط، لكنه تآكل من الداخل، جسديًا ونفسيًا، قبل أن يُسلّم السلطة بهدوء إلى خليفته.

ومع ذلك، يؤكد مؤرخون مثل جون برايت، في كتابه A History of Israel، أن الروايات الأسطورية اللاحقة لا يمكن التعامل معها بوصفها سجلًا تاريخيًا، بل بوصفها خطابًا أخلاقيًا ولاهوتيًا، سعى إلى تحويل نهاية أعظم ملوك بابل إلى درس في الغرور والسقوط. هكذا، يموت نبوخذنصر في السجل البابلي كملكٍ عادي، ويموت في الذاكرة الدينية كرمزٍ لعقاب السماء، وبين الموتين تتشكل إحدى أعقد صور التاريخ القديم: ملك لم يُهزم بالسيف، بل أُعيدت صياغته بعد موته في نصوص خصومه.



رابعًا: ما بعد نبوخذنصر – تفكك السلالة وانهيار الإمبراطورية

بموت نبوخذنصر لم تفقد بابل ملكها فقط، بل فقدت ميزانها الداخلي. الإمبراطورية التي بُنيت على شخصية واحدة قوية بدأت تتآكل من القمة، كجدارٍ شاهق أُزيل حجره الأساسي. فخليفته أميل-ماردوك، المعروف في النصوص التوراتية باسم إيفل-ماردوك، لم يرث سوى الاسم، لا القدرة على الحكم. خلال عامين فقط (562–560 ق.م)، تحولت السلطة إلى ساحة ارتباك، حيث تصف المصادر البابلية، كما نقلها بيروسوس عبر يوسيفوس في ضد أبيون، ملكًا متقلبًا، تعسفي القرار، فاقدًا لهيبة البلاط. حتى لفتته الإنسانية المتمثلة في إطلاق سراح يهوياكين ملك يهوذا لم تُقرأ كسياسة، بل كفوضى في إدارة السلطة، ما عجّل بتآكل ولاء النخبة العسكرية والكهنوتية، وانتهى باغتياله على يد صهره نيريغليسار.

نيريغليسار لم يكن وريثًا شرعيًا بقدر ما كان رجل دولة عسكريًا صعد بالسيف والتحالفات. مشاركته السابقة في حملات نبوخذنصر ضد أورشليم منحته شرعية ضمن الجيش، لكن حكمه القصير (560–556 ق.م) كشف هشاشة الإمبراطورية التي لم تعد تُدار من مركز واحد. ركّز على ترميم المعابد، ولا سيما معابد مردوخ، في محاولة واضحة لاسترضاء المؤسسة الدينية واستعادة التوازن، غير أن وفاته في حملة عسكرية ضد كيليكيا، كما توثق سجلات نابونيدوس، أعادت بابل إلى نقطة الفراغ نفسها: عرش بلا سند.

وجاء لاباشي-ماردوك، الطفل الملك، ليجسد هذا الفراغ بأقسى صوره. تسعة أشهر فقط من الحكم كانت كافية لتُظهر أن الإمبراطورية أصبحت رهينة المؤامرات، لا القرارات. فقتله في انقلاب قصر لم يكن حادثة استثنائية، بل نتيجة منطقية لانهيار السلالة، حيث لم يعد الدم الملكي ضمانة للبقاء. وهنا يبرز نابونيدوس، الشخصية الأكثر غموضًا وإثارة للجدل في تاريخ بابل المتأخر؛ ملك لا ينتمي إلى السلالة النبوخذنصرية، كاهن وتاجر من حرّان، صعد إلى العرش بدعم كهنوتي واضح، كما تبرر أسطوانة نابونيدوس المكتشفة في حرّان، التي تصوغ انقلابه بوصفه اختيارًا إلهيًا لا ضرورة سياسية.

