أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - وترٌ مختومٌ بالشمع الأحمر














المزيد.....

وترٌ مختومٌ بالشمع الأحمر


ضيا اسكندر
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 12:01
المحور: الادب والفن
    


حين تُصبح الموسيقى تهمة، ويُعامل الوتر كجسدٍ يجب تفتيشه، ينكشف وطنٌ يخاف من أغنية أكثر مما يخاف من الخراب. قصة بهاء شيخو ليست سيرة فنان، إنها نشيدٌ مكسورٌ يبحث عن صوته في هواءٍ مُراقَب.
في الشمال السوري، حيث الريح نفسها تُستجوب، كان الغناء الكردي يُسجَّل كخطر. هناك، كان بهاء يعزف كما لو أنه يفتح نافذة في جدارٍ خانق. بُزُقه لم يكن خشباً، بل رئة. وكل نغمة تخرج منه كانت تشبه طائراً يرفرف فوق الأسلاك الشائكة ويقول:
"أنا هنا... بلغتي، بروحي، بتاريخي".
ذات مساء من تسعينيات القرن الماضي، لبّى بهاء دعوةً لإحياء حفل زفاف في صالة أفراح بمدينة القامشلي. دعوته للغناء لم تصدر عن شهوة الضوء أو لهفة المال؛ جاءت استجابةً لنداء القلب حين يُستدعى ليشهد بهجة الآخرين. غنّى للحب، للحياة، للتاريخ… ولكن بلغته. لغته الأم. الكردية.
لكن في وطنٍ يمرض من التعدد، كانت كل جملة تُغنّى بالكردية تُحسب كرصاصة، وكل لحن خارج عن العربية، يُدوَّن كتقرير أمني يُفتح عند الحاجة.
لم تمضِ ساعتان على وصلته الغنائية حتى انطفأت الأضواء؛ انطفأت لأن دورية من "الأمن السياسي" اقتحمت القاعة دخولاً يشبه مداهمة خلية إرهابية، فيما كان الناس يرقصون على إيقاع الحياة.
اعتقلت العريس، وبهاء، وحتى بزقه. وكأنهم جميعاً شركاء في جريمة الغناء. ذُهِل المدعوون، ولكن الذهول في سوريا لم يكن كافياً لتغيير قدرٍ كُتب بلغة الخوف.
في فرع الأمن السياسي، حيث الروح تُفرم على مهل، جُلِب بهاء إلى غرفة تحقيق تعجّ برائحة الاستعلاء.
جاءه المحقق، يحمل سطوة الدولة وعصبيّة الجهل، وسأله بنبرة متعجرفة ملؤها الاتهام:
- كم مرة سنعيد هذه الأسطوانة المشروخة؟ ممنوع الغناء باللغة الكردية! ألم تفهموا بعد؟! ألا يعجبكم الغناء بالعربية؟! أم أنكم لا تستسيغون الحياة إلا في مخالفة القوانين؟! هل نسيتم أننا سمحنا لكم بالعيش هنا؟! عاملناكم وكأنكم من أهل البلد، ومع ذلك لا تكفّون عن الحلم بتلك الدولة الخرافية... كردستان! استيقظوا من أوهامكم يا انفصاليين! استيقظوا يا بنو آدم!
ظلّ بهاء صامتاً لحظة؛ صمتٌ لا يصدر عن خوف، إنما عن رغبة في كبح انكسار يليق بكبريائه. ثم قال بصوتٍ خافت يشبه صلاة جريحة:
- سيدي، نحن لم نطلب أكثر من أن نكون كما نحن... نحن شعب له لغته، وثقافته، وأغانيه، وذاكرته. هذه اللغة التي تتهموننا بها تُمنع في مدارسنا، تُحظر في دوائر دولتكم، حتى أسماء أبنائنا لا يُسمح لها أن تُولد كما نحب! نضطر لتسجيلهم بأسماء عربية في السجلات، بينما نناديهم بأسمائهم الكردية سرّاً في البيت... ألا ترون كم نحن ممزقون حتى داخل منازلنا؟
ثم تابع، بصوت رجلٍ لم يعد يخاف شيئاً، رجلٍ يحمل في صدره قرناً من القهر، وذاكرةً لا تموت:
– تقولون إننا لسنا من هنا، لكن التاريخ يقول غير ذلك. نحن هنا منذ مئات السنين. قبل أن تُرسم الخرائط، وقبل أن تُوزَّع الجنسيات كغنائم. أتودّ أن أعدّد لك بعضاً منّا الذين خدموا هذا الوطن؟ يوسف العظمة، وإبراهيم هنانو، وحسني الزعيم، وفوزي سلو، وأديب الشيشكلي... أكانوا دخلاء؟! نحن لم نحلم بالانفصال يوماً، بل بالعدالة. لم نحمل السلاح، بل البزق. لم نطالب إلا بحقٍّ يُفترض أن يكون من بديهيات الوجود: أن نكون أنفسنا. لا كما تريدوننا أن نكون.
كان صوته لا يصرخ، بل يُقرّر. كان كلامه لا يُجادل، بل يُعرّي.
ارتبك المحقق، غصّت الحنجرة التي اعتادت على إصدار الأوامر لا سماع الردود، ثم قال بحدّةٍ تواري العجز وهو يلوّح بيده:
- كفى لغواً! سنكتفي بحبسك ثلاثة أيام... لكن نحذّرك من الغناء باللغة الكردية، وإلّا فسيُمنع عنك حتى الهواء.. فقط الغناء بالعربية، هل فهمت؟!
وبعد ثلاثة أيام، أُفرج عن بهاء... والعريس... والبُزُق. لكن البُزُق عاد إليه مختوماً بالشمع الأحمر!
كأنهم لم يكتفوا بإسكات الصوت؛ امتدّ بطشهم إلى الآلة نفسها، خنقوها وختموها كما تُختم الأسلحة أو الوثائق السرية… واقعة تبدو سابقةً لم تعرفها أي دولة في العالم.
حين نظر بهاء إلى آلته المخنوقة بالختم القرمزي المتجمد على فم البُزُق، شعر وكأنّ أوتار قلبه هي التي خُتمت.
كان ذلك الختم أكثر إيذاءً من الزنزانة، أكثر استفزازاً من الكلمات. فهم بهاء ما لم يُقَل له:
أن البقاء سيكون عزفاً بلا صوت، وأن الرحيل وحده هو المقطوعة الأخيرة الممكنة.
فقرر الرحيل..
سافر إلى السويد. لم يحمل حقائب كثيرة، لكنّه حمل صورة. صورة البُزُق المختوم.
وفي مكتب اللجوء، حين أبرزها للموظف المختص، نظر هذا الأخير إليها مطولاً، حائراً بين الاستغراب والشفقة، ثم قال مذهولاً:
- آلة موسيقية مختومة بالشمع الأحمر؟! هل هذا... حقيقي؟!
ابتسم بهاء، ابتسامة تحمل غبار الرحلة وملح الطريق، وقال:
- أكثر من كل ما عشته.
أغلق الموظف الملف، ثم نظر إليه نظرة طويلة، فيها من الدهشة بقدر ما فيها من الإيمان العميق بألم البشر، وقال بصوت خافتٍ تشوبه ابتسامة مرتجفة:
"حتى موسيقاك تحمل ألماً ناطقاً... أهلاً بك".
وفي تلك البلاد البعيدة، حيث لا تُقمع اللغة، ولا تُعتقل الألحان، جلس بهاء مرة أخرى مع بُزُقه.
عزف أول نغمة... فإذا بها تشبه شهقة نجت من الغرق. نغمة تحمل في ارتجافها ما عجزت الزنازين عن إطفائه. نغمة تشبه جناحاً يضرب الهواء بعد طول انكسار.
في السويد، عاد البُزُق ليتكلّم… عاد ليشهد أن اللحن لا يُدفن، وأن الشمع الأحمر، مهما بدا قاسياً، يذوب أمام نغمةٍ وُلِدت حرة.



