أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - خمسة أسابيع في دمشق















المزيد.....



خمسة أسابيع في دمشق


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 04:51
المحور: الادب والفن
    


1
كنت متردداً بالسفر إلى سوريا عن طريق مطار بيروت، وذلك لخشيتي من سيطرة حزب الله الأمنية. فمنذ عام 2005، بدأت بكتابة مقالات سياسية تفضح نظام الأسد والمحور الإيراني؛ وكنت تقريباً الكاتب السوري الوحيد في موقع " إيلاف " الالكتروني. وقد نشرتُ بعد ذلك بسنوات، مقالاً بعنوان " حكايتي مع حزب الله "، أستعرضت فيه ردة الفعل إزاء كتاباتي ومختلف التهديدات، التي وصلتني سواء ضمن مقالات أو بالايميل. آنذاك، حذرني الصديق الفنان بشار العيسى، الذي كنت قد تعرفت عليه شخصياً في باريس، بعدم السفر حتى إلى دول مثل لبنان ومصر والإمارات وتركيا!
حجزت إذاً تذكرة سفر عن طريق مطار بيروت، بعدما طمأنني الأصدقاء بأن الدولة اللبنانية كفت يد حزب الله عن المطار والمنافذ الحدودية. لكنني في طابور الإنتظار بمطار ستوكهولم، أجتمعتُ صدفة مع أحد مناصري ذلك الحزب، وكان بالأصل من إحدى قرى جنوب لبنان. بالنظر لنقاشه معي، المتسم بشيء من العصبية الطائفية، أستغربت حينما علمت منه أنه كان عضواً بالحزب الشيوعي اللبناني وذهب للدراسة في موسكو بأواسط الثمانينات. في حقيقة الحال، أنه فتح النقاش معي عقب علمه أنني كرديّ. وبحسب كلامه، أنه كوّن صداقات عديدة مع الكرد أثناء الدراسة.
من الجو بدت بيروت مدينة كبيرة وحديثة، تنبثق منها الأبراج، فيما لاحَ جانبٌ من الضواحي رثاً؛ وأعتقد أنه مسكونٌ من قبل اللاجئين الفلسطينيين. ضابط المطار، وبالرغم من امتلاكي لباسبورت سويدي، طلب مني إثبات أنني سوري. جادلته بأن حامل الباسبورت الأوربي يحق له فيزا 90 يوماً، إلا أنه أصر على منحي فيزا ترانزيت ليوم واحد. خارج المطار، كان السائق بانتظاري؛ وهو من الحارة أصله من عفرين وله صلة قرابة بزوج ابنة عمي. كان رجلاً طريف الطبع، وقد اتسمت قيادته للسيارة بالمهارة والالتزام بالسرعة المحددة. لكنه كان طوال الطريق يبدي انزعاجه من طريقة اللبنانيين في السياقة، التي يغلب عليها الفوضى والاستهتار بالآخرين. أيضاً كان الإسفلت في غاية الرداءة، طوال طريقنا حتى الحدود السورية. في البدء، كان طريقنا يمر من الضاحية الجنوبية، فلحظت أن صور نصرالله وشعارات حزبه قد أزيلت بالكامل. الضاحية تطورت بشكل كبير، وذلك بفضل المال الإيراني بالطبع. لكن هنا وهناك، كانت تلوح بعض العمارات المدمرة، بفعل القصف الإسرائيلي في الحرب الأخيرة. مدن جبل لبنان، وخاصة عاليه وبحمدون، لحظتُ أنها صارت أيضاً كبيرة وحديثة. في شتورا، تناولت والسائق فطائر اللحمة اللذيذة في أحد المطاعم، وكان معظم الزبائن أيضاً من السوريين العائدين لبلادهم عن طريق مطار بيروت.
موظف الحدود على الجانب السوري، أبدى دهشته من البطاقة الجامعية، التي تخصني، ويرجع تاريخها لعام 1977. ترك مكانه، وما لبث أن عاد مع أحد المسئولين. أوضحت لهذا الأخير، عندئذٍ، بأنني لم يسبق لي زيارة سوريا منذ ما يزيد عن 37 عاماً وقد فقدتُ بطاقة الهوية. فبدأت الهمهمات تسري في صف المراجعين ( وكان أغلبهم مثلي قادماً من أوربا )، فهنأني بعضهم بالسلامة وقد عبّر عن دهشته وتعاطفه. المسئول كان لطيفاً ومتفهماً، وسرعان ما طلب من الموظف أن يختم باسبورتي. هكذا عدنا إلى السيارة، لكي نتابع طريقنا؛ وهذه المرة على الأراضي السورية.

