أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صالح مهدي محمد - قصة قصيرة أثرٌ لا يجفّ














المزيد.....

قصة قصيرة أثرٌ لا يجفّ


صالح مهدي محمد

الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 11:31
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة
أثرٌ لا يجفّ

في لحظةٍ تواطأت فيها السماء مع الحجر، كان المطر يعيد كتابة المدينة بمدادٍ بارد.
الشوارع مرايا طويلة، وكلُّ عابرٍ نسخةٌ مؤجَّلة من نفسه.
كان واثق يمشي بلا ملامح واضحة، يحمل مظلّته كما لو أنّها معرَّضةٌ لانكسارٍ مترقّب؛ يرفعها بحذر، ويخفضها بحذرٍ أشد، كأنّ المطر لا يراقبه ليبلّله، بل ليمتحنه بشيءٍ ثمينٍ للغاية.
القبّعات السوداء تتحرّك كعلامات ترقيم فوق جملةٍ عريضة الخط، والعربات تجرّ الزمن بحوافر متعبة، والقُبّة البعيدة — عينٌ حجرية — تراقب ما يجري بصمت.
لا أحد يعرف لماذا تتباطأ الخطوات عند البرك؛ كأنّ الماء يحتفظ بسرٍّ لا يُقال إلا لمن يطيل النظر في انعكاسه، ويقبل أن يرى نفسه مكسورةً قليلًا، هكذا، كما في مشهدٍ متخيَّل.
عند أحد الأرصفة، التقى واثق صدفةً بصديقةٍ قديمة. لم يتعرّفا فورًا؛ سبق الصوتُ الملامح، وسبق المطرُ الكلام.
قالت، وهي تزيح خصلاتٍ مبتلّة عن جبينها:
«هل تلاحظ؟ المطر يستطيع أن يوقف كلّ شيء… الشوارع، الضجيج، حتى ما نُضمر داخلنا. يتركك وحدك مع ما تريد قوله فعلًا».
قال واثق، وهو يراقب قطرةً تتدلّى من حافة المظلّة:
«المطر لا يوقف الأشياء، إنّه فقط يؤجّلها، ويمنحها فرصةً لتكون أكثر صدقًا».
ضحكت، ثم أضافت بصوتٍ كأنّه يخرج من البلل نفسه:
«المطر ذاكرةٌ سائلة. كلّ قطرةٍ تحمل حكايةً لم تُروَ، وكلّ ارتطامٍ بالأرض وعدٌ مؤجَّل».
كانت تتحدّث عن المطر، لكن الكلمات كانت تصف شيئًا آخر، شيئًا يتحرّك في داخله بصمتٍ ثقيل.
وقبل أن يفترقا، اقترب منهما رجلٌ مسنّ كان يقف تحت شرفةٍ متهالكة، يحمل دفترًا قديمًا تشبّعت أوراقه بالرطوبة. نظر إلى واثق كما لو أنّه يتعرّف على شخصٍ في حلم، وقال:
«هل تعرف لماذا لا يجفّ الشارع بسرعة؟ لأنّه يتذكّر أقدام الذين عبروا عليه ولم يعودوا».
تردّد واثق، ثم سأله:
«ومن أين تعرف هذا؟»
ابتسم الرجل ابتسامةً شقّها الزمن، وقال:
«من الإصغاء».
فتح الدفتر، وقرأ بصوتٍ خافت قصيدةً من دفتره، وقد بدت عليه آثار القِدم، كأنّه يسلّم المطرَ لسانه:
أنا ابنُ البلل،
أمشي وتسبقني خطواتي
إلى الأمكنة التي لم أصلها.
أضع قلبي على الأرصفة
فتتعثّر به الخطوات.
المطرُ النازل من السماء
يصعد من ذاكرتنا
حين تعجز الكلمات عن حمل ثقلها.
كلُّ مدينةٍ قبرٌ مؤجَّل،
وكلُّ عابرٍ صلاةٌ
لا تعرف لمن تُقال.
حين أغلق الرجل دفتره، كان المطر قد خفّ، كأنّ القصيدة أنهت مهمّتها. اختفى في الزحام دون أثر، وبقي صدى الكلمات عالقًا في صدر واثق.
افترق واثق وصديقته كما التقيا: بلا وداعٍ واضح. تركته بعد أن قالت إنّ المطر يُستجاب له متى أراد أمرًا ما، كأنّه سيّد التوقّف والاستمرار معًا.
في بيتٍ بعيدٍ عن ضجيج المدينة، كانت أمّ واثق تنتظر. الساعة على الحائط لا تتحرّك، أو هكذا خُيّل لها. تشدّ طرف شالها، ثم تفلته، ثم تعود فتشدّه.
تأخّره لم يكن تأخّرًا عاديًا؛ كان فراغًا يتّسع في صدرها، وكان المطر في الخارج يزيد ارتجافها.
اقتحمتها فكرةٌ ثقيلة:
ماذا لو أنّ هذا البلل يخفي أذًى؟
ماذا لو أنّ خطوةً زائدة، أو شارعًا منزلقًا، أو صمتًا مفاجئًا، كان كافيًا ليغيّر كلّ شيء؟
في الشارع نفسه، فهم واثق متأخّرًا:
المدينة لا تُسكن؛ هي التي تسكنك.
تضعك في وهمٍ لا يُفسَّر، وتتركك تتحرّك إلى الأبد دون أن تصل.
وحين توقّف المطر، لم يجفّ الشارع، بل جفّ المعنى في الكلمات التي أراد وضعها على الورق.
شعر أنّ شيئًا ما ظلّ عالقًا في الهواء: وعدٌ خفيّ بأنّ الوصول — مهما تأجّل — لا يلغيه المطر، بل يكتبه… بصبر.
طرق الباب.
تبدّد وجه أمّه من خوفٍ عصف بقلبها إلى ابتسامةٍ ارتفعت مع أنفاسها، تسترجعها لتستقر.



