أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - صالح مهدي محمد - ثقافة الاختلاف والتعدد : هل يمكن للثقافة أن تزدهر دون تنوع؟














المزيد.....

ثقافة الاختلاف والتعدد : هل يمكن للثقافة أن تزدهر دون تنوع؟


صالح مهدي محمد

الحوار المتمدن-العدد: 8519 - 2025 / 11 / 7 - 08:41
المحور: قضايا ثقافية
    


الثقافة، في جوهرها، ليست تكديسا من المعارف ولا أرشيفًا للرموز، بل كائن حيّ يتنفس بالتفاعل ويزدهر بالاختلاف. إنها فضاء مفتوح للحوار بين الذوات والتجارب، ولولا هذا التنوع الذي يمدّها بالاختلافات الحيوية، لذوت كزهرة حُبست في زجاجة. فالثقافة التي تنغلق على ذاتها تفقد قدرتها على التجدد، وتتحول من نهرٍ جارٍ إلى مستنقعٍ راكد. وكما يحتاج النهر إلى روافد كي يظل جاريًا، تحتاج الثقافة إلى أصوات متعددة كي تبقى حية قادرة على الإبداع والنقد وإعادة اكتشاف ذاتها.

الاختلاف ليس خطرًا يهدد وحدة المجتمع، بل هو الشرط الأول لخلق وعي جماعي أكثر عمقًا وإنسانية. فالإنسان لا يكتمل إلا حين يكتشف نفسه في مواجهة المختلف عنه. وكل حضارة عظيمة وُلدت من تفاعل روافد شتّى: لغات، وأديان، وعادات، ورؤى للعالم. وحين يلتقي المختلفون لا لينفوا بعضهم، بل ليتحاوروا، تتكوّن طبقات جديدة من المعنى، ويُعاد تشكيل العالم في ضوء التجارب المتعددة. في المقابل، فإن المجتمعات التي تسعى إلى "توحيد" الوعي قسرًا تُنتج ثقافة أحادية الصوت، هشّة أمام الرياح، لأنها تقوم على الخوف لا على الإيمان بالآخر، وعلى القمع لا على الفهم.

في التاريخ العربي، كان التنوّع مصدرَ خصوبة لا تهديد. فبغداد وقرطبة الأندلسية لم تُبدعا من فراغ، بل من تداخل الأصوات الفارسية واليونانية والعربية والأمازيغية والسريانية. تلك المدن كانت مختبرًا حيًّا للأفكار، التقى فيها الفيلسوف بالشاعر، والعالم بالمترجم، والمتصوف بالحاكم، فانبثقت من ذلك اللقاء ثقافة جامعة تتجاوز الجغرافيا إلى أفق الإنسان. لقد منحت التعددية الهويةَ عمقًا واتساعًا، لأنها لم تنظر إلى الهوية كجدارٍ يُقام حول الذات، بل كجسرٍ يمتد نحو الآخر ليعيد تعريف الذات ذاتها.

التنوّع، إذن، لا يهدد الثقافة، بل يوقظها من وهم الاكتمال. فالثقافة التي تظن نفسها مكتفية تتجه نحو الجمود، بينما الثقافة التي تُصغي إلى الأصوات المختلفة تُعيد تشكيل نفسها باستمرار. وفي زمننا الراهن، يبدو الخطر الحقيقي في هيمنة "الثقافة الموحّدة" التي تفرضها وسائل الإعلام وشبكات التواصل، حيث يُعاد تدوير الأفكار والذائقات حتى تغدو التجربة الإنسانية نسخة مكررة من ذاتها. أصبحنا نعيش في عالمٍ تتشابه فيه الصور واللغات والموسيقى إلى درجة محو الفروق، حتى باتت الفردانية مهددة بالذوبان في كتلة رمادية لا لون لها ولا نكهة.

