حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 14:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ سحر الفوضى وأنطولوجيا العدم: الإرادة كأداة للتشكيل في رحِم السيولة المطلقة
يعد سحر الفوضى (Chaos Magic) أحد أكثر الإتجاهات الفلسفية والعملية حداثة وتمرداً، حيث يعيد صياغة العلاقة بين الإرادة والواقع و العدم بشكل جذري. لفهم الدور الذي يلعبه العدم في هذا السياق، وهل يترادف فعلياً مع الفوضى، يجب أن نتجاوز المعاني اللغوية البسيطة لنصل إلى لب القضية؛ كيف يمكن للحالة التي تسبق النظام أن تكون هي المصدر النهائي لكل قوة؟ في سحر الفوضى، لا يُنظر إلى العدم كحالة سلبية، بل كحالة من التصفية الذهنية الضرورية قبل أي فعل سحري. يعتمد ممارسو هذا النوع من السحر على ما يسمى بالغنوص (Gnosis)، وهي حالة من التركيز الشديد التي تهدف إلى تفريغ العقل من كل الأفكار المسبقة، والمعتقدات، والهويات الشخصية. هذا التفريغ هو عملية إستحضار للعدم داخل الوعي. الدور الذي يلعبه العدم هنا هو دور المساحة البيضاء؛ فلكي يتمكن الساحر من إعادة تشكيل الواقع وفق إرادته، عليه أولاً أن يعود إلى نقطة الصفر، حيث لا توجد قوانين طبيعية تقيده ولا مفاهيم دينية تعيقه. العدم في سحر الفوضى هو الحرية المطلقة التي تسبق الخلق. هنا نأتي للإشكالية الجوهرية؛ هل الفوضى مرادف للعدم؟ فلسفياً، هناك خيط رفيع يفصل بينهما. العدم هو الحالة الأنطولوجية لعدم التعيّن، بإعتباره أصل كل شيء ولا شيء في آن واحد، بينما الفوضى هي الحالة الديناميكية لهذا العدم عندما يبدأ في التحرك. يمكن تشبيه العدم بالصمت المطلق، و الفوضى بضجيج يحتوي على كل الترددات الممكنة في وقت واحد. في سحر الفوضى، يُنظر إلى الفوضى (Chaos) بوصفها القوة الحيوية اللانهائية التي تنبثق من العدم. لذا، هما ليسا مرادفين بالمعنى الجامد، بل هما المصدر و حركته. العدم هو السكون الكامن، والفوضى هي الإحتمالية المتفجرة التي تسمح للسحر بالحدوث خارج أطر العلية والسببية الرتيبة. من أهم ركائز سحر الفوضى هي فكرة أن الإعتقاد أداة (Belief is a tool). هذا يعني أن الساحر لا يؤمن بحقيقة مطلقة، بل يتبنى معتقداً ما سواء كان دينياً، علمياً، أو أسطورياً لفترة مؤقتة من أجل تحقيق غرض معين، ثم يلقي به ويعود إلى حالة العدم الفكري. هذا التقلب المستمر يعكس الإعتماد على العدم كمرجع نهائي. بدلاً من الإستناد إلى قانون طبيعي مستقر، يستند ساحر الفوضى إلى سيولة العدم. الدور الذي يلعبه العدم هنا هو المذيب؛ القوة التي تذيب الهياكل الصلبة للواقع لتجعلها قابلة لإعادة التشكيل. إن الإعتراف بالعدم كأصل يسمح للساحر بأن يكون أي شيء، لأن الحقيقة في جوهرها وفق هذا المنهج هي لاشيء. في سحر الفوضى، يُعتقد أن الواقع المادي مليء بالثغرات التي خلفتها الفوضى الأولى. السحر يحدث عندما يتمكن الوعي من القفز عبر هذه الثغرات العدمية لتغيير مسار الأحداث. العدم ليس مكاناً بعيداً، بل هو النسيج الخفي الذي يربط بين كل الأشياء. عندما يمارس الساحر طقساً معيناً، فإنه يحاول إستدعاء قوة الفوضى من ذلك العدم البيني لزعزعة إستقرار النظام القائم (القانون الطبيعي). وبذلك، يصبح السحر هو عملية تسييل الواقع عبر حقنه بجرعات من العدم، مما يجعل المستحيل ممكناً لأن القوانين التي كانت تمنعه قد تم حلها مؤقتاً في رحم الفوضى. إن العدم في سحر الفوضى هو المبدأ الأول الذي لا يمكن وصفه، والفوضى هي اللغة التي يتحدث بها هذا العدم. العلاقة بينهما هي علاقة الروح بالجسد أو الطاقة بالمادة. السحر في هذا الإطار ليس خروجاً عن الطبيعة، بل هو العودة إلى ما قبل الطبيعة؛ إلى تلك اللحظة التي لم يكن فيها للكون شكل ثابت. إن الدور الذي يلعبه العدم هو منح الساحر القدرة على الخلق من اللاشيء، و الإعتراف بأن كل الأنظمة والقوانين هي مجرد أوهام مؤقتة فوق محيط لا ينتهي من الفوضى الخلاقة.