2
بعد إنتهائنا من إجراءات الحدود، تحركت سيارتنا باتجاه مدينة دمشق، فلحظت أن اسفلت الطريق كان جيداً مقارنة بمثيله في لبنان. وعلى نفس النحو من المقارنة، لم يعُد السائق يتذمر من فوضى السيارات، والتي كانت حقاً تسير بشكل نظامي وبسرعة معقولة. كنا نجتاز الأوتستراد على طريق الديماس، وكانت شمس الظهيرة الدافئة تجعل للجبال ألواناً تذكّر باللوحات الإنطباعية. بوصولنا إلى يعفور، لاحت مجموعة كبيرة من الفيلات والأبنية الحديثة، فأشار السائق نحوها قائلاً: " هذه كانت مساكن ضباط النظام، وهي الآن خالية تقريباً ". ثم ما لبث أن مد يده إلى الموبايل، لتصدح منه أغنية " أرفع راسك فوق أنت سوري حر ". ثم حدثني عن ليلة سقوط الأسد، وأنه كان عائداً من بيروت وحيداً بعدما أوصل أحدهم إلى المطار هناك: " أستغربت من خلو الحواجز من العساكر، الذين كانوا يبتزوننا بالمال وعلب السجائر. وعند وصولي إلى المزة، دهشت أكثر لمرأى قوافل من سيارات مختلفة الموديلات، ومنها التي تحمل مفروشات، لأعلم من بعضهم أنهم ينزحون باتجاه قراهم في الساحل ". ثم أضاف بنبرة تهكم، وهو يعب من دخان سيجارته: " إنقلب الزمن، وصاروا هم النازحون! ".
كانت حواجز الأمن العام قليلة على الطريق، وعندما نصادف إحداها فإن العناصر كانوا يحيوننا مع إشارة إكمال المسير. كانوا شباناً وسيمين، بلحى خفيفة شقراء غالباً. قال لي السائق: " أغلبهم من إدلب، وهم بغاية التهذيب ". إلى أن أوقفنا أحد العناصر على حاجز، وكان إلى جانبه شاب في مبتدأ العشرينات: " لو كان طريقكم من المزة، ممكن توصلوا هذا الأخ؟ "، قال العنصر للسائق. هكذا ركب الشاب في المقعد الخلفي، وبقي صامتاً طوال الطريق. في الأثناء، أشار لي السائق نحو أسوار أنيقة، تجللها أشجار وارفة: " هذه هي السومرية، ومن هنا إنطلق أغلب أولئك النازحين باتجاه الساحل ". ثم أضاف بنبرة ساخرة: " بنوا هذه الأسوار، وكان باعتقادهم أنهم سيخلّدون خلفها! ". ثم عاد وفتح الموبايل على إحدى أغاني الثورة، قبل أن يشير إلى إحدى الفيلات الفخمة: " هنا كان مسكن رفعت الأسد، ويقال أنه عاد إليه بعدما هرب من أوربا ". وسط أبنية المزة الشاهقة، التي تحف بالأوتستراد من الجانبين، أحسست كما لو أنني أسير في وادٍ بين الجبال. ما لبث الشاب أن طلب من سائقنا التوقف، ثم شكره ونزل. قال لي السائق، ضاحكاً: : هل انتبهت إلى لهجته؟ إنه من السومرية، والمسكين بقي صامتاً بينما أنا أردح على جماعته! ".
بخروجنا من أوتستراد المزة، كان زحام السيارات على أشده فيما الساعة تشير إلى الرابعة؛ وهي ساعة خروج الموظفين من أعمالهم. في مبتدأ جسر الثورة، بقينا دقائق طويلة نصارع الزحام، فيما كنت أنتهز الفرصة لكي أملي عينيّ من مشاهد وسط الشام. أبراج عديدة، بنيت في خلال غيابي عن البلد، مثلما أن الصور المؤذية لآل الأسد قد أختفت بطبيعة الحال، ليحل بمكانها إعلانات تجارية. إجتزنا من ثم نفقين، وذلك قبل أن تدخل السيارة إلى أوتستراد الفيحاء، الذي يربط ركن الدين بمركز المدينة. ثم تفاقمت دهشتي، لرؤيتي العدد الهائل من السيارات بمجرد ولوجنا إلى الحي عند مفرق ساحة شمدين. بعدئذٍ ارتقت السيارة باتجاه جادة أسد الدين شيركوه، التي تنفتح من الجانب الشرقي لتلك الساحة. الجادة كلها تقريباً أضحت غريبة لعينيّ، بعدما أرتفعت الأبنية الحديثة بمكان البيوت القديمة. عند جامع كردان، طلبت من السائق أن يتوقف: " ذلك البيت ذو الباب السماوي اللون، هو مسكن شقيقتي الكبيرة "، قلت له مشيراً إلى تلك الناحية. بعد دقيقة، ولجت مع حقيبتي من باب البيت، الذي تركته شقيقتي مفتوحاً.. ثم كان هناك عناق وقبلات ودموع.

3
منزل شقيقتي، لم يتغير كثيراً عليّ. ما زال من البيوت القليلة على جادة أسد الدين، التي لم ينهض بعد في مكانها أبنية حديثة. ما تغير في المنزل، هو رفع سقيفة من الصاج لتغطية أرض الديار، بسبب انكشافها من قبل الأبنية العالية المجاورة. عريشة المجنونة، ما فتئت مزدهرة ومزهرة، كذلك شجرتا الليمون والنارنج تحملان الثمار بكثافة. أما عريشتا العنب والياسمين، فقد سبق لهما أن تجمدتا في إحدى السنين الباردة ـ كما أخبرتني شقيقتي وهيَ تتنهد.
مع أنني حرمت لأكثر من 24 ساعة من النوم، بسبب ظروف السفر، رأيتني أشعر بلهفة لرؤية الحارة.. وأقصد منطقة رأس الحارة، التي يقع فيها زقاق الميقري؛ أين مسكن أسرتنا. فما أن أرتحت لساعة أو نحوها، وانتعشت بشرب القهوة، إلا وطلبت من شقيقتي أن نذهب إلى تلك الجهة. كان الوقت يميل إلى الغروب، وقد أضيئت المتاجر على جانبيّ الجادة. زحام السيارات كان في ذروته، بالرغم من أن البلدية جعلت مرور المواصلات على الجادة باتجاه واحد. لكن سبب الزحام هنا، كما في معظم مناطق الشام، هو ركن السيارات على جانبي الشارع. ولعل أكثر ما يزعج الناس، فوق فوضى المواصلات، يتمثل في الدراجات النارية، التي تسير بسرعة جنونية مع زعيق صاخب: " عناصر الأمن العام في الحارة، يصادرون كل يوم المزيد من هذه الموتورسيكلات، التي يستأجرها الفتيان لداعي التسلية والمغامرة "، قالت لي شقيقتي.
جادة أسد الدين، تغيّرت عليّ تماماً، وذلك لاختفاء البيوت القديمة بشكل شبه كامل. وهذا حال مداخل الأزقة، سواء التي تنفتح إلى ناحية الجبل أو النهر. على ذلك، لم يكن غريباً أن أبادر كل حين بسؤال شقيقتي عن الأماكن، التي نمر بها. لحسن الحظ، أنهم جعلوا مكاناً للمشاة تحت أسقف الأبنية، وإلا سيضطر المرء للسير على الجادة حيث تمر السيارات. جانبا الجادة، من ساحة شمدين في غرب الحي إلى جامع سعيد باشا في شرقه، شكلتا سوقاً حافلاً بمختلف أنواع المتاجر فضلاً عن المطاعم ومحلات الحلويات والمرطبات ودكاكين السمانة والخضار والفواكه. بل إن بعض متاجر الألبسة والمصنوعات الجلدية، تضاهي مثيلها في أسواق مركز المدينة: " كأنما شارع الشعلان، قد أنتقل إلى حي الأكراد! "، قلت لشقيقتي.
مساجد الحي الأثرية، أكثرها يعود للعهد العثماني، باستثناء جامع ركن الدين منكورس الأيوبي. لقد حظيت جميعاً بالترميم والتجديد، خصوصاً جامع حمو ليلى. وها نحن نمر من جانب جامع يونس آغا، الذي صار يتمتع بواجهة جميلة من الحجر. منزل علي زلفو آغا، الذي سبق لوزارة التربية أن حولته إلى مدرسة إبتدائية، أرتفع في مكانه عدة أبنية حديثة؛ إحداها خصص كمدرسة أيضاً. في ذلك المنزل، الشبيه بالقصور الدمشقية، سبق لي أن درست وأكملت الإبتدائية. ثمة معلم آخر، مررنا به. إنه دكان مرعي كحلة، المتخصص ببيع مشتقات الحليب، وأضحى قابعاً بأسفل بناية حديثة. بعد خطوات منه، ينفتح مدخل أحد الأزقة، أين ترتفع بناية كان يملكها عمي الكبير وتسكن أسرته في إحدى شققها. بعد دقائق قليلة من المسير، أشارت لي شقيقتي لبناية أخرى: " هنا كان يسكن المرحوم خالك، وأرملته أنتقلت إلى شقة ابنها. سنزورها غداً لو أحببت؟ ". الظلام خيم بسرعة، بما أننا في أواخر الخريف، لكن الجو دافئ. نسير الآن تحت بناية أقاربنا، آل شيخي، التي أقتصرت اليوم على أحد أبنائهم بعدما مات من مات وهاجر من هاجر.

