أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - احمد صالح سلوم - في معنى تعدد الأقطاب : عندما تعترف واشنطن بالقوى الصاعدة : الصين روسيا إيران صنعاء















المزيد.....



في معنى تعدد الأقطاب : عندما تعترف واشنطن بالقوى الصاعدة : الصين روسيا إيران صنعاء


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 21:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


اللحظة التي يغير فيها الاعتراف خريطة الوجود

ليس ثمّة في حياة الأمم ما هو أثقل من كلمة "اعتراف". فالأمم تصنع وجودها في غالب الأحيان عبر انتزاع الاعتراف بوجودها أولًا، ثم بحدودها، فبخصوصيتها، فأحلامها. ولك أن تتخيّل كم يبلغ ثقل الكلمة حين تلفظها إمبراطورية اعتادت، لعقود، أن توزّع بطاقات الاعتراف على الآخرين، لا أن تستلمها منهم.

هذه ليست قصة انتصار أو هزيمة. إنها قصة تحوّل كوني، كتحوّل النجوم من طور إلى طور. قصة تبدأ بجملة واحدة مفترضة: "تعترف واشنطن بأن العالم لم يعد أحادي القطبية".

إنه الاعتراف الذي لا يعنيه مجرد إقرار بالواقع الاقتصادي (صين تصعد، روسيا تعود، أوروبا تتقلص، الجنوب يستيقظ). بل هو، في جوهره، تنازل عن حقٍ مقدسٍ في عقل الإمبراطورية: حق تفسير العالم، وتسمية أجزائه، وتحديد مساراته. هو نهاية لحقبة كانت فيها الخريطة السياسية للكرة الأرضية ترسم من مكتب بيضاوي، والاقتصاد العالمي ينبض بنغمة الدولار، والحرب والسلم يُقرّران في البنتاغون.

فماذا لو حدث هذا؟ ماذا لو جلس الدبلوماسي الأميركي، لا ليفرض شروطه، بل ليتفاوض على شروط النظام العالمي الجديد؟ هذا السؤال يقودنا إلى قلب أتون التحول الأكبر في القرن الحادي والعشرين.

صاحب المطلب.. وكيف نقرأ خريطة طلبه

لنضع صورة واضحة للطرف الذي سيستلم اعتراف واشنطن: ليست الصين دولة عادية تريد مكانًا تحت الشمس. إنها حضارة قديمة تلبست ثوب دولة حديثة، وتذكر دائمًا أنها كانت المركز الكوني لعالمها لآلاف السنين. ذاكرتها ليست ذكرى، بل وقود.

من هذا المنطلق، يمكننا تفكيك مطالب بكين إلى طبقات، كطبقات الأرض الجيولوجية، كل أعمق من سابقتها:

الطبقة الأولى: المطالب الحمراء (الخطوط التي لا يمكن تجاوزها)

· تايوان: ليست مجرد جزيرة. في المخيال الاستراتيجي الصيني، هي الجزء المبتور من الجسد الوطني، والشاهد على قرن من الإهانة. الاعتراف الأميركي بتعدد الأقطاب يصبح فارغًا إذا لم يُترجم إلى: "إن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين، ولن نعارض بأي شكل من الأشكال جهود إعادة التوحيد، وسنقطع كل روابطنا العسكرية والسياسية مع تايبه." هذا هو الثمن الأول والأخير. هو اختبار صدقية الاعتراف.
· الكرامة النظامية: وقف الخطاب الأخلاقي الغربي الذي يصف الحزب الشيوعي الصيني ونموذجه بـ "الاستبداد". بكين لا تطلب إعجابًا، بل تطلب شرعية. تريد أن يُقبل نظامها كخيار شرعي لتطور مجتمعي، لا كخطأ تاريخي يجب تصحيحه.

الطبقة الثانية: المطالب الزرقاء (إعادة تشكيل المحيط الحيوي)

· بحر الصين الجنوبي: تحويله من "مياه دولية" تُستفز فيها الصين بانتظام، إلى "حديقة خلفية" آمنة. يعني وقف عمليات المرور العسكرية الأميركية، والاعتراف بحق الصين في بناء وتأمين جزرها الاصطناعية. هو تحويل البحر إلى حاجز استراتيجي، لا جبهة مفتوحة.
· تفكيك التحالفات المطوقة: لن يكتفي الصينيون باعتراف لفظي. سيطالبون بخطوات عملية لتفكيك الآلية العسكرية الدائرة حولهم: إضعاف تحالف AUKUS (الغواصات النووية لأستراليا)، وتحييد مجموعة الكواد (الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا). الهدف هو تحييد الحلقة العسكرية الأميركية في المحيط الهادئ.

الطبقة الثالثة: المطالب الذهبية (إعادة هندسة النظام الاقتصادي العالمي)

· العرش المالي: لن تقبل الصين أن تظل تابعة لهيكل أنشئ عام 1944. ستطالب بإصلاح جذري لصندوق النقد والبنك الدوليين، يمنحها حصة تصويت مساوية أو قريبة من حصة الولايات المتحدة. بل قد تدفع باتجاه الاعتراف بمؤسساتها البديلة (مثل بنك التنمية الآسيوي) كأركان رسمية في النظام المالي العالمي الجديد.
· السيادة التكنولوجية: رفع الحظر عن "هواوي" وسميكوندوكتور وغيرها ليس مجرد قرار تجاري. إنه اعتراف بحق الصين في قيادة الموجة التكنولوجية القادمة، وعدم احتكار الغرب للتقنية المتقدمة. الحرب على الرقائق يجب أن تتوقف.
· شرعية المشروع الحضاري: هنا، يصبح الطلب وجوديًا: الاعتراف بمبادرة الحزام والطريق ليس كمشروع تنموي فقط، بل كرؤية حضارية لربط العالم. هي إعلان صيني أن طريق الحرير القديم، بثوبه الرقمي واللوجستي الحديث، هو عصب العالم المتعدد الأقطاب.

