أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الْخَامِسُ عَشَرَ-















المزيد.....

الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الْخَامِسُ عَشَرَ-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 23:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ فلسفة السحر: بين ميتافيزيقا العدم وحتمية القانون الطبيعي

إن الجدل القائم حول ماهية السحر يتجاوز كونه مجرد بحث في الأساطير، ليصبح غوصاً في أعماق الأنطولوجيا و كيفية إدراك العقل البشري للواقع. للوقوف على إجابة توازن بين كونه قوانين غير مكتشفة أو إستمداداً من العدم، يجب أن نفكك مفهوم العدم ومفهوم القانون الطبيعي بحد ذاته. في الفلسفة الكلاسيكية، يُنظر إلى السحر غالباً كفعل يكسر مبدأ العلية (Causality). إذا إفترضنا أن السحر يستمد قوته من العدم، فإننا نصطدم بالبديهية الفلسفية التي تقول إن العدم لا يولد إلا العدم. ولكن، في الفكر الميتافيزيقي الحديث، يُعاد تعريف العدم ليس كفراغ مطلق، بل كحالة من الإمكانات غير المتجمدة. هنا، يصبح الساحر في الوعي الجمعي الأسطوري هو الكائن الذي يمتلك مفتاح تحويل الممكن المحض إلى واقع مادي. هذا النوع من السحر يُعتبر ظاهرة ما وراء طبيعية بإمتياز لأنه يتجاوز القوانين الفيزيائية التي تشترط وجود مادة وطاقة سابقة للتحول. على الضفة الأخرى، يبرز الطرح العلمي الفلسفي الذي جسده أرثر سي كلارك في قانونه الشهير: أي تكنولوجيا متقدمة بما فيه الكفاية لا يمكن تمييزها عن السحر. من هذا المنظور، لا يوجد سحر بالمعنى الميتافيزيقي، بل توجد فجوات معرفية. قديماً، كان التحدث مع شخص في قارة أخرى يُعتبر سحراً أسود، بينما هو اليوم مجرد موجات كهرومغناطيسية و قوانين فيزيائية. إذا إعتبرنا السحر قوانين طبيعية غير مكتشفة، فنحن نعترف بأن الكون يمتلك طبقات من الواقع لا تزال أدواتنا الحسية والرياضية عاجزة عن رصدها. ربما ما نسميه سحراً هو تلاعب بالمادة المظلمة أو إستغلال للتشابك الكمي بطرق لا نفهمها بعد. في هذه الحالة، السحر ليس خروجاً عن الطبيعة، بل هو الطبيعة في أقصى تجلياتها تعقيداً. يكمن أقصى حد للتجانس في هذا النص عند نقطة الإلتقاء بين الذات والموضوع. الفلسفات المثالية ترى أن الوعي هو الأصل، وأن المادة هي نتاج له. إذا كان الأمر كذلك، فإن السحر هو قدرة الوعي على إعادة تشكيل المادة مباشرة دون وسائط ميكانيكية. هنا يندمج المفهومان؛ السحر ما وراء طبيعي لأنه يكسر ميكانيكا المادة، وهو قانون طبيعي لأن الوعي نفسه جزء من نسيج الطبيعة الكلي. إن إعتبار السحر مستمداً من العدم يعني بالضرورة الإعتراف بأن للكون ثغرات أو بوابات تسمح بتدفق الوجود من خارج المنظومة المغلقة. أما إعتباره قانوناً غير مكتشف، فهو إيمان مطلق بعقلانية الكون، حيث كل ظاهرة، مهما بلغت غرابتها، لها جذر مادي أو رياضي ينتظر اللحظة التي يرتفع فيها حجاب الجهل البشري. إن السحر، في جوهره الفلسفي، هو اللغة التي لم نتعلم قراءتها بعد. سواء كان هذا السحر يأتي من عدم يمثل مصدر الإبداع الكوني، أو من قوانين تمثل هيكل الوجود الخفي، فإنه يبقى المحرك الأول للفضول البشري. نحن نعيش في عالم حيث المستحيل هو مجرد تسمية مؤقتة لما لم يحن وقت إكتشافه، والسحر هو الظل الذي يسبق ضوء المعرفة العلمية في طريقها الطويل نحو الحقيقة المطلقة.