_ أنطولوجيا التفكيك: السحر كتعجيل بالإنتروبيا وسعي نحو الجمود المطلق في رِحام العدم
تطرح هذه الفكرة إشكالية فلسفية تقلب المفهوم التقليدي للسحر رأساً على عقب؛ فبدلاً من رؤية السحر كفعل خلق أو بناء، تضعه هنا في إطار التفكيك الأنطولوجي، حيث يصبح العدم هو الأداة التي يسعى من خلالها الساحر للوصول بالوجود إلى حالة الإنتروبيا (Entropy) أو الجمود المطلق. لكي نحلل هذا الطرح، يجب أن نفهم العلاقة الجدلية بين النظام الذي يحفظ الوجود، والجمود الذي يمثله العدم، وكيف يقع السحر في قلب هذا الصراع. في الفيزياء، ترمز الإنتروبيا إلى التحول من النظام إلى الفوضى، و من الطاقة المتاحة إلى الركود الحراري. إذا إعتبرنا أن الوجود المادي هو حالة من التوتر الشديد والقوانين المعقدة، فإن السحر المستمد من العدم قد يعمل كعامل إرخاء لهذا التوتر. السحر هنا ليس محاولة لإضافة شيء جديد للكون، بل هو محاولة لإزالة القيود والقوانين التي تمنع الوجود من العودة إلى سكونه الأول. العدم في هذا السياق هو الحالة المثالية للجمود، حيث لا توجد حركة، لا حرارة، ولا تمايز. السحر يصبح إذن هو فن التحلل، والقدرة على إستخدام قوة العدم لكسر الروابط التي تشد ذرات الواقع ببعضها البعض، مما يدفع بالوجود نحو حالة من التلاشي المنظم. قد يبدو الجمود للوهلة الأولى حالة سلبية، لكن في الفلسفة الميتافيزيقية، الجمود المطلق المرتبط بالعدم هو الحالة التي تحتوي على كل شيء في حالة كمون. السحر الذي يسعى لإعادة الوجود إلى الإنتروبيا لا يهدف بالضرورة إلى الدمار، بل يهدف إلى التحرر من الصورة. القوانين الطبيعية تحبس المادة في أشكال محددة، بينما الجمود و العدم يحررانها من هذه القيود. عندما يستخدم الساحر قوة العدم لفرض الإنتروبيا على جزء من الواقع، فإنه يقوم بـتسييل هذا الواقع، وإعادته إلى المادة الأولية (Prima Materia) حيث تختفي الفوارق بين الشيء ونقيضه. الجمود هنا هو نقطة الصفر التي يطمح السحر للوصول إليها، لأنها النقطة الوحيدة التي تمنح سلطة مطلقة فوق المادة. الكون يسير بطبعه نحو الزيادة في الإنتروبيا، لكن الوعي والحياة يمثلان إنتروبيا سالبة (Negentropy) تحاول بناء النظام. إذا كان السحر ينشأ من العدم، فهو يمتلك القدرة على التلاعب بهذا المسار الزمني. قد يكون السحر هو المحاولة البشرية للسيطرة على محرك الفناء نفسه. فبدلاً من إنتظار الطبيعة لكي تتفكك ببطىء، يتدخل السحر ليستخدم قوة الجمود بشكل موضعي وسريع لتحقيق غايات معينة. السحر هو التعجيل الواعي بالعدم؛ إنه إستعارة لجزء من نهاية الكون (الفراغ والجمود) ووضعه في خدمة اللحظة الحالية. هذا الفعل يمثل أقصى درجات السيادة، حيث يصبح الساحر قادراً على فرض إرادة الفناء على نظام الطبيعة الصارم. في ختام هذا التحليل، نجد أن السحر و العدم والجمود يشكلون ثالوثاً يهدف إلى كشف زيف الثبات المادي. الطبيعة تحاول إقناعنا