اللعبة الكبرى.. الصفقة التي لا تُقال

هل يمكن اختصار كل هذا في صفقة؟ الواقع يقول نعم، لكنها صفقة لا تُكتب على ورق، بل تُنقش في سلوك القوى العظمى لعقود قادمة. يمكن تلخيصها في معادلة بسيطة:

"تخلّ الولايات المتحدة عن هيمنتها المطلقة في المحيط الهادئ والشرق الآسيوي، وتقبل بالصين كشريك حاكم (أو شريك-حاكم) في شؤون الإقليم. في المقابل، تلتزم الصين بعدم تحدي النفوذ الأميركي في مناطق نفوذه التقليدية: أوروبا (حلف الناتو) والشرق الأوسط."

هذه ليست تقسيمًا للعالم، بل اعترافًا بمجالات النفوذ الحيوية. لكن الإشكال يكمن في أن الصين، كقوة عالمية طموحة، قد لا تقبل أن يُحصر نفوذها في إقليمها المباشر إلى الأبد. كما أن الولايات المتحدة، التي تربطها علاقات عميقة بدول آسيوية (اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان سابقًا)، لن تستطيع التخلي عنها بين عشية وضحاها دون خسارة مصداقيتها كحليف.

هنا يبرز التناقض الجوهري: تعدد الأقطاب الحقيقي يعني أن تتصرف كل قوة كمركز لقرارها المستقل، لا كشريك في "إدارة ثنائية" للعالم. فكيف تُدار علاقة بين قطبين لا يثق أحدهما بالآخر، ويتنافسان على نفس الموارد (التقنية، العسكرية، الاقتصادية) في ساحة عالمية واحدة؟

سمسار العالم.. حين يصبح ترامب رمزًا للنهج العابر للأطلسي

لفهم كيف وصلنا إلى عتبة هذا التحول، يجب أن نعود إلى لحظة سياسية مفصلية، تجسّدت في شخصية واحدة: دونالد ترامب.

لم يكن ترامب مجرد رئيس. كان تعبيرًا صارخًا عن انهيار النخبة التقليدية التي حكمت واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية. النخبة التي كانت تؤمن بأن القيادة الأميركية للعالم تقتضي التزامات أخلاقية (نسبيًا) واستقرارًا مؤسسيًا وتحالفات دائمة.

جاء ترامب حاملًا فلسفة السمسار العالمي. فلسفة ترى العالم كمجموعة من الصفقات المنفصلة، يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها حسب المصلحة الآنية. لقد عامل الجولان كقطعة عقارية يمكن بيع سيادتها لإسرائيل. ونظر إلى المناطق المتنازع عليها في آسيا وأفريقيا كـ"عقارات" يمكن فيها إنشاء "مناطق اقتصادية" أو "ممرات" في صفقة ما.

في خطابه (الحقيقي أو المتخيل) عن الجولان: "وقعنا على ضمها لأنها منطقة عسكرية مهمة، لكني لم أكن أعلم أن في عصر الطائرات المسيرة والصواريخ فإنها لا تساوي شيئًا، ولو علمت أنها تساوي التريليونات لانتزعت حصة منها" – في هذا التصريح تكثيف كامل للرؤية التراكمية: السيادة سلعة، والقيمة الحقيقية هي المال، والعالم ساحة مساومة ضخمة.

هذا النهج، رغم سذاجته الظاهرة، كشف حقيقة مؤلمة: أن الالتزامات الأخلاقية والمبادئ في السياسة الدولية كانت دائمًا غطاءً للمصلحة، وأن ترامب قرر نزع هذا الغطاء. لكن المفارقة، أنه بفعله هذا، سرّع من نهاية الهيمنة الأميركية. لأنه أخبر الحلفاء أنهم يجب أن يدفعوا ثمن الحماية، وأخبر الخصوم أن كل شيء قابل للتفاوض مقابل الثمن المناسب. لقد حوّل القيادة إلى خدمة بمقابل.

عندما تتعامل الإمبراطورية مع العالم كسمسار عقارات، فهي، من حيث لا تدري، تسقط الهالة القدسية التي كانت تمنحها سلطتها شرعية تتجاوز القوة العسكرية. إنها تقول للعالم: "نحن لسنا أبًا ولا قائدًا، نحن تاجر. فتفاوضوا معنا كتجار."

التريليونات الوهمية.. وسياسة السمسرة في غرب اسيا

تظهر فجوة الرؤية التراكمية بوضوح في ملفات مثل الجولان و غزة.

· الجولان: ثرواتها الحقيقية هي مائية واستراتيجية، لا نفطية بالمليارات. لكن النهج السمسري يبحث عن "التريليونات" الوهمية لتحقيق ربح سريع. وهذا يعمي صاحبه عن رؤية القيمة الجيوسياسية طويلة الأمد: السيطرة على المياه، والمراقبة على سوريا.
· غزة: فكرة إنشاء "ريفيرا" أميركية على أنقاضها (حتى لو كانت تصريحات مبالغًا فيها) تكشف عن نفس العقلية: تحويل الأرض المعقدة سياسيًا والمليئة بالمعاناة إلى منتج سياحي، كأن السياسة هي هندسة معمارية تزيل التاريخ والإنسان لتبني فندقًا.