#صالح_مهدي_محمد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السفر إلى المستقبل… عبر تطبيقات الهاتف
- هوس المبالغة… حين يتحوّل كل شيء إلى حدث تاريخي
- النجاح صفة من يقود الحياة
- الوعي الصفة الأكثر قوة في الشخصية
- ثقافة الاختلاف والتعدد : هل يمكن للثقافة أن تزدهر دون تنوع؟
- كانت أحلاما
- دور القراءة في الوعي
- الراتب ومحاولة الاقتصاد في الصرف
- يوم منظم... أو هكذا نعتقد!
- القراءة... سؤال الوعي في زمن السرعة
- رجل المعرفة… أو هكذا يظن!
- التاريخ يعيد نفسه
- قصة قصيرة : حارس النسيان
- اللمسة الأولى
- بين الإنسانية والسياسة وحدها تظهر ملامح الاستكبار
- قصة قصيرة : دكّان الضوء
- قصة قصيرة : العائدون من الغياب
- مقال بعنوان : لغة الإعلام السياسي وتوصيفات الخطاب
- الإدراك والفهم السياسي المجتمعي بين الوعي والممارسة
- قصة قصيرة وجوه الذاكرة


المزيد.....




- مصطفى محمد غريب: هواجس معبأة بالأسى
- -أعيدوا النظر في تلك المقبرة-.. رحلة شعرية بين سراديب الموت ...
- 7 تشرين الثاني عيداً للمقام العراقي.. حسين الأعظمي: تراث بغد ...
- غزة التي لا تعرفونها.. مدينة الحضارة والثقافة وقصور المماليك ...
- رغم الحرب والدمار.. رسائل أمل في ختام مهرجان غزة السينمائي ل ...
- سمية الألفي: من -رحلة المليون- إلى ذاكرة الشاشة، وفاة الفنان ...
- جنازة الفنانة المصرية سمية الألفي.. حضور فني وإعلامي ورسائل ...
- من بينها السعودية ومصر.. فيلم -صوت هند رجب- يُعرض في عدة دول ...
- وفاة الفنان وليد العلايلي.. لبنان يفقد أحد أبرز وجوهه الدرام ...
- وفاق الممثلة سمية الألفي عن عمر ناهز 72 عاما


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صالح مهدي محمد - قصة قصيرة أثرٌ لا يجفّ