4
الطريق العام، يتصالب عند مدخل حارة الكيكية؛ خط يأتي من شارع ابن النفيس صعوداً إلى الحارة وحتى المنحدرات الجبلية، وخط آخر يكمل جادة أسد الدين حتى مستشفى ابن النفيس. في الجهة اليمنى من الطريق العام، كان يوجد في زمني فرن أبي معروف علاوة على منازل آل بيزكي وشيخ عيسى وكالو كيكي. هذا الأخير، كان يضم بستاناً واسعاً فيه مختلف أنواع الأشجار المثمرة، ويطل مباشرة على نهر يزيد. اليوم، صار المكان بقعة جرداء خالية من العمران، ويقال أن البلدية ستنشيء فيها ملعباً حديثاً. صالونات السرفيس ( سوزوكي ركن الدين )، تصطف على طرف تلك البقعة، بانتظار أن تمتلئ بالزبائن، الذين يقيمون في المنحدرات الجبلية. تسجيلات هذه السرافيس، تطلق جميعاً أغانٍ صاخبة.. وكأنما لا يكفي المارة وساكنو الأبنية المجاورة، ما تصدره الدراجات النارية من إزعاج !
أنتقل وشقيقتي إلى الجهة اليسرى من الجادة، لنسير تحت أسقف الأبنية الحديثة، والتي ينفتح منها أيضاً عدد كبير من المتاجر، المتخصصة ببيع مختلف البضائع، فضلاً عن محلات السمانة والحلويات والمطاعم. بسطات بائعي الخضار والفواكه، تصطف على جانب الطريق المنحدر إلى شارع ابن النفيس، وكل منها قد أوقد فانوساً كبيراً يُضاء بالبطارية. في واقع الحال، أنه بالنظر لأزمة الكهرباء، فإن الأهالي في عموم البلد قد ابتدعوا إنارة بواسطة هذه البطاريات؛ فيعتقد المرء الغريب، أنها إنارة حقيقية. لكن ملجأ الكيكية، يُطبق عليه الظلام الدامس، باستثناء جهته المطلة على الطريق العام، أينَ تنبثق الأشجار كأنها أشباح. على طرف السور الأنيق للملجأ، أشيدَ نصبٌ حجريّ لتمجيد ذكرى ما يزيد عن ألفي شهيد من الحي، قتل معظمهم تحت التعذيب في أولى سنوات الثورة السورية.
الدخلة، بتعبيرنا الشعبي، هيَ زقاق مسدود. في هذه الجهة من الجادة، سنمر أولاً بما كنا ندعوها " دخلة أم زهير العلوية "، وبعد دقيقة من المسير، تنفتح " دخلة آل Papo ". هنا وهناك، إنتصبت الأبنية الحديثة في مكان البيوت القديمة. كنت قد مررت من تحت بناية أصدقائي، من آل شمو آله رشي، ثم بناية أقاربنا من آل حسو إيزولي. عند بناية آل بلدية آله رشي، ينفتح مدخل زقاقنا؛ المعرّف بكنيتنا. هذا الزقاق، كان جدّنا الأول قد أشاد فيه أول مسكن. ولغرابة الأقدار، أن هذا المسكن كان الأخير في الزقاق، الذي تحول إلى بناية حديثة. سألتني شقيقتي عندئذٍ: " هل تود رؤية عمارتنا الجديدة؟ ". فأجبتها، أننا قد نفعل ذلك عقب عودتنا من زيارة ابنة عمنا.
ابنة العم، مقيمة في بناء الوجيه بديع ديركي، الذي كان صديق عُمر والدي. لقد كتبتُ عن ذلك البيت القديم في سيرة ذاتية منشورة، ولقد كان حقاً جنّة طفولتي. ذلك المنزل الكبير للغاية، كان مكوناً من قسمين تفصل بينهما حديقة كبيرة، حافلة بالأشجار المثمرة والورود والأزهار والصبار والشوكيات. كرمة كثيفة من نوع العنب الحلواني، كانت فروعها مهيمنة على سقالة خشبية، تغطي كل ممر الحديقة. آنذاك، كان صاحب المنزل يعمل بالتجارة في رومانيا، فيعود إلى الشام صيفاً كي يقضي بضعة أشهر. في كل مرة، كان يجلب ألعاباً رائعة لأولاد أخوته؛ لكنهم كانوا من البطر أن يهملوها، فتصبح غالباً من نصيبي.