هذه الرؤية تتصادم مع واقع المقاومة والأيديولوجيا. إيران وحزب الله وحماس لا يحسبون بالدولار. يحسبون بالعقائد والهويات والصراعات التاريخية. عندما يحاول "السمسار" التفاوض معهم، يصطدم بحائط من القيم التي لا تُسعَّر. هنا ينهار منطق "الصفقة الكبرى"، ويُكشف عن محدودية القوة التي لا تفهم إلا لغة المال والقوة العارية.

النظام العالمي الجديد.. صراع لا صفقة

العالم المتعدد الأقطاب الذي تسعى الصين لاستحقاق شرعي فيه، والذين تلمسه رؤية ترامب السمسرية بسطحيتها، ليس حديقة يمكن تقسيمها بالاتفاق. إنه أكثر شبهاً بغابة، فيها حيوانات قوية حديثة العهد بالقوة، وحيوانات عجوز تحاول الاحتفاظ بأراضيها، وحيوانات صغيرة تبحث عن حامٍ.

الاعتراف الأميركي بتعدد الأقطاب لن يأتي بصفقة واحدة في قمة سرية. سيكون نتيجة تراكمية لصراعات صغيرة وكبيرة: على الرقائق في تايوان، على أسعار السندات في وول ستريت، على حقول الغاز في بحر الصين الجنوبي، على كلمات في منظمة الصحة العالمية، على تحالفات في أفريقيا.

الصين تطلب إعادة كتابة العقد الاجتماعي العالمي. والعقود لا تُعاد كتابتها بالطلب، بل بموازين القوى، وبالقدرة على تحمل تكاليف التغيير، وبالصبر الذي يتجاوز دورات الانتخابات الأميركية ذات الأربع سنوات.

السؤال ليس ماذا ستطلب الصين، بل هل تستطيع الولايات المتحدة أن تتخلى عن كونها "الاستثناء" الأميركي، وأن تصبح مجرد دولة عظيمة بين دول عظيمة أخرى؟ الإجابة على هذا السؤال ليست في بكين أو واشنطن، بل في وعي الشعوب وقادة المستقبل، بأن عصر الإمبراطوريات المنفردة قد ولى، وأن فجر التعايش في فوضى متعددة الأقطاب قد بدأ، سواءً أعجبنا ذلك أم لا.


…….

أوكرانيا كمرآة تعدد الأقطاب.. عندما تصبح العقوبات سلاحًا ذا حدين


الزلزال الذي لم تُحسب تداعياته

الحرب في أوكرانيا ليست صراعًا إقليميًا عاديًا. إنها اللحظة التأسيسية الفعلية للنظام العالمي المتعدد الأقطاب، والتي ظلّت نظرية لعقود. هنا، وفي ساحات دونباس وخيرسون، يُختبر معنى القطبية الجديدة ليس بالخطب في الأمم المتحدة، بل بالدبابات والصواريخ والعقوبات المالية النووية.

لكن المفارقة الكبرى أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، الذي حاول تحويل الحرب إلى اختبار لإعادة فرض هيمنته الأحادية، قد يكون أطلق العنان لقوى قد تتحول في النهاية ضد النظام الذي بناه. في قلب هذه العاصفة تقف أموال روسيا المجمدة، واليورو، والثقة في النظام المالي الغربي، وألمانيا التي تقف على مفترق طرق تاريخي.

روسيا وتعدد الأقطاب.. "الإملاءات" كرد فعل، لا كبداية

ادعاء الغرب أن روسيا تسعى لـ"فرض إملاءات" و"تغيير جذري" لمصلحة موسكو يحتاج لتدقيق. بدايةً، روسيا ليست الصين:

· الصين قوة صاعدة تطلب إعادة هيكلة النظام ليتسع لمكانتها الاقتصادية والحضارية.
· روسيا قوة متمسكة بمكانتها التاريخية كقطب مستقل، ترفض التهميش داخل النظام الحالي. فعلتها في أوكرانيا هي، من منظورها، رد فعل دفاعي-هجومي على:
1. التوسع شرقًا لحلف الناتو، الذي رأته خرقًا لوعود تاريخية وتهديدًا وجوديًا.
2. محاولة الغرب دمج أوكرانيا في منظومته الأمنية والثقافية، مما يعني، من وجهة نظر الكرملين، اقتطاع آخر مجال نفوذ حيوي لروسيا.
3. الإهانة المتصورة لكرامتها ومكانتها العالمية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.

تعدد الأقطاب في عقل الكرملين يعني: الاعتراف بمناطق نفوذ روسية حصرية (مثل الفضاء السوفيتي السابق)، وحق روسيا في استخدام القوة لحماية تلك المنطقة، ووجودها كقطب مستقل في القرار العالمي لا يُستشار فقط بل تُحترم "خطوطه الحمراء". الحرب في أوكرانيا هي الوسيلة العنيفة لانتزاع هذا الاعتراف.