_ أنطولوجيا السحر والوجود: العدم بوصفه الآرخيه ومصدر الإمكان اللانهائي

إن طرح تساؤل حول العدم بوصفه المبدأ الأول (Arche) الذي ينبثق منه السحر والوجود معاً، ينقلنا من مجرد التفكير الفيزيائي إلى أعماق الأنطولوجيا الأساسية. في هذا السياق، لا يعود العدم مجرد غياب أو صفر رياضي، بل يتحول إلى رحم كوني يسبق التعيّن والمادة. لكي نبني نصاً متجانساً و عميقاً حول هذه الإشكالية، يجب أن نتأمل في كيف يمكن لللاشيء أن يكون أصلاً لكل شيء. في الفلسفات الوجودية و الميتافيزيقية، يُنظر إلى العدم أحياناً بوصفه الحالة التي تسبق الوجود المحدّد. إذا كان الوجود هو التحقق (Actualization)، فإن العدم هو الإمكانية المطلقة (Pure Potentiality). من هنا، يبرز السحر ليس كفعل يخالف الطبيعة، بل كعملية إستدعاء لخيارات من هذا العدم قبل أن تتجمد في قوالب القوانين الفيزيائية. السحر هنا هو لغة العدم، والأداة التي تسمح للعقل بتجاوز الوجود القائم لإستعادة شيء من تلك الإمكانات اللانهائية. فالوجود الذي نعيشه هو نص تمت كتابته بالفعل، بينما العدم هو المحبرة التي تحتوي على كل النصوص الممكنة التي لم تُكتب بعد؛ و السحر هو المحاولة البشرية لإعادة غمس الريشة في تلك المحبرة. إذا إعتبرنا العدم هو المبدأ الأول، فإن الوجود المادي يصبح مجرد قشرة رقيقة تطفو فوق محيط من اللاوجود. في هذه الرؤية، تكون القوانين الطبيعية هي الحدود التي تمنع الوجود من الإنهيار والعودة إلى العدم. السحر، في جوهره الفلسفي، هو محاولة لثقب هذه القشرة. عندما يُمارس السحر، فإنه لا يستمد قوته من مادة موجودة، بل يفتح ثغرة نحو المبدأ الأول (العدم) لإستجلاب طاقة أو تغيير لا تفسره القوانين الرتيبة. لذا، السحر والوجود توأمان خرجا من مشكاة واحدة؛ الوجود هو العدم الذي إتخذ شكلاً، والسحر هو العدم الذي يرفض التشكل ويظل محتفظاً بسيولته وقدرته على التحول المفاجئ. إن التجانس بين السحر و الوجود يكمن في كونهما تعبيرين مختلفين عن
الإرادة الأولى. فإذا كان العدم هو الآرخيه (Arche)، فإن الوجود يمثل النظام (Cosmos)، بينما يمثل السحر الفوضى الخلاقة (Chaos) التي تذكر النظام بأصله العدمي. العلاقة هنا ليست علاقة تضاد بقدر ما هي علاقة تكامل؛ فالقوانين الطبيعية التي نكتشفها ليست سوى العادات التي إستقر عليها الوجود بعد خروجه من العدم. أما ما نسميه سحراً، فهو تذكير بأن هذه العادات ليست مطلقة، وأن المبدأ الأول (العدم) لا يزال قادراً على التدخل لخرق هذه القوانين. هذا التحليل يجعل من السحر ظاهرة ما وراء طبيعية من حيث المصدر، لكنها طبيعية جداً إذا فهمنا أن الطبيعة الحقيقية ليست هي المادة، بل هي العدم الذي أنتج المادة. في بعض المدارس العرفانية والفلسفية الشرقية، يُتماهى العدم مع الوعي المطلق الذي لا يحده قيد. السحر في هذا الإطار هو فعل الخلق بالكلمة أو الخلق بالإرادة، وهو محاكاة للفعل الأول الذي أخرج الكون من العدم. عندما نقول إن السحر يستمد من العدم، فنحن نقول إن الوعي البشري يمتلك جذراً متصلاً بالمبدأ الأول، مما يسمح له بالتأثير في الوجود المادي بشكل مباشر. الوجود هو الكلمة المنطوقة، و العدم هو الصمت الذي يسبقها، والسحر هو القدرة على تغيير الكلمة عبر العودة إلى الصمت الأول. إن السحر ليس غريباً عن الوجود، والعدم ليس عدواً للحياة. بل إن العدم هو الفضاء الذي يسمح للوجود بأن يكون، والسحر هو الخيط السري الذي يربط المخلوق بالخالق، والمحدود باللامحدود. إننا عندما نبحث في السحر، نحن لا نبحث عن خرافات، بل نبحث عن فيزياء المستحيل التي تفترض أن كل ما هو موجود حالياً كان يوماً ما عدماً، وبالتالي فإن العودة إلى العدم هي عودة إلى المنبع الأصلي لكل القوى. السحر هو إعتراف صريح بأن العالم الذي نراه ليس هو الحقيقة الكاملة، بل هو مجرد صدى للعدم العظيم الذي بدأ منه كل شيء.