5
الزقاق، المعرّف بكنيتنا، شهدَ قبل ما يزيد عن 37 عاماً مغادرتي له إلى مطار دمشق الدولي، مستقلاً سيارة خالي. وها أنا ذا أعود إلى الزقاق في ليلة خريفية دافئة، لكنني أكاد أنكره. فباستثناء منزل جميل مللي، الكائن في صدر الزقاق، فإن جميع البيوت القديمة قد اختفت وظهر بمكانها عمارات حديثة. عندما بدأتُ وشقيقتي ارتقاءَ درب الزقاق، أخذت هيَ تنعش ذاكرتي بالأمكنة وأصحابها: " هذه بناية قريبنا أبو يوسف نيو.. هذه بناية آل علكي آله رشي.. هنا بناية آل كري عيشة.. هذه بناية زينو هرطوشي، لكن المسكينة ماتت قبل أن تسكنها! "..
مع أنها لم تكن ساعة متأخرة من الليل، فإن الزقاق كان مقفراً من الخلق. عدا بعض الفتية، المتجمعين عند أحد المحلات التجارية. انتبهت أيضاً إلى أن زقاقنا أضحى مفتوحاً على زقاق الآله رشية، وذلك عقب إزالة معظم بيت جارنا أبي محمد حسني، وقسماً كبيراً من بيت حج عبده آله رشي في الجهة المقابلة. كذلك، أصبح هناك ممر إلى زقاق الكيكية من منتصف زقاقنا، بعدما كانا يتصلان فقط من الجهة العلوية. وها هيَ العمارة الحديثة ذات الواجهة الحجرية الجميلة، التي كانت قبل شهور قليلة تضم بيتنا وبيتيّ الأعمام. كلمة " محضر "، أصبحت سائدة على لسان الجميع، وتعني أرضاً يشتريها المتعهد لكي يشيد عليها عمارة جديدة بمكان البيت القديم. في الأحلام، طوال غربتي المديدة، كان هذا المنزل حاضراً غالباً؛ بدهليزه الطويل المسقوف؛ بأرض دياره ذات الفسحة السماوية، المظللة بعرائش العنب والمجنونة والياسمين؛ بالحديقة، التي كان يعشقها أهل الحارة وعُرفت باسم أبي، " جنينة جميل "؛ بحجرتي، المتصلة مع حجرة الصالون، وكان أصدقائي يدعونها تارة بالكهف وتارة أخرى بالخلوة !
تذكرتُ أيضاً مكتبتي، وكانت تضم أكثر من ألف كتاب؛ ومنها المؤلفات الكاملة لروائيين مفضلين، مثل دستويفسكي وتورغينيف ونجيب محفوظ وغسان كنفاني وغيرهم. في خلال أعوام غربتي، وصلني عدد من تلك الكتب، وخاصة مجموعة المدونات التاريخية عن دمشق في العهد العثماني. بفضل هذه المجموعة خصوصاً، تمكنت من إنجاز كتابة خماسيتي الروائية " أسكي شام "، التي نشرتها في أحد المواقع الالكترونية. لو أن أولادي الثلاثة كانوا يجيدون القراءة بالعربية، لشعرت كثيراً بالحزن على فقدان مكتبتي. هذا ما لو علمنا، أنها تحوي أيضاً مقتنيات تاريخية وأدبية، تخص والدي وأبيه.
ولجنا إلى داخل العمارة، المكونة من أربعة أدوار، مستعملين بطارية الجيب للإنارة. كان برفقتنا ابن عمي، الذي يقيم في الطابق الأخير، وشقته هي الوحيدة المسكونة بعدما أكمل تلبيسها وتأثيثها. مقابل بيتنا الكبير ذي الحديقة الخلابة، حصلنا على شقتين غير مكسيتين. يتعين علينا بيع الشقة الأصغر، لكي نتمكن من سداد مصروفات تلبيس وتأثيث الشقة الأكبر. هذه الأخيرة، تقع في الدور الأرضي ويحظى جانبٌ منها بمساحة معقولة لجعلها حديقة.. ولكن، هيهات أن تغدو بكبر وفتنة " جنينة جميل "، التي اقتلع البلدوزر أشجارها المثمرة وعرائشها وورودها وأزهارها.