كان نابونيدوس أكثر من مجرد ملكٍ أتى من خارج السلالة؛ كان علامة على أن بابل فقدت بوصلتها التقليدية. فالرجل، القادم من مدينة حرّان شماليّ الهلال الخصيب، لم يكن ابن قصر بل ابن معبد وتجارة، وقد ارتبط منذ شبابه بكهنوت الإله سين، إله القمر، وهو ارتباط سيترك أثرًا عميقًا على سياساته اللاحقة. تشير أسطوانة نابونيدوس إلى أن صعوده إلى العرش لم يُقدَّم بوصفه انقلابًا سياسيًا، بل بوصفه اختيارًا إلهيًا مباشرًا، في محاولة واضحة لإضفاء شرعية سماوية على ملكٍ بلا نسب ملكي.

غير أن حكم نابونيدوس سرعان ما كشف التصدّع العميق في بنية الدولة. فبتفضيله سين على مردوخ، الإله المركزي لبابل، دخل في صدام صامت مع كهنوت العاصمة، الذين كانوا العمود الفقري للاستقرار السياسي منذ قرون. هذا الانقسام الديني لم يكن تفصيلاً عقائديًا، بل شرخًا في قلب السلطة، إذ إن الطقوس السنوية لموكب رأس السنة (الأكيتو)، التي تُجدَّد فيها شرعية الملك أمام مردوخ، تعطّلت مرارًا بسبب غياب نابونيدوس الطويل عن بابل.

فقد أمضى الملك نحو عشر سنوات في واحة تيماء شمال الجزيرة العربية، بعيدًا عن عاصمته، لأسباب لا تزال محل جدل: هل كان دافعها دينيًا، أم اقتصاديًا، أم محاولة للسيطرة على طرق التجارة؟ السجلات، ولا سيما سجلات نابونيدوس، لا تمنح جوابًا حاسمًا، لكنها تكشف أثر الغياب: مدينة تُدار بالنيابة، وملك يُستبدل حضوره الرمزي بابنه بلشاصر، الذي حكم فعليًا دون أن يحمل لقب الملك رسميًا. هذا الانفصال بين السلطة والشرعية خلق فراغًا سياسيًا قاتلًا.

وهكذا، حين ظهر كورش الفارسي على حدود بابل، لم يكن يواجه إمبراطورية متماسكة، بل دولة منقسمة على نفسها، ملكها غائب، وكهنتها ناقمون، ونخبتها مرهقة من الانقلابات. سقوط بابل لم يكن ثمرة عبقرية عسكرية فارسية فحسب، بل النتيجة الطبيعية لعهد نابونيدوس، الذي حوّل ما تبقى من مجد نبوخذنصر إلى قشرة مقدسة خاوية.



خامسًا: نابونيدوس… الغياب الذي فتح الأبواب

دام حكم نابونيدوس سبعة عشر عامًا (556–539 ق.م)، لكنها كانت سنوات فراغ أكثر منها سنوات حكم. فالملك، القادم من خارج السلالة، كسر التوازن الديني والسياسي الذي قامت عليه بابل حين همّش مردوخ، إله المدينة وحارس شرعيتها، وفضّل عليه سين، إله القمر في حرّان. هذا التحول لم يكن عقائديًا فحسب، بل ضربة مباشرة لأساس الحكم البابلي، الذي يقوم على رضا الكهنوت وطقوس الأكيتو التي تُجدَّد فيها سلطة الملك سنويًا.

الأخطر من ذلك كان غياب نابونيدوس الطويل عن العاصمة؛ إذ أمضى قرابة عشر سنوات في واحة تيماء شمال الجزيرة العربية، تاركًا بابل تُدار من الظل عبر ابنه بلشاصر. هذا الغياب، كما توضح سجلات نابونيدوس، عطّل الحياة السياسية والرمزية للمدينة، وحوّل الحكم إلى وصاية ناقصة، حيث مارس بلشاصر السلطة دون أن يحمل لقب الملك رسميًا. وفي الذاكرة الدينية، سيُعاد تفسير هذه المرحلة في سفر دانيال من خلال مشهد الوليمة الشهيرة والكتابة على الجدار: «مَنِي مَنِي تَقِيل وفَرْسِين»، بوصفها إعلانًا رمزيًا لانتهاء الوزن السياسي لبابل قبل سقوطها العسكري.

