ضيا اسكندر
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 14:40
المحور:
الادارة و الاقتصاد
منذ عام 1976، شهدت الولايات المتحدة واحداً وعشرين إغلاقاً حكومياً، في مشهد يتكرر كلما تعثرت لغة الحوار بين أروقة الكونغرس. وراء هذا الرقم تكمن قصة دولة عظمى تتوقف فيها أجزاء حيوية من الحكومة الفيدرالية عن العمل بسبب خلاف على موازنة الإنفاق، بعيداً عن أي حرب أو كارثة. فما حكاية هذا الإغلاق المتكرر؟
في جوهره، الإغلاق الحكومي هو توقف مؤقت للخدمات الحكومية غير الأساسية، عندما يعجز الكونغرس عن تمرير قانون التمويل السنوي أو حتى الموافقة على تمديد مؤقت. حينئذٍ، تُغلق المتنزهات الوطنية، ويتوقف إصدار الجوازات، وتؤجل البيانات الاقتصادية الرسمية. الأكثر إيلاماً أن مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين يواجهون مصيراً قاسياً: إما إجازة إجبارية دون أجر، أو الاستمرار في العمل مع تأخر رواتبهم لأجل غير مسمى. ورغم ذلك، تبقى خدمات حيوية مثل الجيش والأمن القومي ورجال الإطفاء تعمل، كشبكة أمان في دولة متوقفة.
لكن وراء هذه الآلية الجافة، يكمن صراع السلطة الحقيقي. فالإغلاق يتحول إلى سلاح تفاوضي في يد النخبة السياسية، بعيداً عن كونه مجرد تعطل إداري. يستخدمه الجمهوريون والديمقراطيون للضغط على بعضهم البعض، سواء للتفاوض حول تمويل جدار حدودي، أو إصلاح نظام صحي، أو خفض الإنفاق. وهكذا، يتحول المواطن العادي إلى ورقة في لعبة كبرى، حيث تعلو حسابات المصالح فوق مسؤولية الحكم.
لا تقتصر التكلفة على الإحباط اليومي للمواطنين. فاقتصادياً، تخسر الولايات المتحدة مليارات الدولارات أسبوعياً خلال الإغلاق، مع تراجع في النمو وارتباك في الأسواق المالية. واجتماعياً، تمتد الشقوق إلى نسيج الثقة بين الشعب ومؤسساته، بينما يعيش الموظفون الفيدراليون على حافة الهادفين المالي والنفسي. الأثر لا يتوقف عند الحدود الأمريكية؛ فتعطل الحكومة الأكبر في العالم يرسل موجات صدمة عبر الاقتصاد العالمي، ويطرح أسئلة وجودية حول متانة النموذج الذي تقوده.
وفي النهاية، ينتهي الإغلاق، كما بدأ، بقرار سياسي. يكون الحل عادة في صفقة لتمرير ميزانية مؤقتة، غالباً ما تكون مجرد "لصقة" فوق جرح نظامي أعمق. هذا هو السر وراء تكرار الظاهرة كعرف سياسي موسمي.
من خارج الصورة، قد يبدو مشهد تعطل دولة عظمى بسبب خلاف على ورقة أرقام ضرباً من السوريالية. لكنه في داخله يحمل درساً عميقاً عن طبيعة الديمقراطيات: قوتها ليست في منع الأزمات، بل في احتوائها ضمن أطر مؤسسية. كل مرة تُطفأ فيها أنوار الحكومة الفيدرالية، تُضاء فيها إشارة استفهام: هل تستمر الديمقراطية لأن آلياتها تعمل بسلاسة، أم لأن روحها تمكنها من إعادة التشغيل حتى بعد التعطل؟
الإغلاق الحكومي هو الإجابة الحية على هذا السؤال.
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