6
ربما لحظ من قرأ انطباعاتي عن أحوال الحارة ( حي الأكراد )، أنها اتسمت بشيء من الإحباط والخيبة. إلا أنني، للحق، لست متشائماً بشأن مقدرة البلد عموماً على النهوض بعد حوالي 14 عاماً من حرب النظام على الشعب السوري، وما جرّت من دمار ومآسٍ وخراب اقتصادي وتعطيل للبنية التحتية. كما أنني أشرت فيما سبق من هذه الذكريات، لمبادرة الناس في تحدي الشروط القاسية تلك، بما أوردته عن مثال الكهرباء البديلة. ولقد قلت لشقيقتي، بنبرة جدية متماهية مع الدعابة: " تصورت أنك ستستقبلينني، أول وصولي لبيتك، وفي يدك شمعة للإنارة أو قنديل كاز! ".
شوقي لرؤية وسط دمشق، كان يضاهي مثيله بخصوص الحارة. ذلك أنني في خلال مروري باليوم السابق من مركز المدينة، حينما وصلناها بالسيارة قادمين من بيروت، لم يتهيأ لي سوى مشاهدات عابرة. هكذا في عصر اليوم التالي، أخذنا سيارة أجرة إلى تلك الجهة، وكانت ابنة العم بصحبتنا. على خلاف المغرب، فإن عداد التكسي في سوريا لا يعمل؛ ويجب مساومة السائق قبيل الإنطلاق. ركوب التكسي هنا، أغلى من مثيله في المغرب، إلا أنه بالطبع جد رخيص بالنسبة للقادم من أوربا. طلبت من السائق، وكان شاباً في مقتبل العمر، أن يأخذ طريق ساحة شمدين والميسات وصولاً إلى المدينة: " لأنني أرغب برؤية ما جرى من تغيّر في تلك الجهة ". سألني الشاب عندئذٍ، ما إذا كنت قد غادرت البلد في خلال الأحداث، فأجبته بالقول: " بل من أيام الجحش الكبير! ". هز رأسه، وقال باقتضاب وبشيء من التردد: " والده كان أكثر حكمة منه ". انتبهت عند ذلك، أن لهجة الشاب تدل أنه من ريف الساحل. في الأيام التالية، سأركب مع العديد من مواطنيه، السائقين. لقد اعتادوا أيضاً على التكلم بصراحة، حالما يعرفون أنك كرديّ !
اعتباراً من ساحة شمدين، يمكن ملاحظة العمارات الشاهقة، وأغلبها أشيد عقب مغادرتي البلد. أيضاً طريق برنية، المتفرع إلى الحارة من ساحة الميسات، أضحى منطقة سكنية راقية. مقام ستي حفيظة، الكائن في وسط ساحة الميسات، يكاد لا يظهر بسبب كثافة الأشجار. بما أنها ساعة خروج الموظفين، فإن زحام المواصلات كان على أشده طوال الطريق، وبالأخص في ساحة السبع بحرات. لاحظت أن الساحة زينتها كرة معدنية كبيرة، شكلها غريب ومنفّر. ومن شارع العابد إلى مبتدأ شارع الحمراء، أين ستكون محطتنا الأولى. الأنوار، أضيئت في متاجر الشارع، المتراصفة على الجانبين، إلا أن حركة المتسوقين كانت ضعيفة. كوني بصحبة سيدتين، فإن عليّ تحمل دقائق من الانتظار عند كل متجر، وخصوصاً ذلك الذي يعرض ملبوسات نسائية !
أخيراً، انتقلنا من شارع الحمراء إلى ساحة عرنوس، التي كانت شبه معتمة. في تلك الساحة، كان ينتصب تمثال المقبور وخلفه مجسّم كبير لعلم النظام. حطم الناسُ التمثالَ في يوم سقوط الأسد، ومن ثم تم صبغ علم الاستقلال على المجسّم. ثمة، التقطت أول صور لي في رحلتي هذه. الساحة تشكو من قلة النظافة، كما أن أشجارها تبدو عليلة ومتهالكة. أكثر الخلق المتواجدين، بدا من هيئاتهم ولهجاتهم أنهم من المناطق الشرقية؛ ديرية وبدو. أيضاً المتسولون، وغالبيتهم أطفال وفتيات، كانوا عموماً من تلك المناطق. في الجهة الأخرى من الساحة، وكانت ساطعة بالأنوار، جلسنا نأكل البوظة في محل شهير. مر أحد أولئك الصبيان، وعرض عليّ شراء دستة مناديل. قلت له وأنا أناوله مبلغاً: " خذ هذه، فأنا لا حاجة لي بالمناديل ". ردّ عليّ عابساً: " أنا لا أشحذ! "، ثم مضى في سبيله. حينما لحظته بعد دقائق، ناديته ثم اشتريت منه دستة. قالت لي شقيقتي، عقب رؤيتها للمبلغ الذي منحته للطفل: " مع الشحاذين استعملْ ورقة الألفين وليس الخمسة آلاف ". كررتُ لها قول الفتى، بأنه يعمل ولا يتسول.

7
صديقُ العُمْر؛ ليسَ بالضرورة أن يكون رفيقَ الطفولة أو الصبا، ولا حتى من بيئتك أو تجمعك به نفس الأفكار والمعتقدات. من ناحية أخرى، قد تنقطع صداقتك معه سنينَ طويلة، لداعٍ من الدواعي؛ بسبب الهجرة من الوطن، مثلاً. كما في حالتي، أنا من بقيتُ في المهجر ( المنفى ) قرابة الأربعة عقود. الغريب، وهذا أمرٌ شخصيّ بحت، أنني في هذا المهجر لم أحظ بهكذا صداقة، بالرغم من طول تلك المدة وتعرّفي على الكثير من الأشخاص. مع أنني لستُ من النوع المتطلّب؛ كأن أجعل المستوى الثقافي، شرطاً لبناء هكذا صداقة.
وإذاً، لا غروَ أن يخفق قلبي فرحاً حينما هاتفني أحد أصدقائي المغتربين، ليعلمني أنه في الشام وينتظر أن نلتقي بعد فراقٍ دامَ عقوداً من الأعوام. إنه صديقي الإعلامي، أحمد حسو، المقيم في ألمانيا، وكانَ قد غدا مثلي في سنّ المعاش. لاحقاً عندما تحقق اللقاء، سأتعرّفُ على زوجته، السيدة لاريسا بندر؛ المترجمة الأدبية، المتألقة. لقد امتلكا شقة في مساكن برزة، إلا أنهما حرما من المجيء إلى سوريا طوال أعوام الأزمة. ولحسن حظي، فوق ذلك، أن صديقنا الفنان المبدع، زهير حسيب، يعيش في نفس تلك المنطقة، وسأحظى بلقائه أيضاً.
ها أنا ذا عائدٌ من المدينة مع شقيقتي وابنة عمي، وكان الوقتُ بأول المساء: " سأزور صديقي كمال ثم ألحق بكما "، قلتُ ذلك وأنا أهمّ بفتح باب العمارة. صديق العمر الآخر، كمال آله رشي، يقيم هنا في الدور الأول. لم أتصل به قبل المجيء لمنزله، إلا أنني قدّرتُ أنه يعلم بوجودي في دمشق من خلال خبرٍ نشرته في صفحتي بالفيسبوك. فتحَ لي الباب بنفسه، وكانت رؤيته لي مفاجأة ولا ريب. من ثم أخذني في عناقٍ حميم، بحجم أعوام الفراق المديدة. لقد أضحى صديقي جدّاً، وكان أحد أحفاده قد أخفى نفسه خلفه حالما رأى الضيفَ الغريب.
بعدئذٍ جلسنا على الشرفة، المطلة على مدخل حارة الكيكية. ثمة في الأسفل، كان يهدرُ ضجيجٌ هجين من أصوات الدراجات النارية، المنطلقة بسرعة جنونية، إلى الأغاني الصاخبة، المبثوثة من تسجيلات السرافيس ( سوزوكي ركن الدين )، علاوة على أحاديث الفتيان، الذين يقضون السهرة على طرف الشارع. كانَ الجو ما زال دافئاً، فاقترحَ المُضيف أن يجهز لي النرجيلة ( الشيشة ). بعد قليل، أختلط عبقُ القهوة المهيّلة مع رائحة المعسّل، الحرّيفة. وبالطبع، كانَ ثمة أحاديث كثيرة بيننا، مبعثها أسئلتي عن أخبار الأصدقاء وأحوالهم. بعد نحو ساعة، رافقني صديقي إلى شقة بنت العم لكي نكمل سهرتنا هناك.