غير أن التعدد لا يعني الفوضى، كما أن الاختلاف لا يعني العداء. فالثقافة المتنوعة لا تنكر المشتركات، بل تُثريها عبر الحوار. إن قبول التنوّع لا يعني التنازل عن الثوابت، بل يعني توسيع مساحة الفهم الإنساني بحيث تسع المختلف والمتناقض في آنٍ واحد. ولعلّ التحدي الحقيقي أمام المجتمعات الحديثة هو الانتقال من ثقافة التسامح السلبي — التي تحتمل الآخر دون أن تفهمه — إلى ثقافة التفاعل الإيجابي، التي ترى في الآخر مرآة لا خصمًا، وفي الاختلاف فرصة لا تهديدًا.

إن ازدهار الثقافة لا يكمن في التشابه، بل في قدرة المختلفين على التعايش داخل نسيج واحد دون أن يفقد أيٌّ منهم لونه الخاص. فالثقافة المتعددة هي التي تدرك أن التناقض ليس عيبًا، بل طاقة خلاقة تدفع الفكر نحو السؤال والتجريب والاكتشاف. إنها الثقافة التي تخلق من التباين انسجامًا، ومن الصراع حوارًا، ومن اللقاء معنى يتجاوز الذات والآخر معًا.

ولعلّ السؤال الأعمق الذي يجب أن يُطرح ليس: هل يمكن للثقافة أن تزدهر دون تنوع؟ بل: هل يمكن للإنسان أن يكون إنسانًا حقًا دون أن يرى نفسه في عيون المختلف عنه؟ فالثقافة التي لا تعترف بالآخر تفقد مرآتها وتعيش في ظلال ذاتها المعتمة، بينما الثقافة المتنوعة تُضيء بالعقول التي تتقاطع دون أن تنصهر، وتلتقي دون أن تتشابه. فحيث يوجد الاختلاف، توجد الحياة، وحيث يوجد التعدد، تبدأ الثقافة في الازدهار.



#صالح_مهدي_محمد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كانت أحلاما
- دور القراءة في الوعي
- الراتب ومحاولة الاقتصاد في الصرف
- يوم منظم... أو هكذا نعتقد!
- القراءة... سؤال الوعي في زمن السرعة
- رجل المعرفة… أو هكذا يظن!
- التاريخ يعيد نفسه
- قصة قصيرة : حارس النسيان
- اللمسة الأولى
- بين الإنسانية والسياسة وحدها تظهر ملامح الاستكبار
- قصة قصيرة : دكّان الضوء
- قصة قصيرة : العائدون من الغياب
- مقال بعنوان : لغة الإعلام السياسي وتوصيفات الخطاب
- الإدراك والفهم السياسي المجتمعي بين الوعي والممارسة
- قصة قصيرة وجوه الذاكرة
- نص : أماكن للتنزه
- السياسة والاعلام في زمن التواصل الاجتماعي
- عدنا ولكن
- لا يجيبني البحر
- رثاء إلى أبي


المزيد.....




- المنازل الذكية.. كيف تجعل المستشعرات المنزل ذكيا مع الحفاظ ع ...
- في الذكرى العاشرة لهجوم الباتكلان، كيف تتعامل فرنسا مع الخطر ...
- بدء التجنيد بعد شهر.. هكذا ستكون الخدمة العسكرية الألمانية ا ...
- هجوم بمسيّرات يستهدف مروي والجيش السوداني يتهم الدعم السريع ...
- ما الذي تغير بعد مرور 10 سنوات على هجمات باريس الدامية؟
- العفو عن صنصال.. ألمانيا تمنح -طوق نجاة- للجزائر وفرنسا؟
- دراسة: كيف تضاعف عدد الأطفال المصابين بارتفاع ضغط الدم في ال ...
- صورة -صادمة- لانتهاكات؟ كيف تم التفسير الخاطئ لصورة قمر اصطن ...
- السوداني يقول إنه منفتح على العمل مع كل القوى السياسية في ال ...
- ما حقيقة المشاهد المتداولة عن تحرير المصريين المختطفين في ما ...


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - صالح مهدي محمد - ثقافة الاختلاف والتعدد : هل يمكن للثقافة أن تزدهر دون تنوع؟