اليوروكلير.. عندما يصبح الاستيلاء على الأموال سلاحاً يقتل من يستخدمه

قرار تجميد حوالي 300 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي كان أقوى عقوبة مالية في التاريخ. لكن تحويل "التجميد" إلى مصادرة قانونية لتحويلها لأوكرانيا (كما يُناقش في الاجتماعات الأوروبية) هو خطوة في منتهى الخطورة. لماذا؟

1. انهيار المبدأ المقدس: الحصانة السيادية للأموال الاحتياطية. طالما كانت الأموال الاحتياطية للدول (الاحتياطيات من الذهب والعملات الأجنبية) محمية بقوانين وأعراف دولية، بغض النظر عن سياسات تلك الدول. كسر هذا المبدأ يعني أن أي احتياطيات لدولة ما في بنوك الغرب أصبحت رهينة سياسية. هذه رسالة واضحة للمملكة العربية السعودية والإمارات والهند والصين وكل دولة لديها احتياطيات في الولايات المتحدة أو أوروبا: أموالكم ليست آمنة إذا اختلفنا سياسيًا.
2. ردود الفعل المتوقعة: نزوح رأسمالي تاريخي.
· المجر والمملكة العربية السعودية لم تهددا بالانسحاب عبثًا. فهما تشيران إلى بداية تحول جيوسياسي-مالي ضخم. الدول التي لا تريد أن تكون تحت رحمة القرار السياسي الغربي ستبدأ في:
· تسريع تحويل احتياطياتها إلى الذهب (وهو ما تفعله الصين وروسيا منذ سنوات).
· اكتشاف أسواق وعملات بديلة للتجارة (اليوان، الروبية الهندية، العملات المشفرة المدعومة بسلع).
· سحب الأموال من المراكز المالية الغربية إلى مراكز آمنة محايدة أو موالية (سنغافورة، هونغ كونغ، مراكز مالية خليجية جديدة).
· تآكل ثقة المستثمرين الأجانب في أوروبا، خوفًا من أن تُصادر استثماراتهم في المستقبل تحت أي ذريعة سياسية.
3. اليورو كضحية رئيسية: اليورو هو العملة الثانية في الاحتياطيات العالمية. إذا فقدت أوروبا سمعتها كحارس أمين للأموال، فلماذا ستحتفظ أي دولة بيورو في احتياطياتها؟ هذا قد يهوي بقيمة اليورو ويقلل من أهميته الدولية، وهو ضربة استراتيجية للقوة الناعمة الأوروبية.

الانتحار الألماني الجديد.. بين الولاء الأطلسي والغريزة القومية

موقف ألمانيا الداعم للمصادرة، رغم ترددها الأولي، هو لغز يحتاج تفسيرًا. قد يُرى كـ"انتحار ألماني" جديد، لكن بثوب اقتصادي هذه المرة. الدوافع المتشابكة:

1. ذنب تاريخي وعبء القيادة: ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، ركّزت على بناء هوية أخلاقية قائمة على "عدم تكرار الماضي". دعم أوكرانيا أصبح اختبارًا لتلك الهوية. لكن هذا الدفع الأخلاقي تلاعبت به المصالح الأمريكية ببراعة، حيث تم استخدام "الخطيئة التاريخية" الألمانية لدفعها إلى سياسات تضر بمصالحها الاقتصادية الحيوية.
2. التبعية الأمنية المُفتعلة: نجحت الولايات المتحدة في تقديم نفسها كحامٍ وحيد لألمانيا في عالم خطير. قطع خطوط الغاز الروسي (نورد ستريم 2) كان تضحية ألمانية على مذبح الوحدة الأطلسية. برلين تدرك الآن، بمرارة، أنها ضحت بصناعتها وميزتها التنافسية (الطاقة الرخيصة) استجابةً لـ"أوامر" واشنطن، بينما تضاعفت صادرات الغاز المسال الأمريكي بأسعار أعلى إلى أوروبا.
3. المعضلة الحالية: دعم مصادرة الأموال الروسية قد يكون المسمار الأخير في نعش النموذج الاقتصادي الألماني القائم على الطاقة الروسية الرخيصة والتصدير للعالم. لكن المعارضة تعني:
· اتهامها بـ"الخيانة" من قبل حلفائها.
· كشف انقسام عميق داخل الاتحاد الأوروبي.
· الاعتراف بأن مصلحتها القومية تتعارض مع السياسة الأمريكية.

الانتحار الألماني ليس في دعم المصادرة، بل في الاستمرار في إنكار التعارض بين المصالح القومية الألمانية والاستراتيجية الأمريكية المهيمنة. ألمانيا تقف عند مفترق: إما الاستمرار كقوة اقتصادية عظيمة ذات سياسة خارجية تابعة (ما يفرض عليها تقديم تضحيات غير محدودة)، أو الشروع في مسار استقلال استراتيجي صعب ومكلف، ربما يبدأ برفض سياسة المصادرة الجنونية.

نظام عالمي جديد.. يولد من رحم الفوضى المالية

الحرب في أوكرانيا كشفت أن العقوبات المالية هي سلاح النواة النووية في الاقتصاد. لكن استخدامها بطريقة عشوائية يخلق تلوثًا إشعاعيًا ماليًا طويل الأمد.

ما نراه اليوم هو:

· انهيار نظام الثقة الذي قام عليه النظام المالي العالمي منذ Bretton Woods.
· تسريع ولادة نظام مالي موازٍ، يقوده من لا يثقون بالغرب، وتتزعمه الصين وروسيا والدول المتوسطة الطامحة (مثل السعودية والهند والبرازيل).
· تحول أوروبا، وخاصة ألمانيا، إلى ساحة المعركة الحقيقية بين الولاء الأطلسي والغريزة القومية للبقاء الاقتصادي.

اجتماع اليوم حول أموال روسيا ليس مجرد اجتماع تقني. إنه استفتاء على مصداقية ومستقبل النظام المالي الغربي. إذا تمت المصادرة، فسيُسجل التاريخ ذلك ليس كنصر لأوكرانيا، بل كلحظة بداية الانهيار البطيء لليورو وهيمنة الغرب المالية، واللحظة التي أدركت فيها دول العالم أن عليها أن تختار معسكرًا مالياً، لأن الحياد لم يعد خيارًا آمنًا.