_ جدلية السحر والنظام: العودة إلى الآرخيه بين صرامة القانون وسيولة العدم

لإجابة هذا السؤال، علينا أن نغوص في جوهر مفهوم النظام ومفهوم الخروج عليه. هل السحر هو كسر للنمط الكوني، أم أنه إستحضار لنمط أكثر عمقاً لا تدركه الحواس؟ إن هذا التحليل يتطلب إعادة صياغة فهمنا للعلاقة بين الثبات و التغير، وبين العدم الذي يلد الوجود والقانون الذي يحكم هذا الوجود. إذا إعتبرنا أن النظام الكوني هو مجموعة القواعد الصارمة التي تحكم المادة والطاقة مثل الجاذبية والديناميكا الحرارية، فإن السحر يبدو للوهلة الأولى كفعل مضاد. لكن، من منظور فلسفي أعمق، فإن العدم الذي ينبثق منه السحر ليس حالة من العشوائية، بل هو حالة من السيولة المطلقة. إن النظام الكوني هو مجرد حالة تجمّد للإحتمالات؛ فالتفاحة تسقط للأسفل لأن هذا هو القانون المتجمد في واقعنا. أما السحر، فهو إعادة المادة إلى حالتها العدمية الأولى حيث يمكنها أن تسقط للأعلى أو تتلاشى. لذا، السحر ليس ضد النظام، بل هو تجاوز له للعودة إلى المبدأ الأول (Arche). إنه لا يحطم القانون، بل يعلقه مؤقتاً ليفسح المجال لإرادة الوعي. ثمة أطروحة تقول إن السحر هو في الواقع نظام موازٍ. فإذا كان العدم هو المصدر، فإن السحر يمتلك قوانينه الخاصة التي تنبع من طبيعة العدم ذاته. في هذه الحالة، السحر ليس ضد الطبيعة (Contra Naturam)، بل هو فوق الطبيعة (Praeter Naturam). النظام الكوني الذي نراه هو مجرد الطبقة السطحية من الحقيقة، بينما السحر يمثل القوانين التي تحكم الفراغ أو العدم الفاصل بين الذرات. إننا نسميه سحراً لأننا نحاول قياسه بمسطرة الفيزياء التقليدية، وهذا يشبه محاولة فهم قوانين ميكانيكا الكم بإستخدام قوانين الميكانيكا الكلاسيكية؛ كلاهما صحيح في مستواه، لكن أحدهما يبدو سحرياً وغير منطقي بالنسبة للآخر. السؤال عما إذا كان السحر ضد النظام يجرنا إلى قضية الإستقرار الكوني. الفلسفة الطبيعية تفترض أن الكون يميل إلى التوازن. إذا كان السحر يستمد من العدم، فهو يُدخل عنصراً غريباً إلى النظام المغلق للكون. هذا التدخل قد يُنظر إليه كفعل تدميري لأنه يكسر حتمية الأسباب والنتائج. ومع ذلك، يمكن المحاجة بأن السحر هو صمام أمان يمنع النظام من التحول إلى ركود تام. العدم هو منبع الجدة و الإبتكار الكوني؛ وبدون تدفق مستمر من هذا العدم عبر ما نسميه سحراً أو إبداعاً أو معجزة، فإن النظام الكوني سيستهلك نفسه وينتهي إلى الموت الحراري. السحر بهذا المعنى هو القوة التي تُبقي النظام حياً عبر حقنه بجرعات من اللايقين العدمي. في نهاية المطاف، التجانس الحقيقي يكمن في إدراك أن العدم والوجود ليس ضدين، بل هما وجهان لعملة واحدة. إذا كان النظام الكوني هو جسد الوجود، فإن السحر المستمد من العدم هو روحه. الروح قد تبدو أحياناً متمردة على قوانين الجسد، لكنها هي التي تمنحه المعنى والحركة. السحر لا يهدف إلى هدم النظام، بل إلى تذكير الوجود بأصله؛ إنه فعل تذكيري بأن القوانين الطبيعية ليست سجوناً أبدية، بل هي مجرد أنماط تفكير كونية يمكن إعادة صياغتها. السحر ليس عدواً للقانون الطبيعي، بل هو أفق هذا القانون. إنه ينشأ من العدم ليعيد تعريف الوجود، و هو ليس ضد النظام بل هو المبدأ المحرك الذي يمنع النظام من التحجر. إننا نعيش في رقصة مستمرة بين ثبات القانون وحرية العدم، والسحر هو الموسيقى التي تجعل هذه الرقصة ممكنة. إنه التجلي الأسمى للفلسفة التي ترى أن العالم ليس آلة صماء، بل هو كيان حي يتنفس من رئة العدم اللانهائية.