وخلال هذه السنوات، بدأت الإمبراطورية تتآكل من الداخل. السجلات الاقتصادية الطينية تكشف اضطرابًا حادًا في الأسواق، حيث قفزت أسعار الشعير عشرات المرات، في مؤشر على خلل مالي عميق، رافقته تمردات محلية وتراجع في الجاهزية العسكرية. وعندما تحرّك كورش الفارسي نحو بابل، لم يجد أبوابًا محصّنة، بل مدينة أنهكها الغياب، وملكًا فقد شرعيته قبل أن يفقد عرشه.



سادسًا: سقوط بابل – دخول كورش ونهاية عصر

في عام 539 ق.م لم تُفتح أبواب بابل بالقوة، بل بالفراغ. كورش الكبير، مؤسس الإمبراطورية الأخمينية، دخل المدينة بعد أن حسم المعركة الفاصلة عند أوبيس على الفرات، مستفيدًا من انهيار الجبهة الداخلية وتآكل شرعية نابونيدوس. أسطوانة كورش، المكتشفة في بابل والمحفوظة في المتحف البريطاني، تصوّر هذا الدخول لا كغزو، بل كاستعادة للنظام، حيث قُدِّم كورش بوصفه المختار لإعادة التوازن، في مدينة رحّب كهنوتها وشعبها بملكٍ وعد بالاستقرار لا بالانتقام.

ما إن استقر في بابل، حتى أعاد كورش التماثيل الإلهية إلى معابدها، واحترم الطقوس المحلية، معلنًا نفسه ملكًا شرعيًا ضمن التقليد البابلي، لا قاطعًا له. غير أن أثر هذا الحدث تجاوز حدود المدينة؛ إذ تحوّل إلى لحظة فاصلة في تاريخ الشعوب المسبية. فمرسوم العودة، الذي سمح لليهود وغيرهم بالرجوع إلى أوطانهم وإعادة بناء معابدهم، لم يُسجَّل فقط في الوثيقة الفارسية، بل اكتسب بعده اللاهوتي في سفر عزرا، الذي رأى في كورش أداةً لإرادة إلهية، وبذلك أُغلق فصل السبي البابلي رسميًا سنة 538 ق.م، ومعه انتهى عصر بابل كقوة إمبراطورية، لتحل محلها إمبراطورية تُدار بالسياسة أكثر مما تُدار بالرعب.



سابعًا: الاسم الذي لم يسقط

مع أن بابل سقطت، ومجدها العمراني تلاشى تحت أقدام الغزاة، بقي اسم نبوخذنصر خالدًا، غير قابل للاندثار في ذاكرة البشر. المدينة التي أقامها، والبوابات التي نقش عليها الأسود والتنانين، والحدائق المعلقة التي تحدت الطبيعة، صارت رموزًا للقدرة على تحويل الرغبة البشرية إلى صرح من الطين والحلم. لم يعد الملك مجرد شخص، بل أصبح مرجعًا للسلطة المطلقة، وللإبداع الذي يتجاوز الزمن.

حتى في النصوص التي جاءت بعد قرون، مثل أسفار الأنبياء والتاريخ اليهودي، يظهر نبوخذنصر كشخصية مركبة: ملك جبار وفتاك، لكنه أيضًا أداة في مخططات أكبر، وكدرس للبشرية عن الكبرياء، والعظمة، والسقوط، والقدر. في سفر الرثاء، تُرثي أورشليم المدينة المدمرة، لكن في كل ذكر للبابلية يرن صدى اسم نبوخذنصر، يذكر أن السلطة، حين تُمارس بقوة وعقل، تخلّد اسم صاحبها حتى بعد زوال الدولة نفسها.