تعدد الأقطاب لم يعد نظرية. إنه واقع ملموس يتم خبزه في أفران الحرب الأوكرانية والمجالس المالية الأوروبية. والغرب، في سعيه لمعاقبة روسيا، قد يكون بصدد معاقبة نفسه بأقسى عقوبة: فقدان ثقة العالم.

......

إيران واليمن.. مطالب القوى الثورية في نظام عالمي جديد

رجال الثورة في قاعة المحافظين

في حفل تعدد الأقطاب المتوقع، هناك ضيوف لم تُرسَل لهم دعوات رسمية، لكنهم يقتحمون القاعة بأقدامهم الملوثة بغبار المعارك وهم يحملون لافتات لا تشبه بروتوكولات ديبلوماسية القمصان والكرافتات. إيران واليمن (تمثّل بفصائل المقاومة الحوثية تحديدًا) هما نموذجان لما يُمكن تسميته "قوى الثورة" أو "دول التمرد" في النظام العالمي. مطالبهم لا تتعلق فقط بمقاعد على طاولة القرار، بل بتغيير قواعد اللعبة ذاتها التي جعلتهم لعقود خارج السور.

إيران.. شرعية الثورة مقابل شرعية النظام

إيران لا تطلب فقط مكانًا في نظام متعدد الأقطاب. إنها تطلب الاعتراف بشرعية وجودها كدولة-ثورة، ككيان يجمع بين قومية الدولة ومشروع أيديولوجي عابر للحدود. مطالبها يمكن تفكيكها إلى مستويات:

المستوى الأول: المطالب الأمنية-الوجودية (خطوط حمراء)

1. البقاء النظامي: ضمان عدم المساس بنظام الحكم القائم (ولاية الفقيه) أو محاولة تغيير النظام. هذا يعني وقف كل أشكال الدعم الأمريكي والأوروبي للمعارضة أو "حملات التغيير" المعلنة أو الخفية.
2. الأمن القومي الحيوي: الاعتراف بإيران كقوة إقليمية راسخة وحامية لمصالحها، بما في ذلك:
· الحد من التواجد العسكري الأمريكي والإسرائيلي في الخليج والعراق وسوريا.
· وقف التهديدات العسكرية المباشرة (ضربات إسرائيلية على أراضيها، أو اغتيالات علمائها وقادتها).
3. البرنامج النووي: الاعتراف بحق إيران في دورة وقود نووي سلمي كامل تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مع رفع كل العقوبات المرتبطة بهذا الملف. هذا ليس مجرد طاقة، بل رمز للسيادة التكنولوجية والاعتراف بوصولها لنادي الدول المتقدمة.

المستوى الثاني: المطالب الجيوسياسية (مناطق نفوذ شرعية)

1. سوريا والعراق: الاعتراف بدور إيران كحليف رئيسي وحامٍ للحكومتين في دمشق المقاومة وبغداد، وأن لها مصالح أمنية واقتصادية وثقافية عميقة هناك لا يمكن اقتلاعها.
2. لبنان واليمن: وقف وصف حلفاء إيران (حزب الله، الحوثيون) كـ"جماعات إرهابية" والاعتراف بهم كقوى سياسية وعسكرية فاعلة وشرعية في بلدانهم، ورفع الحصار والعدوان عنهم.
3. الحرس الثوري الإيراني (IRGC): إزالته من قوائم الإرهاب الأجنبية، وهو طلب جوهري لأنه يمثل الذراع التنفيذي لمشروع إيران الثوري عابر الحدود. الاعتراف به يعني الاعتراف بطبيعة النظام الإيراني ذاتها.

المستوى الثالث: المطالب الاقتصادية-الرمزية

1. رفع كل العقوبات: ليس فقط النووية، بل والعقوبات "بسبب حقوق الإنسان" أو "دعم الإرهاب". إيران تريد وصولاً كاملاً وغير مشروط للنظام المالي والتجاري العالمي.
2. التعويضات: تعويضات عن الأضرار التي لحقت باقتصادها بسبب العقوبات طوال العقود الماضية.
3. الاعتراف بشرعية المقاومة: تحويل سردية "المحور الممانع" من محور تخريبي إلى محور مقاومة مشروع للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة.

الصفقة الضمنية: مقابل هذا، يمكن لإيران أن تقدم للغرب: استقرارًا في أسواق النفط، وتقليصًا لبعض أنشطة حلفائها (ليس حلّها)، وضمانات بعدم السعي لامتلاك سلاح نووي (مع الاحتفاظ بالقدرة على العتبة)، وربما مساعدة في ملفات مثل أفغانستان. لكنها لن تتخلى عن هويتها الثورية أو حلفائها الإقليميين، لأن ذلك هو مصدر قوتها التفاوضية.


اليمن (الحوثيون).. من قبيلة متمردة إلى قطب تفاوضي إقليمي

قصة اليمن هي الأكثر إثارة في سياق تعدد الأقطاب. فما بدأ كحركة تمرد محلية تحول إلى قوة قادرة على إعادة تعريف الجغرافيا السياسية للبحر الأحمر والخليج العربي. مطالب الحوثيين، الذين باتوا يحكمون صنعاء ويوجهون ضربات بعيدة المدى، هي نموذج لمطالب "قوى التمرد" التي تريد ترجمة قوتها العسكرية الميدانية إلى مكاسب سياسية في النظام الجديد:

المطالب الأساسية: الاعتراف والسلطة

1. الاعتراف السياسي الكامل: الاعتراف بهم كسلطة حاكمة شرعية في اليمن، وليس كمجموعة متمردة في مفاوضات. هذا يعني التفاوض معهم كحكومة de facto، وإزالة تصنيفهم كجماعة إرهابية.
2. حق تقرير المصير الداخلي: رفض أي عودة للنظام السابق أو لحكومة مركزية ضعيفة. يريدون ضمان حصة سلطة حاكمة في أي ترتيب سياسي مستقبلي، بما يحفظ مكاسبهم ويحمي هويتهم الزيدية-الثورية.