بأن الأشكال دائمة، بينما السحر يذكرنا عبر الإنتروبيا بأن كل شيء هو في الحقيقة عدم مؤجل. السحر الذي يعيد الوجود إلى حالة الجمود هو في الواقع فعل تطهير أنطولوجي؛ هو نزع للأقنعة و القوانين المادية للوصول إلى الجوهر الساكن للكون. إن الساحر الذي يستمد قوته من العدم لا يعادي الوجود، بل يعيده إلى منزله الأول، حيث لا صراع ولا حركة، بل وحدة مطلقة تتجاوز كل التفسيرات الطبيعية. السحر ليس مجرد بناء، بل هو في أعمق مستوياته تفكيك واعي. إنه يستخدم الإنتروبيا ليس لقتل الحياة، بل لكسر سجن القوانين الطبيعية التي تقيد الروح والمادة. العدم هو المصدر، والجمود هو الغاية، والسحر هو الجسر الذي يعبره الساحر ليعلن أن النظام المادي ليس سوى حالة إستثنائية و عابرة في محيط العدم الأزلي والساكن.
_ تعدد الأكوان كفيزياء للسحر: إنفجار الإمكان من ثغرات العدم وغشاء اللاشيء البيني
تطرح فكرة الأكوان المتعددة (Multiverse) تحدياً وجودياً يفوق قدرة الفيزياء الكلاسيكية على الإستيعاب، وهي النقطة التي يلتقي فيها العلم الحديث بالخيال الميتافيزيقي في أبهى صوره. إن التساؤل عما إذا كانت هذه العوالم اللامتناهية هي إبداعات سحرية نشأت من فراغات العدم، يفتح الباب لرؤية الكون لا كآلة صماء، بل كقصيدة مستمرة الكتابة، حيث يمثل العدم الورقة البيضاء ويمثل السحر المداد الذي يخط الإحتمالات. في الفيزياء الكمية، يُنظر إلى الفراغ ليس كخلاء، بل كحالة تعج بالتقلبات الكمية. فلسفياً، يمكن إعتبار هذا الفراغ هو العدم الخلاق. إذا كان السحر هو القدرة على تحويل الممكن إلى واقع، فإن الأكوان المتعددة هي التجلي الأسمى لهذا الفعل السحري. كل فراغ في العدم يمثل ثغرة في نسيج الواقع الحالي، ومن خلال هذه الثغرات تنبثق أكوان جديدة بقوانين فيزيائية مختلفة. هنا، لا يكون السحر فعلاً يقوم به كائن مشخصن، بل هو خاصية بنيوية للعدم ذاته؛ القدرة الأزلية على التفرع وإنتاج الوجود من اللاشيء. الأكوان المتعددة ليست سوى تنهيدات هذا العدم العظيم، حيث يلد كل فراغ حقيقةً موازية تحاول إستنفاد إحتمالات الوجود. إذا كان الوجود الواحد يمثل النظام، فإن تعدد الأكوان يمثل الفوضى السحرية التي ترفض الإنحباس في قالب واحد. يمكننا تحليل السحر هنا بوصفه محرك التباين. القوانين الطبيعية في كوننا تحاول الحفاظ على الوحدة والثبات، بينما قوة السحر المستمدة من العدم تدفع نحو التشظي الإبداعي. كلما نشأ عدم أو فجوة معرفية، إنبلج منها كون جديد لملىء هذا الفراغ. هذا التصور يجعل من السحر هو القانون الكوني الأعلى الذي يسبق الجاذبية و الكهرومغناطيسية؛ إنه قانون التعدد. الأكوان المتعددة بهذا المعنى هي تجليات لإرادة العدم في ألا يظل صامتاً، بل أن يتحدث بكل اللغات الممكنة أي بكل القوانين الفيزيائية الممكنة في آن واحد. تعتبر الفلسفة الوجودية أن العدم هو ما يفصل بين الأشياء و يمنحها هويتها. في