ضيا اسكندر
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 8508 - 2025 / 10 / 27 - 14:11
المحور:
الادب والفن
كانت المرحومة أمي، تنطق عبارتها الأخيرة كل ليلة وهي تتثاءب متجهة إلى فراشها، تختم يومها بطقسٍ من السلام الداخلي:
«تنروح ننام ونشلح الهم لقدّام».
كنتُ، وأنا طفل، أتوقف عند تلك العبارة التي تنضح بالطمأنينة وتكتنفها غلالة من الغموض، وأتساءل في سرّي:
لماذا لا ترمي أمي همومها إلى الخلف بدلاً من الأمام؟ أليس الخلف هو الماضي الذي لا يعود؟
وفي أحد الأيام، لم أستطع أن أكتم فضولي أكثر، فسألتها ببراءة الأطفال:
– "ماما، أحياناً أسمعك تقولين: تنروح ننام ونشلح الهم لقدّام، ليش لقدام مو لورا؟"
ابتسمت، ومسحت على رأسي بحنانٍ، ثم قالت بصوتٍ هادئٍ كمن يودع سِرّاً في قلب طفلها:
– لأن الهموم يا بني إذا دفعناها أمامنا، نكون قد استعدينا لمواجهتها بشجاعةٍ عند الفجر، أما إذا رميناها وراءنا، فقد تعود إلينا من حيث لا نحتسب.
صمتُّ لحظةً، أحاول استيعاب عمق ما قالته. كانت تلك أول مرة أفهم أن حتى في التعامل مع الهمّ، ثمة ترتيب للحكمة، وأن من يضع أحزانه أمامه لا يهرب منها، بل يتهيأ للانتصار عليها.
لقد علمتني أمي أن في دفع الهموم إلى الأمام إيمان بالمستقبل، وثقة بأن الغد يحمل في طيّاته حلولاً جديدة، وأننا كلما تقدّمنا خطوة، صغرت أحزاننا خلفنا حتى تتلاشى. أما من يلقيها خلفه ظنّاً أنه تخلّص منها، فإنما يتركها تتربّص به عند أول منعطف.
قلت لها يومها، محاولاً أن أبدو فهيماً:
– وأنا كنتُ أظن يا أمي أن الهموم التي نرميها أمامنا سترافقنا دائماً، لأنها لم تُحل بعد.
فابتسمت من جديد وقالت:
– ما يرافقنا يا بني ليس الهم، بل الصبر عليه. والفرق بينهما هو ما يصنع جوهر الإنسان.
ومنذ ذلك اليوم، أدركت أن فلسفة أمي في الحياة بسيطةٌ وعميقة: لا تهرب من وجعك، بل خذه معك إلى الغد، فربما هناك، تحت شمسٍ جديدة، يتبدّد.
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