8
أكثر ما آلمني في خلال وجودي بالحارة، هوَ ما سمعته من تفاصيل عن معاناة الناس أيام النظام الساقط؛ من حواجز عسكرية تبتز المارة، إلى دوريات أمنية تزرع الرعب في أفئدة الكبار والصغار، علاوة على فقدان أسباب العيش بسبب انهيار العملة وارتفاع الأسعار. قصص المعتقلين من أبناء الحي، أحياءً وشهداءَ تحت التعذيب، كانت وما زالت جرحاً نازفاً لا يلتئم. لقد قدّم الحي ما يزيد عن الألفيّ شهيد، معظمهم قضوا في سجن صيدنايا المشؤوم.
صديقي كمال، كانَ من الممكن أن يكون الآن في عداد أولئك الشهداء. إنه معروفٌ بنشاطه المعارض منذ فترة ما يُسمى ب " ربيع دمشق "، باشتراكه في التجمعات والاعتصامات وما لاقاه من ضرب وسحل في الشارع على أيدي زبانية النظام. ثم واصل نشاطه أيام الثورة السورية، سواءً في التظاهرات أو بايصال المعونات لأهالي الغوطة. وهكذا نشاط، كما هوَ معروف، كان من الممكن أن يؤدي إلى الاعتقال ومن ثم التصفية تحت التعذيب. وكم أثّرَ فيّ، ما قاله لي في تلك الأمسية، التي شهدت لقاءنا الأول: " ليلاً كنتُ أبقى بملابس الخروج، متحسباً لاحتمال اعتقالي. كنت أنام على الشرفة، وأكثر من مرة فكّرت برمي نفسي منها لو أنهم داهموا المنزل ". لحسن حظه، أنهم أخيراً فتحوا المجال لتسوية أوضاع الملاحقين، فتنقل من فرع أمني إلى آخر قبل أن يحظى بالعفو.
كذلك شقيقتي، حدثتني عما لاقته أثناء اعتقال ولديها، الذي تم في عصر أحد تلك الأيام. كان الكبير هوَ المطلوب، وبالصدفة خرجَ شقيقه الأصغر من حجرة النوم لكي يستفهم عن جليّة الأمر، فقال رئيس دورية الأمن لعناصره: " هاتوا هذا أيضاً! ". بقيا في المعتقل عدة أيام، ورفضا التوقيع على ورقة تفيد باشتراكهما في المظاهرات. ما أنقذهما أخيراً، هوَ شهادة معلم الابن الكبير ( كان من ريف الساحل )، التي كانت لصالحه.
أقارب صهري، فقدوا سبعة من أبنائهم في سجن صيدنايا. أخبرتني شقيقتي عن أحدهم، وهوَ الناشط الثوري الشاب، رودين عجك: " ابني الصغير، وعلى غير العادة، صارَ يفضل النوم ليلاً على الأريكة في أرض الديار. لأعلم فيما بعد عن طريق المصادفة، أن رودين كان يتسلل من على السطح إلى بيتنا، باتفاق مع ابني الصغير، الذي كان يخفيه إلى حين مغادرة دورية الأمن ". تم اعتقال رودين في آخر المطاف، حينما كان في الطريق إلى بيروت: " ابنا خالك، شهدا وهما في المعتقل كيف أتوا برودين وعليه آثار التعذيب الشديد، فما لبث أن فارق الحياة في صباح اليوم التالي "، قالت لي شقيقتي وهيَ تغالب دموعها.
قصص تلك الاعتقالات، التي كانت تروى على ألسنة الأقارب والأصدقاء، حقّ لها أن تخالط سعادتي بالعودة إلى الوطن عقبَ عقودٍ من حرماني منه. بل إنني بتّ متآلفاً مع كابوسٍ، كان يقتحم منامي بين حين وآخر. وما زالت ذاكرتي، تحتفظ بتفاصيل ذلك الكابوس: رأيتني أتنقل في دروب الحارة، مبتهجاً ومستغرباً في آنٍ معاً. إذ خلت الطرقات تماماً من الناس، فيما ظلام الليل تخترقه أضواءٌ غامضة لألعاب نارية أو انفجارات. إلا أن قلبي خفق فرحاً، حينما أجتزتُ عتمة دهليز بيتنا، وصولاً إلى أرض الديار. وإذا أمي تستقبلني هاتفة بجزع، وعلى وجهها علامات الارتياع: " كيف تغامر بحياتك، وأنت تعلم اعتقالهم حتى لأشخاص لا علاقة لهم بالسياسة؟ ". أجبتها، أن النظام قد سقط. فقالت لي: " نعم، ولكن بوتين أعادَ ابنَ الحرام بعد ساعات من سقوطه! ".