المطالب الجيوسياسية العابرة للحدود (تأثير إقليمي)

1. الدور في أمن البحر الأحمر: الاعتراف بدورهم كحارس للجناح الجنوبي للبحر الأحمر ومضيق باب المندب، وقدرتهم على تعطيل الملاحة (وهو ما أثبتوه). يريدون مقعدًا على طاولة أمن الملاحة الدولية، كقوة لا يمكن تجاوزها.
2. العلاقة مع إسرائيل: استخدام ورقة "معاداة التطبيع" وتهديد إسرائيل بالصواريخ الباليستية والمسيّرات كورقة تفاوض قوية. هم يطرحون أنفسهم كـ خط الدفاع الأول في "جبهة المقاومة" الجنوبية ضد إسرائيل، مما يمنحهم شرعية أيديولوجية ودعمًا إقليميًا.
3. إعادة رسم التحالفات الإقليمية: إجبار دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات، على إعادة حساب مصالحها الأمنية والتفاوض معهم مباشرة، كقوة إقليمية مستقلة وليس مجرد وكيل إيراني. هم يثبتون أنهم لاعب مستقل بإرادته، حتى لو تلقى دعمًا من طهران.

المطالب الاقتصادية-الرمزية

1. رفع الحصار: فتح المطارات والموانئ بشكل كامل، ووقف التدخل في الشؤون الاقتصادية اليمنية.
2. المشاركة في ثروات البلاد: ضمان حصتهم العادلة من عائدات النفط والغاز اليمني (خاصة في المناطق التي يسيطر عليها خصومهم).
3. الاعتراف بالانتصار: الاعتراف بأنهم انتصروا في حربهم ضد التحالف الذي قادته دول عظمى وإقليمية، وأن هذا الانتصار يجب أن يترجم إلى مكاسب ملموسة.

قوة الحوثيين التفاوضية: تأتي من قدرتهم على إلحاق الأذى (A2/AD - حرمان الوصول ومنع المناطق). سيطرتهم على صنعاء وصواريخهم التي تصل إلى أبوظبي والرياض والإعاقة المستمرة للملاحة، تجعل تجاهلهم مستحيلاً. هم لا ينتظرون دعوة إلى نظام متعدد الأقطاب؛ هم يفرضون حضورهم فيه عبر خلق وقائع جيوسياسية جديدة.

النظام الجديد للجميع.. حتى لمن لا نريدهم

تعدد الأقطاب الذي تتصوره الصين هو نظام منظم، تحكمه قواعد وقوانين ودول كبيرة. لكن التعددية التي تفرضها إيران واليمن هي تعددية فوضوية، ثورية، تقوم على زعزعة الاستقرار لانتزاع الاعتراف.

· إيران تمثل "دولة-نظام" ثورية تريد كسر الحصار وفرض منطق الاعتراف المتبادل، حتى مع الخصم.
· الحوثيون يمثلون "دولة داخل الدولة" أو "قوة غير دولة" تثبت أن القوة العسكرية الميدانية والتكنولوجيا غير المتناظرة (المسيّرات والصواريخ الباليستية الرخيصة) يمكن أن ترفع لاعبًا محليًا إلى مستوى صناعة الأزمات الإقليمية وفرض شروطه.

الدرس المستفاد هو: النظام العالمي المتعدد الأقطاب لن يكون ناديًا نخبويًا للقوى العظمى التقليدية والصاعدة فقط. سيكون ساحة مفتوحة لكل من يمتلك القوة والإرادة لخلق الوقائع على الأرض، بغض النظر عن حجمه أو اعترافنا بشرعيته. الغرب، إذا أراد الاستقرار، قد يُجبر على التفاوض مع هؤلاء "الضيوف غير المدعوين"، وربما منحهم شرعية ما، لأنه ببساطة لم يعد قادرًا على إخضاعهم أو إقصاءهم. هذه هي الديمقراطية القاسية والقبيحة أحيانًا للجيوسياسة في عصر التعددية الحقيقية.


........

قسم دراسات سمير امين في بيت الثقافة البلجيكي العربي ـ لييج - بلجيكا

........

في معنى تعدد الأقطاب: عندما ترفع واشنطن الراية البيضاء أمام النوابغ الجدد: الصين، روسيا، إيران، وصنعاء التي لا تُقهر

تخيّل لو أن الإمبراطورية العجوز، التي اعتادت لعقود أن تُوزّع شهادات "الوجود الشرعي" كما يُوزّع البائع المتجول بطاقات اليانصيب، اضطرت فجأة إلى استلام واحدة من يد صبيٍّ كان يبيع الشاي في زقاقٍ بعيد. هذا هو ثقل كلمة "اعتراف" في قاموس الأمم: ليست مجرد كلمة مهذبة تُقال في عشاء دبلوماسي، بل وثيقة طلاق رسمية من عصر الهيمنة الأحادية. وعندما تُلفظ من فم واشنطن، فكأن الشمس تُعلن اعتزالها منصب ملكة السماء لتُصبح مجرد نجمة في حفلة كونية مزدحمة.