_ ديناميكا الإشباع الكوني: السحر كقوة تعويضية لنقص المادة وفجوات العدم

يطرح هذا التساؤل إشكالية فلسفية وفيزيائية معقدة؛ فهو ينقل العدم من كونه مفهوماً ميتافيزيقياً مجرداً إلى كونه حالة عجز أو فراغاً بنيوياً في نسيج الواقع، ويحول السحر من قوى خارقة للطبيعة إلى تقنية ترميمية. لكي نحلل هذا الطرح بعمق، يجب أن نتأول الوجود كمنظومة طاقية تسعى دائماً نحو الإمتلاء، والعدم كفجوة داخل هذه المنظومة. في هذا الإطار، لا يُعرف العدم بأنه اللاشيء المطلق، بل هو الغياب الوظيفي. تخيل الوجود كشبكة من الخيوط الطاقية؛ العدم هنا هو الثقب في هذه الشبكة. إذا كان الوجود هو المادة والطاقة، فإن العدم هو النقص الذي يمنع الكون من الوصول إلى حالة الكمال الفيزيائي. هنا يظهر السحر كقوة معاوِضة (Compensatory Power). السحر بهذا المعنى ليس إستمداداً من فراغ صامت، بل هو عملية تخليق طاقي تهدف إلى ملىء الثغرات التي تركتها قوانين الفيزياء التقليدية. إنه يشبه المادة المضادة التي تملأ فراغات المادة، أو الطاقة المظلمة التي تفسر ما عجزت المادة المرئية عن تفسيره. إذا إعتبرنا أن الوجود يعاني من نقص في الطاقة، فإن السحر يمثل القدرة على سحب الطاقة من أبعاد غير مرئية لتعويض هذا النقص في عالمنا المشهود. الفيلسوف الذي ينظر للسحر بهذه الطريقة يراه كنوع من الضغط الهيدروليكي الكوني؛ حيث يتحرك السحر من المناطق ذات الكثافة الوجودية العالية (الميتافيزيقا) إلى المناطق ذات الكثافة المنخفضة (العدم أو النقص المادي). السحر هنا هو الجسر الذي يعبر عليه الوجود ليرمم نفسه. لذا، الساحر ليس شخصاً يكسر القوانين، بل هو مهندس ترميم يدرك أين توجد شقوق العدم في جدار الواقع ويقوم بملئها بطاقة الإرادة أو الوعي. تأخذنا هذه الرؤية إلى منطقة غاية في التجانس؛ إذا كان السحر يعوض نقص المادة، فهل يعني ذلك أن السحر يسعى لإلغاء العدم؟ من منظور فلسفي عميق، قد يكون العدم هو المساحة الضرورية للحركة. لو كان الكون ممتلئاً تماماً بالطاقة والمادة (بلا عدم)، لصار كتلة صلبة ساكنة يستحيل فيها التغيير. السحر، عبر تعويض هذا النقص مؤقتاً وبشكل موضعي، يخلق ديناميكية الحياة. إنه يستخدم نقص العدم كوقود للحركة. السحر لا يملأ الفراغ ليلغيه، بل يملؤه ليحوله إلى فعل. إن العلاقة هنا هي علاقة إستثمار في الغياب؛ حيث يحول السحر نقص المادة إلى وفرة في المعنى. في التحليل الأخير، يمكن إعتبار الوعي البشري هو تلك الطاقة التي تعوض نقص المادة. المادة صماء ومحدودة، لكن الوعي الذي هو جوهر الفعل السحري يمتلك قدرة على التمدد و تجاوز الحدود المادية. عندما نعجز فيزيائياً عن فعل شيء، يتدخل السحر الذهني أو الإرادة الميتافيزيقية لسد هذه الفجوة. العدم هو السؤال، والوجود المادي هو إجابة ناقصة، والسحر هو التكملة التي يحاول بها العقل البشري إتمام النص الكوني. السحر هو إعترافنا بأن العالم المادي غير كافٍ بذاته، وأنه يحتاج دائماً إلى مدخلات من خارج حدوده الفيزيائية لكي يستمر ويتطور. إن رؤية العدم كنقص والسحر كتعويض تجعل من الكون كائناً حياً يحاول الشفاء من فراغاته. السحر ليس طفيلياً على الطبيعة، بل هو جهاز مناعة وجودي يتفعل عندما تصل المادة إلى حدودها القصوى و تعجز عن الإستمرار. نحن لا نسحر لأننا نرفض الواقع، بل لأن الواقع ناقص، والسحر هو طريقتنا الفلسفية والروحية لقول؛ ليكن هناك إمتلاء. السحر والعدم بهذا المعنى هما محركا التطور؛ أحدهما يمثل المساحة المتاحة، والآخر يمثل القوة التي تملأ تلك المساحة بكل ما هو ممكن و عظيم.