وهكذا، يصبح درس نبوخذنصر خالدًا عبر العصور: لا قوة تبقى إلى الأبد بلا حكمة، ولا مجد يُنسى حين يُحفر في ذاكرة الشعوب، ولا سقوط الإمبراطورية قادر على محو أثر من صنعها، حتى لو تبدّد الطين وتحول إلى رماد.



الخاتمة: بين الطين والنار – ملك صنع مدينتين داخل الذاكرة

نبوخذنصر الثاني لم يكن مجرد ملك عابر في التاريخ، ولم تكن أيام حكمه مجرد سنوات تُسجّل على رقعة من الطين. إنه حالة تاريخية كاملة، شخصية مزدوجة، لحظة من الزمن جمعت بين البناء والهدم، بين الهيبة والرعب، بين الذهب والرماد. بابل التي رفعها نحو السماء، وأورشليم التي أحرقتها النار، لم تكن مجرد مدينتين على الخريطة، بل مدينتان في ذاكرة الشعوب، كل واحدة منها تحكي قصة الملك بطريقتها الخاصة.

إن أعمار الملوك لا تُقاس بما شيدوه من أسوار وزقورات، بل بما خلّفوه في وجدان البشر. نبوخذنصر عاش أطول بكثير في الكتب، في النصوص التاريخية والدينية، في أحلام دانيال، وفي شجاعة يهوديت، أكثر مما عاش على الأرض الطينية التي حمى حيطانها وأمرها. ففي بابل، بقي الملك رمزًا للبناء والنظام، للإنجازات الهندسية والحضارية، ولعظمة الإمبراطورية التي امتدت من النهر إلى النهر، مدينة يرفع فيها الطين نحو السماء، ويصبح الذهب مرآة للسلطة والفكر والهيبة.

أما في الذاكرة اليهودية، فظل نبوخذنصر رمزًا للدمار، النار التي أحرقت الهيكل، الحصار الذي دفع الشعب إلى المنفى، والملك الذي فرض إرادته بالقوة والجبروت، ليصبح درسًا خالدًا في الكبرياء البشري، في العدل الإلهي، وفي قدرة الروح على الصمود. هنا يظهر التناقض الأبدي: الملك نفسه، في ذاكرة شعبه، قد يكون شريرًا، وفي ذاكرة شعب آخر، بانيًا عظيماً. هذا التناقض ليس عيبًا، بل هو جوهر التاريخ، الذي يعكس الوجهين المتناقضين للطبيعة البشرية: البناء والهدم، الطين والنار، الهيبة والرهبة.

نبوخذنصر علّم البشرية درسًا خالدًا: أن العظمة ليست في السلاح وحده، ولا في الجيوش أو الأسوار، بل في كيفية تأثير الاسم، وفعل التاريخ، على ذاكرة الأجيال. كل ملك، مهما امتدت سطوته على الأرض، يظل أطول عمرًا في الكتب التي تُكتب عنه، وفي القصص التي يرويها من أحبوه أو كرهوه. من دانيال إلى يهوديت، ومن بوابة عشتار إلى الزقورة، ومن الجنائن المعلقة إلى أطلال الهيكل، يظل تأثير نبوخذنصر حيًا، حاضرًا في كل زاوية من زوايا التاريخ البشري، ليس فقط لأنه بنى أو أحرق، بل لأنه جسّد التناقض البشري في صورة واحدة: الملك الذي جمع بين أعظم بناء وأعظم حريق.

