صالح مهدي محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8452 - 2025 / 9 / 1 - 09:20
المحور:
الادب والفن
منذ الصباح الباكر، كانت فلكة السديناوية(*) تستيقظ على ضجيج الباعة؛ أصوات تتعالى، صخب نداءات، وضحكات تتناثر بين عربات الخضار وصناديق الفاكهة. كان الهواء يفوح منه عبق الخضروات الطازجة، والدخان المتسلل من الشاي الذي يغليه مقهى أبو رحمن على موقده الصغير، بينما يجلس أبو فضل خلف طاولة خشبية يرصّ عليها خبزه الحار وكأنه يوزع دفئًا للمارّة.
كان المشهد يتكرر كل يوم، لكنه لا يتشابه. فالوجوه التي تمر من هنا تتبدل كأنها صفحة ماء يجري فوقها الضوء. رجال يأتون بحثًا عن الخضار المناسب، نساء يحملن في سلالهن أحاديث البيوت، أطفال يجرّون أذيال فضولهم وسط صياح الباعة، وشيبة تجلس جانبًا في مقهى أبي رحمن تستمع لا إلى الأسعار، بل إلى أنفاس المدينة نفسها.
كانت أم شاكر تجلس على حافة الرصيف الدائري، تلفّها عباءتها بإحكام، وعيناها تراقبان كل حركة كأنها خيط في نسيج هذه الفلكة. اختارت اللبن والقيمر والجبن بضاعةً تعتاش عليها لكسب المال. لم تكن امرأة عابرة، بل ذاكرة حية للسوق، يعرفها المارة كما يعرفون أصوات العصافير مع الفجر. في عينيها حكاية ابنٍ غاب في الحرب، وفي صوتها نبرة صبر لم تكسرها السنوات.
بجانبها يقف ناظم البائع، صوته مبحوح من كثرة المناداة على بضاعته:
– "عنب الحلة… تمر السويحلي… برتقال ديالى الطيب!"
ورغم ازدحام السوق، كان لكل بائع شخصيته.
ملا هاشم، مأذِن جامع علي بن موسى، رجل جادّ في عمله، نادرًا ما يفارق الرسمية. صوته حين يعلو بالأذان يخترق السوق كله، وكأن النداء للصلاة هو ذاته إعلان غير مكتوب بانتهاء البيع وقرب الرحيل. لم يكن السوق يحتاج إلى ساعة معلّقة على جدار، فصوت ملا هاشم كان الزمن عينه. وكان جِدّه يثير رهبة حتى في أكثر اللحظات ازدحامًا، إذ لا يتذكر الناس أنه ضحك إلا نادرًا. وإذا حكى، حكى عن الأهوار والسفن الخشبية بعين صارمة لا تسمح بالهزل.
أما أبو عزيز، المقابل له في الجانب الآخر، فكان صورة مغايرة تمامًا: رجل لا يكفّ عن المزاح، يلاطف الأطفال ويعيد كلامهم على شكل نكات جعلت المارّة يعتادون على ضحكاته. كان يردد دائمًا: "السوق بلا ضحك مثل خبز بلا نار"، فيلتف حوله الصغار ليستمعوا ويضحكوا من ارتجالاته الطريفة.
لم يكن المكان مجرد فلكة، بل ذاكرة تمتد. فقد ظلّت هذه الساحة ملتقى للبيع والشراء حتى أواخر السبعينات، ثم انطفأ صخبها تدريجيًا كشمعة استهلكتها الرياح. ومع ذلك، بقيت محفورة في ذاكرة المدينة كجرح حنين قديم.
وبالقرب منها، كان شطّ الخيس يمدّ شرايينه حول الناصرية. هو النهر الذي وُلد ليحمل مياه البيوت الآسنة، لكنه كان يومًا ما شريانًا مهمًا يلتقط ما تسكبه الأنهر الصغيرة التي تشقّ الأزقة والبيوت، لتتلاقى كلها هناك. ورغم لونه الأسود الداكن ورائحته الثقيلة، فقد ظلّ جزءًا لا يُمحى من جغرافيا المكان.