9
ساعاتُ الصباح في منزل شقيقتي، كانت تذكّرني بمثيلتها في منزل جدّة ابني بمراكش. أفيق هنا على تغريد الطيور، المتقافزة على شجرتيّ الليمون والنارنج، والمتماهية مع ضجة الخارج؛ هدير السيارات والدراجات النارية، أصوات الجيران والباعة الجوالين. هؤلاء الأخيرين، باتوا يستعملون جهاز تسجيل عالي الصوت للترويج لبضائعهم، وهيَ طريقة لم آلفها قبل هجرتي من الوطن.
ولكن الفطور الدمشقي يختلف عن الفطور المغربي، الذي يغلب عليه أنواع من المعجنات المحلاة، كالمسمّن والبغرير علاوة على فطيرة الكرواسان. فيما فطورنا، كما هو معروف، يحفل بما ندعوه " الحواضر "؛ أي الزيتون والجبنة القريش والجبنة المشللة واللبنة والشنكليش والمكدوس والزعتر. أما أيام الجمعة، فيضاف إلى الحواضر فتة الحمّص ( التسقية ) والمسبّحة والفول المدمّس والفلافل. بخصوص الخبز، فإنه بعد التحرير أضحى متوافراً بالكمية المطلوبة، التي تحتاجها الأسرة، بينما النظام السابق كان يقننه لإذلال المواطنين وتجويعهم.
شقيقتي، كانت تُعدّ دوماً في عائلتنا بمثابة " الشيف "، وذلك لمهارتها في الطبخ وتحضير المعجنات والحلويات. أيضاً، هيَ من كانت تقوم بإعداد المكدوس والزيتون واللبنة وأنواع المخلل والمربى. بفضلها، حفلت إجازتي بكل ما أشتهيه من المأكولات؛ كالفريكة والكبسة والمحاشي والملوخية والصفيحة ( اللحم بالعجين ) واللحمة بالصينية وغيرها. كذلك حظيتُ بطبخة الخبيزة على أصولها، بعدما أخبرتها في أحد الأيام بأنني رأيتها في السوق، خضراء ويانعة.
من ناحيته، فإن صديقي كمال عزمني على طبخة الفول بالزيت حينما علمَ بأنها أثيرة عليّ. ذلك كانَ في اليوم الثاني لإجازتي، وكانَ الوقتُ عصراً. بعدئذٍ اقترحَ عليّ أن أرافقه إلى باب توما، بهدف تحصيل مبلغ من المال كتبرع للجان الحي، التي تساعد أرامل الشهداء وذويهم. قال لي: " لأنك ترغب برؤية دمشق القديمة، سنمر أولاً من سوق الحميدية حتى الجامع الأموي، ومن هناك نتمشى في القيمرية حتى نصل إلى باب توما ".
أخذنا السرفيس من موقف الكيكية، القريب من بيته. وكانت هيَ المرة الأولى، أستعملُ في دمشق وسيلةَ المواصلات الشعبية هذه. لحظتُ أنها أكثر رخصاً من المغرب، وبالطبع بسبب تدني دخل المواطن في سوريا عموماً. كالعادة، خاضت مركبتنا في لجّة زحام المواصلات، وهيَ في طريقها للمدينة عبرَ أوتستراد الفيحاء. إلى أن نزلنا عند شارع الثورة، لنيمّم شطرنا من ثم باتجاه سوق الحميدية. في خلال طريقنا، انتبهتُ إلى كثرة بائعي الرصيف، المختلطة أصواتهم بأصوات المتسولين. أشارَ لي صديقي إلى الناحية اليمنى من الشارع، متبسماً: " هل تذكّرته؟ إنه سوق الحرامية! ".
وها نحن نسيرُ بإزاء أسوار قلعة دمشق، ليلوح على الأثر تمثالُ القائد الكرديّ المسلم، صلاح الدين. ليسَ سيفُ ورمحُ صاحب التمثال قد فقدا، حَسْب، بل وأيضاً يداه. لم يكن الأمرُ يتعلق بالسرقة، مثلما أشاعت السلطات الجديدة، بل إنه فعلٌ عنصريّ مقصود من بعض جمهورها. هؤلاء وأشباههم، تراهم متواجدين بكثرة حول التمثال وبالقرب منه، إن كانوا باعة أو متسولين أو متسكعين. لحظتُ أيضاً أن الشوام ينظرون نحوهم بازدراء، وأحياناً يهمهمون بعباراتٍ تنم عن الضيق من وجودهم في ظهرانيهم.