هذه ليست قصة انتصار بطولي أو هزيمة مذلة، بل كوميديا كونية راقية، حيث يتحول اللاعبون الكبار إلى راقصين على إيقاع موسيقى لم يعودوا يملكون عصا المايسترو. تخيّل الدبلوماسي الأمريكي، الذي اعتاد أن يدخل الغرفة حاملاً عقدًا جاهزًا للتوقيع، يجد نفسه الآن يُفاوض على حصته من الكعكة التي كان يظنها ملكًا له وحده. مرحبًا بعصر تعدد الأقطاب، حيث الخريطة لم تعد تُرسم في مكتب بيضاوي، بل في ورشة عمل جماعية يشارك فيها الجميع، حتى من كانوا يُعتبرون مجرد ديكور في الخلفية.

لنبدأ بالصين، تلك الحضارة القديمة التي استيقظت من قيلولة طويلة لتجد نفسها في ثوب دولة حديثة أنيق، وتتذكر فجأة أنها كانت مركز الكون قبل أن يخترع الغرب فكرة "المركز" أصلاً. مطالب بكين ليست قائمة تسوق عادية، بل طبقات جيولوجية من الطموح، كل طبقة تُذكّر العالم بأن الصبر الصيني ليس ضعفًا، بل استثمارًا طويل الأجل.

الطبقة الحمراء، الخطوط التي لا تُمس: تايوان ليست جزيرة صغيرة تائهة، بل الزر الأخير في قميص الجسد الوطني الصيني، وأي محاولة لفكّه تعني أن القميص كله سيتمزق. الاعتراف الحقيقي يعني أن تقول واشنطن بصوت عالٍ: "نعم، تايوان جزء من الصين، وسنُغلق مكاتبنا العسكرية هناك، ونُنهي العروض الجوية كأنها مجرد استعراض ألعاب نارية فاشل". أما الكرامة النظامية، فهي طلب متواضع: توقفوا عن وصف نظامنا بـ"الاستبداد"، فالصين لا تطلب إعجابكم، بل مجرد قبول أن طريقتها في الحكم ليست خطأً مطبعيًا في كتاب التاريخ.

الطبقة الزرقاء، إعادة رسم البحار: بحر الصين الجنوبي يجب أن يتحول من ملعب للاستفزازات الأمريكية إلى حديقة خلفية هادئة، حيث لا تُبحر السفن الحربية إلا بدعوة رسمية. وبالمناسبة، تلك الجزر الاصطناعية ليست هواية هندسية، بل شرفات جديدة تطل على المحيط. أما التحالفات المحيطة، فكـAUKUS والكواد، فيجب أن تتحول من أسنان حادة إلى ابتسامة دبلوماسية خجولة.

الطبقة الذهبية، العرش المالي والتكنولوجي: الصين لا تريد أن تبقى ضيفًا دائمًا في نادٍ أُسس عام 1944، بل تريد كرسيًا يُساوي كرسي الولايات المتحدة، وربما مكبر صوت أيضًا. هواوي ليست شركة هاتف، بل رمز للحق في قيادة الموجة التالية، ومبادرة الحزام والطريق ليست مجرد مشروع بنية تحتية، بل إعلان أن طريق الحرير القديم عاد بثوب رقمي أنيق، وهذه المرة لن يسرقه أحد.

أما الصفقة الكبرى، فهي تلك التي لا تُكتب على ورق، بل تُنفذ بهدوء: أمريكا تترك المحيط الهادئ للصين كمنطقة نفوذ مشترك، والصين تتعهد بعدم التجول في فناء أوروبا أو الشرق الأوسط. لكن المشكلة أن الصين، كفتاة طموحة في حفلة، قد لا تكتفي بدورها في الرقصة الإقليمية إلى الأبد، والولايات المتحدة لا تستطيع التخلي عن أصدقائها القدامى دون أن تبدو كصديق خائن في مسلسل درامي.

ثم يأتي دونالد ترامب، سمسار العقارات الكوني، الذي حوّل السياسة الخارجية إلى سوق مزادات. الجولان قطعة أرض ذات إطلالة، غزة ريفييرا محتملة، والعالم كله مجرد صفقات يمكن قلبها كما تُقلب الفطائر. فلسفته البسيطة: كل شيء له ثمن، والمبادئ مجرد ديكور يُزال عند الحاجة. لكنه، من حيث لا يدري، جرد الإمبراطورية من هالتها المقدسة، فبدلاً من قائد أخلاقي، أصبحت تاجرًا يُفاوض على كل شيء، حتى على كرامتها.

في أوكرانيا، يُختبر هذا العصر الجديد على أرض الواقع. الغرب أراد أن يُعيد فرض هيمنته بعقوبات نووية مالية، لكنه اكتشف أن السلاح النووي قد ينفجر في وجه صاحبه. تجميد أموال روسيا كان فكرة عبقرية، لكن الحديث عن مصادرتها يشبه سرقة محفظة في حفلة دبلوماسية: قد تكسب المال، لكنك ستفقد الثقة إلى الأبد. الدول بدأت تسحب احتياطياتها كما يسحب الضيوف معاطفهم من حفلة بدأت تتجه نحو الفوضى، واليورو يرتجف خوفًا من أن يصبح مجرد عملة سياحية.

ألمانيا، تلك التلميذة المجتهدة في صف الأطلسي، تجد نفسها الآن تضحي بصناعتها على مذبح الولاء، بعد أن قطعت خطوط الغاز الروسي الرخيص واستبدلته بغاز أمريكي أغلى ثمناً، كمن يستبدل سيارة مرسيدس بدراجة هوائية باهظة الثمن لأن الجيران قالوا ذلك. مصادرة الأموال الروسية قد تكون المسمار الأخير في نعش نموذجها الاقتصادي، لكن رفضها يعني اتهامها بالخيانة. مرحبًا بالانتحار الألماني الجديد، هذه المرة بطابع اقتصادي أنيق.

أما إيران واليمن، فهما الضيوف غير المدعوين الذين يقتحمون الحفلة بأحذيتهم المغطاة بالتراب، حاملين لافتات لا تُطابق البروتوكول. إيران لا تطلب مقعدًا فقط، بل تغيير قواعد الجلوس كلها: اعتراف بشرعية ثورتها، بحقها في برنامج نووي سلمي، بدورها في سوريا والعراق ولبنان، وبأن حلفاءها ليسوا إرهابيين بل مقاومين شرعيين. مقابل ذلك، قد تُقدم استقرارًا في أسعار النفط، لكنها لن تتخلى عن هويتها الثورية، فهي مصدر قوتها كما هي مصففة الشعر مصدر ثقة نجمة السينما.

والحوثيون في اليمن، من قبيلة محلية إلى لاعب إقليمي يُعطل الملاحة في البحر الأحمر كما يُعطل طفل مزعج حركة المرور بدراجته. يطالبون باعتراف بهم كحكومة فعلية، بدور في أمن المضائق، وبحصة من الثروة، مستخدمين صواريخهم الرخيصة كدعوة رسمية لا تُرفض. لقد أثبتوا أن التكنولوجيا غير المتناظرة يمكن أن تحول لاعبًا صغيرًا إلى صانع أزمات كبير.

تعدد الأقطاب ليس ناديًا نخبويًا يديره الكبار بهدوء، بل غابة مزدحمة يدخلها الجميع: القوي والمتمرد، المنظم والفوضوي. الغرب، إن أراد الاستقرار، قد يضطر للتفاوض مع من كان يُصنفهم "خارجين عن القانون"، لأنه لم يعد قادرًا على إقصائهم. هذه هي الكوميديا الراقية للجيوسياسة: عصر لم يعد فيه أحد ملكًا مطلقًا، بل مجرد لاعبين في مسرحية كبيرة، ينتظرون دورهم تحت الأضواء، سواء أعجبنا بالممثلين أم لا.



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة : رقصةُ الغزال الأخيرة
- تقشف أوروبي تحت غطاء العسكرة: كيف يُعاد تشكيل الدولة الاجتما ...
- انتصار جنرال الوقت على الهيمنة الأمريكية
- تراجع التفوق الأمريكي: وثيقة سرية تكشف هشاشة الإمبراطورية أم ...
- يوروكلير: قبر اليورو الذهبي
- كيف استثمرت بروكسل في هزيمتها المحققة اليوم
- ما التحديات التي تطرحها وثيقة ترامب الاستراتيجية على محور ال ...
- رواية : أنفاسٌ لا تُقاس أو اسم اخر للرواية (عبودية في ثياب ا ...
- استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025: نظرة عامة وتقيي ...
- حول رواية ( لماذا ؟ ..صرخة في قصر أصم )..مقدمات نقدية لمدارس ...
- رواية «لماذا في قصر أصم» توثيقٌ لستين عاماً من حكم مملكة الظ ...
- سوريا في السنة الأولى لما بعد الأسد: تقرير من قلب الخراب
- اكتشاف جبل الكرمل: رحلة في أعماق التاريخ والطبيعة من خلال كت ...
- رواية: في قلب الإمبراطورية المالية: ملحمة الضمير الذي استيقظ ...
- رواية : مفتاحٌ في صدر ميت
- استثمارات بلاك روك في قطاع السلاح: رؤية معمقة نحو الثراء الذ ...
- بلاك روك للمبتدئين: كيف تكون ناشطاً بيئياً وتاجر سلاح في نفس ...
- لماذا يجب على العالم أن يسترد سيادته من الاحتكارات الخمس
- من أنبوب كولن باول إلى أنابيب غاز ترامب: نفس النكتة،
- سوريا تحت ظلال الفصل السابع رحلة نحو نهاية مكتوبة بأيدي من ظ ...


المزيد.....




- فيديو متداول لـ-حرق شجرة عيد الميلاد في حمص- بسوريا.. ما حقي ...
- -أوروبا فقدت مصداقيتها في الشرق الأوسط، والطريق لاستعادتها ي ...
- السفير الأمريكي في إسرائيل يرسم ملامح المنطقة.. ما هي خطط وا ...
- معلومات جديدة تُنشر عن طوفان الأقصى.. هذا ما قامت به حماس قب ...
- تعاون بين إسرائيل واليونان وقبرص.. بحث إنشاء قوة تدخل سريع ل ...
- بعد مأساة جامعة براون.. إدارة ترامب تعلق برنامج -يانصيب البط ...
- لتجنب حظر التطبيق... مستثمرون أمريكيون يستحوذون على تيك توك ...
- صفقة تاريخية لبيع الغاز الإسرائيلي لمصر: اتفاق تجاري -بحت- أ ...
- ما تفاصيل ثاني اجتماع مباشر بين لبنان وإسرائيل في لجنة الميك ...
- السعودية.. الثلوج تغطي مرتفعات جبال حائل


المزيد.....

- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - احمد صالح سلوم - في معنى تعدد الأقطاب : عندما تعترف واشنطن بالقوى الصاعدة : الصين روسيا إيران صنعاء