في ذلك الزحام، كان صالح، الطفل ذو العينين اللامعتين، يختبئ خلف ذراع أمه. لم يجرّب من قبل أن يشتري شيئًا بيده، لكن قلبه الصغير كان يخفق حين لمح على عربة ناظم تفاحة حمراء صغيرة، كأنها كوكب تدحرج من السماء ليستقر هنا.
شدّ عباءة أمه هامسًا:
– "يمّه… أريد هاي التفاحة."
ابتسمت أمّه، وأخرجت من كفها درهمًا واحدًا، ووضعته في يد صالح. دفعتْه بخطوة نحو ناظم الذي انحنى قليلًا وسلّمه التفاحة بيد دافئة:
– "هاي إلك، بطل… أول زبون صغير اليوم."
ركض صالح بالتفاحة بين أصابعه المرتجفة، كأنه يحمل كنزًا لا يقدَّر. رفعها إلى أمه، فتأملتها بعينين رطبتين وهمست:
– "لازم تتعوّد تشتري، يا ولدي… السوق مثل الدنيا، يحتاج واحد يعرف يخطو."
وبينما كانا يسيران مبتعدين قليلًا، كان السوق يواصل عزفه اليومي. ملا هاشم ينادي على زبائنه بصرامته المعتادة، وأبو عزيز يوزع النكات مع بيع الحلوى والغذائيات ومستحضرات التنظيف كأنه يوزع حكايات عن الحياة اليومية، وناظم يواصل محاولاته لإغراء العابرين ببضاعته.
لكن مع اقتراب عقارب الساعة من الثانية عشرة ظهرًا، يبدأ كل شيء يتغيّر. أصوات تُطوى، عربات تُسحب، والباعة يغادرون واحدًا تلو الآخر. صارت الفلكة فجأة فراغًا واسعًا، صدى أقدام عابرٍ متأخر يتردد فيها.
ثم ارتفع صوت الأذان من منارة جامع علي بن موسى، صوت ملا هاشم نفسه، قويًا، عميقًا، نافذًا. لم يكن مجرد دعوة للصلاة، بل كان الجرس الخفي الذي يعلن أن السوق انتهى، وأن الحياة اليومية انفرطت مثل سبحة.
جلس صالح عند ظل جدار المسجد مع أخته التي تصغره سنًّا، ينظر إلى التفاحة التي لم يذقها بعد. بدا له أن السوق كله قد انكمش داخل تلك الفاكهة الصغيرة، كأنه أخذ قطعة من ضجيج الصباح ليحتفظ بها في قلبه. ابتسم، ثم قضَم أول قضمة… فامتلأت الدنيا حوله بطعمٍ جديد، طعم أول تجربة.
كان يشاهد ويتابع حركات أخته كيف تجمع ما تساقط سهوًا من حبات الفاصوليا أمام محل الملا، وهي تلتقطها حبّة حبّة كما هي عادتها عندما يقفل ملا هاشم محله، تعدّها هواية أو رغبة تقوم أحيانًا بشتلها في منزل دارهم القريب من المحل.
ومن بعيد، بدا له أن صدى أصوات الباعة لم يختفِ تمامًا، بل ظلّ عالقًا في الهواء، كوشوشة لا تُرى، كأن السوق لم يغادر قط، وإنما تغيّر شكله فقط. عندها أحسّ أن كل صباحٍ قادم سيحمل له تفاحة جديدة، وسوقًا آخر، وعالمًا يتشكّل من ضجيج ثم ينفضّ… ليعود من جديد.
________________________________
(*) سوق شعبي يبدأ عند الفجر، وينتهي عند الساعة الثانية عشرة ظهرًا. اندرست تلك الملامح، ولا وجود لها الآن.
#صالح_مهدي_محمد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