صالح مهدي محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 00:12
المحور:
قضايا ثقافية
في زمنٍ تُختصر فيه المعارف في مقطعٍ لا يتجاوز دقيقة، وتتحوّل الخبرات إلى صورٍ سريعة العبور، يبدو السؤال عن الحاجة إلى القراءة كأنّه حنينٌ إلى زمنٍ مضى، أو دفاعٌ يائس عن عادةٍ كانت ذات يومٍ جوهرَ الوعي الإنساني. فهل ما زلنا بحاجةٍ إلى القراءة؟ أم أنّها صارت ترفًا في عصر السرعة والسطحية؟
القراءةُ لم تكن يومًا مجرّد نشاطٍ ثقافيّ، بل كانت فعلَ بقاءٍ حضاريّ. هي التي شكّلت وعيَ الإنسان منذ اكتشف الحرف، وهي التي مكّنته من أن يرى أبعد من حدود جسده وزمنه. القراءة، في معناها الأعمق، ليست نقلًا للمعلومات فحسب، بل هي تمرينٌ دائمٌ للعقل على الفهم، والتأمّل، والمساءلة. ومن دونها، يتحوّل الفكرُ إلى ركامٍ من الانفعالات السريعة التي تُشبه التغريداتِ أكثر ممّا تُشبه الأفكار.
لكن، في المقابل، علينا أن نعترف بأنّ شكل القراءة قد تغيّر. فالقارئ اليوم لا يجلس بالضرورة أمام كتابٍ ورقيٍّ سميك، بل قد يقرأ من شاشةٍ صغيرة، بين إشعارٍ وآخر. هذا التحوّل لا يُلغي القراءة، بل يُعيد تعريفها. فالقراءة ليست الوسيط، بل الموقف: الموقف من المعرفة، ومن الوقت، ومن الذات. من يقرأ، ولو سطرًا واحدًا بوعيٍ وتأمّل، يمارس الفعل ذاته الذي مارسه القُدامى حين قلّبوا صفحات المخطوطات في ضوء القناديل.
الذين يقولون إنّ الحاجة إلى القراءة قد انتفت، ينظرون إلى ظاهر الحياة لا إلى عمقها. فالمجتمعات التي تتخلّى عن القراءة، تتخلّى عن قدرتها على الحلم، والتفكير، والنقد. القراءة ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورةً وجوديّة. ومن دونها، يصبح الإنسان تابعًا لما يُقال له، لا لما يختاره هو أن يفكّر فيه.
نعم، تغيّر العالم، وتعدّدت مصادر المعرفة، وتنوّعت وسائطها، لكنّ جوهر المسألة لم يتغيّر: ما لم نقرأ، سنُعاد إنتاجُنا كما تُعاد البرامج في ذاكرة الآلة. إنّ القراءة هي ما يمنحنا الوعي، والوعي هو آخر ما يمكن أن يُستبدل بخوارزميّة.
#صالح_مهدي_محمد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