10
على خلاف المتوقع، لم يكن ثمة زحام كبير في سوق الحميدية، الذي يُعدّ أقدم وأشهر أسواق المدينة. كذلك كان مشدداً تطبيق القانون، فيما يتعلق بمنع الباعة الجوالين من التواجد في المكان. ترميم السوق، أدى لأن تكون مداخل محلاته على نمط واحد، وقد جرى ذلك قبل حوالي ربع قرن، ما جعله شبيهاً ببازار اسطنبول وخان الخليلي في القاهرة. لكن حجم الحميدية، قد يكون ضعف هذين السوقين. كما أن تفرعاته عديدة، تتصل مع أسواق أخرى. والحميدية، منذورٌ خصوصاً لمحلات الألبسة، كتلك المصنوعة من الأقمشة الثمينة؛ الدمقس والبروكار، الذائعة الصيت في أوربا منذ القرون الخوالي.
" بوظة بكداش! "، قلتها لصديقي كمال مبتسماً حينما مررنا بإزاء المحل الشهير. بسبب الازدحام الشديد داخل المحل، كان عددٌ من الزبائن يتناولون البوظة خارجاً. كذلك لفت نظري علمُ النظام السابق، وكانَ ما زال يصبغ بعض المحلات المغلقة، التي ربما هجرها أصحابها وغادروا البلد في سنوات الحرب. لم يكن المساء قد حل بعد، إلا أن المتاجر جميعاً كانت منارة سلفاً بإضاءة مبهرة. في نهاية السوق، أين تنتصب الأعمدة الرومانية على الجانبين، لاحَ الزحامُ ملحوظاً لوجود الباعة الجوالين مع بضائعهم المفروشة على الأرض. لكن نظري كانَ مصوباً على المدخل المهيب للمسجد الأموي، ببابه العملاق، المفتوحة في أعلاه نوافذ ذات زجاج ملون. منذ يوم التحرير، جعلوا هذا الباب مخصصاً للرجال، بينما سُمح للنساء بالدخول إلى المسجد من باب آخر يقع في بقعةٍ تضم ضريح السلطان صلاح الدين.
أخذنا الجهة اليمنى، المؤدية إلى القيمرية، والتي سنعبرها لاحقاً نحو باب توما. سرنا إذاً خلل الممر، المفضي إلى مقهى " النوفرة " الشهير؛ وهوَ الممر، الكائن بين جدار المسجد الأموي وجدار تنفتح منه محلات تجارية متخصصة ببيع الأشياء التذكارية. خارج أحد تلك المحلات، لفتَ نظري مجموعة من صور صدام حسين. قلت لنفسي: " على الأغلب أن زبائن هذا النوع من البضاعة، هم من المنطقة الشرقية، الذين يعبدون الديكتاتور العراقي ويكرهون رفيقه السوري! ".
مقهى النوفرة، كانَ داخله خالٍ تقريباً، فيما عددٌ من الزبائن كانوا جالسين على التراس، وبعضهم يدخن النرجيلة ( الشيشة ). بدلاً من الإتجاه إلى ناحية القيمرية، رأيتُ صديقي قد سارَ نحو سوق البزورية. قال لي، أنه معتادٌ على شراء القهوة من أحد المحلات هنا. بعدما حصل على مطلوبه، عاد بي نحو وجهتنا المقصودة.
حي القيمرية، يفخرُ الكردُ بأن أول من وضع حجر أساسه، هوَ قائدٌ عسكريّ من بني جلدتهم؛ يُدعى أبو الفوارس القيمري، وكان من أمراء الدولة الأيوبية. أوابد أثرية، تنسب لأفراد من أسرة هذا القائد، متناثرة في الصالحية وأحياء دمشقية أخرى. أغلب بيوت القيمرية، هيَ من الطراز التقليدي، الذي ظهر في مسلسلات الدراما المحلية؛ بعضها تحول إلى فنادق ومطاعم ومقاهٍ، فاتوراتها باهظة ولا شك. إلا أن غيرها من المطاعم ومحلات الحلوى، الموجودة في حواري هذا الحي العريق، أسعارها مقبولة عموماً.
الباب الروماني الأثري، المنسوب للقديس توما، ما عتمَ أن طالعنا، متوسطاً ساحةً تعرف أيضاً باسمه. أخذنا هنا بعض الصور التذكارية، ثم انتقلنا إلى الجهة الأخرى من الشارع، المؤدية لبرج الروس. طرأ تغيرٌ ملحوظ على المكان، لدرجة أن أسأل رفيقَ الطريق عن هذا المَعْلم وذاك. لقد اختفى مطعم أبو وليم، المشهور بتقديم السمك المشوي مع العرق، والذي كنا نرتاده أيام المراهقة والصبا. أما مطعمنا الآخر الأثير، النادي العائلي، فإنه انتقل إلى مكان جديد، ليفقد سحره وبهجته.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المهاجران من المسرح إلى السينما
- فيلم الطفولة الكردية، المغتالة
- فيلم اليهودي والضياع الأخير
- فيلم الكردي وحروب الآخرين
- مصير أسرة في فيلم سوري
- تراب الغرباء والتلاعب بالتاريخ
- الترحال؛ منحوتة للطفولة والمدينة
- الطحين الأسود ولعنة المكان
- اللجاة؛ البيئة الدرزية سينمائياً
- حسّيبة؛ الشام بحسَب يوميات إمرأة
- شيء ما يحترق؛ عن الدرزي النازح
- الطحالب؛ حكاية جرح سوري
- باب المقام، المفتوح على الشغف
- سُلّم إلى دمشق؛ التقمّص عشيّة الثورة
- الليل؛ الفنتاسيا والواقع
- أحلام المدينة أم كوابيسها
- وقائع العام المقبل واختلال الوعي
- ليالي ابن آوى؛ البطريركية والسلطة
- نجوم النهار؛ رسم ساخر للمجتمع العلوي
- المصيدة؛ ثنائية الجنس والفساد


المزيد.....




- مصطفى محمد غريب: هواجس معبأة بالأسى
- -أعيدوا النظر في تلك المقبرة-.. رحلة شعرية بين سراديب الموت ...
- 7 تشرين الثاني عيداً للمقام العراقي.. حسين الأعظمي: تراث بغد ...
- غزة التي لا تعرفونها.. مدينة الحضارة والثقافة وقصور المماليك ...
- رغم الحرب والدمار.. رسائل أمل في ختام مهرجان غزة السينمائي ل ...
- سمية الألفي: من -رحلة المليون- إلى ذاكرة الشاشة، وفاة الفنان ...
- جنازة الفنانة المصرية سمية الألفي.. حضور فني وإعلامي ورسائل ...
- من بينها السعودية ومصر.. فيلم -صوت هند رجب- يُعرض في عدة دول ...
- وفاة الفنان وليد العلايلي.. لبنان يفقد أحد أبرز وجوهه الدرام ...
- وفاق الممثلة سمية الألفي عن عمر ناهز 72 عاما


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - خمسة أسابيع في دمشق