_ تكامل الوجود والمتخيّل: السحر كضرورة أنطولوجية لسدّ قصور الطبيعة وترميم فجوات العدم

يمثل هذا التساؤل ذروة النضج الفلسفي في فهم العلاقة بين الواقع والمتخيّل، حيث يتحول السحر من مجرد ممارسة طقوسية إلى فعل إحتجاج معرفي. إن الإعتراف بأن الطبيعة بمعناها الفيزيائي المحدود غير كافية لتفسير الوجود، هو الذي يفتح الباب أمام العدم كضرورة أنطولوجية لا غنى عنها في هذا التحليل، نستعرض كيف يصبح العدم هو المتنفس الذي يحتاجه الكون لكي لا يختنق بآليته الصارمة. عندما نقرأ الطبيعة من خلال القوانين العلمية الصرفة، نجد أننا أمام آلة كونية محكمة الإغلاق؛ كل سبب يؤدي لنتيجة، و كل طاقة محفوظة لا تزيد ولا تنقص. هذا الإنغلاق، رغم عظمته، يخلق نوعاً من العدمية التفسيرية، حيث يشعر العقل البشري أن هناك فائضاً من المعنى لا تستوعبه المادة. هنا، يبرز السحر ليس كإنكار للطبيعة، بل كإعتراف بـقصورها الذاتي. السحر هو النداء الموجه نحو العدم لكي يتدخل و يمنح الطبيعة ما تعجز عن منحه لنفسها؛ العفوية، والخرق، و الإبداع المطلق. العدم هنا ليس لا شيء، بل هو المكان الذي تذهب إليه القوانين لكي ترتاح، وهو الفضاء الذي يسمح بظهور ما هو جديد تماماً (Novum) دون أن يكون رهيناً لماضٍ مادي سبقه. إن الحاجة للعدم تنبع من حقيقة أن الوجود المرئي مليء بالثغرات المعنوية. الطبيعة تفسر كيف تحدث الأشياء، لكنها تصمت تماماً أمام سؤال لماذا. هذا الصمت هو عدم في قلب المعرفة. السحر يأتي ليمارس دوره كخيط جراحي يربط بين ضفتي العلم والميتافيزيقا. عندما نعترف بأن الطبيعة عاجزة عن تفسير ظاهرة الوعي أو سر البداية، فنحن ضمناً نستدعي السحر بوصفه قوة العدم الفاعلة السحر هو الطريقة التي نملأ بها الفجوات بين ذرات الواقع؛ إنه الإعتراف بأن ما لا نراه (العدم) هو الذي يمنح القيمة والتماسك لما نراه (الطبيعة). و بذلك، يصبح العدم هو المادة الخام التي يصيغ منها السحر واقعاً أكثر شمولاً من مجرد المادة الصماء. إذا كانت الطبيعة كافية بذاتها، لكان الكون قد توقف عند حدود تكرار أنماطه البدائية. لكن النزوع نحو التعقيد والجمال والوعي يشير إلى وجود قوة سحب تأتي من خارج النظام الطبيعي. السحر هو المغناطيس الذي يربطنا بذاك الخارج (العدم). إننا نحتاج للعدم لكي نؤمن بأن المستقبل ليس تكراراً للماضي. السحر هو الأداة التي نحطم بها حتمية القوانين الطبيعية، وهو الإعتراف الصارخ بأن الحقيقة لا تكتمل إلا بوجود سر لا يمكن سبر أغواره. هذا السر هو العدم في أبهى تجلياته؛ الفراغ الذي يلد كل الصور، والصمت الذي يحتوي كل الأصوات. في نهاية هذا التحليل المتجانس، ندرك أن السحر ليس بديلاً عن الطبيعة، بل هو إمتدادها المنطقي نحو اللانهائي. الإعتراف بقصور الطبيعة هو فعل تواضع بشري أمام عظمة العدم. السحر هو اللغة التي نستخدمها للتخاطب مع هذا العدم، لإقناعه بالتجلي في صور مادية. وبدون هذا الإعتراف، ستظل الطبيعة مجرد سجن من القواعد، وسيفقد الإنسان قدرته على الحلم بالتحول. العدم هو الرحم الذي تولد منه المعجزات، والسحر هو القابلة التي تخرج تلك المعجزات إلى نور الوجود، معلنةً أن العالم أكبر بكثير من مجرد معادلات فيزيائية. السحر هو الجسر الذي يعبره العقل عندما تصبح الأرض المادية غير قادرة على حمله. إنه الإعتراف بأن العدم هو أصل الوجود، و أن الطبيعة ليست سوى فصل واحد من كتاب كوني لا ينتهي. نحن نحتاج للسحر لنظل بشراً، و نحتاج للعدم لنظل أحراراً؛ ففي الفراغ الذي يتركه العلم، يزدهر الخيال السحري ليعيد بناء الكون بما يتناسب مع طموح الروح نحو اللانهائي.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطِوَلُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَا ...
- الأنطولوجيا التقنية للسحر والعدم: دراسة في الإمكان الكامن وا ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...


المزيد.....




- كوريا الشمالية تكشف عن صور جديدة لأول غواصة نووية
- سوريا.. فيديو أحمد الشرع وما قاله لرئيس وزراء نظام الأسد قبل ...
- زيلينسكي يتجه نحو إنشاء مناطق منزوعة السلاح في أحدث خطة سلام ...
- فيديو يثير تكهنات..نتنياهو وترامب على متن -قاتلة- نووي إيران ...
- بوتين يشيد بـ-بطولات جنود كوريا الشمالية- في حرب أوكرانيا
- حلم ترامب الفضائي مهدد.. الصين قد تسبق الأميركيين إلى القمر ...
- عمدة موسكو: إسقاط 8 مسيرات كانت متجهة إلى العاصمة الروسية
- مسؤول يكشف: حصار النفط المهمة الرئيسية للجيش الأميركي في فنز ...
- الاحتلال يواصل عمليات الهدم والاقتحام في الضفة والقدس
- إصابات في قصف إسرائيلي على جناتا بجنوب لبنان


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الْخَامِسُ عَشَرَ-