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يختفي -قيصر- وتبقى الألغام الداخلية
- أزمة اقتصادية خانقة.. والحل: خنق الموسيقى أيضاً
- هل سيحتفي السوريون ابتهاجاً بذكرى -التحرير-؟
- سوريا بين زعامات دينية وفراغ سياسي.. إلى أين يتجه البلد؟
- هل غيّر القرار 2799 الصفة القانونية للقرار 2254؟
- ماذا يعني الإغلاق الحكومي في أمريكا؟
- لن ندفع، فماذا أنتم فاعلون؟
- بين بني أمية وبني -سوريا الأبية-
- فنزويلا في مرمى الأطماع الأمريكية
- هموم إلى الأمام
- يتمنّعن وهنّ.. نافرات
- لا ملوك بعد اليوم: أمريكا تنتفض ضد النزعة الاستبدادية
- كيف يصنع الغرب الوحش ثم يعلن الحرب عليه؟
- سوريا بين الفقر والفوضى.. لماذا لا بد من حل سياسي عاجل؟
- لماذا لا ينتسب الشباب إلى الأحزاب؟
- معضلة الرأي والرأي الآخر في الأنظمة الاستبدادية
- حين تُخلع الأقنعة وتتكلم الغرائز.. كيف نُلغي الطائفية؟
- حين كانت الشاشة تبكي معنا
- خطة ترامب لغزة ومأزق حماس: بين مطرقة الرفض وسندان القبول
- التاريخ يعيد نفسه.. من الأسد إلى الشرع


المزيد.....




- 7 تشرين الثاني عيداً للمقام العراقي.. حسين الأعظمي: تراث بغد ...
- غزة التي لا تعرفونها.. مدينة الحضارة والثقافة وقصور المماليك ...
- رغم الحرب والدمار.. رسائل أمل في ختام مهرجان غزة السينمائي ل ...
- سمية الألفي: من -رحلة المليون- إلى ذاكرة الشاشة، وفاة الفنان ...
- جنازة الفنانة المصرية سمية الألفي.. حضور فني وإعلامي ورسائل ...
- من بينها السعودية ومصر.. فيلم -صوت هند رجب- يُعرض في عدة دول ...
- وفاة الفنان وليد العلايلي.. لبنان يفقد أحد أبرز وجوهه الدرام ...
- وفاق الممثلة سمية الألفي عن عمر ناهز 72 عاما
- 7مقاطع هايكو للفنان والكاتب (محمدعقدة) مصر
- 4مقاطع هايكو للفنان والكاتب (محمدعقدة) مصر


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - وترٌ مختومٌ بالشمع الأحمر