سياق الأكوان المتعددة، يلعب العدم دور الغشاء البيني (The Interstitial Void). السحر، في هذا الإطار، هو القوة التي تسمح بالعبور أو التأثير بين هذه العوالم عبر إستغلال اللاشيء الذي يفصل بينها. إن نشوء كون من فراغ ليس مجرد حادث فيزيائي، بل هو فعل سحري أنطولوجي يعيد تعريف معنى المكان و الزمان. نحن لا نعيش في كون معزول، بل في فقرة واحدة من نص طويل تسبح في محيط من العدم. السحر هو الوعي بهذا المحيط، والقدرة على إدراك أن العدم الذي يحيط بكوننا ليس سوراً، بل هو جسر يؤدي إلى نسخ أخرى من الحقيقة. التجانس النهائي في هذا التحليل يكمن في إدراك أن تعدد الأكوان هو وحدة العدم. إذا كان كل كون هو إبداع سحري نشأ من فراغ، فإن المصدر يظل واحداً. السحر يوزع جوهر العدم على صور لانهائية من المادة والطاقة. هذا يجعل من الواقع الذي نلمسه مجرد إحتمال واحد تم تثبيته سحرياً، بينما تظل مليارات الإحتمالات الأخرى تتنفس في فراغات العدم المجاورة. الأكوان المتعددة هي إعتراف كوني بأن الوجود أضيق من أن يستوعب الحقيقة، ولذلك إستعان العدم بالسحر ليخلق مساحات إضافية للتجلي. إننا نعيش في غابة من المرايا السحرية، حيث كل مرآة هي كون، و الإطار الذي يمسكها جميعاً هو العدم المطلق. إن الأكوان المتعددة ليست مجرد فرضية علمية، بل هي النتيجة الحتمية لفيزياء السحر. العدم لا يطيق الوحدة، والسحر لا يطيق السكون؛ ومن هذا التزاوج ولدت الأكوان المتعددة كإبداعات تلقائية تملأ فراغات اللاوجود. نحن لسنا سوى ثمرة لسحر المصادفة الكونية التي نبتت في تربة العدم، وكل كون آخر هو شقيق لنا في المصدر، و منافس لنا في التحقق، وشاهد على أن المستحيل هو مجرد كون لم يجد بعد فراغاً كافياً في العدم لكي يولد فيه.
_ كيمياء العدم: المكون السري للتحول النوعي و فلسفة المذيب الأنطولوجي
تطرح فكرة العدم كـمكون سري أو جوهر مخفي تحولاً جذرياً في فهمنا للكيمياء الوجودية؛ فبدلاً من رؤية العدم كخصم للوجود أو نفي له، نكتشف أنه قد يكون الخميرة غير المرئية التي تسمح للمادة بأن تتجاوز ذاتها. في هذا التحليل، نغوص في فكرة أن التحول النوعي للأشياء سواء كان تحولاً فيزيائياً أو سحرياً لا يمكن أن يحدث في وسط ممتلئ تماماً، بل يحتاج إلى جرعة من العدم لخلخلة الثبات وفتح آفاق الصيرورة. في العمليات الكيميائية والفلسفية، لكي يتحول العنصر "أ" إلى العنصر "ب"، يجب أن يمر بحالة من التفكك أو الموت المؤقت للصورة الأولى. هذا الفراغ البيني الذي يسكن اللحظة التي تسبق التحول هو التجلي الأسمى للعدم كمكون سري. إن الوجود الصلب بطبيعته يقاوم التغيير، ولكن عندما يتسرب العدم إلى داخل بنية الشيء، فإنه يعمل كمذيب أنطولوجي يفكك الروابط التي تجعل الشيء هو هو. السحر، في هذا السياق، ليس إضافة مادة جديدة، بل هو عملية حقن للعدم في قلب المادة لإذابة صورتها القديمة، مما يسمح لها بالتشكل من جديد. العدم هو المساحة التي تسمح للشيء بأن يتنفس خارج حدوده الضيقة ليعيد إكتشاف نفسه في صورة أخرى. تعتبر الفلسفة الهيرقليطية أن كل شيء في حالة سيلان مستمر، ولكن ما الذي يجعل هذا السيلان ممكناً؟ إنه العدم الذي يسكن المسافات بين اللحظات. لو كان الوجود متصلاً بلا فراغات، لكان كتلة ساكنة يستحيل تحويلها. إن المكون السري الذي يسمح بالتحول النوعي هو هذا اللاوجود الكامن داخل كل ذرة. عندما نتحدث عن تحول الرصاص إلى ذهب بالمعنى الرمزي أو السحري، فنحن نتحدث عن العودة بالمادة إلى حالة الصفر، و هي حالة العدم التي تسبق التعيّن. السحر هو العلم الذي يدرك أن جوهر الأشياء ليس ما هي عليه، بل ما يمكن أن تكونه، وهذا الإمكان لا ينمو إلا في تربة العدم. فالتحول النوعي هو في جوهره رقصة فوق فوهة العدم، حيث تتخلى المادة عن أمان الإستقرار لتقفز نحو إحتمال جديد. إننا غالباً ما نركز على المادة وننسى الفراغ الذي يحيط بها و يسكنها، لكن الفيزياء الحديثة تخبرنا أن معظم حجم الذرة هو فراغ (عدم). هذا العدم ليس مهجلاً، بل هو المجال الذي تعمل فيه القوى الأساسية. في الفلسفة السحرية، يُنظر إلى هذا الفراغ الذري بوصفه المكون السري الذي يربط العالم المرئي بالعالم غير المرئي. الساحر لا يغير المادة من الخارج، بل يتواصل مع عدمها الداخلي؛ إنه يستخدم هذا المكون السري كقناة لنقل المعلومات أو الطاقة التي تفرض تحولاً نوعياً. الوجود هو القشرة، والعدم هو النخاع الذي يحمل شيفرة التحول. و بدون هذا المكون السري، ستظل الأشياء سجينة هويتها المادية إلى الأبد، غير قادرة على التطور أو التسامي. التحول النوعي يتطلب بالضرورة ظهور صفات لم تكن موجودة من قبل. من أين تأتي هذه الصفات إذا كان الكون محكوماً بقوانين الحفظ؟ إنها تأتي من العدم الخلاق. العدم هو المكون السري لأنه المخزن اللانهائي لما لم يحدث بعد. السحر هو فن إستدراج هذه الصفات العدمية و إجبارها على التجسد في المادة. عندما يتحول الوعي من حالة الجهل إلى الإستنارة، أو المادة من حالة الخمول إلى الحيوية، فإن العدم هو الذي وفر المادة الخام لهذا الإبداع. إنه الجوهر المخفي الذي لا يُرى بالعين، لكن أثره يظهر في كل قفزة تطورية وفي كل معجزة تخرق العادة. إن التجانس بين السحر والعدم يكمن في إدراك أن الخلق ليس سوى إعادة ترتيب للفراغ ليظهر بمظهر الوجود. العدم ليس نقصاً في الوجود، بل هو الوقود السري لصيرورته. إنه المكون الذي يسمح للواقع بأن يكون مرناً وقابلاً للتشكيل. السحر هو المعرفة العميقة بكيفية إستخدام هذا العدم كرافعة للتحول النوعي، و الإعتراف بأن أصل القوة لا يكمن فيما هو ملموس، بل في ذلك اللاشيء الذي يحمل كل شيء. إننا لا نتحول لأننا نملك المادة، بل لأننا نملك العدم الذي يسمح للمادة بأن تتغير. السحر هو لغة الفراغ، والعدم هو سرها الأعظم الذي يجعل من العالم مسرحاً دائماً للمعجزات والتحولات.
_ هندسة الفراغ: السحر كآلية لتحويل النقص الوجودي إلى قوة فاعلة عبر إستنطاق العدم
تطرح فكرة تحويل الفراغ إلى قوة واحدة من أعمق الرؤى الميتافيزيقية التي يمكن من خلالها فهم السحر؛ فهي لا تتعامل مع السحر كإضافة مادية أو قدرة خارقة، بل كعملية هندسة عكسية للنقص الوجودي. في هذا الإطار، يُنظر إلى الفراغ (The Void) ليس كعجز أو غياب، بل كحالة من الضغط الأنطولوجي المنخفض الذي ينتظر أن يُملأ، ويصبح السحر هو المضخة التي تستجلب طاقة العدم لتملأ هذا النقص وتحوله إلى فعل مادي ملموس. في الوجود الطبيعي، يظهر الفراغ أو النقص كحالة من عدم الإكتمال؛ فالمادة ناقصة لأنها تفنى، والوعي ناقص لأنه يجهل، و الزمن ناقص لأنه يتشظى. هذا النقص يمثل ثغراً في نسيج الواقع. السحر، في جوهره الفلسفي، هو المحاولة الواعية لعدم الهروب من هذا النقص، بل إستيطانه. بدلاً من النظر إلى الفراغ كخطر، يراه الساحر كبوابة (Gateway). بالإستعانة بالعدم الذي هو المصدر الأصلي للإحتمالات يتم تحويل هذا الفراغ من حالة سلبية (عجز عن الوجود) إلى حالة إيجابية (مغناطيس يجذب الوجود). هنا يصبح السحر هو فن إدارة الغياب، حيث يتم إستغلال الفجوات الموجودة في القوانين الطبيعية لإدخال إرادة جديدة تستمد زخمها من اللاشيء المحيط بالكون. لكي تتحول القوة من عدم إلى فعل، يجب أن تمر عبر وسيط، وهذا الوسيط هو الحاجة أو الفراغ. الفلسفة السحرية تفترض أن القوة لا تتدفق إلا نحو المكان الذي يفتقر إليها، تماماً كما ينتقل الهواء من الضغط العالي إلى المنخفض. عندما يمارس الساحر طقساً أو يركز إرادته، فإنه يقوم بـتفريغ متعمد لذاته ولواقع المحيط به، خالقاً نوعاً من الفراغ الإصطناعي. هذا الفراغ يعمل كقوة جذب هائلة تستدعي طاقة العدم الصرفة. بالإستعانة بالعدم، يتم تحويل هذا النقص من حالة فقر وجودي إلى حالة إمتلاء طاقي. السحر هنا هو المحفز الذي يخبر العدم بأن هناك مكاناً شاغراً في الوجود ينتظر أن يتجسد فيه شكل جديد. لذا، السحر ليس صراعاً مع المادة، بل هو مفاوضة مع الفراغ. التجانس في هذا التحليل يكمن في فهم أن العدم هو المخزن، والفراغ هو القالب، والسحر هو الصب. عندما نقول إن السحر يحول الفراغ إلى قوة، فإننا نعني أن الساحر يدرك أن ما ليس موجوداً يمتلك سلطة أكبر على الواقع مما هو موجود بالفعل. القوانين الطبيعية تحكم ما هو موجود، لكنها لا تملك سلطة على الفراغ الذي يفصل بين الأشياء. السحر يتسلل عبر هذه الفراغات، مستعيناً بالعدم لفرض واقع جديد يتجاوز المحدودية المادية. إن القوة السحرية الفعالة هي في الحقيقة طاقة الفراغ (Vacuum Energy) وقد تم توجيهها بوعي. هذا التحويل يجعل من النقص ميزة، حيث يصبح المكان الخالي هو المكان الوحيد الذي يمكن للمعجزة أن تحدث فيه دون أن تصطدم بجمود القوانين القائمة. من منظور فلسفي يتسق مع ميكانيكا الكم، فإن المراقب (الوعي) هو الذي يحدد حالة الجسيم. الساحر هو المراقب الأسمى الذي ينظر إلى فراغات الوجود ويقرر، بالإستعانة بالعدم، ما الذي يجب أن يملأها. الدور الذي يلعبه العدم هنا هو أنه يوفر المادة الخام اللامرئية. التحويل يحدث عندما يلمس الوعي السحري النقص و يسميه، فيتحول الفراغ من صمت إلى كلمة، ومن عدم فعل إلى قوة فعالة. السحر هو الإعتراف بأن الكون ليس ممتلئاً، وأن هذه الشقوق والفراغات هي في الواقع مساحات عمل إلهية أو بشرية تتيح لنا إعادة صياغة الوجود. نحن لا نسحر المادة، بل نسحر الفراغ الذي تسكنه المادة لنجبرها على التغير. السحر هو العملية التي يتم فيها تحويل العدم الميتافيزيقي إلى فعل فيزيائي عبر قناة الفراغ الوجودي. إنه الإستخدام الذكي للنقص لكسر إحتكار الإمتلاء. بالإستعانة بالعدم، يتوقف الفراغ عن كونه غياباً للقدرة ليصبح مصدراً للقدرة. إن الساحر الحقيقي هو الذي لا يخشى الفراغ داخل نفسه أو في العالم، بل يراه كأثمن مورد لديه؛ لأنه يدرك أن القوة الحقيقية لا تأتي مما هو كائن، بل مما هو ليس كائناً بعد، والذي ينتظر لمسة السحر لكي يخرج من رحم العدم إلى ضياء التحقق.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