في النهاية، يبقى نبوخذنصر درسًا خالدًا لكل من يبحث عن معنى السلطة والذاكرة: أن المجد والدمار يمكن أن يتواجدا في نفس اليد، وأن الأعظمية لا تقاس فقط بما يُبنى، بل بما يُخلّد في قلب البشر. أن الملوك يذهبون، والمدن تسقط، لكن الاسم، الأثر، والدرس يبقى خالدًا بين الطين والنار، بين الذهب والرماد، وبين الهيبة والخوف، لتظل صورة نبوخذنصر شاهدة على التناقض الأبدي للطبيعة البشرية، وعلى القدرة التي يمتلكها التاريخ على صناعة ملكين داخل ذاكرة واحدة.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثامن- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل السابع- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الخامس- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل السادس- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثالث- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الرابع- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الأول- سيرة ملك بين الطين البابلي وا ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثاني- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- رايان الذي روى عطش مليون إنسان
- ومضات من بريق ضوء في ماريلاند: رحلة باميلا واتسون عبر سكون ا ...
- الهندسة الأخلاقية للكون: قراءة في فلسفة براين لويس ومشروعه ف ...
- الوجه الخفي لليابان: من صليل سيوف فرسان الساموراي إلى رقة تل ...
- ليوبولد الثاني: الملك الذي امتلك قارّة وأباد شعباً
- ومضات من فن الرسام الإيراني -محمود فرشجيان- رائد المدرسة الر ...
- هيباتيا: شمس الأسكندرية المشرقة في عتمة التطرف والإرهاب
- أصدقاء الله: مأساة -الأنقياء- النور المقموع في جنوب فرنسا
- الوجه الآخر للعبث الإنساني في رحله صيد: حين يتحوّل الإنسان إ ...
- ذو نواس: القصة الأقرب إلى الواقع بين النقوش والروايات والتفس ...
- الوظيفة المرتبكة بين كفاءة الغرباء وثقة الأقرباء: حين تُدار ...
- التفكير التحليلي النقدي: وعي في زمن الفوضى الرقمية


المزيد.....




- الحرس الثوري يعلن اعتراض سفينة نفط محمّلة بأربعة ملايين ليتر ...
- خلال العقد المقبل.. إسرائيل تخطط لاستثمار بقيمة 110 مليارات ...
- تهديدات أوروبية بالرد على فرض واشنطن عقوبات على شخصيات أوروب ...
- كأس أمم أفريقيا: ديالو يقود منتخب ساحل العاج حامل اللقب إلى ...
- الشيباني في روسيا وتأكيد على أهمية العلاقات بين دمشق وموسكو ...
- الاستعمار وأزمة القضاء في تونس
- شهيد ومصابون بجباليا والاحتلال ينسف مباني في خان يونس
- فايزر تعلن وفاة مريض بعد تلقيه دواء لعلاج سيولة الدم في تجرب ...
- دراسة: دواء فالاسيكلوفير قد يزيد تفاقم التدهور المعرفي لدى م ...
- خبراء أمميون: الحصار البحري الأميركي على فنزويلا ينتهك القان ...


المزيد.....

- معجم الأحاديث والآثار في الكتب والنقدية – ثلاثة أجزاء - .( د ... / صباح علي السليمان
- ترجمة كتاب Interpretation and social criticism/ Michael W ... / صباح علي السليمان
- السياق الافرادي في القران الكريم ( دار نور للنشر 2020) / صباح علي السليمان
- أريج القداح من أدب أبي وضاح ،تقديم وتنقيح ديوان أبي وضاح / ... / صباح علي السليمان
- الادباء واللغويون النقاد ( مطبوع في دار النور للنشر 2017) / صباح علي السليمان
- الإعراب التفصيلي في سورتي الإسراء والكهف (مطبوع في دار الغ ... / صباح علي السليمان
- جهود الامام ابن رجب الحنبلي اللغوية في شرح صحيح البخاري ( مط ... / صباح علي السليمان
- اللهجات العربية في كتب غريب الحديث حتى نهاية القرن الرابع ال ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في علم الصرف ( كتاب مخطوط ) . رقم التصنيف 485/252 ف ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في منهجية البحث والمكتبة وتحقيق المخطوطات ( كتاب مخط ... / صباح علي السليمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - نبوخذنصر الثاني: -الفصل التاسع والأخير- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية