|
|
رواية «لماذا في قصر أصم» توثيقٌ لستين عاماً من حكم مملكة الظلمات السعودية
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8550 - 2025 / 12 / 8 - 19:13
المحور:
الادب والفن
مقدمة أدبية نقدية للرواية وفق منهج ادوارد سعيد :
باعتماد أعماق الفكر النقدي الذي رسمه إدوارد سعيد، حيث يتحوّل النظر إلى أداةٍ للتفكيك والكشف عن الطبقات المخفية للخطابات الاستعمارية، تبرز هذه الرواية كمثالٍ حيٍّ على الاستشراق المقلوب، ذلك الذي يمارسه المستعمَر ضد نفسه، مستخدماً أدوات المستعمِر ليُعيد إنتاج السيطرة داخل نسيجه الثقافي والسياسي. سعيد، في كتابه الشهير «الاستشراق»، يُفكّك كيف يُنتج الغرب صورةً مشوّهةً عن الشرق كـ«آخر» همجي، سلبي، غامض، يحتاج إلى تدخّلٍ حضاريٍّ ليُنقذ من نفسه، وهذه الصورة ليست مجرّد وصفٍ أدبيٍّ أو علميٍّ، بل خطابٌ يُخفي علاقات السلطة والسيطرة الاستعمارية. في الرواية، يُعيد الملك – كرمزٍ للسلطة السعودية – إنتاج هذا الخطاب نفسه، لكن داخلياً، حيث يُصوّر الشعب اليمني، والطفل كرمزٍ له، كتهديدٍ وجوديٍّ يستوجب الإبادة، مستخدماً مصطلحات مثل «الإرهاب» و«الفوضى» و«الشرعية»، التي هي في جوهرها أدواتٌ استشراقيةٌ مستعارةٌ من الغرب لتبرير النهب والقمع الداخلي.
يبدأ التطبيق سعيدي على الرواية بكشف كيف يُشكّل الملك خطاباً يُقابل الاستشراق التقليدي، حيث يُقدّم نفسه كـ«الشرق الحضاري» مقابل «الشرق الهمجي» المُمثّل في اليمن أو سوريا أو فلسطين. الملك، في توقيعاته السرية وخطاباته الرسمية، يُنتج صورةً عن الطفل اليمني كـ«آخر» غامضٍ وخطيرٍ، طفلٌ لا يُرى إلا كجزءٍ من فوضىٍ أزليةٍ تحتاج إلى تدخّلٍ «إنسانيٍّ» سعوديٍّ، مدعومٍ بالأسلحة الغربية. هذا الخطاب ليس عفوياً، بل هو بناءٌ معرفيٌّ يُخفي علاقات السلطة: الملك يحتاج إلى هذا «الآخر الهمجي» ليُثبت شرعيته كحاميٍ للأمة، تماماً كما كان الاستشراق الغربي يحتاج إلى «الشرق السلبي» ليُبرّر الاستعمار. في الرواية، يظهر هذا في الأشباح التي تعود ليلاً، حيث يُصبح الطفل اليمني – كرمزٍ للضحية – صوتاً يُفضح هذا الخطاب، يسأل «ليه؟» ليكشف أن الصورة المُنتجة عنه هي مجرّد أداةٍ للسيطرة، لا حقيقةٌ تاريخيةٌ أو ثقافية.
يوسّع سعيد مفهوم الاستشراق ليشمل كيف يُعاد إنتاجه داخل الشرق نفسه، وفي الرواية يتجلّى ذلك في التحالف بين الملك والقوى الغربية، حيث يصبح الاستشراق الذاتي أداةً للاستعمار الداخلي. الملك يستورد خطاب «الحرب على الإرهاب» من الغرب ليُطبّقه على شعبه، مُصوّراً اليمنيين كـ«برابرة» يهدّدون «الحضارة السعودية»، التي هي في جوهرها حضارةٌ ريعيةٌ تعتمد على النفط والتحالفات الاستعمارية. هذا الخطاب يُخفي التناقضات الاقتصادية والاجتماعية، حيث يُصبح الطفل اليمني – كرمزٍ للفقراء والمُهمّشين – موضوعاً للقمع لأنه يُذكّر بالفشل في بناء أمةٍ حقيقية. سعيد يُشير إلى أن الاستشراق ليس مجرّد نظرةٍ غربية، بل نظامٌ معرفيٌّ يُعاد إنتاجه محلياً، وفي الرواية يتجسّد ذلك في الأشباح التي تعود لتُفضح هذا النظام، حيث يصبح الملك نفسه ضحيةً لخطابه الاستشراقي، يعيش في قصره كسجينٍ لصورةٍ عن نفسه لم يعد يصدّقها.
في سياق سعيدي أوسع، يُمكن قراءة الرواية ككشفٍ لكيف يُساهم الاستشراق في إنتاج الهويات المشوّهة، حيث يُصبح الملك «الشرقي الأصيل» الذي يحمي «الأمة» من «الفوضى الشرقية» نفسها، مستخدماً أدواتٍ غربيةً ليُعيد رسم الخرائط والحدود داخل الشرق. الطفل اليمني، في هذا السياق، هو «الشرق المُهمّش» الذي يُمحى من الخريطة، لكنه يعود كشبحٍ ليُذكّر بالتناقضات، يسأل «ليه؟» ليكشف أن الهوية السعودية المُنتجة هي هويةٌ استشراقيةٌ مُستعارة، مبنيةٌ على نفي الآخر داخل الذات. سعيد يُؤكّد أن الاستشراق يُنتج السلطة من خلال الخطاب، وفي الرواية يتجلّى ذلك في التقارير السرية والخطابات الرسمية، التي تُصوّر اليمنيين كـ«آخر» يستحقّ القمع، مما يُبرّر الاستعمار الداخلي كامتدادٍ للاستعمار الخارجي.
يمتد التطبيق إلى كيف يُعاد إنتاج الاستشراق في الرواية من خلال الصور والرموز، حيث يُصبح الطفل اليمني رمزاً لـ«الشرق السلبي» الذي يحتاج إلى «تأديب» من قبل «الشرق الحضاري» السعودي، الذي بدوره يُقلّد النموذج الغربي. سعيد يُشير إلى أن الاستشراق يُنتج معرفةً مزيفةً عن الآخر للسيطرة عليه، وفي الرواية يتجسّد ذلك في الخرائط والصور الجوية التي يُستخدمها الملك ليُحدّد أهداف القصف، حيث تُصبح اليمن أرضاً خاليةً من البشر، مجرّد نقاطٍ حمراء على خريطة، مما يُسهّل محوها. الشبح الذي يعود هو كشفٌ سعيدي لفشل هذا الخطاب، حيث يُصبح الطفل صوتاً يُفضح المعرفة المُنتجة، يُذكّر بأن الآخر ليس مجرّد صورةٍ مشوّهة، بل كائنٌ حيٌّ يُطالب بحقه في الوجود.
في عمق التحليل السعيدي، تكشف الرواية عن كيف يُساهم الاستشراق في إنتاج الهويات المُتناقضة داخل الشرق، حيث يُصبح الملك رمزاً لـ«الشرق المتغرّب»، الذي يستخدم أدوات الغرب لقمع «الشرق الأصيل» المُمثّل في الطفل اليمني. سعيد يُؤكّد أن الاستشراق ليس مجرّد نظريةٍ غربية، بل نظامٌ عالميٌ يُعاد إنتاجه محلياً، وفي الرواية يتجلّى ذلك في التحالف بين السعودية والغرب، حيث يُصبح الملك شريكاً في الاستشراق، يُساهم في إنتاج صورةٍ عن اليمن كأرضٍ فوضويةٍ تحتاج إلى تدخّلٍ «حضاريٍّ»، مما يُبرّر الاستعمار الداخلي كامتدادٍ للخارجي. الشبح الذي يعود هو مقاومةٌ سعيدية للخطاب، حيث يُصبح الطفل صوتاً مضاداً يُفكّك الصورة المُنتجة، يُذكّر بأن الآخر ليس تهديداً، بل جزءاً من الذات المُنكَرة.
يوسّع سعيد مفهوم الاستشراق ليشمل السلطة والمعرفة، وفي الرواية يتجسّد ذلك في التقارير الاستخباراتية والخرائط التي يُنتجها الملك، حيث تُصبح المعرفة عن اليمن أداةً للسيطرة، تُصوّر الطفل كجزءٍ من «الفوضى الشرقية» التي تحتاج إلى «تنظيمٍ» سعوديٍّ. سعيد يُشير إلى أن الاستشراق يُنتج الآخر كموضوعٍ للمعرفة ليُبرّر السيطرة، وفي الرواية يتجلّى ذلك في الأشباح التي تعود لتُذكّر بفشل هذه المعرفة، حيث يُصبح الطفل صوتاً يُفكّك الخطاب، يسأل «ليه؟» ليكشف أن المعرفة المُنتجة هي مجرّد أداةٌ للقمع، لا حقيقةٌ موضوعية.
في سياق سعيدي أوسع، تكشف الرواية عن كيف يُعاد إنتاج الاستشراق في الروايات التاريخية، حيث يُصبح الملك كاتباً لتاريخٍ يُمحي الآخر، يُصوّر اليمن كأرضٍ غامضةٍ مليئةٍ بالتهديدات، مما يُبرّر الاستعمار الداخلي. سعيد يُؤكّد أن الروايات هي جزءٌ من الخطاب الاستشراقي، وفي الرواية يتجسّد ذلك في الشبح الذي يعود ليُفكّك الرواية الرسمية، يُذكّر بأن التاريخ ليس مجرّد وقائع، بل خطابٌ يُنتج السلطة. الطفل، في هذا السياق، هو روايةٌ مضادةٌ تُفضح الخطاب، يسأل «ليه؟» ليكشف أن الرواية الرسمية هي مجرّد أداةٌ للسيطرة.
يمتد التحليل إلى كيف يُساهم الاستشراق في إنتاج الهويات المُتناقضة، حيث يُصبح الملك «الشرقي الحضاري» الذي يحمي «الأمة» من «الفوضى الشرقية»، مستخدماً أدواتٍ غربيةً ليُعيد رسم الهويات داخل الشرق. سعيد يُشير إلى أن الاستشراق يُنتج الآخر كموضوعٍ للسيطرة، وفي الرواية يتجلّى ذلك في الطفل اليمني كرمزٍ للهوية المُمحاة، الذي يعود كشبحٍ ليُذكّر بالتناقضات، يسأل «ليه؟» ليكشف أن الهوية السعودية هي هويةٌ استشراقيةٌ مُستعارة.
في عمق التحليل، تكشف الرواية عن كيف يُعاد إنتاج الاستشراق في السلطة الداخلية، حيث يُصبح الملك شريكاً في الاستشراق، يُساهم في إنتاج صورةٍ عن اليمن كأرضٍ فوضويةٍ، مما يُبرّر الاستعمار الداخلي كامتدادٍ للخارجي. سعيد يُؤكّد أن الاستشراق نظامٌ عالميٌ، وفي الرواية يتجسّد ذلك في الشبح الذي يعود ليُفضح النظام، يُذكّر بأن الآخر جزءٌ من الذات.
يوسّع سعيد مفهوم الاستشراق ليشمل المقاومة، وفي الرواية يتجلّى ذلك في الطفل كصوتٍ مضادٍ يُفكّك الخطاب، يسأل «ليه؟» ليكشف أن الاستشراق يُنتج السلطة، لكن المقاومة تكمن في كشفه. الرواية تُعلن أن الاستشراق لم ينتهِ، بل تحول إلى استشراقٍ ذاتيٍّ يُحرق الذات نفسها.
في خاتمة سعيدية، تُصبح الرواية مرآةً للاستشراق العربي، حيث يُعاد إنتاجه داخلياً، ويُصبح الملك ضحيةً لخطابه، يعيش في قصره كسجينٍ لصورةٍ عن نفسه، بينما الطفل يعود ليُذكّر بالحقيقة المُمحاة، يسأل «ليه؟» ليكشف أن الخلاص يكمن في تفكيك الخطاب الاستشراقي، وإعادة كتابة التاريخ بعيداً عن السلطة.
مقدمة تمهيدية للرواية :
في ليلةٍ من ليالي الجزيرة التي لا يعرفها سوى الريح والنجوم، ليلةٌ سقطت فيها قطرةُ حبرٍ على ورقةٍ سريةٍ في غرفةٍ تحت الأرض لا يصلها ضوءٌ ولا صوتٌ إلا همسُ الخائنين، بدأت حكايةٌ لا يجرؤ التاريخ الرسمي على كتابتها، ولا يستظلّ الأشباح ترويها إلى أن ينهار القصر نفسه. قطرةُ حبرٍ صغيرة، لا تكاد تُرى، لكنها كانت بذرةَ شجرةٍ سامةٍ امتدّت جذورها تحت الأرض، وتفرّعت أغصانها في السماء، فأمطرت دماً على أجيالٍ لم تُولد بعد. هذه الرواية ليست سيرةًا لملوك، ولا تاريخاً لمعارك، ولا حتى شهادةً على كارثة، بل هي صوتٌ واحدٌ متكرّرٌ منذ ستين عاماً، صوتُ طفلٍ صغيرٍ يقف على أنقاض بيته المحترق، يمسك دميةً متفحّمةً بين يديه المرتجفتين، ويصرخ بسؤالٍ يقطع الروح قبل أن يقطعة: «لماذا؟».
سؤالٌ بريءٌ في ظاهره، لكنه في باطنه سيفٌ مسمومٌ لا يُشفى منه جرح. سؤالٌ لم يُطرح ليوماً في قاعات المؤتمرات، ولم يُكتب في البيانات الرسمية، ولم يُسجّل في التقارير السرية، لكنه ظلّ يتردّد في أعماق القلوب التي خُدّرت، وفي أحلام الملوك الذين ظنّوا أنهم يملكون النوم. سؤالٌ يعود كل ليلةٍ مع شبحٍ جديد، يطرق جدران القصر الأصمّ، يتسلّل من تحت الأبواب المغلقة، يجلس على حافة السرير الملكي، ويضع على صدر الملك دميةً محترقةً لا تزال تنبض بالنار، ثم يهمس في أذنه حتى يستيقظ مذعوراً، لكن لا أحد يجرؤ على الإجابة، لأن الإجابة واحدة، وهي أشدّ مرارةً من الموت: «لأنني اخترتُ أن أبقى».
ادخلوا إلى هذا القصر الذي لا نوافذ له، قصرٌ بناه الخوف، ورعاه الكذب، ورواه الدم، قصرٌ يقف شامخاً في الخارج، لكنه من الداخل مقبرةٌ حيةٌ تضيق على أصحابها يوماً بعد يوم. هنا يجلس ملكٌ على عرشٍ من رماد، يمسك قلم ذهبٍ بيدٍ ترتجف، يوقّع كل صباح على موتٍ جديد، يُعلن النصر بابتسامةٍ صفراء، ثم يعود ليلاً إلى سريره ليجد الطفل واقفاً عند قدميه، ينظر إليه بعينين لا عمر لهما، ويكرّر السؤال الذي لا يُطفأ: «لماذا؟».
هذه الرواية ليست حكايةً عن خيانةٍ واحدة، بل عن خيانةٍ تتكرّر كاللعنة، تُورَّث من ملكٍ إلى ملك، من جيلٍ إلى جيل، من توقيعٍ إلى توقيع، حتى صارت الخيانة نفسها هويةً، والعرش قبراً، والشعب كفناً أبيض يُغطّى به الضمير كلما استيقظ. بدأت في الستينيات حين وقّع ملكٌ على تدمير ثورةٍ في اليمن ليبقى عرشه، ثم وقّع آخر على سكوتٍ عن فلسطين ليبقى عرشه، ثم وقّع ثالث على إطلاق وحوشٍ تكفيريةٍ تأكل الأمة ليبقى عرشه، ثم وقّع رابع على إبادةٍ بطيئةٍ في اليمن الجديد ليبقى عرشه، وكل توقيعٍ كان يُضيف طفلاً جديداً إلى الصف الطويل الذي ينتظر في الظلام.
ادخلوا، ولا تخافوا الظلام، فالنور في هذا القصر هو الأكثر رعباً، لأنه يكشف الوجوه التي تبتسم بينما تحترق الأرض تحت أقدامها. ادخلوا، واسمعوا صوت الطفل وهو يتردّد في الرواق، يتسلّق الجدران، يتسلّل إلى الأحلام، يجلس على الصدر حتى يُصبح التنفّس عذاباً. اسمعوا صوت الدمية وهي تحترق ببطء، صوتاً لا يصدر صرخةً، لكنه يُحرق الروح. اسمعوا صوت الملك وهو يهمس لنفسه في الظلام: «البقاء أولاً… البقاء أولاً»، وهو يعرف أن البقاء هذا هو الموت الأبطأ والأقسى.
هذه الرواية ليست دعوةً للحزن، بل صرخةٌ في وجه الصمت. ليست رثاءً للضحايا، بل محاكمةٌ للجلادين الذين ينامون مطمئنين. ليست قصيدةً في مدح الشهداء، بل لعنةٌ على من باع الكرامة بثمنٍ بخس. ادخلوا، فالقصراخ لم يزلّ يتعالى من تحت الأنقاض، والدمية لا تزال تحترق، والسؤال لا يزال يطرق الباب كل ليلة: «لماذا؟»، ولا جواب، لأن الجواب سيُحرق العرش، وسيُحرق معه كل من اختار أن يبقى على حساب أمةٍ كاملة.
ادخلوا، ولا تُغمضوا أعينكم، فالنار التي أُشعلت قبل ستين عاماً لا تزال تشتعل، والطفل الذي سُئل «لماذا؟» لا يزال واقفاً، عيناه مفتوحتان، ينتظر جواباً لم يأتِ، ولن يأتي، إلا إذا احترق القصر كله، واحترق معه كل توقيعٍ، وكل ابتسامةٍ صفراء، وكل عرشٍ بُني على جماجم الأطفال. ادخلوا، فالصرخة تنتظركم، والدمية تنتظركم، والسؤال ينتظركم، ولن يترككم حتى تُجيبوا، أو حتى تحترقوا معه. لماذا؟
الفصل الاول : دمعةٌ على ورقةٍ سرية
1
في أعماق الصحراء الشاسعة، حيث تتآمر الرياح مع السراب لتخلق أوهاماً تبتلع الروح، ولد تحالف يشبه أفعى تتسلل بين الكثبان الذهبية، تغرس سمها في قلب الأرض. كان الشيخ أحمد بن راشد، رجل ذو لحية كالسيوف المتقاطعة في معركة خاسرة، يجلس في خيمة من جلود الإبل المجففة تحت شمس تكوي الجلود وتذيب الإرادات. عيناه، عميقتان كبئر مهجورة، تتجولان في الأفق البعيد، حيث يلتقي السماء بالأرض في خط وهمي يعد بالأسرار. الريح تهمس له بأنباء عن قوى غريبة، عن رجال يأتون من وراء البحار، محملين بوعود تتلألأ كالذهب المخفي تحت الرمال. لم يكن أحمد بن راشد مجرد راعٍ للإبل أو قائد قبيلة، بل كان طموحاً ينبض في صدره كإعصار محبوس، يبحث عن طريق يوسع سلطته على هذه الأرض الجافة التي تبتلع الضعفاء وتكافئ الماكرين.
جاء الغريب، السيد إدوارد هانت، من أرض الضباب والأمطار الدائمة، مرتدياً بدلة رمادية تكتم أنفاسها تحت حر الشمس اللافتة، كأنها جلد ثعبان يحاول التكيف مع بيئة غريبة. كان إدوارد هانت رجلاً من نوع يعرف كيف يقرأ الوجوه كخرائط قديمة، يرسم عليها طرقاً جديدة للتجارة والسيطرة. في جيبه، ورقة مطوية تحمل ختم الإمبراطورية، وفي عينيه بريق الطمع الذي يخفي نفسه خلف ابتسامة مهذبة. "سنبني إمبراطورية"، قال هانت بصوت هادئ كهمس الريح قبل العاصفة، وهو يمد يده نحو أحمد بن راشد، كأنه يقدم مفتاحاً لعالم غير مرئي. الشيخ نظر إليه، رأى فيه مرآة لأحلامه الخاصة، ابتسامة تخفي أنياب الطمع التي تتربص بالفريسة. كانت الرمال تشهد على صفقة تحول الدعوة الروحية إلى سيف يقطع أوصال الأمة، ويفتح أبواباً واسعة للرياح الغربية التي تهب محملة بالسم المغلف بالوعود.
بين الكثبان، حيث تتراقص الظلال كأرواح متعذبة، كان الداعي عبد الرحمن بن سالم يقف وحده، يتأمل في السماء كأنه يبحث عن إشارة إلهية. لحيته البيضاء تتمايل مع النسيم، وعيناه المتقدتان كجمرات نار مخفية تحت الرماد، تحملان رسالة إصلاح تبدو نقية كماء واحة نادرة. لكنه، في أعماق نفسه، يشعر بثقل الشك الذي يتسلل كالرمال إلى الروح، يسأل نفسه إن كانت دعوته هذه ستكون نوراً أم ناراً تأكل كل شيء. جاء إلى خيمة أحمد بن راشد في تلك الليلة، محاطاً بهالة من التقوى، يتحدث عن توحيد يجمع القلوب المتناثرة، عن إصلاح يطهر الأرض من الشرك والفساد. "يا شيخ"، قال عبد الرحمن بن سالم بصوت يرتجف من الحماس، "دعوتي ستكون سيفاً في يدك، تجمع القبائل تحت راية واحدة، وتطرد الظلام الذي يغلف القلوب". أحمد بن راشد استمع، رأى في كلماته أداة مثالية لأحلامه، سيفاً يقطع الطريق نحو السلطة، لكنه لم يدرِ أن هذا السيف سيصبح مزدوج الحدين، يجرح الصديق قبل العدو.
السيد إدوارد هانت، الذي كان يقف في الظل كشبح من عالم آخر، ابتسم ابتسامة خفية، يدون في دفتر صغير شروط الولاء التي ستربط هذه الصحراء بقصور لندن البعيدة. كان يعرف أن الوهابية، أو ما يشبهها في دعوة عبد الرحمن، ليست مجرد إصلاح ديني، بل أداة حادة كشفرة مخفية، تستخدم لتقسيم العالم الإسلامي وإضعاف الإمبراطورية العثمانية التي تترنح تحت ثقل الزمن. "سأدعم حملاتكم"، قال هانت، وهو يمد يده بصناديق مليئة بالذهب والأسلحة، "مقابل ولاء يضمن تدفق الثروة والسيطرة على الممرات البحرية". أحمد بن راشد أمسك بالصندوق، شعر بثقله كثقل مصير، لكنه رأى فيه فرصة ليصبح ملكاً على أرض لا تعرف الملوك. السخرية الكبرى كانت في أن هذا الذهب، الذي يلمع كشمس الصحراء، سيصبح سلاسل حول عنق الأمة، تربطها بإرادة الغرباء.
مع شروق الشمس الذي يذيب السراب ويكشف الحقيقة القاسية، انطلقت الحملات كعواصف رملية تغطي الأرض بدماء الأبرياء، توسع حدوداً رسمتها أيدٍ أجنبية في غرف مظلمة بعيدة. عبد الرحمن بن سالم يقود الدعوة بصوته الجهوري، ينادي بالتوحيد كأنه ينادي بموت الآخرين، بينما أحمد بن راشد يركب جواده الأسود، يشق الطريق نحو مدن وقرى تتساقط كأوراق شجرة ميتة. في إحدى الليالي، بعد معركة دامية، جلس الشيخ تحت النجوم التي تبدو كعيون تشاهد الخيانة، يتذكر كلمات هانت: "الوهابية ستكون سلاحاً لتقويض الوحدة، ستفتح أبواب الجزيرة لنفوذنا". شعر بغصة في حلقه، كأن الرمال تبتلع كلماته، لكنه طرد الشك كطرد ذبابة مزعجة، مقنعاً نفسه بأن السلطة تستحق التضحية.
الداعي عبد الرحمن، في خلوته، يرى أشباحاً تتسلل من الظلام، وجوه المقتولين تتهمه بأن دعوته أصبحت أداة في يد الاستعمار، لكنه يصلي، يطلب الغفران، مقتنعاً بأن النقاء يبرر الدماء. السيد هانت، من بعيد، يرسل رسائل إلى رؤسائه، يصف كيف تحولت الصحراء إلى لوحة شطرنج يلعب عليها الملوك البعيدون، والشيخ أحمد مجرد بيدق يتقدم نحو المجهول. كانت الوثائق تُوقع في غرف سرية، حيث يتبادل الرجال الوعود كالتجار في سوق مزدحم، والأمة تتقسم إلى كيانات ضعيفة، تتناحر تحت شعارات دينية مزيفة تبدو مقدسة للوهلة الأولى.
في ليلة مليئة بالنجوم التي تسقط كدموع السماء، جلس أحمد بن راشد مع عبد الرحمن بن سالم، يتحدثان عن المستقبل كأنهما يرسمان خريطة على الرمال. "دعوتك ستجمعنا"، قال الشيخ، لكن في قلبه يعرف أنها ستفرق أكثر مما تجمع. الداعي أجاب: "التوحيد سيطهرنا"، غير مدرك أن الطهارة ستكون مغلفة بالخداع. من الظل، كان إدوارد هانت يراقب، يضحك ضحكة خفيفة كهمس الرياح، يعرف أن هذا التحالف سيولد دولة تعتمد على الغرب، ذراعاً تنفيذياً لمصالحه، مساهمة في كوارث المنطقة منذ ذلك الحين. السخرية تكمن في أن الشيخ، الذي يحلم بالسيادة، سيصبح عبداً لمن يدعمه، والداعي، الذي يبحث عن النقاء، سيغرق في بحر من الدماء.
مع مرور الأيام، تحولت الخيمة إلى قصر صغير، مبني من الطين والأحلام، حيث يجتمع الرجال للاحتفال بانتصارات تبدو عفوية، لكنها مخططة بعناية. أحمد بن راشد يوزع الغنائم، يعد بالمزيد، بينما عبد الرحمن يتحدث عن الجهاد كأنه قصة من ألف ليلة وليلة، مليئة بالبطولات والأسرار. لكن في الأعماق، يشعر الشيخ بثقل السر، كأن صخرة تضغط على صدره، يتذكر كيف مول هانت الحملات، دعم التوسعات، مقابل ولاء يضمن تدفق النفط الذي لم يُكتشف بعد، لكنه يعد بثروة تفوق الخيال. الرمال تمتص الدماء، تبني قصوراً جديدة، لكن الأساس هش، مبني على الخداع الذي يتسلل كالسم في الشراب.
في إحدى العواصف الرملية، التي تغطي السماء بغبار أصفر كالذهب المغشوش، جاء رسول من هانت، يحمل رسالة سرية: "الإمبراطورية العثمانية تترنح، ودعوتكم ستكون السلاح الذي ينهيها". أحمد بن راشد قرأ الرسالة، شعر بالفخر الممزوج بالرعب، كأنه يمشي على حبل مشدود فوق وادٍ عميق. عبد الرحمن بن سالم، الذي سمع الهمس، ابتسم ابتسامة المتيقن، مقتنعاً بأن الله يبارك طريقهم، غير مدرك أن الباركة تأتي من يد بشرية ملطخة بالمصالح. السيد هانت، في مكتبه البعيد، يرسم الخرائط، يرى في هذا التحالف فرصة لتقسيم العالم الإسلامي، تعميق التخلف، وإبقاء العرب في انحطاط كوني يخدم الإمبراطورية.
الآن، بعد سنوات، يتذكر أحمد بن راشد تلك الليلة كأنها حلم مشوش، حيث تحولت الصحراء إلى مسرح لمسرحية كبرى، والشخصيات تتحرك وفق سيناريو مكتوب في غرف لندن. كان يجلس وحده، يستمع إلى صوت الرياح التي تحمل أنين الضحايا، يتساءل إن كان الثمن يستحق، لكنه يطرد الفكرة، مقنعاً نفسه بأن السلطة هي الغاية الوحيدة. عبد الرحمن بن سالم، في مسجده الصغير، يصلي، لكن الشك يتسلل إليه كاللصوص في الليل، يسأل نفسه إن كانت دعوته نقية أم ملعونة. والسيد هانت، يعود إلى بلاده، يحمل في حقيبته وثائق الولاء، يضحك من السخرية الكبرى: كيف تحول رجلان من الصحراء إلى أدوات في يد الاستعمار، يبنيان دولة ستكون بوابة للغرب إلى قلب العالم العربي.
في تلك الأيام، كانت القبائل تتجمع حول النار، تروي قصصاً عن بطولات أحمد بن راشد، لكن في الهمسات، تتحدث عن الغريب الذي يأتي ويذهب كشبح، يترك وراءه أثر الخيانة. الداعي عبد الرحمن يخطب فيهم، ينادي بالتوحيد، لكن بعض العيون تتلألأ بالشك، ترى في كلماته غطاءً للطمع. والشيخ، في قصره الناشئ، ينظر إلى الأفق، يرى مستقبلاً مليئاً بالقصور والثروة، غير مدرك أن هذا المستقبل سيصبح سجناً لأبنائه، مرتبطاً بسلاسل الذهب الأسود. السخرية تكتمل عندما يتذكر كيف كانت الدعوة تبدو إصلاحاً، وهي في الحقيقة أداة للتقسيم، سيف يقطع الوحدة ويفتح الجراح التي لن تندمل.
مع غروب الشمس الذي يلون السماء بدماء حمراء كدماء المعارك، تسللت أشباح الضحايا إلى أحلام أحمد بن راشد، وجوه مشوهة تتهمه بالخيانة، لكنه يستيقظ مذعوراً، يطردهم بوعود السلطة التي تبدو أقوى من الندم. عبد الرحمن بن سالم يقرأ كتبه القديمة، يبحث عن تبرير، لكن الصفحات تبدو ملطخة بالرمال والدم. والسيد هانت، في سفينته العائدة، يكتب مذكراته، يصف كيف صنع دولة من لا شيء، دولة ستكون حارساً لمصالح الإمبراطورية، مساهمة في تقسيم المنطقة إلى كيانات ضعيفة تتناحر تحت شعارات دينية مزيفة.
في النهاية، ولدت الدولة كطفل مشوه، تبدو قوية من الخارج، لكنها في الداخل مليئة بالفراغ والخداع. أحمد بن راشد أصبح ملكاً على عرش من السراب، عبد الرحمن بن سالم نبياً مزيفاً، وإدوارد هانت اللاعب الخفي الذي يحرك الخيوط من بعيد. الصحراء تشهد، الرياح تهمس، والتاريخ يكتب فصولاً من الخيانة التي ستستمر، مزجاً بين الجد والسخرية، كمسرحية لا تنتهي إلا بسقوط الستار.
2 تحت ضوء القمر الشاحب، الذي يرسم ظلالاً طويلة تشبه أشباح الماضي المنسية، تجمع الرجال حول نار متقدة تلهب الوجوه وتكشف أعماق القلوب المخفية. كانوا يجلسون في دائرة غير منتظمة، أجسادهم منحنية نحو اللهيب كأنهم يبحثون عن دفء ليس للجسد فحسب، بل للروح التي بردت تحت ثقل الزمن. الرمال حولهم تتموج بلطف، كأنها أمواج بحر هادئ يخفي أعماقاً مليئة بالأسرار، والرياح تهمس بأنين خفي يشبه صرخات الضحايا البعيدين. في وسط هذه الدائرة، وقف الداعي سليم بن حمد، بعينيه المتقدتين كجمرات نار مخفية تحت طبقة من الرماد، يتحدث بصوت جهوري يرتجف من الحماس المقدس. كانت كلماته تتدفق كسيل جارف، عن توحيد يعد بجمع القبائل المتناثرة تحت راية واحدة، لكن في أعماقها، كانت تقسم أكثر مما تجمع، تحول الإخوة إلى أعداء تحت غطاء النقاء الديني.
سليم بن حمد، ذلك الرجل النحيل ذو اللحية الرمادية التي تتدلى كشلال جاف، كان يرفع يديه نحو السماء كأنه يستدعي الإلهام من النجوم البعيدة. "يا إخواني"، قال بصوت يتردد صداه في الصمت الليلي، "التوحيد هو الطريق الوحيد للخلاص، هو السيف الذي يقطع جذور الشرك والفساد الذي ينخر في أجسادنا كالدود في الخشب القديم. سنطهر الأرض من الضلال، ونبني أمة قوية لا تخشى الرياح ولا السراب". الرجال يستمعون، بعضهم يهز رأسه موافقاً، وعيونهم تلمع بالأمل الممزوج بالخوف، بينما آخرون يتبادلون نظرات خفية، يتساءلون في سرهم إن كانت هذه الدعوة ستجلب السلام أم العاصفة. كان سليم بن حمد يتحدث عن إصلاح يبدو نبيلاً، لكنه في الحقيقة يهدم أكثر مما يبني، يحرق القرى والمدن تحت شعار الطهارة، ويترك وراءه أنقاضاً تبني عليها قصور الطموحين.
الشيخ فهد بن طالب، الذي كان يجلس إلى يمين الداعي، ينظر إليه بعينين حادتين كعيون الصقر الذي يتربص بفريسته. فهد بن طالب، رجل قوي البنية ذو بشرة محروقة من شمس الصحراء، كان يرى في سليم بن حمد أداة مثالية لأحلامه الجامحة، مفتاحاً للسلطة التي يطارد شبحها منذ سنوات. لحيته السوداء المشذبة بعناية تخفي ابتسامة خبيثة، ويده اليمنى تتحسس سيفه المعلق على جانبه كأنه يعد لمعركة قادمة. "نعم، يا سليم"، همس فهد بن طالب في نفسه، "كلماتك ستكون درعي، وسيفي الذي يوسع حدودي". لم يكن يرى في الدعوة إلا وسيلة للتوسع، للسيطرة على الأراضي الشاسعة التي تختبئ فيها الثروات، غير مدرك أن هذه الأداة ستتحول يوماً إلى سلسلة حول عنقه.
وخلفه، في الظلال الداكنة التي يلقيها ضوء النار، يقف الغريب جوناثان كلارك، رجل من أرض الضباب البعيدة، مرتدياً عباءة محلية ليندمج مع المشهد، لكن عينيه الزرقاوتين تخونهما، تكشفان أصله الغريب كنجمة في سماء غائمة. كان جوناثان كلارك يدون في دفتر صغير جلدي، بقلم يتحرك بخفة كالثعبان، شروط الولاء التي ستربط هؤلاء الرجال بإمبراطوريته البعيدة. كلماته المكتوبة كانت عقوداً خفية، وعوداً بالدعم المالي والعسكري مقابل السيطرة على الممرات والثروات. "سيكونون أداتنا"، فكر كلارك وهو ينظر إلى الدائرة، "سيقسمون الأمة بأيديهم، ويفتحون الأبواب لنا دون أن يدركوا". النار تتراقص على وجهه، تكشف ابتسامة ساخرة تخفي الازدراء لتلك الشعوب التي تبيع نفسها بثمن بخس.
كانت الحملات تبدأ كعواصف رملية مفاجئة، تغطي الأرض بدماء الأبرياء وتصرخات النساء والأطفال التي تذوب في الرياح. في إحدى الليالي السابقة، كان فهد بن طالب قد قاد رجاله إلى قرية صغيرة على حافة الوادي، حيث يعيش أهلها في سلام هش. تحت غطاء الدعوة، هاجموا كالذئاب الجائعة، يصرخون شعارات التوحيد بينما سيوفهم تقطع الأجساد وتحرق الخيام. سليم بن حمد كان يقف على تل قريب، يصلي بصوت عالٍ، مقتنعاً بأن هذا الدم هو ثمن الطهارة، لكنه في أعماقه يشعر بغصة الشك، كأن روحاً داخلية تهمس له بأن الإصلاح أصبح تدميراً. "هل هذا ما أردت؟"، تساءل في سره، لكنه طرد الفكرة، مقنعاً نفسه بأن النهاية تبرر الوسيلة.
جوناثان كلارك، الذي كان يراقب من بعيد، يدون التفاصيل في دفتره: عدد القتلى، الحدود الجديدة، الغنائم التي ستتحول إلى ذهب يغذي الإمبراطورية. كان يعرف أن هذه الحملات ليست عفوية، بل مخططة بعناية في غرف لندن المضاءة بالشموع، حيث يرسم الرجال الخرائط كفنانين يصنعون لوحات من الدم والرمال. السخرية الكبرى كانت في أن التوحيد، الذي يعد بجمع القلوب، كان يخدم التفرقة العميقة، يحول القبائل إلى أعداء يتناحرون تحت رايات مزيفة، بينما الغريب يجمع الثمار دون جهد. الإصلاح، الذي يبدو نبيلاً، يبني قصوراً فخمة على أنقاض الشعوب المنكوبة، قصوراً تتلألأ تحت الشمس لكن أساسها من الخداع والخيانة.
مع اقتراب الفجر، الذي يبدأ بلمسة وردية على الأفق، انفض الرجال عن النار، يعودون إلى خيامهم محملين بكلمات سليم بن حمد التي تتردد في أذهانهم كصدى في كهف عميق. فهد بن طالب يمشي بخطى واثقة، يفكر في الحملة القادمة، في الأراضي التي سيسطو عليها باسم الدعوة. لكنه، في لحظة وحدة، يشعر بثقل السر، كأن الرمال تثقل خطواته، يتذكر لقاءه الأول مع كلارك، عندما قدم الغريب الصناديق المليئة بالأسلحة والذهب، قائلاً: "هذا لكم، مقابل أن تكونوا عيوننا في هذه الأرض". شعر فهد بن طالب بغصة، لكنه ابتسم، مقنعاً نفسه بأن السلطة تستحق كل تضحية.
سليم بن حمد، الذي بقي وحده عند النار الخامدة، ينظر إلى الرماد كأنه يرى فيه مصير الأمة. عيناه المتقدتان تدمعان قليلاً، ربما من الدخان أو من الندم الخفي، يتساءل إن كانت دعوته ستجلب النور أم الظلام الأعمق. الرياح تهب أقوى، تحمل معها أنيناً يشبه صرخات الموتى، وهو يصلي، يطلب الإرشاد، غير مدرك أن الإرشاد يأتي من يد بشرية ملطخة بالمصالح. جوناثان كلارك، الذي انسحب إلى خيمته، يكتب رسالة سرية إلى رؤسائه: "الدعوة تنتشر كالنار في الهشيم، وسيصبحون أداتنا في تقسيم الإمبراطورية العثمانية، تعميق التخلف، وفتح الأبواب لنفوذنا".
في تلك الليالي، كانت القبائل الأخرى تسمع عن الحملات، تروي قصصاً عن الشيخ فهد الذي يأتي كالعاصفة، مدعوماً بدعوة سليم التي تبدو مقدسة. لكن في الهمسات حول النيران الأخرى، يتحدثون عن الغريب كلارك، الذي يظهر ويختفي كشبح، يترك وراءه أثر الخيانة التي تتسلل إلى القلوب. السخرية تكتمل عندما يجتمع الثلاثة في لقاء سري، فهد يطلب الدعم، سليم يبارك الدعوة، وكلارك يدون الشروط، كأنهم يلعبون مسرحية كتبها القدر، مسرحية مليئة بالدم والذهب، حيث التوحيد يصبح تفرقة، والإصلاح تدميراً.
مع مرور الليالي، تحولت الدائرة حول النار إلى رمز للتحالف الشيطاني، حيث تلهب النار الوجوه وتكشف القلوب، لكنها لا تكشف الحقيقة الكاملة. فهد بن طالب يرى فيها بداية إمبراطوريته، سليم بن حمد يراها طريقاً للخلاص، وجوناثان كلارك يراها فرصة للسيطرة. الرمال تشهد، الرياح تهمس، والقمر الشاحب يراقب، يرسم ظلالاً تتنبأ بكوارث قادمة. السخرية في أن هذه الليلة، التي تبدو عادية، كانت بداية لسلسلة من الحملات التي ستغطي الأرض بدماء، توسع حدوداً رسمتها أيدٍ أجنبية في غرف بعيدة، وتبني دولة على أنقاض الشعوب.
في إحدى الحملات اللاحقة، قاد فهد بن طالب رجاله إلى وادٍ خصب، حيث يعيش أهل آخرون في سلام نسبي. تحت ضوء القمر نفسه، هاجموا كالأشباح، يصرخون شعارات سليم بن حمد، بينما السيوف تقطع والنيران تحرق. سليم كان يقف بعيداً، يصلي، لكنه سمع الصرخات، شعر بثقلها كصخرة على قلبه. "هل هذا التوحيد؟"، تساءل، لكن الإجابة جاءت من الرياح، تحمل معها رائحة الدم. جوناثان كلارك، الذي كان يراقب من تل، يدون: "نجاح آخر، الحدود تتوسع، والولاء يتعمق".
السخرية تتجلى في أن الرجال الذين تجمعوا حول النار، يعتقدون أنهم يبنون أمة، بينما هم يهدمونها، يخدمون مصالح الغريب دون أن يدركوا. التوحيد يقسم، الإصلاح يهدم، والقصور تبنى على الأنقاض. الشيخ فهد ينام تلك الليلة مطمئناً، يحلم بالسلطة، بينما سليم يتأرق، والغريب كلارك يضحك في سره. الصحراء تمتص الدماء، وتستمر في رواية قصتها الدرامية، مليئة بالخيانة والطمع.
مع شروق الشمس الجديد، ينفض الجمع، لكن الظلال تبقى، تذكر بأن الليلة كانت بداية النهاية. فهد بن طالب يعد للحملة التالية، سليم بن حمد يعدل دعوته، وجوناثان كلارك يرسل التقارير. السخرية في أن النار التي جمعتهم، ستحرق الجميع يوماً ما.
3
مع شروق الشمس الذي يذيب السراب ببطء كأنه يقشر طبقات الكذب عن وجه الحقيقة القاسية، انطلقت الجيوش كأمواج هائجة من الغبار الذهبي، تغمر الأرض بزئير الخيول وصدى السيوف التي تتقاطع في الهواء كأنها تكتب تاريخاً ملطخاً بالدم. كان الشيخ سالم بن خالد يقف على قمة تل رملي، ينظر إلى أتباعه الذين يتحركون كجسد واحد، أجسادهم مغطاة بعباءات سوداء ترفرف كأجنحة غربان تنذر بالموت. عيناه، حادتان كشفرة خنجر، تلمعان بالفخر الممزوج بالجشع، يرى في كل خطوة تقدمية انتصاراً يقربه من عرش السيادة الذي يحلم به منذ أن كان يرعى الإبل في وديان الجوع. لم يكن سالم بن خالد مجرد قائد قبيلة، بل كان طموحاً ينبض في صدره كقلب وحش مفترس، يبحث عن فريسة جديدة ليوسع إمبراطوريته الوليدة على حساب الآخرين.
من بعيد، في مخبأ سري خلف الكثبان، كان الغريب هنري براون يراقب المشهد بعينين باردتين كالجليد في صحراء حارقة، يدون في دفتر جلدي قديم تفاصيل الشحنات التي يرسلها مخفية في صناديق تحمل أسماء تجارية مزيفة، كأنها هدايا من عالم آخر. كانت الصناديق مليئة بالبنادق اللامعة والبارود الذي ينفجر كغضب مكبوت، يعد بالمزيد إذا سقطت الإمبراطورية القديمة التي تترنح تحت ثقل السنين والحروب. "سيكونون مدينين لنا إلى الأبد"، همس براون لنفسه، وهو يبتسم ابتسامة خبيثة تخفي أنياب الاستعمار، يعرف أن هذه الأسلحة ليست مجرد أدوات حرب، بل سلاسل تربط الصحراء بقصور لندن البعيدة، حيث يجلس الرجال في غرف مضاءة بالشموع يرسمون خرائط السيطرة. كان براون رجلاً ذا بشرة شاحبة كالقمر، مرتدياً بدلة تكتم أنفاسها تحت حر الشمس، لكنه يتحمل كل شيء من أجل الوعد بالذهب الأسود الذي ينام تحت الرمال، ينتظر اليوم الذي يصبح فيه دماً يغذي عروق الإمبراطورية.
الداعي يوسف بن عمر، الذي كان يرافق الشيخ في حملاته، يقف إلى جانبه الآن، لحيته البيضاء تتمايل مع النسيم الصباحي كأنها راية سلام في ميدان حرب. عيناه المتقدتان تحملان حماساً دينياً يبدو نقياً كماء واحة نادرة، لكنه في أعماقه مليء بالتناقضات، ينادي بالتوحيد بصوت يرتجف من الإيمان، مقتنعاً بأن هذه الحملات هي جهاد مقدس يطهر الأرض من الضلال. "يا شيخ"، قال يوسف بن عمر بصوت عميق كصدى في كهف، "كل انتصار خطوة نحو الجنة، نحو أمة موحدة تحت راية الحق". لكن سالم بن خالد يستمع إليه، يرى في كلماته غطاءً لأطماعه الخاصة، خطوة نحو سيادة يحلم بها، غير مدرك أن السيادة وهم كبير، سراب يتلاشى مع كل شروق شمس جديد، وأن الذهب الأسود، الذي يعد بالثراء، سيصبح سلاسل حديدية حول عنقه وعنق أبنائه.
كانت الحرب تبدو كلعبة معقدة، حيث يسقط الخصوم كأحجار الدومينو في صف طويل، واحد تلو الآخر، ينهارون تحت وطأة السيوف والبارود الذي يأتي من بعيد. في إحدى المعارك الأولى، انطلق الرجال نحو قرية صغيرة على ضفاف وادٍ جاف، أهلها يعيشون في سلام هش كورقة في عاصفة. الشيخ سالم بن خالد يقود الشحنة، جواده الأسود يركض كالريح، يصرخ شعارات التوحيد بينما سيفه يقطع الهواء قبل أن يقطع الأجساد. يوسف بن عمر يتبعه، يرفع يديه نحو السماء، يدعو للنصر كأنه يستدعي الملائكة، لكن الملائكة تبدو غائبة، والدماء تسيل كأنهار حمراء تمتصها الرمال الجائعة دائماً. هنري براون، من مخبئه، يراقب عبر منظار صغير، يحسب الغنائم والخسائر، يعد بالمزيد من الصناديق إذا استمرت الانتصارات، مقتنعاً بأن كل سقوط للخصم هو خطوة نحو سيطرتهم الكاملة.
السخرية الكبرى تكمن في أن المنتصر، الذي يرفع رايته عالياً تحت الشمس المتوهجة، يصبح أسيراً لمن دعمه دون أن يدري، يرقص على خيوط العنكبوت التي نسجها الغريب في الظلام. سالم بن خالد، بعد كل معركة، يجلس في خيمته الفسيحة، يعد الغنائم الذهبية والأراضي الجديدة، يشعر بالقوة تنبض في عروقه كنهر متدفق، لكنه لا يرى السلاسل التي تتشكل تدريجياً، سلاسل من وعود براون التي تبدو كالذهب لكنها حديد بارد. "سنبني قصراً هنا"، قال ليوسف بن عمر ذات ليلة، وهما ينظران إلى الأفق الذي يلونته غروب الشمس بدماء حمراء، "قصراً يشهد على سيادتنا". الداعي أجاب: "نعم، قصراً للحق"، غير مدرك أن الحق أصبح مشوهاً، مغلفاً بالخداع الذي يتسلل كالسم في الشراب.
مع مرور الأيام، تحولت الحملات إلى روتين دامٍ، كأن الصحراء نفسها تتعطش للمزيد من الدماء لتبقى خصبة في خيالها الوهمي. في حملة أخرى، عبر الجيش وادياً عميقاً، حيث يختبئ أعداء يدافعون عن أراضيهم بيأس الغريق الذي يتشبث بقشة. الشيخ سالم بن خالد يشحن رجاله بكلمات نارية، "للتوحيد، للسيادة!"، بينما يوسف بن عمر يقرأ آيات تتردد صداها في الوديان كأنها أناشيد الموت. البارود الذي أرسله براون ينفجر كغضب السماء، يسقط الخصوم كأوراق الخريف، والرمال تمتص الدماء بسرعة كأنها تخفي الجريمة قبل أن تشهد عليها الشمس. هنري براون يتلقى التقارير من رسله السريين، يبتسم لأن كل انتصار يعني سقوط جزء آخر من الإمبراطورية القديمة، يعد بالمزيد من الشحنات، صناديق تحمل أسماء تجارية كـ"بضائع شرقية"، لكن داخلها الموت المغلف بالفولاذ.
في لحظات الراحة النادرة، بعد أن تهدأ الرياح وتخمد النيران، يجلس سالم بن خالد وحده تحت النجوم، يتأمل في الطريق الذي سلكه، يشعر بغصة خفيفة كأن الرمال تثقل صدره. "هل هذه السيادة؟"، يتساءل في سره، لكنه يطرد الفكرة كطرد ذبابة مزعجة، مقنعاً نفسه بأن النصر يستحق الثمن. يوسف بن عمر، في خلوته، يصلي طويلاً، يبحث عن إشارة تؤكد أن طريقه صحيح، لكن الشك يتسلل إليه كاللصوص في الليل، يهمس بأن التوحيد أصبح أداة للطمع. أما هنري براون، في مخبئه، يكتب رسائل إلى رؤسائه: "الجيوش تنطلق، والحدود تتوسع، والذهب الأسود قريب"، يضحك ضحكة خفيفة كأنه يسخر من الجميع.
الرمال تمتص الدماء بلا رحمة، تحولها إلى أساس لقصور جديدة تبنى على عجل، قصور من الطين والحجر تتلألأ تحت الشمس كأنها جواهر، لكن أساسها هش كقشرة بيضة، مبني على الخداع الذي يتغلغل في كل حجر. في إحدى القرى المهزومة، بنى سالم بن خالد قصراً صغيراً، يجلس فيه مع يوسف بن عمر، يناقشان المستقبل كأنهما يرسمان خريطة على الرمال. "سنوسع أكثر"، قال الشيخ، عيناه تلمعان بالطموح، "سنسيطر على الممرات والوديان". الداعي أجاب: "باسم التوحيد"، لكن في قلبه يشعر بثقل الدماء التي سالت. هنري براون يزورهم سراً، يقدم صناديق جديدة، يعد بالدعم إذا سقطت الإمبراطورية، مقتنعاً بأن المنتصر سيصبح أسيراً له إلى الأبد.
السخرية تتجلى في كل تفصيل، فالحرب التي تبدو كلعبة، حيث يسقط الخصوم بسهولة، تحول المنتصر إلى عبد لداعمه، يرقص على إيقاع الوعود الكاذبة. سالم بن خالد يرى في كل انتصار خطوة نحو الحرية، لكنه لا يدري أن الحرية وهم، وأن الذهب الأسود سيصبح سجناً أبدياً. يوسف بن عمر يرى فيها طريقاً للطهارة، غير مدرك أن الطهارة ملطخة بالخيانة. وهنري براون يرى فيها فرصة للسيطرة، يضحك من الجميع كأنه اللاعب الوحيد الذي يعرف القواعد.
مع كل شروق شمس جديد، تنطلق الجيوش مرة أخرى، أمواج من الغبار تحمل معها أحلاماً مشوهة وخيانات مخفية، والصحراء تشهد على مسرحية لا تنتهي، مليئة بالدم والسخرية. الرمال تبني القصور، لكنها تنذر بالانهيار، فالأساس هش، والخداع ينتظر اللحظة المناسبة ليظهر وجهه الحقيقي. سالم بن خالد يستمر في التقدم، يوسف بن عمر يستمر في الدعاء، وهنري براون يستمر في الرسم، والتاريخ يكتب فصولاً من الظلال التي تطول مع كل غروب.
4
في ليلةٍ غارقةٍ في النجوم، حين تتساقط السماء كأنها عيونٌ تترقب الخيانة منذ الأزل، جلس الشيخ ناصر بن مانع وحده على بساطٍ من الصوف الأسود داخل خيمةٍ كبيرةٍ تتوسط معسكراً هادئاً ظاهرياً، لكنه ينبض بالقلق كجرحٍ خفيّ. كان القمرُ بدراً ثقيلاً، يلقي ضوءه الفضيّ على وجه الشيخ فيرسم خطوطاً عميقةً كندوب الزمن، تجعل عينيه تبدوان كبئرين مظلمتين غاص فيهما الطموحُ والخوفُ معاً. حوله، كانت الريحُ تهمسُ في أطراف الخيمة كأنها تحذّر من شيءٍ قادم، وكان صوتُ الجمال المربوطة يأتي من بعيد كنحيبٍ مكتوم. رفع ناصر بن مانع كأساً من القهوة المرّة، لكن يده ارتعشت قليلاً، فانسكب قطران أسودان على البساط، وكأن الدماء التي سالت في النهار قررت أن تتسلل إلى أحلامه أيضاً.
كان الداعي عبد الله بن صالح قد انصرف قبل قليل، تاركاً وراءه رائحة المسك والدخان المقدس، لكن كلماته بقيت تتردد في الخيمة كأشباحٍ لا تريد الرحيل: «التوحيدُ سيفٌ لا يُغمد، والتوسعُ فريضةٌ لا تنتهي». لكن ناصر بن مانع، وهو يمسح قطرتي القهوة بكمّ عباءته، شعر لأول مرة بثقلٍ في حلقه، كأن السيف الذي يرفعه الداعي قد التفت فجأةً واتجه إلى صدره هو نفسه. في تلك اللحظة بالذات، تسللت إلى الخيمة أصواتٌ غريبةٌ من الريح، أصواتٌ لم تكن ريحاً ولا همس إبل، بل كانت أنيناً خافتاً، وجوهَ نساءٍ ورضّعٍ وشيوخٍ قطعوا في حملات النهار باسم «الإصلاح». تسللت تلك الأصوات من بين خيوط الخيمة، كأن الرمال نفسها تقيأت ما ابتلعته في الصباح، ووقفت أم تتهمُه بصمت.
من بعيد، في ظلّ كثبانٍ شاهقة، كان الغريبُ ويليام ستيرلنغ يقف متكئاً على جملٍ إنجليزيّ الصنع، يراقب الخيمةَ الكبيرة بعينين زرقاوين باردتين كالفولاذ. كان قد خلع بدلته الرمادية وارتدى عباءةً بيضاء ليبدو كواحدٍ منهم، لكن رائحة التبغ الإنجليزي الثقيل كانت تفضحه. في جيبه الداخلي، ورقةٌ مطوية تحمل ختم الأسد والتاج، وفي قلبه حساباتٌ دقيقة: كم طنّاً من البارود يلزم لإسقاط مدينةٍ أخرى، وكم ألف جنيه إسترليني ستكلف كلّ خطوةٍ توسّع فيها ناصر بن مانع نحو الشمال. ابتسم ستيرلنغ ابتسامةً خفيفةً كالسكين، ثم كتب في دفترٍ صغيرٍ بقلمٍ حبره أزرق كدمٍ على جلدٍ أبيض: «الأمير يتقدم، والثمن يتراكم، والذهب الأسود يدنو».
داخل الخيمة، نهض ناصر بن مانع فجأة، كأن يداً خفية دفعت كتفيه. مشى بخطى ثقيلة نحو مدخل الخيمة، فتح الستارة قليلاً، فرأى السماء مكتظةً بالنجوم كأنها جرحٌ مفتوحٌ في جسد الليل. وفجأة، كأن القدر أراد أن يُريَه وجهه الحقيقي، لمح في الأفق الشرقي ظلالاً تتحرك، ظلالاً ليست لخيولٍ ولا رجال، بل ظلالاً طويلةً مشوهةً، كأنها أرواح القتلى تعود لتسترد أجسادها المفقودة. تراجع الشيخ خطوة إلى الوراء، وارتعشت شفتاه، ثم همس لنفسه: «مجرد سراب… مجرد سراب». لكنه عندما أغلق الستارة، بقي صوتٌ خافتٌ يتردد في أذنيه: «أنت البيعُ، وأنت الثمن».
في تلك اللحظة بالذات، دخل الداعي عبد الله بن صالح من جديد، وجهه مضطرب كأن عاصفةً داخلية هزته. كان قد عاد من صلاة الليل، لكن عينيه تحملان دموعاً لم تكن من خشية الله وحدها. «يا شيخ»، قال بصوتٍ مكسور، «رأيتُ في المنام أن سيوفنا التي نرفعها للتوحيد قد تحولت إلى أفاعٍ تلدغ صدورنا». توقف قليلاً، ثم أضاف همساً: «وسمعتُ صوتاً يقول: الذي يبيع دينه بالدنيا، يبيع دنياه بالآخرة». ناصر بن مانع نظر إليه طويلاً، ثم التفت نحو الظلام خارج الخيمة، كأنه يبحث عن إجابة في وجه الليل. لم يجب، لكن يده ضغطت على مقبض خنجره بقوة حتى ابيضت مفاصله، كأنه يحاول خنق الشكّ قبل أن ينطق.
خارج الخيمة، كان ويليام ستيرلنغ قد أشعل سيجارةً إنجليزيةً رفيعة، فتسلل دخانها الأبيض بين الكثبان كروحٍ تائهة. رفع عينيه إلى السماء، فرأى نجماً واحداً يسقط ببطء، كأنه دمعةٌ من عينٍ علوية. ابتسم ابتسامةً ساخرة، ثم كتب في دفتره: «الأمير بدأ يسمع الأصوات. جيد. الخوفُ أفضل ضامنٍ للولاء». ثم أطفأ السيجارة في الرمال، فتساقط الجمرُ الأحمر كقطرات دمٍ صغيرة، واختفى في الظلام.
داخل الخيمة، جلس ناصر بن مانع مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يشرب القهوة. وضع رأسه بين يديه، وشعر فجأة بثقل التاج الذي لم يرتده بعد، تاجٌ من حديدٍ مغلفٌ بالذهب، ثقيلٌ حتى على الأكتاف التي لم تتعب من حمل السيوف. تذكر كيف كان، قبل أشهرٍ فقط، يرعى الإبل ويحلم بقصرٍ صغير، والآن يملك قصوراً من الطين مبنية على أنقاض قرى، ويحلم بمدينةً على أطراف الجزيرة، ومع ذلك يشعر بأن شيئاً ما ينقصه، شيئاً ما يشبه الحرية التي كانت تمشي معه حافيةً في شبابه. همس لنفسه: «أنا أبني إمبراطورية»، لكن الصوت الذي خرج من حلقه كان صوت رجلٍ يبني قبره بيديه.
عاد عبد الله بن صالح وجلس مقابله، وكانطفأت النار بينهما تدريجياً حتى بقي جمرٌ واحدٌ ينبض باللون الأحمر كقلبٍ يحتضر. قال الداعي بهدوءٍ مرعب: «سمعتُ اليوم أن الغريب ويليام يرسل رسائله إلى بلاده كل ليلة، وفي كل رسالة يكتب: الأمير يتقدم، والدين يتراجع». لم يجب ناصر بن مانع، لكن يده ارتجفت مرة أخرى، وهذه المرة لم يستطع إخفاءها. شعر فجأة بأن الخيمة ضاقت، وأن الجدران تميل نحوه كأن السقف يهبط ببطء، كأن الصحراء نفسها قررت أن تدفنه حياً مع أسراره.
في الخارج، كان ويليام ستيرلنغ قد ركب جمله وانطلق نحو الشمال، حيث تنتظره سفينةٌ في ميناءٍ سريّ، محملةً بصناديق جديدة تحمل أسماء تجارية بريئة. قبل أن يغادر، نظر إلى الخيمة الكبيرة للمرة الأخيرة، فرأى ظلّ الشيخ ناصر بن مانع يتحرك على القماش كظلّ عملاقٍ مكسور الجناحين، ثم كتب في دفتره بخطٍ صغير: «الليلة بدأ يرى الأشباح. غداً سيصبح ملكاً، وبعده بيوم سيصبح أسيرنا. الصفقة تسير كما ينبغي».
داخل الخيمة، انطفأ الجمر الأخير، وغرق المعسكر في ظلامٍ كثيفٍ كأنه حبرٌ سُكب على العالم. بقي ناصر بن مانع جالساً، يستمع إلى صوت الريح التي بدأت تهب أقوى، وهي تحمل معها أنيناً يشبه صرخات أطفالٍ لم يعودوا يبكون، لأن لا أحد بقي يسمع. هم. وفجأة، كأن القدر أراد أن يختم الليلة بختمٍ من نار، سمع صوت خطوات خفيفة خارج الخيمة، ثم همسةً إنجليزيةً واضحة: «Good night, my dear prince… ---sleep--- well». رفع الشيخ رأسه ببطء، فرأى ظلّ ويليام ستيرلنغ يبتعد بين الكثبان كشبحٍ أبيض، وشعر لأول مرة، بوضوحٍ مخيف، أن التاج الذي يطارده ليس تاجاً، بل قيد.
بقي جالساً حتى طلوع الفجر، يستمع إلى أصواتٍ لا يسمعها أحد غيره، أصواتٍ تتسلل من الرمال، من الريح، من النجوم نفسها، وكلها تقول له كلمةً واحدةً تتردد كاللعنة: «بِعتَ». ولم ينم تلك الليلة، ولم ينم بعدها أبداً نوماً عميقاً، لأن الأشباح التي رآها في الأفق لم تعد سراباً، بل أصبحت مرآةً له، ومرآةً لكلّ من سيأتي بعده.
5
عندما هبت العاصفة، لم تأتِ من السماء وحدها، بل خرجت من أعماق الرمال نفسها، كأن الأرض قررت أن تثور على من يدنسها. كانت عاصفةً صفراء كالكبريت المحترق، تبتلع الشمس في منتصف النهار، فتحول الضوء إلى غبارٍ متوهج يعمي العيون ويخنق الأنفاس. في تلك اللحظة بالذات، وقف الشيخ راشد بن غانم فوق كثيبٍ شاهق، عباءته السوداء ترفرف كجناحي غرابٍ عملاق، ينظر إلى الجنود الذين تجمعوا تحت قدميه كأسرابٍ من النمل الأسود. كانوا يرتدون الثياب البيضاء المغبرة، ووجوههم ملفوفة بالعقال حتى لا تبقى سوى العيون، عيونٌ لامعةٌ بالحماس والخوف معاً، عيونٌ تعرف أنها ذاهبة إلى الموت لكنها تظن أن الموت سيفتح لها أبواب الخلود.
من بعيد، في ظلّ نخلةٍ ميتةٍ منذ سنين، كان الغريب السيد تشارلز وايتهول يقف متكئاً على عصاه الإنجليزية المصنوعة من خشب الماهوغاني، يراقب العاصفة بابتسامةٍ باردةٍ كأنها منحوتةٌ في الجليد. كان قد ألقى بمعطفه الثقيل وارتدى غترةً بيضاء ليبدو جزءاً من المشهد، لكن نظارته الذهبية والبوصلة التي يحملها في جيبه تفضحانه. في جيبه الداخلي أيضاً، ورقةٌ جديدةٌ مطويةٌ بعناية، تحمل توقيعاً ملكياً وختم شمعٍ أحمر، وعدٌ جديدٌ بتحويل الأراضي التي سيفتحها راشد بن غانم إلى محميةٍ تحت العلم البريطاني، مقابل دعمٍ لا ينتهي: أبداً. رفع وايتهول بصره إلى السماء المغبرة، ثم كتب في دفترٍ صغيرٍ بقلمٍ حبره أسود كالليل: «العاصفة مثالية. لا أحد سيلاحظ وصول السفن الجديدة».
في قلب المعسكر، كان الداعي إبراهيم بن مبارك يقف على منصةٍ من الخشب المتهالك، يرفع يديه إلى السماء وكأنه يستدعي الملائكة لتشهد على الجهاد. صوته يتردد فوق الريح، يخترق الغبار، يصل إلى كل أذنٍ حتى تلك التي تخاف: «اليومٍ عظيمٍ يومٌ يُكتب فيه التاريخُ بدماء الشهداء، يومٌ تُرفعُ فيه رايةُ التوحيد فوق كلّ رايةٍ أخرى». كان وجهه متوهجاً كأنه مصباحٌ في الظلام، لكن عينيه تحملان شيئاً غريباً، شيئاً يشبه الشقّ الدقيق في زجاجٍ يوشك أن ينكسر. كان يعرف، في أعماقه، أن الراية التي يرفعها ليست رايته وحده، وأن الدماء التي سيُكتب بها التاريخ لن تكون دماء الأعداء فقط.
راشد بن غانم رفع يده فجأة، فتوقفت الأصوات كلها، حتى صوت الريح بدا أنه خضع لإشارته. ثم صاح بصوتٍ يشبه الرعد المكبوت: «اليوم نكسر شوكة الإمبراطورية القديمة، اليوم نصبح أسياداً لا عبيداً». فهتف الجمع هتافاً واحداً هزّ الكثبان، لكن في تلك اللحظة بالذات مرّت ظلالٌ طويلةٌ فوق رؤوسهم، ظلالٌ ليست لنسورٍ ولا لطيور، بل ظلالٌ لأشباحٍ ترتديراتٍ من التراب، كأن القتلى الذين سقطوا في الحملات السابقة عادوا ليشهدوا على ما سيحدث. لم يرهم أحد سوى راشد بن غانم، لكنه لم يطرف عينيه بسرعة، وكأن الخوف كائنٌ حيٌّ يتسلل إلى قلبه.
انطلقت الجيوش كسيلٍ جارف، خيولٌ وجمالٌ ورجالٌ يحملون سيوفاً لامعةً وبنادقَ جديدةً لم يعرفوا اسمها، بنادقٌ أرسلها السيد وايتهول في صناديق كتب عليها «أدوات زراعية». كانوا يتقدمون في صفوفٍ منتظمةٍ كأنها أفعىٌ ضخمةٌ تبتلع كلّ ما يقف في طريقها، وصوتُ حوافرهم يرجّ الأرض حتى تتصدّع الرمال وتنفجر ينابيعُ دمٍ قديمٍ من تحتها. في المقدمة، ركب راشد بن غانم جواده الأشهب، يصرخ بشعاراتٍ تجمع بين الدين والسلطة، بين الجنة والأرض، بين الوعد الإلهي والوعد البريطاني. لكن كلما تقدم، كلما شعر بثقلٍ غريبٍ في صدره، كأن كلك السيف الذي يرفعه فوق رأسه قد صار أثقل من جبل.
في منتصف الطريق إلى المدينة المحاصرة، توقفت القافلة فجأة. لم يكن هناك عدوٌدو مرئيّ، لكن الخيول بدأت ترغي وترفس الأرض، والرجال ينظرون حولهم بعيونٍ متسعة. ثم سمعوا صوتاً، صوتاً ليس من الريح ولا من الخيول، صوتاً يشبه أنين امرأةٍ عجوزٍ تُذبح ببطء. خرج الصوت من تحت الأرض، من بين حجرٍ مكسورٍ كان يوماً جزءاً من قبرٍ قديم. اقترب راشد بن غانم من المكان، فرأى شيئاً جعل الدم يتجمد في عروقه: كان هناك رأسٌ بشريٌّ قديمٌٌ نصفُه مدفونٌ في الرمال، عيناه مفتوحتان، فمه مفتوحٌ على صرخةٍ صامتة، وكأنه يقول له: «أنت التالي». تراجع الشيخ خطوة، ثم التفت إلى رجاله وصرخ بصوتٍ مرتجف: «امضوا… امضوا!». لكن الصوت بقي يتبعهم طوال الطريق، صوتٌ لا يسمعه أحدٌ سواه.
من بعيد، كان السيد تشارلز وايتهول يراقب المشهد بمنظاره، يبتسم ابتسامةً عريضةً هذه المرة. كتب في دفتره بخطٍ سريع: «العاصفة أدت عملها. الجيش يتقدم، والأمير يسمع أصواتاً. الخوفُ بدأ يعمل. قريباً سيوقّع المعاهدة الجديدة، وسيصبح الأرض كلها محميةً باسم صاحبة الجلالة». ثم أشعل سيجارةً إنجليزيةً رفيعة، ونفث دخاناً أبيض يختلط بالغبار، كأن الدخان نفسه يحتفل بالصفقة.
في قلب المعركة الأخيرة، عندما سقطت المدينة وارتفعت راية راشد بن غانم فوق الأسوار، وقف الشيخ على سطح القصر المهجور، ينظر إلى الأرض المحترقة تحت قدميه. كان الدخان يتصاعد كأعمدةٍ سوداء، والنساء يبكين في الشوارع، والأطفال يصرخون، والرجال يُسحبون مقيدين. لكنه لم يرَ شيئاً من ذلك. رأى فقط ظلالاً طويلةً تتحرك بين الأنقاض، ظلالاً ليست لأحياء، بل لكنها تمشي بخطى ثقيلة، وكلما اقتربت منه، كلما شعر بثقلٍ أكبر في صدره، كأن كل ظلٍ يضع حجراً جديداً على قلبه.
في تلك اللحظة بالذات، وصل السيد تشارلز وايتهول راكباً جملاً أبيض، يحمل في يده ورقةً مطويةً بختمٍ أحمر. تقدم نحو الشيخ، وسلم عليه بابتسامةٍ عريضة، وقال بلغةٍ عربيةٍ مكسرةٍ لكن واثقة: «مبروك يا صاحب السمو… الآن أنت ملك… والآن توقّع هنا». مدّ الورقة، وكان فيها سطرٌ واحدٌ مكتوبٌ بحبرٍ أحمر: «أراضي نجد والحجاز محميةٌ بريطانيةٌ من تاريخ اليوم». نظر راشد بن غانم إلى الورقة، ثم إلى وايتهول، ثم إلى السماء التي بدأت تتفتح باللون الأزرق بعد العاصفة. لم يقل شيئاً. رفع القلم، ووقّع.
في تلك اللحظة بالذات، توقفت الريح فجأة، وصمتت الجمال، وتوقف الدخان عن التصاعد، وكأن العالم كله شهق شهقةً واحدة. ثم سمع راشد بن غانم صوتاً واحداً، صوتاً واضحاً هذه المرة، صوت امرأةٍ عجوزٍ تقول له من داخل رأسه: «بعتهم… بعتنا». التفت حوله، فلم يجد أحداً. ثم نظر إلى يده التي كانت تمسك القلم، فرأى أن الحبر الأحمر قد تحول إلى دمٍ يقطر ببطء على الأرض، وكأن الورقة نفسها جرحٌ مفتوح.
من بعيد، رفع السيد وايتهول قبعته تحيةً، ثم ركب جمله وانطلق، تاركاً وراءه رجلاً واحداً واقفاً فوق السط قصرٍ محترق، يحمل في يده ورقةً مكتوبةً بدم، وفي قلبه ثقلاً لا يرفعه أحد. ومن ذلك اليوم، لم يعد راشد بن غانم ينام. كان يستيقظ كلّ ليلة على صوت امرأةٍ عجوزٍ تبكي، وكلما استيقظ، كان يجد بجانته ورقةً جديدةً مكتوبةً بدم، وكل ورقةٍ تحمل توقيعه، وكل توقيعٍ يقول: «بعنا».
6
في قصرٍ من الطين المقوّى بالدم والذهب، أقيم الاحتفال الأول بعد سقوط المدينة الأخيرة. كان القصرُ صغيراً مقارنةً بما سيأتي لاحقاً، لكنه كان فخماً بما يكفي ليُبهر عيونَ من عاشوا في الخيام طويلاً. أعمدته من جذوع النخيل المجلوبة من واحاتٍ بعيدة، وسقفه من القصب المغطى بالسجاد الفارسي المنهوب، وفي وسطه بركةٌ صغيرةٌ تعكس ضوء المصابيح النحاسية كأنها مرآةٌ سائلةٌ من الذهب المصهور. تجمع الرجالُ حول البركة، يجلسون على وسائد حريرية حمراء كالدم الطازج، يمررون بينهم أباريق القهوة المرّة وأطباق التمر المحشو باللوز، ويضحكون ضحكاتٍ عاليةً كأنها طلقاتٌ في صمت الليل.
الشيخ خالد بن زايد جلس على أريكةٍ مرتفعةٍ قليلاً عن الأرض، مرتدياً عباءةً سوداء مطرزةً بخيوط الذهب، تاجاً صغيراً من الفضة يلمع على رأسه كأنه هلالٌ مسروقٌ من السماء. كان وجهه متوهجاً بالنصر، لكن عينيه، تلك العينين السوداوين العميقتين، تحملان ظلاً خفيفاً كأن غيمةً عابرةً مرّت فوق بحيرةٍ صافية. إلى يمينه جلس الداعي موسى بن عتيق، لحيته البيضاء تتدفق كشلالٍ من الثلج على صدره، يتحدث بصوتٍ عميقٍ يشبه رعدَ السماء البعيدة عن نقاء الدعوة وكيف أن الله قد نصرهم على الأعداء. كان يرفع يديه من حينٍ لآخر كأنه يستدعي البركة من السماء، وكلما فعل ذلك انحنى الرجالُ احتراماً، لكن في قلوبهم كانوا يفكرون في الغنائم أكثر مما يفكرون في الجنة.
وفي زاويةٍ مظلمةٍ قليلاً من القاعة، جلس الغريب السيد جورج لورانس، مرتدياً ثوباً عربياً أبيض نظيفاً لكنه يبدو كأنه مقلّدٌ من مسرحيةٍ إنجليزية، يحمل في يده كأساً من الشاي الإنجليزي بدل القهوة، ويبتسم ابتسامةً خفيفةً كلما سمع كلمة «نصر» أو «توحيد». كان يدون في دفترٍ صغيرٍ مخفيٍ تحت ثوبه، يسجل عدد القتلى، كمية الغنائم، أسماء القبائل الجديدة التي بايعت، وكلما كتب سطراً كان يرفع عينيه إلى خالد بن زايد كأنه يقول له بصمت: «كل هذا ملكي أيضاً».
بدأ الاحتفال بقصائد المديح، ثم بالرقصات الحربية التي يؤديها الشبابُ بسيوفهم المسلولة، فتتلألأ الشفرات تحت ضوء المصابيح كأنها ألسنةُ نارٍ تتراقص في الهواء. كان الجوّ مفعماً برائحة العود والمسك والدم الجاف على الثياب، وكلما علت الأصوات بالهتاف ارتجفت جدران القصر الطينية كأنها تخاف من الفرح المزيف. خالد بن زايد رفع كأسه عالياً وقال بصوتٍ يملأ القاعة: «اليوم أصبحنا أسياداً، والغد سنكون ملوكاً». فصفق الجميع، لكن موسى بن عتيق لاحظ أن صوت الشيخ كان فيه شيءٌ من الارتجاف، شيءٌ يشبه صوت رجلٍ يقف على حافةٍ ولا يدري أن الأرض تنهار تحته.
في منتصف الليل، عندما هدأت الأصوات قليلاً وبدأ الرجال يغفون على وسائدهم من شدة الشراب والتعب، نهض خالد بن زايد فجأة وخرج إلى الفناء الخارجي. كان القمرُ قد غاب، والسماء سوداء تماماً إلا من بضع نجومٍ خافتةٍ كأنها عيونٌ متعبةٌ من المشاهدة. وقف الشيخ أمام البركة الصغيرة في وسط الفناء، ينظر إلى انعكاس وجهه في الماء. لكنه لم يرَ وجهه. رأى وجهاً آخر، وجهاً مشوهاً بالدم والتراب، عيناه مفتوحتان على اتساعهما، فمه يتحرك بصمت كأنه يقول كلمةً واحدةً تتكرر: «بعنا». تراجع خالد بن زايد خطوة، فسقط كأسُه من يده وتحطم على الأرض، فتناثرت شظاياه كأنها أسنانٌ مكسورة.
سمع خطواتٍ خفيفةً خلفه، فالتفت بسرعة، فإذا بموسى بن عتيق يقف هناك، وجهه شاحبٌ كأنه لم ينم منذ أيام. قال الداعي بهمسٍ مكتوم: «يا شيخ… سمعتُ صوتاً في المنام، صوت امرأةٍ تقول إن السيف الذي رفعناه قد انقلب علينا». توقف قليلاً، ثم أضاف: «وكأني رأيتُ الغريب جورج يضحك في الظلام، وهو يقول بالإنجليزية: They sold their souls for a handful of rifles». لم يجب خالد بن زايد، لكنه شعر فجأة بثقلٍ في صدره، كأن كل سيفٍ رفع في المعارك قد وضع على كتفيه.
في تلك اللحظة بالذات، اقترب السيد جورج لورانس منهما بخطىً هادئةٍ كالقط، يحمل في يده ورقةً جديدةً مطويةً بعناية. سلمها للشيخ بابتسامةٍ عريضةٍ وقال بلغةٍ عربيةٍ سليمةٍ هذه المرة: «تهانيّ يا صاحب السمو… هذه هديةٌ من صاحبة الجلالة، خريطةٌ جديدةٌ لتوسعاتكم القادمة، ومعها شحنةٌ أخرى من البنادق… فقط وقّع هنا». مدّ الورقة، وكان فيها سطرٌ واحدٌ مكتوبٌ بحبرٍ أسود: «كل أرضٍ تُفتح من اليوم فصاعداً هي ملكٌ مشترك». نظر خالد بن زايد إلى الورقة، ثم إلى موسى بن عتيق الذي كان ينظر إليه بعينين واسعتين كأنه يرى شبحاً، ثم إلى جورج لورانس الذي كان يبتسم ابتسامةً عريضةً كأنه يبيع تفاحةً في سوق.
رفع الشيخ القلم، لكن يده ارتعشت هذه المرة بشدة حتى سقط القلم من يده وتدحرج على الأرض. التفت إلى البركة، فرأى انعكاسه مرةً أخرى، لكن هذه المرة لم يكن وجهه وحده. كان هناك وجهٌ آخرٌ إلى جانبه، وجه امرأةٍ عجوزٍ عيناها مليئتان بالدموع، وفمها يتحرك بصمت: «بعنا». فجأة، انفجر الماء في البركة كأن حجرًا ثقيلاً أُلقي فيها، وارتفعت رائحةُ الدم الجاف من الأرض، وصرخ خالد بن زايد صرخةً لم يسمعها أحدٌ سوى نفسه.
استدار بسرعة، فلم يجد أحداً. لا موسى بن عتيق، ولا جورج لورانس، ولا حتى الرجال الذين كانوا يحتفلون داخل القاعة. كان وحيداً تماماً، والقصرُ فارغٌ إلا من ظلاله الطويلة التي تتراقص على الجدران كأنها أشباحٌ تحتفل بانتصارها. اقترب من البركة مرةً أخرى، فرأى أن الماء قد تحول إلى دمٍ أسود، وفي وسطه ورقةٌ تطفو، مكتوبٌ عليها بخطٍ يشبه خطه تماماً: «بعنا».
في تلك اللحظة، سمع صوت خطواتٍ خفيفةً في الظلام، فالتفت، فإذا بالسيد جورج لورانس يقف هناك، يبتسم ابتسامةً عريضةً ويقول بهدوءٍ مخيف: «لا تقلق يا صاحب السمو… الاحتفال مستمر… إلى الأبد». ثم اختفى في الظلام، تاركاً وراءه رائحة التبغ الإنجليزي ورقةً جديدةً على الأرض، مكتوبٌ عليها بخطٍ أحمر: «الآن أنت ملك… ونحن أسيادك».
بقي خالد بن زايد واقفاً في الفناء، ينظر إلى السماء السوداء، وفجأة بدأت النجوم تسقط واحدةً تلو الأخرى، كأن السماء نفسها تبكي دماً. ومن ذلك اليوم، لم يعد أحدٌ يرى الشيخ يضحك في الاحتفالات. كان يجلس على أريكته، يبتسم ابتسامةً صفراء، لكن عينيه فارغتان، وفي كل ليلةٍ كان يستيقظ على صوت امرأةٍ عجوزٍ تقول له: «بعنا»، وعندما يذهب إلى البركة فيجد الماء أسود، وفي وسطه ورقةً جديدةً مكتوبةً بدم، وكل ورقةٍ تحمل توقيعه، وكل توقيعٍ يقول: «بعنا».
7
مع غروب الشمس الذي لفّ السماء بلونٍ أحمر داكنٍ كأنه جرحٌ مفتوحٌ في جسد النهار، تسللت أشباح الضحايا إلى أحلام الشيخ سلمان بن حمد كأنها ريحٌ باردةٌ تهب من تحت الأبواب المغلقة. كان القصر الجديد، الذي بُني من طينٍ ممزوجٍ بدماء القتلى وذهب الغنائم، يقف صامتاً في قلب الصحراء، أبراجه العالية ترتفع كأصابعٍ مشوهةٍ تشير إلى السماء متهمةً. داخل الغرفة الملكية، على سريرٍ من خشب الصندل المطعّم بالعاج، استلقى سلمان بن حمد، عيناه مفتوحتان على اتساعهما، يحدق في السقف المزخرف كأنه يرى فيه خرائطاً لممالكٍ لم تعد موجودة. كان يرتدي ثوباً أبيض نظيفاً لكنه ملطخٌ ببقعٍ خفيفةٍ من الدم الجاف على الأكمام، دمٌ لم يره أحدٌ سواه.
بدأت الأشباح تظهر أولاً كظلالٍ طويلةٍ على الجدران، ثم تحولت إلى وجوهٍ حقيقيةٍ تطفو في الهواء كأنها دخانٌ كثيفٌ لا يذوب. كان أولهم طفلاً صغيراً، لا يتجاوز السابعة، عيناه واسعتان وفمه مفتوحٌ على صرخةٍ صامتة، يمد يديه نحو الشيخ كأنه يطلب شيئاً لم يحصل عليه في حياته القصيرة. ثم جاءت امرأةٌ عجوز، وجهها متجعدٌ كخريطةٍ قديمة، شعرها الأبيض يتدلى حول وجهها كخيوط العنكبوت، عيناها مليئتان بالدموع التي لم تسقط بعد، وهي تهمس بصوتٍ يشبه حفيف الأوراق الي الجافة: «ليه؟». تلا ذلك رجلٌ طويلٌ مقطوع الرأس تقريباً، يحمل رأسه بين يديه كمصباحٍ مكسور، ينظر إلى سلمان بن حمد بعينين فارغتين ويقول بصوتٍ يخرج من الرقبة المقطوعة: «كنتُ أحمي بيتي… أنت من أحرقته».
استيقظ الشيخ فجأة، صارخاً صرخةً مكتومةً لم تخرج من حلقه، جسده مغطىً بالعرق البارد كأنه خرج لتوه من بحرٍ من الدم. نهض من السرير، يتعثر بخطى ثقيلة، وخرج إلى الشرفة المطلة على الصحراء. كان القمرُ شاحباً كوجه ميت، يلقي ضوءه الفضي على الكثبان التي بدت كأنها قبورٌ ضخمةٌ تتنفس ببطء. وقف هناك، يمسح جبينه بكمّ ثوبه، لكن كلما مسح العرق عاد أقوى، كأن الجسد يرفض أن ينسى. فجأة، سمع صوتاً خافتاً خلفه، صوت خطواتٍ حافيةٍ على البلاط البارد، التفت بسرعة، فلم يجد أحداً، لكن في زاوية الغرفة رأى ظلاً طويلاً يتحرك ببطء، ظلّ امرأةٍ عجوزٍ تمشي منحنيةً وهي تهمس: «بعنا… بعت ولادنا».
عاد إلى الداخل، أشعل مصباحاً زيتياً بيدين مرتجفتين، فارتفع اللهب عالياً كأنه يحاول الهروب من المصباح. جلس على الأرض، يضع رأسه بين يديه، وهمس لنفسه: «كانت حرب… كانت ضرورة… كان توحيداً». لكن الصوت الذي خرج من حلقه كان صوت رجلٍ يحاول إقناع نفسه بشيءٍ يعرف أنه كذب. تذكر تلك الليلة التي وقّع فيها الورقة مع السيد هنري غراي، كيف كان يبتسم وهو يضع ختمه، كيف كان يعتقد أنه يشتري السيادة بثمنٍ بخس، وكيف استيقظ في اليوم التالي ليجد أن السيادة كانت وهماً، وأن الثمن هو روحه.
في تلك اللحظة، دخل الداعي يعقوب بن راشد الغرفة بهدوء، وجهه شاحبٌ كأنه لم ينم منذ أسابيع. كان يحمل في يده مصحفاً صغيراً مغلقاً، لكنه لم يفتحه. وقف أمام الشيخ، ثم قال بهمسٍ مكتوم: «يا مولاي… الليلة سمعتُ أصواتاً في المسجد… أصوات نساءٍ يبكين، وأطفالٍ يصرخون، وكأن القصر كله مبني فوق مقبرة». توقف قليلاً، ثم أضاف: «ورأيتُ في المنام أن الغريب غراي كان يضحك في الظلام، وهو يقول: The king is ours now». لم يجب سلمان بن حمد، لكنه شعر فجأة بأن الجدران تقترب منه، كأن القصر يضيق ببطء، كأن الطين الذي بُني منه قد بدأ يتنفس ويضغط على صدره.
نهض فجأة، وخرج إلى الفناء الداخلي حيث كانت البركة الصغيرة لا تزال تعكس ضوء القمر. اقترب منها، فرأى في الماء وجهاً آخر، وجه طفلٍ صغيرٍ يطفو على السطح، عيناه مفتوحتان، وفمه يتحرك بصمت كأنه يحاول أن يقول شيئاً. مدّ يده ليلمس الماء، لكن يده تجمدت في الهواء، لأن الوجه بدأ يتغير، أصبح وجهه هو، لكن أكبر سناً، عيناه فارغتان، وفمه مفتوحٌ على صرخةٍ لم تخرج. تراجع خطوة، فسقط على الأرض، وصرخ صرخةً هذه المرة خرجت من أعماقه، صرخةً لم يسمعها الحراس لأنها كانت داخل رأسه فقط.
في الصباح، عندما جاء الخدم لإيقاظه، وجدوه جالساً على الأرض، يحدّق في البركة التي كانت فارغةً تماماً، لا ماء ولا انعكاس. لكن على حافة البركة، كانت هناك بقعةٌ من الدم الطازج، وبجانبها ورقةٌ صغيرةٌ مكتوبٌ عليها بخطٍ يشبه خطه: «بعنا». من ذلك اليوم، لم يعد سلمان بن حمد ينظر إلى المرايا، ولم يعد يقرب من البرك، وكلما حاول النوم، كانت الأشباح تعود، أكثر عدداً، أكثر وضوحاً، حتى صار القصر كله يرن بأصواتهم في الليل، أصواتٍ لا يسمعها أحدٌ سواه.
وفي كل ليلة، كان يستيقظ على صوت امرأةٍ عجوزٍ تهمس في أذنه: «بعنا»، وعندما يفتح عينيه، كان يجد بجانب سريره ورقةً جديدةً مكتوبةً بدم، وكل ورقةٍ تحمل توقيعه، وكل توقيعٍ يقول: «بعنا».
8
في صمت الليل الذي يغلف الصحراء ككفنٍ أسود مطرز بالنجوم، ولدت دولةٌ جديدةٌ من رحم الخداع والدم. كانت الريحُ قد هدأت تماماً، كأنها تخشى أن تزعج اللحظة التي تُختم فيها الصفقة الأبدية. في وسط السهل الشاسع، حيث كانت الخيامُ قد رُفعت قبل أسابيع فقط، ارتفع الآن قصرٌ من الطين والحجر، أبراجه العالية تتحدى السماء بوقاحةٍ صامتة، وأعلامه السوداء ترفرف بكسلٍ كأنها تعرف أنها لن ترفرف طويلاً بحرية. على البوابة الرئيسية، حُفر اسمٌ جديدٌ بحروفٍ ذهبيةٍ لامعة: «إمارة التوحيد والسيف»، لكن تحت الذهب، كان الحجرُ ينزف ببطء، قطراتٌ حمراء تتساقط على الرمال كأن الأرض نفسها تبكي دماً خفياً.
الشيخ عبد العزيز بن مانع وقف على الشرفة العليا، ينظر إلى الأفق الذي ابتلع آخر أثرٍ للشمس، وكأنه ينتظر أن يرى في الظلام وجهه الحقيقي. كان يرتدي عباءةً سوداء مطرزةً بخيوط الذهب، وتاجاً صغيراً من الفضة يزن على رأسه أكثر مما يجب. حوله، كان الحراس يقفون كتماثيلٍ من الحديد، وجوههم جامدةً كأنهم يعرفون أنهم يحرسون قبراً وليس قصراً. في يده، كان يمسك ورقةً مطويةً بختمٍ أحمر، الورقة التي وقّعها قبل أيامٍ قليلةٍ مع السيد ألفريد كوبر، الغريبُ ذو العينين الرماديتين والابتسامة التي لا تصل إلى عينيه. كان قد قرأها مراتٍ عديدة، لكن الكلمات لا تزال تحرق أصابعه: «كل ما فُتح وما سيُفتح هو محميةٌ تحت التاج البريطاني، والأميرُ عبد العزيز بن مانع حارسُ هذه المحمية الأمين».
نزل الشيخ ببطء إلى القاعة الكبرى، حيث كان الداعي صالح بن إبراهيم يجلس على وسادةٍ بيضاء، يقرأ في مصحفٍ مفتوحٍ أمامه، لكن عينيه لا تتحركان على السطور. رفع رأسه عندما سمع خطوات الشيخ، ثم أغلق المصحف بهدوءٍ مخيف، وقال بصوتٍ خافتٍ كأنه يخرج من قبر: «يا مولاي… الليلة سمعتُ صوتاً في الريح، صوت رجلٍ يقول بالإنجليزية: The kingdom is born… and the king is dead». لم يجب عبد العزيز، لكنه شعر فجأة بأن التاج على رأسه قد تحول إلى حلقةٍ من حديدٍ بارد، تضغط على جبهته حتى تنزف.
في زاويةٍ مظلمةٍ من القاعة، كان السيد ألفريد كوبر يقف متكئاً على عمودٍ من الحجر، يدخن سيجارةً إنجليزيةً رفيعة، وينفث الدخان ببطءٍ كأنه يكتب رسالةً في الهواء. اقترب من الشيخ، وسلم عليه بابتسامةٍ عريضة، ثم قال بلغةٍ عربيةٍ سليمةٍ لكنها تحمل لكنةً باردة: «مبروك يا صاحب الجلالة… الدولتكم ولدت اليوم رسمياً… وهذه هديةٌ صغيرةٌ من صاحبة الجلالة». مدّ يده، وكان فيها صندوقٌ صغيرٌ من الماهوغاني، فتحه الشيخ بيدين مرتجفتين، فوجد بداخله مفتاحاً ذهبياً كبيراً، وورقةً مكتوبٌ عليها: «مفتاح خزينة النفط… عندما يُكتشف».
نظر عبد العزيز إلى المفتاح، ثم إلى كوبر، ثم إلى صالح بن إبراهيم الذي كان ينظر إليه بعينين واسعتين كأنه يرى شبحاً. فجأة، انفجر الماء في البركة الصغيرة في وسط القاعة، وارتفعت رائحةُ الدم القديم، وتساقطت قطراتٌ حمراء من السقف كأن القصر نفسه قد جُرح. تراجع الشيخ خطوة، فسقط المفتاح من يده وتدحرج على الأرض، وكلما دحرج كان يترك أثراً أحمراً كأنه يرسم خريطةً للدم.
في تلك اللحظة، بدأت الجدران تتحدث. لم تكن أصواتاً عالية، بل همساتٌ خافتةٌ تخرج من الشقوق، همساتٌ بالعربية والإنجليزية معاً: «بعنا… Sold… بعنا… Sold». ارتفع الصوت تدريجياً حتى صار جوقةً من الأصوات، أصوات نساءٍ وأطفالٍ ورجالٍ، يرددون الكلمة نفسها بلا توقف. حاول الشيخ أن يصرخ، لكن صوته لم يخرج، وحاول أن يركض، لكن قدماه كانتا مغروسةً في الأرض كأن الرمال قد ابتلعتهما. ثم رأى في الظلام وجوهاً تظهر على الجدران، وجوه الذين قُتلوا باسم التوحيد، ينظرون إليه بعيونٍ فارغة، وكلهم يرددون: «بعنا».
فجأة، سمع صوت خطواتٍ ثقيلةٍ في الخارج، خطواتٍ ليست بشرية، بل كأنها خطوات وحشٍ قديمٍ استيقظ من سباته. فتحت الأبواب الكبيرة ببطء، ودخل السيد ألفريد كوبر مرةً أخرى، لكن هذه المرة لم يكن وحده. كان خلفه صفٌ طويلٌ من الرجال بثيابٍ سوداء، وجوههم مخفيةٌ تحت قبعاتٍ إنجليزية، يحملون صناديقَ طويلةً مكتوبٌ عليها «هدايا ملكية». تقدم كوبر نحو الشيخ، ووضع يده على كتفه بلطفٍ مخيف، ثم همس في أذنه: «الآن أنت ملك… ونحن أسيادك… مرحباً بك في الدولة الجديدة».
في تلك اللحظة، انهار كل شيء. سقط السقف ببطء، لكن لم يسقط حجراً، بل سقط ورقاً، آلاف الأوراق البيضاء التي تحمل توقيع الشيخ، وكل ورقةٍ مكتوبٌ عليها بخطٍ أحمر: «بعنا». تساقطت الأوراق كالثلج الأحمر، وغطت الأرض، وغطت الشيخ، وغطت الداعي، وغطت حتى الغريب الذي كان يضحك ضحكةً صامتةً لا يسمعها أحد.
عندما انتهى كل شيء، كان القصرُ لا يزال واقفاً، لكن في وسطه وقف تمثالٌ واحدٌ فقط: تمثالٌ من الملح الأبيض، شكله شيخٌ يرتدي تاجاً، يمد يده نحو السماء كأنه يطلب الرحمة، لكن عيناه فارغتان، وفمه مفتوحٌ على صرخةٍ لم تخرج أبداً. وتحت التمثال، كُتب بخطٍ صغيرٍ جداً، بخطٍ يشبه خط السيد ألفريد كوبر: «هنا وُلدت دولة… وهنا مات ملك».
من ذلك اليالٍ تلك، لم يعد أحدٌ يرى الشيخ عبد العزيز بن مانع. قيل إنه اختفى، وقيل إنه مات، لكن الحقيقة أن تمثال الملح لا يزال يقف في وسط القصر، وعندما تهب الريح القوية في الليالي المقمرة، يُسمع صوتٌ خافتٌ يخرج من داخله، صوتٌ يردد كلمةً واحدةً لا تنتهي: «بعنا… بعنا… بعنا». والدولةُ الجديدةُ تقوم، قويةً من الخارج، هشةً من الداخل، مبنيةً على عرشٍ من السراب، وعلى تاجٍ من الدم.
الفصل الثاني : مثلثٌ من نارٍ في قلب الظلام
1
مع اندلاع النيران العالمية التي أحرقت العروش القديمة وأذابت الحدود كالشمع تحت لهيبٍ لا يُطفأ، ظهر الملك الجديد كبطلٍ في مسرحيةٍ كتبها آخرون من وراء الستار، ووزّعوا له دور البطولة دون أن يُخبره أن النهاية مكتوبة بالفعل.
كان اسمه الملك فيصل بن تركي، وكان قد صعد إلى عرشٍ لا يزال دافئاً بدماء أبيه، عرشٍ من خشب الصندل المصبوغ بلون الدم الداكن، مزيناً بسيوفٍ معلقةٍ على الجدران كأنها تذكيرٌ دائمٌ بأن السلطة تُؤخذ بالسيف وتُحفظ بالسيف. في تلك السنوات التي كانت فيها الدنيا تحترق من أقصاها إلى أقصاها، وقف فيصل بن تركي على شرفة القصرّافه المطلة على البحر، يرى السفن الحربية البريطانية ترسو في الميناء كوحوشٍ حديديةٍ تأكل الفحم وتتنفس الدخان الأسود، وكان يبتسم ابتسامةً يظنها سيادية، لكنها في الحقيقة كانت ابتسامة الدمية التي تظن أن الخيوط التي تحركها هي أجنحة.
في غرفةٍ سريةٍ تحت القصر، حيث لا يصل ضوء الشمس ولا صوت البحر، جلس السيد آرثر بلفور، الرجل ذو العينين الرماديتين والقبعة السوداء التي لا يرفعها إلا للملكة، يرسم على خريطةٍ كبيرةٍ حدوداً جديدةً بقلمٍ حبره أحمر كالدم الطازج. كان يرتدي بدلةً رماديةً لا تشوبها ذرةٌ من غبار الصحراء، ويشرب الشاي من فنجانٍ صينيٍّ رقيق كأنه يجلس في نادٍ لندني وليس في قبوٍ تحت قصرٍ عربي. رفع عينيه إلى فيصل بن تركي الذي كان يقف أمامه كطالبٍ ينتظر الدرجة، وقال بهدوءٍ يشبه صوت الثلج وهو يتساقط: «اليوم نُتوّجك ملكاً على كل هذه الأراضي… وغداً نجعلك حارساً لمصالحنا فيها. كل ما عليك هو أن توقّع هنا… وهنا… وهنا.
مدّ بلفور ثلاث أوراق، كل ورقةٍ تحمل ختماً ملكياً، وكل ختمٍ يشبه حلقةً من حديدٍ تُغلق على معصمٍ غير مرئي. وقّع فيصل بن تركي بسرعة، يده لا ترتجف، لأنه كان يظن أن الارتجاف علامة ضعف، وهو لا يريد أن يظهر ضعيفاً أمام الرجلٍ أبيض يشرب الشاي بأناقة. لكنه عندما رفع القلم من الورقة الأخيرة، رأى قطرةً حمراءً تسقط من طرف القلم، قطرةً لم تكن حبراً، بل دماً، دمٌ قطر من إصبعه دون أن يشعر بالجرح. مسحها بكمّ ثوبه، لكن البقعة بقيت، وكبرت، حتى صارت كبقعةٍ على خريطةٍ لا تُمحى.
في تلك الليلة، أُقيمت مأدبةٌ كبرى في القاعة الرخامية، الثريات الذهبية تتدلى من السقف كأنها عناكبُ عملاقة، والموسيقى العسكرية تملأ الجو بأنغامٍ تبدو انتصاريةً لكنها في الحقيقة جنائزية. جلس فيصل بن تركي على عرشه المرتفع، يرتدي رداءً أحمر مطرزاً بالذهب، وفي رقبته قلادةٌ كبيرةٌ من الزمرد تحمل شعار التاج البريطاني مخفياً تحت طبقةٍ رقيقةٍ من الذهب العربي. كان الضيوفُ يأتون تباعاً، أمراءُ قبائلٍ بايعوه، وتجارٌ جاؤوا ليشموا رائحة النفط، وضباطٌ بريطانيون بزيّهم الأبيض الناصع يحملون كؤوس الشمبانيا ويبتسمون ابتساماتٍ تعرف أن النصر لهم مهما كانت الرايات.
في منتصف المأدبة، رفع السيد آرثر بلفور كأسه، وصمتت القاعة كلها، حتى صوت الأكواب توقف. قال بصوتٍ يخترق الضلوع: «إلى جلالة الملك فيصل بن تركي… حارس البوابة الشرقية للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس». ارتفع الهتاف، لكن فيصل بن تركي شعر فجأة بأن الكلمات ثقيلة، ثقيلةٌ جداً، كأن كل حرفٍ منها حجرٌ يُلقى في بئرٍ عميقةٍ داخل صدره. رفع كأسه بدوره، لكن يده ارتعشت هذه المرة، وانسكبت قطرةٌ من الشمبانيا على ثوبه الأحمر، فبدت كقطرة دمٍ جديدةٍ على جرحٍ قديم.
بعد المأدبة، عندما انفض الجمع وذهب الجميع إلى فراشهم، بقي فيصل بن تركي وحده في القاعة الفارغة، ينظر إلى العرش الذي جلس عليه قبل ساعات. اقترب منه، مدّ يده ليلمسه، لكن يده توقفت في الهواء، لأن العرش بدا فجأة أكبر، أضخم، كأنه كرسيٌّ إعدامٍ متنكرٍ برداءٍ ملكي. التفت حوله، فرأى الجدران تتحرك ببطء، كأن القصر كله يتنفس، ومن بين الشقوق بدأت تتسرب رائحةُ الدخان القديم، دخان الحرائق التي أُشعلت باسم التوحيد، والتي التهمت قرىً بأكملها لأن أهلها رفضوا أن يبايعوا ملكاً جديداً يوقّع أوراقاً بالإنجليزية.
فجأة، سمع صوت خطواتٍ خفيفةً خلفه، التفت، فإذا بالسيد آرثر بلفور يقف هناك، يحمل في يده ملفاً جلدياً أسود. قال بهدوءٍ يشبه صوت المدفع قبل أن ينفجر: «نسيتُ أن أعطيك هذه… خريطةٌ جديدةٌ للتقسيم المنطقة… سوريا لفرنسا، فلسطين لنا، العراق لنا، وأنت… أنت تبقى هنا، تحرس البوابة». مدّ الملف، وكان فيه ورقةٌ واحدةٌ فقط، مكتوبٌ عليها بخطٍ كبير: «كل شيءٍ تغيّر… إلا دورك أنت: الحارس».
أمسك فيصل بن تركي الورقة، وقرأها مرةً ومرتين وثلاثاً، ثم رفع عينيه إلى بلفور، لكن الرجل كان قد اختفى، كأنه لم يكن موجوداً أصلاً، تاركاً وراءه رائحة التبغ الإنجليزي وصوت ضحكةٍ خافتةٍ تتردد في القاعة الفارغة. اقترب الملك من العرش مرةً أخرى، جلس عليه ببطء، ووضع التاج على رأسه، لكن التاج كان ثقيلاً جداً هذه المرة، ثقيلاً حتى كاد يسحق جمجمته. أغمض عينيه، وعندما فتحهما، رأى أن القاعة لم تعد فارغة. كانت مليئةً بظلالٍ طويلةٍ ترتدي ثياباً بيضاء، وجوههم مخفية، يقفون في صفوفٍ منتظمة، وكلهم ينظرون إليه، وكلهم يرددون بصوتٍ واحدٍ لا يعلو ولا يخفت: «حارس… حارس… حارس».
من تلك الليلة، لم يعد أحدٌ يرى الملك فيصل بن تركي يبتسم ابتسامةً حقيقية. كان يجلس على عرشه، يوزع الأوامر، يوقّع المراسيم، لكن عيناه فارغتان، وفي كل مرةٍ يرفع فيها كأسه ليشرب، كان يرى في قعر الكأس وجهاً صغيراً، وجه طفلٍ يقول له بصمت: «أنت لست ملكاً… أنت حارس». وكلما حاول أن ينسى، كانت الريح تحمل إليه من بعيد صوت السيد آرثر بلفور وهو يضحك، ضحكةً طويلةً لا تنتهي، تمتد عبر السنين، عبر الحروب، عبر الدم، حتى تصل إلى أبنائه وأحفاده، وتردد في قلوبهم الكلمة نفسها: «حارس… حارس… حارس».
2
في غرفةٍ مظلمةٍ تحت الأرض، حيث لا يصل صوت البحر ولا ضوء الشمس، ولا حتى صرخات المدينة المقدسة التي استولوا عليها قبل أشهر، اجتمع الملك سعود بن مانع مع رسل الغرب كأنهم لصوصٌ يتقاسمون الغنيمة تحت جنح الظلام. كانت الغرفة مبنيةً من حجرٍ أسود لامع، جدرانها مبللةٌ برطوبةٍ باردةٍ كأنها عرق الخوف، وسقفها منخفضٌ حتى يضطر الجالسُ إلى الانحناء قليلاً، تذكيراً دائماً بأن لا أحد هنا يقف منتصباً تماماً. في الوسط، طاولةٌ واحدةٌ من خشب البقس، عليها خريطةٌ كبيرةٌ مفتوحةٌ كجرحٍ مفتوح، وعليها دبابيسُ حمراءُ وسوداءُ تحدد المدن التي سقطت والمدن التي ستسقط.
الشيخ سعود بن مانع جلس في رأس الطاولة، لكنه لم يكن يجلس كملك. كان يجلس كرجلٍ ينتظر الحكم. ثوبه الأبيض الناصع كان قد تلطخ ببقعٍ صغيرةٍ من القهوة والعرق، وتاجه الصغير مائلٌ قليلاً على جبهته كأنه يريد أن يهرب. أمامه، جلس السيد جيمس كامبل، الرجلُ ذو الوجه الحجري والعينين الزرقاوين اللتين لا ترمش إلا نادراً، يرتدي بدلةً سوداء لا تشوبها ذرةٌ من غبار، ويضع أمامه دفترَ حساباتٍ جلديّاً مغلقاً كأنه كتابٌ مقدسٌ لدينٍ آخر. إلى يمينه، جلس الكولونيل لورانس، الملقب بـ«لورانس الصحراء»، يرتدي ثوباً عربياً لكنه يحمل في حزامه مسدساً إنجليزياً لامعاً، ويبتسم ابتسامةً جانبيةً كأنه يعرف نكتةً لا يعرفها أحد.
رفع جيمس كامبل كأساً من الويسكي الاسكتلندي، ولم يكن هناك قهوةٌ عربيةٌ على الطاولة هذه الليلة، وقال بصوتٍ يشبه صوت المبرد على الحديد: «إلى صحة جلالتكم… وإلى الاتفاق الجديد». لم يرفع سعود بن مانع كأسه. كان ينظر إلى الخريطة، إلى الدبوس الأحمر الذي يشير إلى مكة، والدبوس الأسود الذي يشير إلى المدينة، وشعر فجأة بأن الغرفة تضيق، كأن الجدران تميل نحوه، كأن الهواء نفسه يرفض أن يدخل رئتيه.
قال لورانس بهدوءٍ يخفي سخريةً حادة: «لا تقلق يا جلالة الملك… كل ما فعلناه هو أننا جعلناكم ملكاً على أرضٍ لا يملكها أحدٌ سواكم… طالما بقيت تحت حمايتنا». ثم أخرج من جيبه ورقةً صغيرةً مطوية، فتحها أمام سعود بن مانع، وكانت عبارةً عن شيكٍ مصرفيٍّ بمبلغٍ فلكيّ، مكتوبٌ بالجنيه الإسترليني، وفي الأسفل توقيعٌ واحدٌ فقط: «صاحبة الجلالة». دفع الشيك نحو الملك كأنه يدفع قطعة حلوى لطفل، ثم أضاف: «هذا الشهر فقط… الشهر القادم سيكون أكثر».
نظر سعود بن مانع إلى الشيك، ثم إلى الخريطة، ثم إلى الرجلين أمامه. أراد أن يقول شيئاً، أراد أن يصرخ، أراد أن يقلب الطاولة ويخرج راكضاً إلى الصحراء، لكن الكلمات تجمدت في حلقه، والأرجل لم تتحرك. كان يعرف أن الباب الذي دخل منه مغلقٌ الآن، وأن المفتاح في جيب لورانس. مدّ يده ببطء، أمسك الشيك، طواه، ووضعه في جيبه كأنه يضع حجرًا في قبره.
في تلك اللحظة، سمع صوتاً خافتاً من أعلى، صوت خطواتٍ على الدرج الحجري، خطواتٍ ثقيلةً كأنها تحمل شيئاً ثقيلاً. توقف الجميع، حتى لورانس توقف عن الابتسام. ثم فُتح الباب ببطء، ودخل رجلٌ طويلٌ يرتدي ثوباً أبيض ملطخاً بالغبار والدم، وجهه مغطىً بكوفيةٍ ممزقة، وفي يده سيفٌ قديمٌ عليه بقعٌ بنيةٌ جافة. وقف في مدخل الغرفة، ثم رفع السيف ببطء، وصرخ بصوتٍ يشبه صوت الريح في الوديان المهجورة: «يا خائن الأمة… يا بائع الحرمين!».
قفز لورانس على قدميه، وسحب مسدسه، وكذلك فعل كامبل، لكن الرجل لم يتحرك. ظل واقفاً، السيف مرفوعاً، والدم يقطر من طرفه على الأرض، قطرة… قطرة… قطرة. ثم بدأ وجهه يتغير، يذوب كالشمع، يتحول إلى وجوهٍ أخرى، وجه طفل، وجه امرأة عجوز، وجه شيخٍ مقطوع الرأس، كلهم ينظرون إلى سعود بن مانع بنفس العينين الفارغتين، وكلهم يرددون بنفس الصوت: «بعنا… بعنا… بعنا».
أطلق لورانس النار، لكن الرصاصة مرّت من خلال الرجل واصطدمت بالجدار، ولم يسقط الرجل. بقي واقفاً، ثم بدأ يتقدم خطوةً خطوة، والدم يقطر من سيفه، والأصوات ترتفع حتى صارت جوقةً مخيفة. حاول سعود بن مانع أن يقوم، لكنه وجد نفسه ملتصقاً بالكرسي، كأن يدين غير مرئيتين تمسكانه. اقترب الرجل حتى صار وجهه أمام وجه الملك، ثم همس في أذنه كلمةً واحدةً فقط، كلمةً جعلت الدم يتجمد في عروقه: «حارس».
فجأة، اختفى الرجل، واختفت الأصوات، وعاد الهدوء إلى الغرفة كأن شيئاً لم يكن. لكن على الطاولة، حيث كان الشيك، كان هناك الآن ورقةٌ أخرى، ورقةٌ بيضاءُ مكتوبٌ عليها بخطٍ أحمر: «الدفعة الأولى من الثمن… باقي الثمن سيُدفع بدماء أبنائك». نظر سعود بن مانع إلى كامبل ولورانس، لكنهما كانا يبتسمان ابتسامةً عريضة، كأنهما لم يرى شيئاً، ثم قال كامبل بهدوء: «تخيلات يا جلالة الملك… مجرد تخيلات… الآن، هيا نكمل الاتفاق».
لكن سعود بن مانع لم يعد يسمع. كان ينظر إلى الورقة، ويرى الكلمات تتحرك، تتغير، تصبح وجوهًا، وجوه الذين قُتلوا باسمه، ينظرون إليه ويرددون: «حارس… حارس… حارس». ومن تلك الليلة، لم يعد الملك سعود بن مانع ينام في غرفته العلوية. كان ينام في الغرفة السرية تحت الأرض، بجانب الطاولة، بجانب الخريطة، يحرسها كما أُمر، وكلما أغمض عينيه كان يسمع صوت الرجل الطويل: «بعنا… بعنا… بعنا».
3
انطلقت الجيوش كأسراب جراد هائجة، تغطي الأرض بغبار أسود يخنق الشمس ويحجب السماء، كأن الطبيعة نفسها قررت أن تتآمر مع الطموح البشري لتخفي جرائمها عن عيون السماء. كان الملك عادل بن سالم يقف على قمة تل رملي شاهق، ينظر إلى أتباعه الذين يتقدمون كأمواج بحر غاضب، خيولهم السوداء تدهس الأرض بسمومها الثقيلة، وسيوفهم اللامعة تتقاطع في الهواء كأنها تنسج شبكة من الفولاذ لتأسر المدن المقدسة التي تلوح في الأفق كأشباح بيضاء مرتجفة. عينا عادل بن سالم كانتا مليئتين ببريق الطموح، بريق يشبه لمعان الذهب تحت شمس الصحراء، لكنه يخفي في أعماقه ظلاماً أسود كالليل الذي يأتي بعد الغروب. كان يرى في كل خطوة تقدمية لجيشه خطوة نحو الخلود، نحو تاريخ يُكتب باسمه، ينقش في الصخور والرمال والقلوب، لكنه لم يدرك أن الخلود وهم كبير، سراب يتلاشى مع أول نسمة ريح باردة، وأن التحالفات التي عقدها مع الغرباء ليست جسوراً نحو المجد، بل سلاسل حديدية تثقل الكتفين وتجرح الجلد حتى ينزف دماً لا يتوقف.
من بعيد، في مخبأ سري خلف كثيب رملي يشبه قبراً عملاقاً، كان الغريب السيد روبرت هاريس يراقب المشهد بعينين حادتين كعيون نسر يتربص بفريسة، يدون في دفتر جلدي قديم تفاصيل التقدم، عدد الجنود، كمية البارود المستهلك، والمدن التي ستسقط قبل غروب الشمس. كان روبرت هاريس رجلاً ذا بشرة شاحبة كالقمر في ليلة باردة، مرتدياً بدلة رمادية تكتم أنفاسها تحت حر الصحراء، لكنه يتحمل كل شيء من أجل الرسالة التي جاء بها من لندن، رسالة تحمل ختم التاج ووعداً بالذهب الأسود الذي ينام تحت الرمال كوحش نائم ينتظر الاستيقاظ. "سيكونون أداتنا"، همس هاريس لنفسه وهو يبتسم ابتسامة خبيثة، يعرف أن هذه الجيوش التي تتقدم باسم التوحيد ستفتح الأبواب لنفوذ بلاده، ستحول الصحراء إلى لوحة شطرنج يلعب عليها الملوك البعيدون، والملك عادل مجرد بيدق يتقدم نحو المجهول دون أن يدري أنه يسير نحو حتفه.
الداعي حسن بن خليل، الذي كان يرافق الملك في حملاته، يقف إلى جانبه الآن، لحيته الرمادية تتمايل مع النسيم الخفيف كأنها راية سلام في ميدان حرب، عيناه المتقدتان تحملان حماساً دينياً يبدو نقياً كماء واحة نادرة، لكنه في أعماقه مليء بالتناقضات، ينادي بالتوحيد بصوت يرتجف من الإيمان، مقتنعاً بأن هذه الحملات هي جهاد مقدس يطهر الأرض من الضلال. "يا مولاي"، قال حسن بن خليل بصوت عميق كصدى في كهف، "كل فتح خطوة نحو الجنة، نحو أمة موحدة تحت راية الحق". لكن عادل بن سالم يستمع إليه، يرى في كلماته غطاءً لأطماعه الخاصة، خطوة نحو سيادة يحلم بها، غير مدرك أن السيادة وهم كبير، سراب يتلاشى مع كل شروق شمس جديد، وأن الذهب الأسود، الذي يعد بالثراء، سيصبح سلاسل حديدية حول عنقه وعنق أبنائه.
كانت الحرب تبدو كلعبة معقدة، حيث يسقط الخصوم كأحجار الدومينو في صف طويل، واحد تلو الآخر، ينهارون تحت وطأة السيوف والبارود الذي يأتي من بعيد. في إحدى المعارك الأولى، انطلق الرجال نحو مدينة مقدسة على ضفاف وادٍ جاف، أهلها يعيشون في سلام هش كورقة في عاصفة. الملك عادل بن سالم يقود الشحنة، جواده الأسود يركض كالريح، يصرخ شعارات التوحيد بينما سيفه يقطع الهواء قبل أن يقطع الأجساد. حسن بن خليل يتبعه، يرفع يديه نحو السماء، يدعو للنصر كأنه يستدعي الملائكة، لكن الملائكة تبدو غائبة، والدماء تسيل كأنهار حمراء تمتصها الرمال الجائعة دائماً. روبرت هاريس، من مخبئه، يراقب عبر منظار صغير، يحسب الغنائم والخسائر، يعد بالمزيد من الصناديق إذا استمرت الانتصارات، مقتنعاً بأن كل سقوط للخصم هو خطوة نحو سيطرتهم الكاملة.
السخرية الكبرى تكمن في أن المنتصر، الذي يرفع رايته عالياً تحت الشمس المتوهجة، يصبح أسيراً لمن دعمه دون أن يدري، يرقص على خيوط العنكبوت التي نسجها الغريب في الظلام. عادل بن سالم، بعد كل معركة، يجلس في خيمته الفسيحة، يعد الغنائم الذهبية والأراضي الجديدة، يشعر بالقوة تنبض في عروقه كنهر متدفق، لكنه لا يرى السلاسل التي تتشكل تدريجياً، سلاسل من وعود هاريس التي تبدو كالذهب لكنها حديد بارد. "سنبني قصراً هنا"، قال لحسن بن خليل ذات ليلة، وهما ينظران إلى الأفق الذي يلونته غروب الشمس بدماء حمراء، "قصراً يشهد على سيادتنا". الداعي أجاب: "نعم، قصراً للحق"، غير مدرك أن الحق أصبح مشوهاً، مغلفاً بالخداع الذي يتسلل كالسم في الشراب.
مع مرور الأيام، تحولت الحملات إلى روتين دامٍ، كأن الصحراء نفسها تتعطش للمزيد من الدماء لتبقى خصبة في خيالها الوهمي. في حملة أخرى، عبر الجيش وادياً عميقاً، حيث يختبئ أعداء يدافعون عن أراضيهم بيأس الغريق الذي يتشبث بقشة. الملك عادل بن سالم يشحن رجاله بكلمات نارية، "للتوحيد، للسيادة!"، بينما حسن بن خليل يقرأ آيات تتردد صداها في الوديان كأنها أناشيد الموت. البارود الذي أرسله هاريس ينفجر كغضب السماء، يسقط الخصوم كأوراق الخريف، والرمال تمتص الدماء بسرعة كأنها تخفي الجريمة قبل أن تشهد عليها الشمس. روبرت هاريس يتلقى التقارير من رسله السريين، يبتسم لأن كل انتصار يعني سقوط جزء آخر من الإمبراطورية القديمة، يعد بالمزيد من الشحنات، صناديق تحمل أسماء تجارية كـ"بضائع شرقية"، لكن داخلها الموت المغلف بالفولاذ.
في لحظات الراحة النادرة، بعد أن تهدأ الرياح وتخمد النيران، يجلس عادل بن سالم وحده تحت النجوم، يتأمل في الطريق الذي سلكه، يشعر بغصة خفيفة كأن الرمال تثقل صدره. "هل هذه السيادة؟"، يتساءل في سره، لكنه يطرد الفكرة كطرد ذبابة مزعجة، مقنعاً نفسه بأن النصر يستحق الثمن. حسن بن خليل، في خلوته، يصلي طويلاً، يبحث عن إشارة تؤكد أن طريقه صحيح، لكن الشك يتسلل إليه كاللصوص في الليل، يهمس بأن التوحيد أصبح أداة للطمع. أما روبرت هاريس، في مخبئه، يكتب رسائل إلى رؤسائه: "الجيوش تنطلق، والحدود تتوسع، والذهب الأسود قريب"، يضحك ضحكة خفيفة كأنه يسخر من الجميع.
الرمال تمتص الدماء بلا رحمة، تحولها إلى أساس لقصور جديدة تبنى على عجل، قصور من الطين والحجر تتلألأ تحت الشمس كأنها جواهر، لكن أساسها هش كقشرة بيضة، مبني على الخداع الذي يتغلغل في كل حجر. في إحدى المدن المقدسة، بنى عادل بن سالم قصراً صغيراً، يجلس فيه مع حسن بن خليل، يناقشان المستقبل كأنهما يرسمان خريطة على الرمال. "سنوسع أكثر"، قال الملك، عيناه تلمعان بالطموح، "سنسيطر على الممرات والوديان". الداعي أجاب: "باسم التوحيد"، لكن في قلبه يشعر بثقل الدماء التي سالت. روبرت هاريس يزورهم سراً، يقدم صناديق جديدة، يعد بالدعم إذا سقطت الإمبراطورية، مقتنعاً بأن المنتصر سيصبح أسيراً له إلى الأبد.
السخرية تتجلى في كل تفصيل، فالحرب التي تبدو كلعبة، حيث يسقط الخصوم بسهولة، تحول المنتصر إلى عبد لداعمه، يرقص على إيقاع الوعود الكاذبة. عادل بن سالم يرى في كل انتصار خطوة نحو الحرية، لكنه لا يدري أن الحرية وهم، وأن الذهب الأسود سيصبح سجناً أبدياً. حسن بن خليل يرى فيها طريقاً للطهارة، غير مدرك أن الطهارة ملطخة بالخيانة. وروبرت هاريس يرى فيها فرصة للسيطرة، يضحك من الجميع كأنه اللاعب الوحيد الذي يعرف القواعد.
مع كل شروق شمس جديد، تنطلق الجيوش مرة أخرى، أمواج من الغبار تحمل معها أحلاماً مشوهة وخيانات مخفية، والصحراء تشهد على مسرحية لا تنتهي، مليئة بالدم والسخرية. الرمال تبني القصور، لكنها تنذر بالانهيار، فالأساس هش، والخداع ينتظر اللحظة المناسبة ليظهر وجهه الحقيقي. عادل بن سالم يستمر في التقدم، حسن بن خليل يستمر في الدعاء، وروبرت هاريس يستمر في الرسم، والتاريخ يكتب فصولاً من الظلال التي تطول مع كل غروب.
4
مع مرور الزمن، تحولت الدولة إلى حارسٍ صامتٍ للممرات البحرية، إلى بوابةٍ حديديةٍ تُفتح وتُغلق حسب إشارةٍ تأتي من وراء البحار، وصار الملك عبد الرحمن بن فيصل يجلس على عرشه كرجلٍ يحمل مفتاحاً ثقيلاً لا يعرف أي بابٍ يفتح وأي قبرٍ يغلق.
كان القصر قد أصبح أضخم، أعمدته من الرخام الأبيض المستورد من إيطاليا، جدرانه مغطاةً بستائر الحرير الأحمر المطرز بالذهب، والثريات الضخمة تتدلى من السقف كأنها أقمارٌ مسروقةٌ من سماءٍ أخرى. لكن في قلب هذا الفخامة كلها، كان هناك فراغٌ كبيرٌ يتسع يوماً بعد يوم، فراغٌ لا تملؤه الغنائم ولا الألقاب ولا حتى صوت المدافع التي تطلق التحية كل صباح. كان عبد الرحمن بن فيصل يقضي معظم وقته في غرفةٍ صغيرةٍ في أعلى البرج الغربي، غرفةٌ تطل على البحر من نافذةٍ واحدةٍ ضيقة، يجلس فيها ساعاتٍ طويلة يراقب السفن الحربية البريطانية وهي ترسو وترحل، تحمل البضائع وتحمل معها أوامر جديدة مكتوبة بلغةٍ لا يفهمها تماماً لكنه يوقّع عليها دون سؤال.
في إحدى الليالي، عندما كان البحر هائجاً والريح تصفع النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، جاءه السيد ونستون غراي، الرجل الجديد الذي أرسلته لندن خصيصاً لـ«تنسيق المصالح». كان غراي طويلاً نحيلاً، بشرته شاحبة كورقةٍ قديمة، عيناه رماديتان لا تعكسان شيئاً، وصوته هادئٌ لكنه يحمل في طياته حدة سكين. دخل الغرفة دون استئذان، وضع على الطاولة ملفاً جلدياً أسود، ثم جلس دون دعوة وقال: «جلالتكم… الإمبراطورية العثمانية تترنح، والفرصة سانحة لنوسع حدودكم شمالاً… لكن هناك ثمن». فتح الملف، وكانت فيه خريطةٌ جديدة، حدودٌ مرسومة بحبرٍ أحمر، وفي أسفل الصفحة سطرٌ واحدٌ بخطٍ صغير: «كل ميلٍ مربعٍ جديد يعني عشر سنواتٍ إضافية من الحماية».
نظر عبد الرحمن بن فيصل إلى الخريطة، ثم إلى ونستون غراي، ثم إلى البحر خارج النافذة حيث كانت سفينة حربية بريطانية تضيء الماء بكشافاتها كأنها تبحث عن شيءٍ مفقود. أراد أن يسأل «وماذا بعد العشر سنوات؟»، لكن الكلمات تجمدت في حلقه، لأنه عرف الجواب قبل أن يُنطق: بعد العشر سيكون هناك عشرٌ أخرى، ثم عشرٌ أخرى، حتى يصبح التاريخ كله سلسلةً من العقود الموقّعة بدمٍ لا يجف. مدّ يده، أمسك القلم، ووقّع دون أن يقرأ باقي الشروط.
في تلك اللحظة، هبت ريحٌ قوية فجأة، فانفتحت النافذة بعنف، ودخل هواءٌ مالحٌ باردٌ يحمل معه رائحة البارود والدم القديم. طارت الأوراق من على الطاولة، واختلطت بأوراقٍ أخرى كانت مخبأةً في درجٍ سري، أوراقٌ قديمةٌ مكتوبةٌ بخط أبيه، تحذر من «الذين يأتون من وراء البحر بابتساماتٍ وأسلحة». حاول الملك أن يجمع الأوراق، لكن الريح كانت أقوى، فتناثرت في الهواء كأنها طيورٌ بيضاء مذعورة، ثم سقطت على الأرض واختلطت حتى لم يعد يعرف أي ورقةٍ هي التي وقّعها الآن وأي ورقةٍ كتبها أبوه قبل أن يموت مسموماً.
في الأيام التالية، بدأت الأنباء تأتي من الشمال: ثوراتٌ صغيرة، قبائلٌ ترفض البيعة، مدنٌ تُحرق لأن أهلها رفضوا دفع الجزية الجديدة المفروضة باسم «الحماية». كان عبد الرحمن بن فيصل يتلقى التقارير كل صباح، يقرأها بصمت، ثم يضعها في صندوقٍ حديديٍّ يغلقه بمفتاحٍ يعلقه في رقبته. لكنه في إحدى الليالي، عندما كان البحر هادئاً بشكلٍ مخيف، فتح الصندوق، وأخرج تقريراً قديماً، تقريرٌ عن مجزرةٍ في قريةٍ صغيرة، قريةٍ كان اسمها مكتوباً بخطٍ مرتجف: «قرية الشيخ علي… 300 قتيل… بأمرٍ من الحامي البريطاني». رفع عينيه إلى النافذة، فرأى في الأفق سفينةً حربيةً تضيء الماء، وكأنها تراقبه.
في تلك الليلة، جاءه السيد ونستون غراي مرةً أخرى، لكن هذه المرة لم يكن وحده. كان معه رجلٌ قصيرٌ سمينٌ يرتدي بدلةً سوداء، يحمل في يده حقيبةً جلديةً كبيرة. فتح الحقيبة، وكانت مليئةً بأكياسٍ من الذهب، ذهبٌ لامعٌ كأنه دموع الشمس. قال الرجل السمين بصوتٍ ثقيلٍ بلكنةٍ إنجليزيةٍ ثقيلة: «هذا جزءٌ من أرباح النفط الأولى… باقي الأرباح ستأتي لاحقاً… طالما بقيت الحماية». ثم أخرج من جيبه ورقةً أخرى، وكانت عادل بن سالم أن يوقّع عليها، ورقةٌ تمنح شركةً بريطانيةً امتياز التنقيب عن النفط لمدة تسعٍ وتسعين سنة.
نظر الملك إلى الذهب، ثم إلى الورقة، ثم إلى البحر خارج النافذة حيث كانت السفينة الحربية لا تزال تضيء الماء. مدّ يده، أمسك القلم، لكن هذه المرة توقف. شعر فجأة بثقلٍ في صدره، ثقلٍ يشبه صخرةً كبيرةً وضعت على قلبه. رفع عينيه إلى ونستون غراي، وسأل لأول مرة بصوتٍ مرتجف: «وماذا بعد التسعة والتسعين؟». ابتسم غراي ابتسامةً عريضة، ثم قال بهدوء: «بعد التسعة والتسعين سيكون هناك تسعةٌ وتسعون أخرى… أو ربما نترك لكم الرمال فقط».
في تلك اللحظة، هبت ريحٌ قوية مرةً أخرى، فانفتحت النافذة بعنف، ودخل هواءٌ مالحٌ باردٌ يحمل معه رائحة البارود والدم القديم. طارت الأوراق، وتناثر الذهب على الأرض كأنه دموعٌ صفراء، واختلطت بقطرات المطر التي بدأت تسقط فجأة من سماءٍ صافية. تراجع الملك خطوة، فسقط على كرسيه، وصرخ صرخةً لم يسمعها أحد، صرخةً خرجت من أعماقه، صرخةً تقول: «أنا لست ملكاً… أنا حارس».
من تلك الليلة، صار عبد الرحمن بن فيصل يقضي معظم وقته في الغرفة العلوية، يراقب البحر، يحسب السفن التي تأتي والتي ترحل، وكلما جاءته ورقةٌ جديدة ليوقّعها، كان يوقّع دون أن يقرأ، لأنه عرف أن القراءة لن تغير شيئاً. وكلما مرّت سفينةٌ حربيةٌ في الأفق، كان يسمع صوتاً خافتاً يهمس في أذنه: «حارس… حارس… حارس»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الريح، بل من داخل قلبه، قلبٍ تحول إلى سجنٍ صغيرٍ يحمل فيه مفتاحه اسم «الحماية».
5
في ليلةٍ عاصفةٍ من ليالي الشتاء النادرة، حين تتساقط الأمطار على الصحراء كأن السماء نفسها تبكي لأول مرة منذ سنين، جاء الرسول من الشمال يحمل خبراً يشبه الرعد المكتوم: جمال عبد الناصر أرسل جيشه إلى اليمن ليدعم الثوار، وأعلن أن عصر الملكيات الرجعية قد انتهى. في تلك اللحظة بالذات، كان الملك فيصل بن سعود جالساً في قاعة العرش المضاءة بمصابيح الزيت وحدها، لأن الكهرباء انقطعت بفعل العاصفة، فبدت الظلال تتراقص على الجدران كأرواحٍ تائهةٍ تبحث عن جسدٍ لتسكنه. رفع فيصل بن سعود عينيه من التقرير المبلل بالمطر، ورأى في الظلمعان الخافت وجهاً واحداً يتكرر في كل ظل: وجه جمال عبد الناصر، يبتسم ابتسامةً عريضةً كأنه يقول: «الآن دورك».
لم ينم تلك الليلة. جلس على عرشه، يمسك بمسنديه بقوة حتى ابيضت مفاصله، وكان يردد في سره كلمةً واحدةً كأنها تعويذة: «تهديد وجودي». في الصباح، استدعى السيد إدوارد كينغستون، المستشار البريطاني الجديد الذي وصل قبل أسابيع فقط، رجلٌ طويلٌ نحيلٌ بعينين زرقاوين باردتين كالفولاذ، يدخن غليونه ببطء وكأنه يحسب الدقائق قبل انفجار القنبلة. دخل كينغستون القاعة وهو يمسح نظارته من قطرات المطر، ثم جلس دون دعوة، ووضع على الطاولة خريطةً صغيرةً لليمن، ثم قال بهدوءٍ يشبه صوت الثلج: «ناصر يريد أن يسقطكم… لكن لدينا خطة. سنرسل لكم السلاح، والمال، والطيارين… وأنتم ترسلون الرجال. الحرب ستكون في اليمن، لكن الفاتورة ستدفعها مصر».
نظر فيصل بن سعود إلى الخريطة، فرأى فيها خطوطاً حمراءَ تمتد من الرياض إلى صنعاء كأنها أوردةٌ تنزف. أراد أن يسأل «وماذا لو انتصر ناصر؟»، لكن الكلمات تجمدت في حلقه، لأنه عرف الجواب قبل أن يُنطق: إذا انتصر ناصر سيسقط عرشه، وإذا هُزم ناصر سيبقى عرشه… لكن تحت السيادة البريطانية إلى الأبد. مدّ يده، أمسك القلم، ووقّع الأمر الملكي بإرسال الجيش إلى اليمن، وكانت يده ترتجف هذه المرة، ليس خوفاً من ناصر، بل خوفاً من أن يرى في المرآة وجهاً آخر غير وجهه.
في الأسابيع التالية، تحولت الرياض إلى خلية نحل مسعورة. الطائرات البريطانية تهبط في المطار السري ليلاً، تحمل صناديقَ مكتوباً عليها «معدات زراعية»، وتقلع فجراً فارغةً بعد أن تترك وراءها أسلحةً وذخيرةً ومدربين بشعرٍ أشقر وعيونٍ زرقاء. كان الملك فيصل بن سعود يستقبل التقارير كل مساء، يقرأ أسماء القرى التي احترقت، أعداد القتلى من الجانبين، وكان يشعر في كل مرة بثقلٍ جديدٍ يُضاف إلى صدره، ثقلٌ يشبه صخرةً تتتدحرج من أعلى جبل ولا تتوقف. في إحدى الليالي، جاءه تقريرٌ مختلف: طائرةٌ إسرائيليةٌ هبطت في قاعدةٍ سرية سرية، حملت مدربين وأسلحةً متطورة، وكان التوقيع في أسفل التقرير: «بموافقة صاحب الجلالة».
رفع فيصل بن سعود عينيه ببطء، ورأى السيد إدوارد كينغستون يقف في الظل، يبتسم ابتسامةً جانبيةً كأنه يقول: «لا تقلق… الأعداء أحياناً يتحولون إلى أصدقاء عندما يتعلق الأمر بالبقاء». أراد الملك أن يصرخ، أن يقول إن هذا خيانةٌ للأمة، لكن الكلمات بقيت عالقةً في حلقه، لأنه عرف أن صراخه لن يسمعه أحد، ولأن البقاء كان أغلى من الكرامة في تلك اللحظة. أغلق التقرير، وضعه في الدرج، وأشعل سيجارةً بيدين مرتجفتين، وكان الدخان يتصاعد أمام وجهه كأنه يحجب عنه رؤية وجهه الحقيقي في المرآة.
في الأشهر التي تلت، صارت حرب اليمن كابوساً لا ينتهي. الجنود السعوديون يموتون في الجبال، والطائرات الإسرائيلية تقصف القوات المصرية سراً، والأموال تتدفق من الرياض إلى جيوب المرتزقة والملكيين اليمنيين. وكلما جاء تقريرٌ بانتصارٍ صغير، كان فيصل بن سعود يشعر بثقلٍ أكبر، لأنه كان يعرف أن كل انتصارٍ هو هزيمةٌ مقنعة، وكل قتيلٍ يمني أو مصري هو جرحٌ جديدٌ في جسد الأمة سيبقى مفتوحاً إلى الأبد. فيصل بن سعود يجلس في غرفته العلوية، يستمع إلى صوت المطر على النوافذ، ويسمع في كل قطرةٍ صوتاً يهمس: «خائن… خائن… خائن». وكلما حاول أن ينام، كان يرى في حلمه وجه ناصر يبتسم، ووجه كينغستون يبتسم، ووجه طفلٍ يمنيٍ مقطوع الرأس يبتسم، وكلهم يقولون له الكلمة نفسها: «حربك بالوكالة… ونصرك هزيمة».
في النهاية، عندما انتهت الحرب بهزيمةٍ مصريةٍ مريرةٍ في اليمن، رفع فيصل بن سعود كأسه في مأدبةٍ كبرى، لكن الكأس كان فارغاً، والضيوف كانوا يبتسمون ابتساماتٍ صفراء، والسيد إدوارد كينغستون كان يقف في الزاوية يدخن غليونه ويهمس لنفسه: «الآن هو ملكنا تماماً». وفي تلك الليلة، لأول مرة، لم يستطع فيصل بن سعود أن ينظر إلى المرآة، لأنه عرف أن الوجه الذي سيرى فيها ليس وجهه، بل وجه حارسٍ وحيدٍ يحمل مفتاحاً لا يفتح إلا أبواب الجحيم.
6
اجتمع الجواسيس في غرفةٍ سريةٍ تحت قصر الملك فيصل بن سعود، غرفةٌ لا يعرفها إلا القلة، جدرانها من حجرٍ أسود لا يعكس الضوء، وسقفها منخفضٌ حتى يضطر الداخل إلى الانحناء كأنه يدخل قبراً. في وسطها طاولةٌ طويلةٌ من خشب البقس، عليها خريطةٌ كبيرةٌ لليمن والحدود الجنوبية، وأمام الخريطة شموعٌ سوداءُ تذوب ببطء، فتسيل شمعها الأحمر على الخشب كأنه دمٌ يتجمد. كان الهواء ثقيلاً برائحة البارود والتبغ الإنجليزي والعرق البارد، وكان الصمت كثيفاً حتى إن صوت أنفاس الرجال كان يبدو كصوت سيوفٍ تُسحب من أغمادها.
في رأس الطاولة جلس الملك فيصل بن سعود، لكنه لم يجلس كملك. كان يجلس كرجلٍ ينتظر الحكم. ثوبه الأبيض مُجعدٌ قليلاً، وتاجه الصغير مائلٌ على جبهته كأنه يريد أن يهرب، وعيناه غائرتان كأنه لم ينم منذ أسابيع. إلى يمينه جلس السيد ريتشارد بلاكوود، المستشار البريطاني الجديد، رجلٌ نحيلٌ بعينين رماديتين لا ترمش، يدخن غليونه ببطء وكأنه يحسب الدقائق قبل انفجار القنبلة. إلى يساره جلس الكولونيل موشيه ليفي، الضابط الإسرائيلي الذي وصل قبل يومين بجوازٍ سفرٍ كندي، وجهه صلبٌ كالصخر، وصوته هادئٌ لكنه يحمل في طياته لهجةً لا تخطئ. وفي الظلال، وقف رجلٌ تركيٌّ طويلٌ يدعى أحمد بك، يرتدي بدلةً سوداء ويحمل في يده ملفاً جلدياً مكتوباً عليه بالتركية «سري للغاية».
رفع بلاكوود غليونه، نفث دخاناً أبيض يتسلل نحو السقف كروحٍ تهرب، ثم قال بهدوءٍ يشبه صوت المدفع قبل أن ينفجر: «الآن ننسق الضربات. الطيارون الإسرائيليون سيقصفون المواقع المصرية من الجو، والمرتزقة الأوروبيون سيهاجمون من البر، وأنتم… أنتم تدفعون الفاتورة وترسلون الرجال». نظر إلى فيصل بن سعود، وكانت عيناه باردتين كالفولاذ: «كل شيءٍ يجب أن يبدو وكأنه حربٌ سعوديةٌ خالصة… لا أحد يجب أن يعرف أننا هنا».
تحدث موشيه ليفي لأول مرة، صوته خشنٌ كالحصى: «لدينا معلوماتٌ دقيقةٌ عن مواقع الدبابات المصرية في صنعاء وحجة… سنضربها قبل الفجر، وستظهر التقارير أن الطائرات سعودية». ثم أخرج من جيبه صورةً جويةً ملتقطةً من طائرةٍ استطلاع، وضعها على الخريطة، وكانت الصورة واضحةً حتى إنك ترى وجوه الجنود المصريين وهم ينامون بجانب دباباتهم. نظر فيصل بن سعود إلى الصورة، ورأى فيها وجهاً شاباً يشبه ابنه الأصغر، فشعر فجأة بغصةٍ في حلقه، لكنه ابتلعها، وأومأ برأسه فقط.
تحدث أحمد بك بالتركية أولاً، ثم ترجم بنفسه إلى العربية بصوتٍ منخفض: «من كلس، سنرسل الإمدادات عبر الحدود… أسلحةٌ أميركيةٌ ومدرعٌ ألماني… كلها ستصل باسم مساعداتٍ إنسانية». ثم فتح الملف، وكانت فيه قائمةٌ طويلةٌ بأسماء الضباط الأتراك والأميركيين والبريطانيين الذين سيشرفون على العملية، وفي أسفل القائمة اسمٌ واحدٌ عربي: فيصل بن سعود، مكتوبٌ بخطٍ صغيرٍ جداً، كأنه توقيعٌ على حكمٍ بالإعدام.
في تلك اللحظة، سمعوا صوتاً خافتاً من أعلى، صوت خطواتٍ على الدرج الحجري، خطواتٍ ثقيلةً كأنها تحمل شيئاً ثقيلاً. توقف الجميع، حتى بلاكوود توقف عن التدخين. ثم فُتح الباب ببطء، ودخل رجلٌ طويلٌ يرتدي ثوباً أسود ممزقاً، وجهه مخفيٌ تحت كوفيةٍ ملطخةٍ بالدم، وفي يده سيفٌ قديمٌ يقطر دماً طازجاً. وقف في مدخل الغرفة، ثم رفع السيف ببطء، وصرخ بصوتٍ يشبه صوت الريح في الوديان المهجورة: «يا بائع الأمة… يا خادم الصهيوني!».
قفز ليفي على قدميه، وسحب مسدسه، وكذلك فعل بلاكوود، لكن الرجل لم يتحرك. ظل واقفاً، السيف مرفوعاً، والدم يقطر من طرفه على الأرض، قطرة… قطرة… قطرة. ثم بدأ وجهه يتغير، يذوب كالشمع، يتحول إلى وجوهٍ أخرى، وجه طفل يمني، وجه جندي مصري، وجه امرأةٍ تبكي، كلهم ينظرون إلى فيصل بن سعود بنفس العينين الفارغتين، وكلهم يرددون بنفس الصوت: «خائن… خائن… خائن».
أطلق ليفي النار، لكن الرصاصة مرّت من خلال الرجل واصطدمت بالجدار، ولم يسقط الرجل. بقي واقفاً، ثم بدأ يتقدم خطوةً خطوة، والدم يقطر من سيفه، والأصوات ترتفع حتى صارت جوقةً مخيفة. حاول فيصل بن سعود أن يقوم، لكنه وجد نفسه ملتصقاً بالكرسي، كأن يدين غير مرئيتين تمسكانه. اقترب الرجل حتى صار وجهه أمام وجه الملك، ثم همس في أذنه كلمةً واحدةً فقط، كلمةً جعلت الدم يتجمد في عروقه: «حارس».
فجأة، اختفى الرجل، واختفت الأصوات، وعاد الهدوء إلى الغرفة كأن شيئاً لم يكن. لكن على الطاولة، حيث كانت الخريطة، كان هناك الآن ورقةٌ أخرى، ورقةٌ بيضاءُ مكتوبٌ عليها بخطٍ أحمر: «الآن أنت لست ملكاً… أنت أداة». نظر فيصل بن سعود إلى بلاكوود وليفي وأحمد بك، لكنهم كانوا يبتسمون ابتساماتٍ صفراء، كأنهم لم يروا شيئاً، ثم قال بلاكوود بهدوء: «تخيلات يا جلالة الملك… مجرد تخيلات… الآن، هيا نكمل التنسيق».
لكن فيصل بن سعود لم يعد يسمع. كان ينظر إلى الورقة، ويرى الكلمات تتحرك، تتغير، تصبح وجوهًا، وجوه الذين سيُقتلون غداً باسمه، ينظرون إليه ويرددون: «حارس… حارس… حارس». ومن تلك الليلة، صار الملك يجلس في تلك الغرفة كل ليلة، ينسق الضربات، يوقّع الأوامر، لكن عيناه فارغتان، وفي كل مرةٍ يرفع فيها قلمه، كان يسمع صوت الرجل الطويل: «خائن… خائن… خائن»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخل قلبه، قلبٍ تحول إلى غرفةٍ سريةٍ لا يخرج منها أحد.
7
مع شروقٍ جديدٍ يلون السماء بلونٍ برتقاليٍّ يشبه الدم المخفف بالماء، سقطت مدنٌ عربيةٌ كأوراق خريفٍ ميتة، وسقط معها صوتٌ كان يظن نفسه صوت الأمة. كان الملك فيصل بن سعود يقف على شرفة القصر الملكي في الرياض، يرتدي رداءً أبيض نظيفاً لم يتسخ بعد، ينظر إلى الأفق الغربي حيث كانت الدبابات الإسرائيلية تتقدم كأفاعٍ حديديةٍ سوداء، وكان يمسك في يده برقيةً عاجلةً مكتوبةً بخطٍ مرتجف: «سيناء سقطت… الجولان سقط… القدس سقطت». رفع عينيه إلى السماء، فلم يجد فيها سوى طائرةٍ إسرائيليةٍ واحدةٍ تحلق عالياً، ترمي منشوراتٍ بيضاء تتساقط ببطء كأنها ثلجٌ في صحراء، وكانت المنشورات تحمل صورة القدس وتحتها عبارةٌ بالعربية: «السلام للشجعان».
في تلك اللحظة بالذات، دخل السيد ريتشارد بلاكوود الشرفة بخطىً هادئة، يحمل في يده كأس شاي إنجليزيٍّ ويبتسم ابتسامةً عريضةً كأن الأرض لم تهتز للتو. وقلب الأمة لم ينفطر. وقف بجانب الملك، ونظر إلى الأفق معه، ثم قال بهدوءٍ يشبه صوت المدفع البعيد: «لا تقلق يا جلالة الملك… إسرائيل فعلت ما كان يجب فعله… ناصر انكسر، والطريق مفتوح الآن أمامكم لتكونوا زعيم العالم العربي». ثم أخرج من جيبه ورقةً صغيرةًا مطوية، فتحها، وكانت عبارةً عن بيانٍ مشتركٍ جاهزٍ للتوقيع: «المملكة العربية السعودية تعلن الحداد ثلاثة أيام… وتدعو إسرائيل في حقها في الدفاع عن النفس».
نظر فيصل بن سعود إلى الورقة، ورأى أن الحبر لا يزال رطباً، وكأن الكلمات تتحرك على الصفحة، تتغير مكانها، تصبح وجوهًا: وجه طفلٍ فلسطيني يبكي، وجه جندي مصري مقطوع الذراع، وجه امرأةٍ من الجولان تحمل طفلاً ميتاً. حاول أن يمزق الورقة، لكن يده تجمدت في الهواء، لأن بلاكوود كان ينظر إليه بعينين لا ترمش، عينين تقولان: «وقّع… أو غداً يأتي دورك». مدّ الملك يده، أمسك القلم، ووقّع، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من الحبر على الورقة، قطرةٌ حمراءُ بدت كقطرة دمٍ طازجة.
في الأيام التي تلت، تحولت الرياض إلى مدينةٍ من الحداد الزائف والاحتفال الخفي. في الشوارع ترفرف الأعلام السوداء، والمساجد ترفع الأذان بالحزن، لكن في القصور كانت الأفراح سرية، كؤوس الشمبانيا ترفع للنصر الإسرائيلي، والمستشارون البريطانيون والأميركيون يتبادلون التهاني في الغرف المغلقة. وكان فيصل بن سعود يجلس على عرشه كل صباح، يتلقى التقارير عن عدد اللاجئين الفلسطينيين الجدد، عن عدد الدبابات المصرية المدمرة، عن عدد الشهداء في الجولان، وكان يشعر في كل تقرير بثقلٍ جديدٍ يُضاف إلى صدره، ثقلٌ يشبه صخرةً تتدحرج من أعلى جبل ولا تتوقف.
في إحدى الليالي، عندما كانت القدس لا تزال تحترق في قلوب العرب، جاءه السيد ريتشارد بلاكوود مرةً أخرى، لكن هذه المرة كان معه رجلٌ قصيرٌ سمينٌ يرتدي بدلةً سوداء، يحمل في يده حقيبةً جلديةً كبيرة. فتح الحقيبة، وكانت مليئةً بأكياسٍ من الذهب، ذهبٌ لامعٌ كأنه دموع الشمس. قال الرجل السمين بصوتٍ ثقيلٍ بلكنةٍ أميركية: «هذا جزءٌ من تعويضات النفط الجديدة… لأنكم وقفتم إلى جانبنا في الأزمة». ثم أخرج ورقةً أخرى، وكانت عبارةً عن عقدٍ جديدٍ يمنح شركةً أميركيةً امتيازاً حصرياً للتنقيب في المنطقة الربع الخالي لمدة خمسين سنةً أخرى.
نظر فيصل بن سعود إلى الذهب، ثم إلى الورقة، ثم إلى البحر خارج النافذة حيث كانت السفن الحربية الأميركية ترسو الآن بدل البريطانية. مدّ يده، أمسك القلم، لكن هذه المرة توقف. شعر فجأة بثقلٍ في صدره، ثقلٌ يشبه صخرةً كبيرةً وضعت على قلبه. رفع عينيه إلى بلاكوود، وسأل لأول مرة بصوتٍ مرتجف: «وإذا رفضتُ؟». ابتسم بلاكوود ابتسامةً عريضة، ثم قال بهدوء: «إذا رفضتَ… فغداً يأتي دورك… مثل ناصر».
في تلك اللحظة، هبت ريحٌ قوية فجأة، فانفتحت النافذة بعنف، ودخل هواءٌ مالحٌ باردٌ يحمل معه رائحة البارود والدم القديم. طارت الأوراق، وتناثر الذهب على الأرض كأنه دموعٌ صفراء، واختلطت بقطرات المطر التي بدأت تسقط فجأة من سماءٍ صافية. تراجع الملك خطوة، فسقط على كرسيه، وصرخ صرخةً لم يسمعها أحد، صرخةً تقول: «أنا لست ملكاً… أنا خائن».
من تلك الليلة، صار فيصل بن سعود يقضي معظم وقته في الغرفة العلوية، يراقب الأفق، يحسب السفن التي تأتي والتي ترحل، وكلما جاءته ورقةٌ جديدة ليوقّعها، كان يوقّع دون أن يقرأ، لأنه عرف أن القراءة لن تغير شيئاً. وكلما مرّت سفينةٌ حربيةٌ في الأفق، كان يسمع صوتاً خافتاً يهمس في أذنه: «خائن… خائن… خائن»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الريح، بل من داخل قلبه، قلبٍ تحول إلى سجنٍ صغيرٍ يحمل فيه مفتاحاً لا يفتح إلا أبواب الجحيم.
8
في صمت الصحراء الذي يغلف الأرض ككفنٍ أسود لا ينفذ إليه صوت إلا همس الرياح الخائنة، تحولت الحرب إلى تقليدٍ قديمٍ يتوارثه الملوك كإرثٍ ملعون، يُمارسونه كطقسٍ يوميٍّ يبدأ مع شروق الشمس وينتهي مع غروبها، لكنه لا ينتهي أبداً في القلوب. كان الملك سليمان بن عبد الوهاب يجلس على عرشه الذهبي المطعّم باللآلئ، في قاعةٍ واسعةٍ جدرانها مغطاةٌ بستائرٍ حمراء كالدم الجاف، يستمع إلى أنباء الثورات البعيدة التي تنهض كالأشباح من رماد الماضي. كانت عيناه غائرتين كبئرين جافتين، يرى فيهما انعكاساً لوجهه الذي أصبح غريباً عن نفسه، وجه رجلٍ يحكم أرضاً شاسعةً لكنه لا يملك حتى حرية أن يقول "لا" لمن يدير خيوطه من وراء البحار. كل صباح، يأتيه الرسول البريطاني السيد جوناثان ويلكس، رجلٌ نحيلٌ بعينين رماديتين لا تعبران عن شيء، يحمل في يده ملفاً جلدياً أسود كالليل، ويقول بصوتٍ هادئٍ كالموت: "يا جلالة الملك، هناك ثورةٌ جديدةٌ في الشمال، ويجب كبحها قبل أن تنتشر كالنار في الهشيم".
كان سليمان بن عبد الوهاب يوقّع الأوامر دون أن يقرأ، يرسل الجيوش كأنه يرسل أغناماً إلى الذبح، ويعود إلى عرشه ينتظر التقارير التي تأتي كل مساء، تقارير مليئةٌ بأرقام القتلى والأسرى والقرى المحترقة. لكنه في أعماقه يعرف أن هذه الحرب ليست حربه، بل هي لعبةٌ يلعبها اللاعبون الكبار في غرفٍ مغلقةٍ في لندن وواشنطن، غرفٌ مضاءةٌ بمصابيحٍ كهربائيةٍ باردة، حيث يجلسون حول طاولاتٍ من الخشب اللامع ويرسمون الخرائط بأقلامٍ لا تترك أثراً من دم. كان جوناثان ويلكس يبتسم دائماً عندما يغادر، ابتسامةً لا تصل إلى عينيه، ويترك وراءه رائحة التبغ الإنجليزي ورسالةً خفيةً تقول: "أنت مجرد دميةٍ، يا ملك، ونحن نتحكم في الخيوط".
في إحدى الليالي، عندما كانت الرياح تهب من الجنوب تحمل معها غبار اليمن ورائحة البارود، استيقظ سليمان بن عبد الوهاب من نومه المضطرب، يشعر بثقلٍ في صدره كأن صخرةً كبيرةً وضعت عليه. نهض، مشى بخطى ثقيلة نحو النافذة، فرأى في الظلام الدامس أشباحاً تتحرك بين الكثبان، أشباحاً لجنودٍ يعودون من اليمن بوجوهٍ مشوهةٍ وأجسادٍ مقطعة، ينظرون إليه بعيونٍ فارغةٍ ويهمسون: "لماذا أرسلتنا إلى الموت، يا ملك؟". حاول أن يطردهم بصوتٍ عالٍ، لكن الصوت لم يخرج من حلقه، وبقوا واقفين ينظرون إليه حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء كأنهم لم يكونوا.
في الصباح، جاءه الداعي محمد بن خليفة، رجلٌ بلحيةٍ رماديةٍ طويلةٍ وعينين متقدتين كجمراتٍ مخفيةٍ تحت الرماد، يحمل في يده مصحفاً مغلقاً وتقريراً عاجلاً عن الثوار في اليمن. جلس أمام الملك، وفتح المصحف على صفحةٍ عشوائيةٍ، ثم قال بصوتٍ عميقٍ يشبه صدى الكهوف: "يا مولاي، الناصريون ينتشرون كالوباء، يدعون إلى الوحدة والثورة، ويجب أن نكبح جماحهم قبل أن يصلوا إلى أبواب الرياض". نظر سليمان بن عبد الوهاب إلى الداعي، ورأى في عينيه بريقاً غريباً، بريقاً يشبه بريق الذهب الذي يأتي من لندن كل شهر، وتساءل في سره إن كان الداعي يتحدث بلسانه أم بلسان ويلكس.
في تلك اللحظة، دخل جوناثان ويلكس الغرفة دون استئذان، يحمل في يده حقيبةً جلديةً سوداء كالليل، فتحها ببطء وأخرج منها خطةً جديدةً مكتوبةً بخطٍ دقيق: "الملكيون في اليمن يحتاجون إلى دعم جويٍ سريٍّ من طائراتٍ إسرائيليةٍ، وسننسق العملية من جدة، وستكون الفاتورة مدفوعةً بالبترودولار". رفع عينيه إلى الملك، وابتسم ابتسامةً باردة: "هذا سيضعف ناصر، ويجعلكم الزعيم الإسلامي الجديد". نظر سليمان بن عبد الوهاب إلى الخطة، ورأى فيها خطوطاً حمراءَ تمتد كأوردةٍ تنزف، وشعر بغصةٍ في حلقه كأن الدم يعود إلى الوراء في عروقه.
في الأيام التالية، تحولت الحرب إلى روتينٍ يوميٍّ، كأنها طقسٌ دينيٌّ يُمارس بلا تردد. يرسل الملك الجنود إلى اليمن، يوقّع العقود مع البريطانيين والأميركيين، يستمع إلى تقارير الداعي محمد بن خليفة عن "الكفار الناصريين"، ويعود إلى عرشه ينتظر الدور التالي. لكنه في كل ليلة يستيقظ على صوتٍ خافتٍ يهمس في أذنه: "دمية… دمية… دمية"، ويجد بجانب سريره ورقةً صغيرةً مكتوبةً بخطٍ غريب: "اللاعبون الكبار يشكرونك على دورك".
في إحدى الليالي، عندما كانت الرياح تهب من الجنوب تحمل معها رائحة البارود والجثث، استيقظ سليمان بن عبد الوهاب من نومه المضطرب، نهض، مشى بخطى ثقيلة نحو النافذة، فرأى في الظلام الدامس أشباحاً تتحرك بين الكثبان، أشباحاً لجنودٍ يعودون من اليمن بوجوهٍ مشوهةٍ وأجسادٍ مقطعة، ينظرون إليه بعيونٍ فارغةٍ ويهمسون: "لماذا أرسلتنا إلى الموت، يا ملك؟". حاول أن يطردهم بصوتٍ عالٍ، لكن الصوت لم يخرج من حلقه، وبقوا واقفين ينظرون إليه حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء كأنهم لم يكونوا.
في الصباح، جاءه جوناثان ويلكس مرةً أخرى، يحمل خطةً جديدةً: "سنرسل طائراتٍ من تل أبيب إلى جدة، ستحمل شعاراً سعودياً، وتقصف المواقع المصرية". نظر الملك إلى الخطة، ورأى فيها خطوطاً حمراءَ تمتد كأوردةٍ تنزف، وشعر بغصةٍ في حلقه كأن الدم يعود إلى الوراء في عروقه. أراد أن يرفض، لكن يده امتدت تلقائياً، أمسك القلم، ووقّع، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من الحبر على الورقة، قطرةٌ حمراءُ بدت كقطرة دمٍ طازجة.
مع مرور الزمن، أصبحت الحرب جزءاً من اليوميات، كالصلاة والأكل والنوم، يرسل الملك الجنود إلى الموت، يتلقى التقارير عن القتلى، ويعود إلى عرشه ينتظر الدور التالي. لكنه في كل مرةٍ يغلق عينيه، يرى نفسه دميةً في يد لاعبٍ كبير، لاعبٍ لا يرى وجهه، لكنه يسمع ضحكته البعيدة، ضحكةً تتردد في الصحراء كصدى لا ينتهي، ويعرف أن الدور التالي لن يكون نصراً، بل مجرد خطوةٍ أخرى نحو الهاوية.
في النهاية، عندما انتهت الحرب بهزيمةٍ مريرةٍ لناصر، رفع فيصل بن سعود كأسه في مأدبةٍ كبرى، لكن الكأس كان فارغاً، والضيوف كانوا يبتسمون ابتساماتٍ صفراء، والسيد جوناثان ويلكس كان يقف في الزاوية يدخن غليونه ويهمس لنفسه: "الآن هو دميتنا تماماً". وفي تلك الليلة، لأول مرة، لم يستطع فيصل بن سعود أن ينظر إلى المرآة، لأنه عرف أن الوجه الذي سيرى فيها ليس وجهه، بل وجه دميةٍ تنتظر الدور التالي في لعبةٍ لا تنتهي.
الفصل الثالث : عاصفةٌ تُحرقُ الأطفالَ وتُبقي العرشَ
1
في ستينيات القرن العشرين، حين كانت الأحلام الثورية تشتعل في صدور الشباب كجمرٍ تحت الرماد، وكانت أصوات الراديو تحمل أغنيةً واحدةً اسمها «الوحدة»، ظهر الملك فيصل بن سعود كعدوٍّ شرسٍ لكل ما يحمل اسم «ناصر». كان القصر الملكي في الرياض قد أصبح قلعةً محاصرةً من الداخل، أبوابه مغلقةً بالحديد، نوافذه مسدودةً بالستائر الحمرةً، وحراسه ينظرون إلى كل زائر كأنه حاملٌ لقنبلةٍ موقوتة. في تلك السنوات، كان فيصل بن سعود يستيقظ كل فجر على صوتٍ خافتٍ يأتي من بعيد، صوتٌ يشبه أغنيةً ثوريةً تُذاع من القاهرة، فيضغط على أذنيه بكفيه كأن بإمكانه أن يخنفي الصوت بقوة الضغط، لكن الصوت يبقى، يتسلل من بين أصابعه، يرن في رأسه حتى يصير جزءاً من دمه.
كان يرى في جمال عبد الناصر تهديداً وجودياً، ليس لأن ناصر يملك جيوشاً أقوى أو أسلحةً أحدث، بل لأنه يملك شيئاً لا يملكه فيصل: حلمٌ يشعل قلوب الناس. كان فيصل يقرأ التقارير الاستخباراتية كل ليلة، تقارير تتحدث عن شبابٍ سعوديين يتسللون إلى القاهرة ليتدربوا في معسكرات الثوار، عن منشوراتٍ تُوزّع في أسواق الرياض تدعو إلى الجمهورية، عن أصواتٍ في المساجد تهمس باسم «الوحدة» بدل «الطاعة». وكلما قرأ، كلما ازداد خوفه، خوفٌ يشبه خوف رجلٍ يرى بيته يحترق من الداخل ولا يستطيع أن يطفئ النار لأنها مشتعلةٌ في قلوب أبنائه.
في إحدى الليالي، عندما كانت الرياح تهب من الجنوب تحمل معها رائحة البارود من اليمن، استدعى فيصل بن سعود مستشاره البريطاني السيد ألان كوبر، رجلٌ طويلٌ نحيلٌ بعينين زرقاوين باردتين كالثلج، يدخن غليونه ببطء وكأنه يحسب الدقائق قبل انهيار عرش. دخل كوبر القاعة الملكية وهو يمسح نظارته من غبار الصحراء، ثم جلس دون دعوة، ووضع على الطاولة خريطةً كبيرةً لليمن، ثم قال بهدوءٍ يشبه صوت المدفع البعيد: «ناصر أرسل خمسين ألف جندي إلى اليمن… إذا انتصر، سيكون الباب التالي هو الرياض». ثم أخرج من جيبه ورقةً صغيرةً مطوية، فتحها، وكانت عبارةً عن خطةٍ سريةٍ موقعةٌ من لندن وتل أبيب وواشنطن معاً: «دعم كامل للملكيين اليمنيين… بما في ذلك الطيران والاستخبارات… مقابل ضمان استمرار تدفق النفط».
نظر فيصل بن سعود إلى الورقة، ورأى فيها خطوطاً حمراءَ تمتد كأوردةٍ تنزف، وشعر بغصةٍ في حلقه كأن الدم يعود إلى الوراء في عروقه. أراد أن يسأل «وماذا لو علمت الأمة؟»، لكن الكلمات تجمدت في حلقه، لأنه عرف الجواب قبل أن يُنطق: الأمة لن تعلم، لأن الصحف ستُغلق، والإذاعات ستُصادر، والأصوات ستُخنق قبل أن تصرخ. مدّ يده، أمسك القلم، ووقّع، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من الحبر على الورقة، قطرةٌ حمراءُ بدت كقطرة دمٍ طازجة.
في الأسابيع التالية، تحولت الحرب في اليمن إلى جحيمٍ يومي. الطائرات الإسرائيلية تهبط في قواعد سرية في الجنوب، تحمل شعاراً سعودياً مزيفاً، وتقصف القوات المصرية ليلاً، ثم تعود قبل الفجر. الجنود السعوديون يموتون في الجبال، والمرتزقة الأوروبيون يحاربون باسم الملكية، والأموال تتدفق من الرياض إلى جيوب الوسطاء في لندن وتل أبيب. وكان فيصل بن سعود يتلقى التقارير كل صباح، يقرأ أسماء القتلى، أعداد الدبابات المدمرة، أعداد القنابل التي أُلقيت، وكان يشعر في كل تقرير بثقلٍ جديدٍ يُضاف إلى صدره، ثقلٌ يشبه صخرةً تتدحرج من أعلى جبل ولا تتوقف.
في إحدى الليالي، عندما كانت القاهرة تبث أغنيةً ثوريةً جديدةً اسمها «بلادي بلادي»، استيقظ فيصل بن سعود من نومه المضطرب، يشعر بثقلٍ في صدره كأن صخرةً كبيرةً وضعت عليه. نهض، مشى بخطى ثقيلة نحو النافذة، فرأى في الظلام الدامس أشباحاً تتحرك بين الكثبان، أشباحاً لجنودٍ مصريين مقطوعي الأيدي، ينظرون إليه بعيونٍ فارغةٍ ويهمسون: «لماذا تقتلنا، يا ملك؟». حاول أن يطردهم بصوتٍ عالٍ، لكن الصوت لم يخرج من حلقه، وبقوا واقفين ينظرون إليه حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء كأنهم لم يكونوا.
في الصباح، جاءه السيد ألان كوبر مرةً أخرى، يحمل خطةً جديدةً: «سنرسل طائراتٍ من تل أبيب إلى جدة، ستحمل شعاراً سعودياً، وتقصف المواقع المصرية». نظر الملك إلى الخطة، ورأى فيها خطوطاً حمراءَ تمتد كأوردةٍ تنزف، وشعر بغصةٍ في حلقه كأن الدم يعود إلى الوراء في عروقه. أراد أن يرفض، لكن يده امتدت تلقائياً، أمسك القلم، ووقّع، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من الحبر على الورقة، قطرةٌ حمراءُ بدت كقطرة دمٍ طازجة.
مع مرور الزمن، أصبحت الحرب في اليمن جزءاً من اليوميات، كالصلاة والأكل والنوم، يرسل الملك الجنود إلى الموت، يتلقى التقارير عن القتلى، ويعود إلى عرشه ينتظر الدور التالي. لكنه في كل مرةٍ يغلق عينيه، يرى نفسه دميةً في يد لاعبٍ كبير، لاعبٍ لا يرى وجهه، لكنه يسمع ضحكته البعيدة، ضحكةً تتردد في الصحراء كصدى لا ينتهي، ويعرف أن الدور التالي لن يكون نصراً، بل مجرد خطوةٍ أخرى نحو الهاوية. وكلما استمع إلى صوت الراديو من القاهرة يغني «بلادي بلادي»، كان يضغط على أذنيه بقوة أكبر، لكن الصوت يبقى، يتسلل من بين أصابعه، يرن في رأسه حتى يصير جزءاً من دمه، ويعرف أنه مهما فعل، فإن الحلم الذي يكرهه هو الحلم الوحيد الذي لا يزال حياً في قلوب الناس.
2
جاء الجواسيس من الشرق كأشباحٍ تتسلل من بين ظلال النخيل، يحملون في جيوبهم أسراراً تزن أكثر من الذهب وأخطر من السم. كانوا يصلون ليلاً، في طائراتٍ صغيرةٍ بلا أضواء، تهبط في مدرجٍ سريٍّ جنوب جدة، ثم يُنقلون في سياراتٍ سوداء النوافذ إلى قصرٍ قديمٍ على شاطئ البحر الأحمر، قصرٌ كان يوماً ملكاً لتاجر لؤلؤٍ عثماني، والآن صار ملجأً لمن لا وطن لهم ولا اسم. هناك، في غرفةٍ تحت الأرض مبنيةٌ من حجرٍ أسود لا يعكس الضوء، كان الملك فيصل بن سعود ينتظرهم، جالساً على كرسيٍّ خشبيٍّ بسيطٍ كأنه في محاكمةٍ سرية، وجهه شاحبٌ تحت ضوء مصباحٍ زيتيٍّ واحد، عيناه غائرتان كأنه لم ينم منذ أن سمع اسم «ناصر» لأول مرة.
كان أول الوافدين رجلاً قصيراً عريض المنكبين، بشرته سمراء داكنة، عيناه صغيرتان حادتان كشفرتي سكين، يرتدي بدلةً رماديةً عاديةًّا ويحمل حقيبةً جلديةً صغيرة. قدم نفسه باسم «الكولونيل يوسف ليفي»، وقال إنه جاء من تل أبيب «للمساعدة». تبعه رجلٌ ثانٍ طويلٌ أشقر، بشرته بيضاء كالحليب، عيناه زرقاوان باردتان، يرتدي ثوباً عربياً لكنه يبدو كأنه مقلّدٌ من فيلم، وقدم نفسه باسم «الكابتن جون سميث»، وقال إنه يمثل «الأصدقاء في لندن». ثم جاء ثالثٌ، رجلٌ نحيلٌ بعينين سوداوين غائرتين، لحيةٌ قصيرةٌ سوداء، يتحدث العربية بلهجةٍ شاميةٍ خفيفة، وقدم نفسه باسم «الأخ أبو خالد»، وقال إنه «من الإخوان» وجاء «لنصرة الملكية الشرعية».
جلس الثلاثة أمام الملك كأنهم محكمةٌ سرية، ووضعوا على الطاولة خريطةً كبيرة لليمن، وعليها نقاطٌ حمراءُ تشير إلى مواقع الجيش المصري، ونقاطٌ سوداءُ تشير إلى مواقع الملكيين. رفع يوسف ليفي صورةً جويةً حديثة، وقال بصوتٍ خشنٍ لا يخلو من لهجةٍ عبريةٍ خفيفة: «هذه معسكرات الناصريين في حرض وصنعاء… لدينا إحداثياتٌ دقيقة… طائراتنا يمكنها أن تضربهم قبل الفجر». ثم نظر إلى فيصل بن سعود بعينين لا ترمش، وأضاف: «كل ما نريده هو ممرٌ آمنٌ من جدة… وبعض الوقود… وبعض الذهب».
رفع جون سميث كأساً من القهوة العربية، لكنه لم يشرب، وقال بهدوءٍ بريطانيٍّ بارد: «نحن سنؤمن الغطاء السياسي… سنقول إن الطائرات سعودية، وإن القصف كان خطأً… والعالم سيصدق، لأن العالم يصدق دائماًا من يملك النفط». ثم أخرج من جيبه ورقةً صغيرةً مكتوبةً بخطٍ دقيق، وكانت عبارةً عن عقدٍ جديد: «في حال سقوط ناصر، تُمنح شركة بريطانية امتيازاً جديداً للتنقيب في الربع الخالي لخمسين سنةً أخرى».
تحدث أبو خالد أخيراً، صوته منخفضٌ كأنه يخرج من قبر: «وإخواننا في الجبال سيحاربون على الأرض… سنرسل المجاهدين من باكستان وأفغانستان… كلهم يحملون راية الإسلام… وسيُقتلون الناصريين باسم الله». ثم نظر إلى فيصل بن سعود بعينين متقدتين، وأضاف: «طالما بقي عرشكم، سيبقى الإسلام آمناً».
نظر فيصل بن سعود إلى الثلاثة، ثم إلى الخريطة، ثم إلى الظلال على الجدران التي بدأت تتحرك ببطء كأنها تريد أن تتكلم. أراد أن يقول شيئاً، أراد أن يصرخ، أراد أن يقلب الطاولة ويخرج راكضاً إلى الصحراء، لكن الكلمات تجمدت في حلقه، والأرجل لم تتحرك. كان يعرف أن الباب مغلق، وأن المفتاح في جيب يوسف ليفي. مدّ يده ببطء، أمسك القلم، ووقّع العقد، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من الحبر على الخريطة، قطرةٌ حمراءُ بدت كقطرة دمٍ طازجة.
في الأسابيع التالية، بدأت الطائرات الإسرائيلية تقصف المواقع المصرية ليلاً، تحمل شعار الهلال والنخلة، وكانت التقارير الرسمية تقول إنها «طلعاتٌ سعوديةٌ روتينية». والمجاهدون الذين أرسلهم أبو خالد يحاربون في الجبال باسم الإسلام، يقتلون ويُقتلون، ويصرخون «الله أكبر» قبل أن يفجر كل قنبلة. وكان فيصل بن سعود يتلقى التقارير كل صباح، يقرأ أسماء القتلى، أعداد الدبابات المدمرة، أعداد القرى التي أُحرغت من سكانها، وكان يشعر في كل تقرير بثقلٍ جديدٍ يُضاف إلى صدره، ثقلٌ يشبه صخرةً تتدحرج من أعلى جبل ولا تتوقف.
في إحدى الليالي، عندما كانت القاهرة تبث خطاباً جديداً لناصر يدعو فيه إلى «تحرير الجزيرة العربية من الرجعية»، استيقظ فيصل بن سعود من نومه المضطرب، يشعر بثقلٍ في صدره كأن صخرةً كبيرةً وضعت عليه. نهض، مشى بخطى ثقيلة نحو النافذة، فرأى في الظلام الدامس أشباحاً تتحرك بين الكثبان، أشباحاً لجنودٍ مصريين ويمنيين وفلسطينيين، ينظرون إليه بعيونٍ فارغةٍ ويهمسون: «خنتنا… خنتنا… خنتنا». حاول أن يطردهم بصوتٍ عالٍ، لكن الصوت لم يخرج من حلقه، وبقوا واقفين ينظرون إليه حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء كأنهم لم يكونوا.
في الصباح، جاءه يوسف ليفي مرةً أخرى، يحمل صوراً جويةً جديدة، وكانت الصور تظهر معسكراً مصرياً مدمراً، وفي وسطه جثثٌ متفحمة. قال ليفي بصوتٍ خشن: «مهمةٌ ناجحة… غداً ناصر ينهار». ثم نظر إلى فيصل بن سعود بعينين لا ترمش، وأضاف: «لكن هناك ثمن… ثمن جديد». وأخرج ورقةً أخرى، وكانت عبارةً عن عقدٍ يمنح إسرائيل قاعدةً سريةً في جزيرةٍ سعوديةٍ في البحر الأحمر «لأغراض دفاعية فقط».
نظر فيصل بن سعود إلى الورقة، ورأى فيها خطوطاً حمراءَ تمتد كأوردةٍ تنزف، وشعر بغصةٍ في حلقه كأن الدم يعود إلى الوراء في عروقه. أراد أن يرفض، لكن يده امتدت تلقائياً، أمسك القلم، ووقّع، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من الحبر على الورقة، قطرةٌ حمراءُ بدت كقطرة دمٍ طازجة.
مع مرور الزمن، أصبحت الخيانة جزءاً من اليوميات، يستقبل فيصل بن سعود الجواسيس كل ليلة، يوقّع العقود، يرسل الطائرات، يدفع الذهب، ويعود إلى عرشه ينتظر الدور التالي. لكنه في كل مرةٍ يغلق عينيه، يرى نفسه واقفاً في غرفةٍ سريةٍ، محاطاً بثلاثة رجالٍ يبتسمون، وكلهم يقولون له الكلمة نفسها: «خائن… خائن… خائن»، ويعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخل قلبه، قلبٍ تحول إلى غرفةٍ سريةٍ لا يخرج منها أحد.
3
في غرفة الموك المظلمة، حيث ينعدم الزمن ويبقى فقط صوت التنفس المكتوم والساعة التي تضرب ببطء كقلبٍ يحتضر، اجتمع الرجالُ كأرواحٍ في جلسةٍ شيطانيةٍ لا يعرفها إلا القلةُ المختارةُ للخيانة. كانت الغرفة تحت الأرض في عمّان، جدرانها من حجرٍ أسود لا يعكس ضوء المصباح الوحيد، وسقفها منخفضٌ حتى يضطر الداخل إلى الانحناء كأنه يقدّم فروض الطاعة قبل أن يتكلم. في وسطها طاولةٌ طويلةٌ من خشب البقس، عليها خريطةٌ كبيرةٌ لليمن والحدود الجنوبية، وأمام الخريطة شموعٌ سوداءُ تذوب ببطء، فتسيل شمعها الأحمر على الخشب كأنه دمٌ يتجمد قبل أن يصل إلى الأرض.
الملك فيصل بن سعود جلس في رأس الطاولة، لكنه لم يكن يجلس كملك. كان يجلس كرجلٍ ينتظر الحكم. ثوبه الأبيض مُجعدٌ قليلاً، وتاجه الصغير مائلٌ على جبهته كأنه يريد أن يهرب، وعيناه غائرتان كأنه لم ينم منذ أن سمع اسم «ناصر» لأول مرة. إلى يمينه جلس السيد هنري بلاكستون، المستشار البريطاني الجديد، رجلٌ طويلٌ نحيلٌ بعينين رماديتين لا ترمش، يدخن غليونه ببطء وكأنه يحسب الدقائق قبل انفجار القنبلة. إلى يساره جلس الكولونيل إسحاق كوهين، الضابط الإسرائيلي الذي وصل قبل يومين بجوازٍ سفرٍ كندي، وجهه صلبٌ كالصخر، وصوته هادئٌ لكنه يحمل في طياته لهجةً لا تخطئ. وفي الظلال، وقف رجلٌ تركيٌّ طويلٌ يدعى مصطفى بك، يرتدي بدلةً سوداء ويحمل في يده ملفاً جلدياً مكتوباً عليه بالتركية «سري للغاية».
رفع بلاكستون غليونه، نفث دخاناً أبيض يتسلل نحو السقف كروحٍ تهرب، ثم قال بهدوءٍ يشبه صوت المدفع قبل أن ينفجر: «الآن ننسق الضربات. الطيارون الإسرائيليون سيقصفون المواقع المصرية من الجو، والمرتزقة الأوروبيون سيهاجمون من البر، وأنتم… أنتم تدفعون الفاتورة وترسلون الرجال. كل شيءٍ يجب أن يبدو وكأنه حربٌ سعوديةٌ خالصة… لا أحد يجب أن يعرف أننا هنا».
تحدث إسحاق كوهين لأول مرة، صوته خشنٌ كالحصى: «لدينا معلوماتٌ دقيقةٌ عن مواقع الدبابات المصرية في صنعاء وحجة… سنضربها قبل الفجر، وستظهر التقارير أن الطائرات سعودية». ثم أخرج من جيبه صورةً جويةً ملتقطةً من طائرةٍ استطلاع، وضعها على الخريطة، وكانت الصورة واضحةً حتى إنك ترى وجوه الجنود المصريين وهم ينامون بجانب دباباتهم. نظر فيصل بن سعود إلى الصورة، ورأى فيها وجهاً شاباً يشبه ابنه الأصغر، فشعر فجأة بغصةٍ في حلقه، لكنه ابتلعها، وأومأ برأسه فقط.
تحدث مصطفى بك بالتركية أولاً، ثم ترجم بنفسه إلى العربية بصوتٍ منخفض: «من كلس، سنرسل الإمدادات عبر الحدود… أسلحةٌ أميركيةٌ ومدرعاتٌ ألمانية… كلها ستصل باسم مساعداتٍ إنسانية». ثم فتح الملف، وكانت فيه قائمةٌ طويلةٌ بأسماء الضباط الأتراك والأميركيين والبريطانيين الذين سيشرفون على العملية، وفي أسفل القائمة اسمٌ واحدٌ عربي: فيصل بن سعود، مكتوبٌ بخطٍ صغيرٍ جداً، كأنه توقيعٌ على حكمٍ بالإعدام.
في تلك اللحظة، سمعوا صوتاً خافتاً من أعلى، صوت خطواتٍ على الدرج الحجري، خطواتٍ ثقيلةً كأنها تحمل شيئاً ثقيلاً. توقف الجميع، حتى بلاكستون توقف عن التدخين. ثم فُتح الباب ببطء، ودخل رجلٌ طويلٌ يرتدي ثوباً أسود ممزقاً، وجهه مخفيٌ تحت كوفيةٍ ملطخةٍ بالدم، وفي يده سيفٌ قديمٌ يقطر دماً طازجاً. وقف في مدخل الغرفة، ثم رفع السيف ببطء، وصرخ بصوتٍ يشبه صوت الريح في الوديان المهجورة: «يا بائع الأمة… يا خادم الصهيوني!».
قفز كوهين على قدميه، وسحب مسدسه، وكذلك فعل بلاكستون، لكن الرجل لم يتحرك. ظل واقفاً، السيف مرفوعاً، والدم يقطر من طرفه على الأرض، قطرة… قطرة… قطرة. ثم بدأ وجهه يتغير، يذوب كالشمع، يتحول إلى وجوهٍ أخرى، وجه طفل يمني، وجه جندي مصري، وجه امرأةٍ تبكي، كلهم ينظرون إلى فيصل بن سعود بنفس العينين الفارغتين، وكلهم يرددون بنفس الصوت: «خائن… خائن… خائن».
أطلق كوهين النار، لكن الرصاصة مرّت من خلال الرجل واصطدمت بالجدار، ولم يسقط الرجل. بقي واقفاً، ثم بدأ يتقدم خطوةً خطوة، والدم يقطر من سيفه، والأصوات ترتفع حتى صارت جوقةً مخيفة. حاول فيصل بن سعود أن يقوم، لكنه وجد نفسه ملتصقاً بالكرسي، كأن يدين غير مرئيتين تمسكانه. اقترب الرجل حتى صار وجهه أمام وجه الملك، ثم همس في أذنه كلمةً واحدةً فقط، كلمةً جعلت الدم يتجمد في عروقه: «حارس».
فجأة، اختفى الرجل، واختفت الأصوات، وعاد الهدوء إلى الغرفة كأن شيئاً لم يكن. لكن على الطاولة، حيث كانت الخريطة، كان هناك الآن ورقةٌ أخرى، ورقةٌ بيضاءُ مكتوبٌ عليها بخطٍ أحمر: «الآن أنت لست ملكاً… أنت أداة». نظر فيصل بن سعود إلى بلاكستون وكوهين ومصطفى بك، لكنهم كانوا يبتسمون ابتساماتٍ صفراء، كأنهم لم يروا شيئاً، ثم قال بلاكستون بهدوء: «تخيلات يا جلالة الملك… مجرد تخيلات… الآن، هيا نكمل التنسيق».
لكن فيصل بن سعود لم يعد يسمع. كان ينظر إلى الورقة، ويرى الكلمات تتحرك، تتغير، تصبح وجوهًا، وجوه الذين سيُقتلون غداً باسمه، ينظرون إليه ويرددون: «حارس… حارس… حارس». ومن تلك الليلة، صار الملك يجلس في تلك الغرفة كل ليلة، ينسق الضربات، يوقّع الأوامر، لكن عيناه فارغتان، وفي كل مرةٍ يرفع فيها قلمه، كان يسمع صوت الرجل الطويل: «خائن… خائن… خائن»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخل قلبه، قلبٍ تحول إلى غرفةٍ سريةٍ لا يخرج منها أحد.
4
أشباح الجنود القتلى بدأت تظهر أولاً كظلالٍ طويلةٍ على جدران قصر الملك فيصل بن سعود، ثم تحولت إلى وجوهٍ حقيقيةٍ تطفو في الهواء كدخانٍ أسودٍ لا يذوب. كانوا يأتون في الليل، عندما يهدأ كل شيء ويبقى فقط صوت الساعة العتيقة التي تضرب في الرواق ببطءٍ كأنها تحسب الدقائق المتبقية من حياةٍ تتسرب. أولهم كان جندياً مصرياً شاباً، وجهه محترقٌ من قنبلةٍ إسرائيليةٍ أُلقيت باسم السعودية، يقف في زاوية الغرفة، عيناه فارغتان، وفمه مفتوحٌ على صرخةٍ صامتة، يمد يده المقطوعة نحو الملك كأنه يطلب شيئاً لم يحصل عليه في حياته القصيرة. ثم جاءت امرأةٌ يمنيةٌ عجوز، ثيابها ممزقة، شعرها الأبيض متسخٌ بالتراب والدم، تقف بجانب السرير وتهمس بصوتٍ يخرج من حلقٍ مقطوع: «قريتي احترقت… أولدي ماتوا… باسمك».
كان فيصل بن سعود يستيقظ كل ليلة على صوت خطواتٍ خفيفةٍ في الرواق، خطواتٍ لا تصدر صوتاً لكنها تهز الأرض تحت قدميه. ينهض مذعوراً، يشعل المصباح، فيجد الغرفة فارغة، لكن في الهواء رائحةُ البارود والدم الجاف، وفي الزاوية بقعةٌ سوداءُ جديدةٌ على السجادة كأن أحدهم وقف هناك ونزف. في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز الثامنة، وجهه شاحبٌ كالقمر، عيناه واسعتان، يحمل في يده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة».
حاول الملك أن يصرخ، لكن صوته لم يخرج، وحاول أن يهرب، لكن قدماه كانتا مغروسةً في الأرض كأن الرمال قد ابتلعتها. اقترب الطفل خطوةً خطوة، والدمية تحترق في يده ببطء، ثم توقف أمام السرير، ومد يده الصغيرة، ووضع الدمية على صدر الملك. في الصباح، وجد الحراس الملك فاقداً الوعي، والدمية المحترقة ملقاةً بجانبه، لكن لا أحد رأى طفلاً يدخل أو يخرج.
في الأيام التالية، صارت الأشباح تأتي نهاراً أيضاً. في اجتماعات مجلس الوزراء، كان فيصل بن سعود يرى في زاوية القاعة جندياً مصرياً مقطوع الرأس يحمل رأسه بين يديه وينظر إليه. في المسجد أثناء الصلاة الجمعة، كان يرى امرأةً يمنيةً تقف بين الصفوف، ثيابها ممزقة، وتهمس في أذن الإمام كلماتٍ لا يسمعها أحدٌ سواه. وفي كل مرةٍ يحاول أن يخبر أحداً، كانوا ينظرون إليه بابتساماتٍ صفراء ويقولون: «جلالتكم متعب… تحتاج إلى راحة».
في إحدى الليالي، عندما كانت القاهرة تبث خطاباً جديداً لناصر يدعو فيه إلى «تحرير الجزيرة العربية من الرجعية»، استيقظ فيصل بن سعود من نومه المضطرب، يشعر بثقلٍ في صدره كأن صخرةً كبيرةً وضعت عليه. نهض، مشى بخطى ثقيلة نحو النافذة، فرأى في الظلام الدامس جيشاً من الأشباح يقف في صفوفٍ منتظمةٍ أمام القصر، جنودٌ مصريون ويمنيون وفلسطينيون، يحملون أعلاماً ممزقة، ينظرون إليه بعيونٍ فارغةٍ ويرددون بنفس الصوت: «خنتنا… خنتنا… خنتنا». حاول أن يطردهم بصوتٍ عالٍ، لكن الصوت لم يخرج من حلقه، وبقوا واقفين ينظرون إليه حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء كأنهم لم يكونوا.
في الصباح، جاءه السيد ألان كوبر مرةً أخرى، يحمل خطةً جديدةً: «سنرسل طائراتٍ من تل أبيب إلى جدة، ستحمل شعاراً سعودياً، وتقصف المواقع المصرية». نظر الملك إلى الخطة، ورأى فيها خطوطاً حمراءَ تمتد كأوردةٍ تنزف، وشعر بغصةٍ في حلقه كأن الدم يعود إلى الوراء في عروقه. أراد أن يرفض، لكن يده امتدت تلقائياً، أمسك القلم، ووقّع، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من الحبر على الورقة، قطرةٌ حمراءُ بدت كقطرة دمٍ طازجة.
مع مرور الزمن، صارت الأشباح جزءاً من حياته اليومية، يستقبلها كما يستقبل التقارير، يراها في المرايا، في الزجاج، في عيون الحراس. وكلما حاول أن يهرب منها، كانت تتبعه، حتى صار القصر كله يرن بأصواتهم في الليل، أصواتٌ لا يسمعها أحدٌ سواه، أصواتٌ تقول له الكلمة نفسها بلا توقف: «خنتنا». وفي النهاية، عندما انتهت الحرب بهزيمةٍ مصريةٍ مريرةٍ في اليمن، رفع فيصل بن سعود كأسه في مأدبةٍ كبرى، لكن الكأس كان فارغاً، والضيوف كانوا يبتسمون ابتساماتٍ صفراء، والأشباح كانت تقف في الظلال، تنظر إليه وتهمس: «النصر هزيمة… والحياة موت». وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخل قلبه، قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ صغيرةٍ يسكنها القتلى الذين لم يعودوا ينامون.
5
مع اقتراب الحرب الكبرى التي ستُغلق فيها مضيق تيران وتُفتح فيها أبواب الجحيم، حرص الملك فيصل بن سعود على التصعيد كأنه يحفر قبره بيديه ويُزيّنه بالذهب. كان يجلس كل ليلة في غرفة العمليات السرية تحت القصر، مضاءةً بضوءٍ أحمر خافت كأنه ضوء قلبٍ يحتضر، يستمع إلى تقارير المستشارين البريطانيين والأميركيين والإسرائيليين الذين يأتون ويذهبون كالأشباح، يحملون خرائطاً جديدةً وصوراً جويةً حديثةً وأوامر مكتوبةً بلغةٍ لا يفهمها تماماً لكنه يوقّع عليها دون سؤال. كان السيد ويليام غراي، الدبلوماسي البريطاني الجديد، يجلس إلى يمينه، يدخن سيجارةً إنجليزيةً رفيعة ويبتسم ابتسامةً باردة كلما سمع كلمة «تصعيد»، وكان الكولونيل يعقوب شالوم، الضابط الإسرائيلي الذي يتحدث العربيةً بطلاقة، يجلس إلى يساره، يضع على الطاولة صوراً لمواقع الجيش المصري في سيناء ويقول بصوتٍ هادئٍ يخفي لهجةً عبريةً خفيفة: «إذا أغلق ناصر المضيق، نضربهم قبل أن يتنفسوا».
كان فيصل بن سعود يرى في كل تقرير فرصةً لإضعاف ناصر، لكسر شوكة الرجل الذي يهدد عرشه بحلمٍ لا يملكه هو: حلم الأمة العربية الواحدة. كان يوقّع الأوامر بيدٍ ثابتة في الظاهر، لكن في أعماقه كان يشعر بثقلٍ يزداد كل يوم، ثقلٌ يشبه صخرةً تتدحرج من أعلى جبل ولا تتوقف. في إحدى الليالي، عندما أعلن ناصر إغلاق مضيق تيران، رفع فيصل بن سعود كأسه في اجتماعٍ سريٍّ مع غراي وشالوم، وقال بصوتٍ يحاول أن يكون قوياً: «الآن حان الوقت… ناصر سيُهزم، وعرشي سيبقى». لكن غراي ابتسم ابتسامةً جانبية، وشالوم لم يبتسم، فقط أومأ برأسه، وكلاهما كان يعرف أن الهزيمة ستكون للعرب جميعاً، ولكن عرش فيصل سيبقى… تحت الحماية.
في الأيام التي سبقت العدوان، صارت الرياض مدينةً من الهمس والخوف. الشوارع فارغةٌ إلا من الدوريات، والمساجد ترفع الأذان بالحزن، والناس ينظرون إلى السماء كأنهم ينتظرون علامةً من الله لكن العلامة لا تأتي من تل أبيب. كان فيصل بن سعود يستقبل التقارير كل ساعة، تقارير تتحدث عن تحركات الجيش المصري، عن خطط الدفاع، عن كلمات ناصر الحماسية التي تبث من القاهرة، وكان يردد في سره: «يجب أن يُهزم… يجب أن يُهزم». لكن في كل مرةٍ يقولها، كان يشعر بأن الكلمات ترتد إليه كالرصاص، وتخترق صدره.
في ليلة الخامس من يونيو، عندما انطلقت الطائرات الإسرائيلية لتدمر سلاح الجو المصري في ساعاتٍ معدودة، كان فيصل بن سعود يجلس في غرفة العمليات، يستمع إلى التقارير عبر الراديو السري، وكان ويليام غراي يقفسّر له كل تقرير بصوته الهادئ: «الآن يُدمر مطار القاهرة الغربي… الآن يُدمر مطار المنصورة… الآن انتهى سلاح الجو المصري». ولم يطلع الشمس بعد». وكان يعقوب شالوم يبتسم ابتسامةً صغيرةً، ويقول: «كل شيءٍ يسير حسب الخطة». لكن فيصل بن سعود لم يبتسم. كان يرى في خياله الطائرات المصرية تحترق على الأرض، والطيارين يركضون مذعورين، وكان يشعر بثقلٍ جديدٍ يُضاف إلى صدره، ثقلٌ يشبه صخرةً تتدحرج من أعلى جبل ولا تتوقف.
في الأيام الستة التالية، سقطت سيناء والجولان والضفة والقدس، وسقط معها حلم الأمة العربية التي كانت تظن نفسها تستيقظ. كان فيصل بن سعود يتلقى التقارير كل ساعة، يقرأ أسماء المدن التي سقطت، أعداد القتلى، أعداد الأسرى، وكان يشعر في كل تقرير بأن الأرض تنهار تحته. في إحدى الليالي، عندما وصل خبر سقوط القدس، جلس وحده في غرفة العرش، أطفأ كل الأنوار، وجلس في الظلام ينظر إلى الفراغ. ثم سمع صوتاً خافتاً، صوت امرأةٍ عجوزٍ تبكي، فالتفت، فرأى في الظل وجه فلسطينيةٍ عجوز، عيناها مليئتان بالدموع، وتهمس: «القدس… القدس… بعتها».
حاول أن يطردها، لكنها بقيت، ثم انضم إليها أطفالٌ وشيوخٌ وجنودٌ، كلهم ينظرون إليه ويرددون: «بعنا… بعنا… بعنا». حاول أن يصرخ، لكن صوته لم يخرج، وحاول أن يركض، لكن قدماه كانتا مغروسةً في الأرض. ثم رأى في الظلام وجهاً واحداً يتقدم من بين الجموع، وجه ناصر، يبتسم ابتسامةً حزينة، ويقول بصوتٍ هادئ: «كنتُ أحلم بأمة… وأنت بعت الحلم».
في الصباح، عندما جاءه ويليام غراي ليهنئه بـ«النصر»، ويطلب توقيع عقدٍ جديد، كان فيصل بن سعود يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحباً كالرماد. مدّ يده، أمسك القلم، ووقّع، لكن هذه المرة لم تكن يده ترتجف. كانت ميتة. ومن تلك اللحظة، صار الملك فيصل بن سعود يعيش بين الأحياء لكنه ميتٌ من الداخل، يوقّع الأوامر، يستقبل الضيوف، يبتسم ابتساماتٍ صفراء، لكن عيناه فارغتان، وفي كل ليلةٍ كان يسمع صوت ناصر يهمس في أذنه: «النكسة ليست في سيناء… النكسة في قلبك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ للحلم العربي الذي ساعد في دفنه بيده.
6
في ليلةٍ سابقةٍ للعدوان، ليلةٍ كانت فيها الرياح تهب من الجنوب حاملةً رائحة البارود والخوف، جلس الملك فيصل بن سعود وحده في غرفة العرش العليا، بعد أن أمر الحراس بإغلاق كل الأبواب وإطفاء كل الأنوار. كان القصر كله نائماً ظاهرياً، لكن جدرانه كانت مستيقظة، تتنفس ببطء، تنتظر لحظةً لم تعد بعيدة. ارتدى فيصل بن سعود رداءً أبيض نظيفاً لم يتسخ بعد، وجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ بسيطٍ أمام مرآةٍ كبيرةٍ مغطاةٍ بغطاءٍ حريريٍّ أسود، وكان يمسك في يده مسبحةً من العنبر لم يعد يحرّكها منذ أشهر. رفع الغطاء ببطء، ونظر إلى انعكاسه في المرآة، لكن الوجه الذي رآه لم يكن وجهه. كان وجه رجلٍ أكبر سناً، عيناه غائرتان، بشرته شاحبة، وفمه مفتوحٌ على صرخةٍ صامتة، وكان يرتدي نفس الرداء لكن الرداء ملطخٌ بالدم.
تراجع خطوة، فسقطت المسبحة من يده وتناثرت حباتها على الأرض كأنها أسنانٌ مكسورة. ثم سمع صوتاً خافتاً، صوت خطواتٍ خفيفةٍ على السجادة، خطواتٍ لا تصدر صوتاً لكنها تهز الأرض تحت قدميه. التفت، فرأى في الظل وجه ناصر يطفو في الهواء كضبابٍ أسود، يبتسم ابتسامةً حزينة، ويقول بصوتٍ هادئٍ يخرج من كل مكان ولا مكان: «غداً سيضربون… وأنت ستتركني أُضرب». حاول فيصل أن يرد، أن يقول إن هذا ليس اختياره، أن البريطانيين والأميركيين والإسرائيليين هم من يقررون، لكن الكلمات تجمدت في حلقه، وبقي صامتاً ينظر إلى الوجه الذي بدأ يذوب ببطء، يتحول إلى وجه طفلٍ فلسطيني، ثم إلى وجه جنديٍ مصري، ثم إلى وجه امرأةٍ من الجولان، كلهم يقولون له الكلمة نفسها: «خنتنا».
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «الخطة بدأت»، كان فيصل بن سعود يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحباً كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. في الساعات التالية، جلس في غرفة العمليات، يستمع إلى التقارير عبر الراديو السري، يسمع صوت الطائرات الإسرائيلية وهي تدمر سلاح الجو المصري في ساعاتٍ معدودة، وكان غراي يترجم له كل تقرير بصوته الهادئ: «الآن يُدمر مطار القاهرة الغربي… الآن يُدمر مطار المنصورة… الآن انتهى سلاح الجو المصري». ولم يطلع الشمس بعد.
في اليوم الثالث، عندما سقطت القدس، جلس فيصل بن سعود وحده في غرفة العرش، أطفأ كل الأنوار، وجلس في الظلام ينظر إلى الفراغ. ثم سمع صوتاً خافتاً، صوت امرأةٍ عجوزٍ تبكي، فالتفت، فرأى في الظل وجه فلسطينيةٍ عجوز، عيناها مليئتان بالدموع، وتهمس: «القدس… القدس… بعتها». حاول أن يطردها، لكنها بقيت، ثم انضم إليها أطفالٌ وشيوخٌ وجنودٌ، كلهم ينظرون إليه ويرددون: «بعنا… بعنا… بعنا». حاول أن يصرخ، لكن صوته لم يخرج، وحاول أن يركض، لكن قدماه كانتا مغروسةً في الأرض. ثم رأى في الظلام وجهاً واحداً يتقدم من بين الجموع، وجه ناصر، يبتسم ابتسامةً حزينة، ويقول بصوتٍ هادئ: «كنتُ أحلم بأمة… وأنت بعت الحلم».
في اليوم السادس، عندما انتهت الحرب بهزيمةٍ عربيةٍ شاملة، رفع فيصل بن سعود كأسه في مأدبةٍ كبرى، لكن الكأس كان فارغاً، والضيوف كانوا يبتسمون ابتساماتٍ صفراء، والسيد ويليام غراي كان يقف في الزاوية يدخن غليونه ويهمس لنفسه: «الآن هو ملكنا تماماً». وفي تلك الليلة، لأول مرة، لم يستطع فيصل بن سعود أن ينظر إلى المرآة، لأنه عرف أن الوجه الذي سيرى فيها ليس وجهه، بل وجه رجلٍ باع القدس ونام مطمئناً، وجه رجلٍ مات من الداخل قبل أن يموت من الخارج.
ومن تلك اللحظة، صار فيصل بن سعود يعيش بين الأحياء لكنه ميتٌ من الداخل، يوقّع الأوامر، يستقبل الضيوف، يبتسم ابتساماتٍ صفراء، لكن عيناه فارغتان، وفي كل ليلةٍ كان يسمع صوت ناصر يهمس في أذنه: «النكسة ليست في سيناء… النكسة في قلبك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ للحلم العربي الذي ساعد في دفنه بيده.
7
سقطت الطائرات كالنجوم المحترقة في سماءٍ صافيةٍ لم تكن تستحق هذا القدر من الظلام. في ساعات الفجر الأولى، حين كان معظم العرب لا يزالون نائمين يحلمون بجيشٍ لا يُقهر، انطلقت سرايا الطيران الإسرائيلي من قواعدها كالصقور السوداء، ضربت المطارات المصرية والأردنية والسورية في ضربةٍ واحدةٍ مدروسةٍ حتى الثانية، فتحطمت الطائرات على الأرض قبل أن تقلع، وتحولت المدارج إلى مقابرٍ من حديدٍ محترق. في تلك اللحظة بالذات، كان الملك فيصل بن سعود يجلس في غرفة العمليات تحت قصره، مضاءةً بضوءٍ أحمرٍ خافتٍ كأنه ضوء قلبٍ يحتضر، يستمع إلى صوت الراديو السري وهو ينقل التقارير بلغةٍ إنجليزيةٍ باردة: «المطار الأول سقط… المطار الثاني سقط… سلاح الجو العربي انتهى قبل أن يبدأ.
كان السيد ويليام غراي يقف خلفه، يدخن غليونه ببطء، ويبتسم ابتسامةً لا تصل إلى عينيه، وكان الكولونيل يعقوب شالوم يجلس على الطاولة، يضع صوره الجوية الجديدة أمام الملك كأنه يضع أوراق لعبٍ على طاولة قمار. لم يقل أحدٌ شيئاً للحظاتٍ طويلة، فقط صوت الراديو يعلن عن مدينةٍ تلو أخرى تسقط، وعن جيشٍ عربيٍّ ينهار قبل أن يطلق رصاصةً واحدة. ثم رفع غراي كأسه، وقال بهدوءٍ يشبه صوت المدفع البعيد: «إلى صحة جلالتكم… النصر الكبير بدأ». لكن فيصل بن سعود لم يرفع كأسه. كان ينظر إلى الخريطة، إلى النقاط الحمراء التي تمتد كأوردةٍ تنزف، وشعر فجأة بأن الغرفة تضيق، كأن الجدران تميل نحوه، كأن الهواء نفسه يرفض أن يدخل رئتيه.
في اليوم الثالث، عندما وصل خبر سقوط القدس، جلس فيصل بن سعود وحده في غرفة العرش، أطفأ كل الأنوار، وجلس في الظلام ينظر إلى الفراغ. ثم سمع صوتاً خافتاً، صوت امرأةٍ عجوزٍ تبكي، فالتفت، فرأى في الظل وجه فلسطينيةٍ عجوز، عيناها مليئتان بالدموع، وتهمس: «القدس… القدس… بعتها». حاول أن يطردها، لكنها بقيت، ثم انضم إليها أطفالٌ وشيوخٌ وجنودٌ، كلهم ينظرون إليه ويرددون: «بعنا… بعنا… بعنا». حلم الأمة». حاول أن يصرخ، لكن صوته لم يخرج، وحاول أن يركض، لكن قدماه كانتا مغروسةً في الأرض. ثم رأى في الظلام وجهاً واحداً يتقدم من بين الجموع، وجه ناصر، يبتسم ابتسامةً حزينة، ويقول بصوتٍ هادئ: «كنتُ أحلم بأمة… وأنت بعت الحلم».
في اليوم السادس، عندما انتهت الحرب بهزيمةٍ عربيةٍ شاملة، رفع فيصل بن سعود كأسه في مأدبةٍ كبرى، لكن الكأس كان فارغاً، والضيوف كانوا يبتسمون ابتساماتٍ صفراء، والسيد ويليام غراي كان يقف في الزاوية يدخن غليونه ويهمس لنفسه: «الآن هو ملكنا تماماً». وفي تلك الليلة، لأول مرة، لم يستطع فيصل بن سعود أن ينظر إلى المرآة، لأنه عرف أن الوجه الذي سيرى فيها ليس وجهه، بل وجه رجلٍ باع القدس ونام مطمئناً، وجه رجلٍ مات من الداخل قبل أن يموت من الخارج.
ومن تلك اللحظة، صار فيصل بن سعود يعيش بين الأحياء لكنه ميتٌ من الداخل، يوقّع الأوامر، يستقبل الضيوف، يبتسم ابتساماتٍ صفراء، لكن عيناه فارغتان، وفي كل ليلةٍ كان يسمع صوت ناصر يهمس في أذنه: «النكسة ليست في سيناء… النكسة في قلبك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ للحلم العربي الذي ساعد في دفنه بيده.
8
في صمت ما بعد النكسة، حيث كانت المدن العربية لا تزال تحترق في القلوب أكثر مما تحترق في الحقيقة، تحول الملك فيصل بن سعود إلى بطلٍ إسلاميٍّ مزيفٍ يرتدي رداءً أبيض نظيفاً لم يتسخ بعد بالدم، ويحمل في يده مصحفاً مغلقاً لم يفتحه منذ سنين. كان يخرج إلى الشاشات والمنابر كأنه نبيٌ جديدٌ جاء ليخلّص الأمة من حزنها، يدعو إلى مؤتمراتٍ إسلاميةٍ في الرباط وعمان والرياض، يرفع صوته عالياً بالبكاء على القدس، ويعلن الحداد الرسمي ثلاثة أيام، ويرسل برقيات التهنئة سراً إلى تل أبيب، ويوقّع عقوداً جديدة مع لندن وواشنطن تمنح الغرب امتيازاتٍ أوسع في النفط مقابل «حمايةٍ إضافية».
في الظاهر، كان فيصل بن سعود قد صار زعيم العالم الإسلامي الجديد، يستقبل الوفود في قصره المزين بالرخام والذهب، يجلس على عرشه المطعّم باللآلئ، يبتسم ابتسامةً عريضةً يعرفها الجميع إلا هو أنها صفراء كالرماد، ويخطب في الشعوب قائلاً: «القدس في قلوبنا… وسنعيدها يوماً بالجهاد والوحدة». لكن في الخفاء، كان يجلس في غرفته العلوية كل ليلة، يغلق الأبواب، يطفئ الأنوار، ويفتح صندوقاً حديدياً صغيراً يحمل فيه ورقةً واحدةً مكتوبةً بخطٍ أحمر: «القدس مقابل البقاء». كان يقرأ الورقة مرةً ومرتين وثلاثاً، ثم يضعها على صدره كأنه يحاول أن يخنق بها صوتاً يخرج من داخله يقول: «كذبت… كذبت… كذبت».
في الأشهر التي تلت النكسة، صار فيصل بن سعود يسافر كثيراً، يزيارة الرباط ثم عمان ثم جاكرتا ثم كراتشي، يعقد المؤتمرات، يوقّع البيانات، يرفع الصور مع الرؤساء والملوك، وكان في كل صورةٍ يبتسم ابتسامةً أوسع، لكن عيناه كانتا فارغتين كحفرتين في الرمال. في إحدى الليالي، في فندقٍ فخمٍ في الرباط، استيقظ على صوت طرقٍ خفيفٍ على الباب، فتح الباب، فلم يجد أحداً، لكن على الأرض كانت ورقةً بيضاءُ مكتوبٌ عليها بخطٍ طفولي: «القدس تبكي… وأنت تضحك». أغلق الباب، لكن الصوت بقي يتردد في رأسه حتى الصباح.
في مؤتمر الخرطوم الشهير، حيث اجتمع العرب ليعلنوا «اللاءات الثلاث»، كان فيصل بن سعود يجلس في الصف الأول، يبتسم للكاميرات، يصفق لناصر عندما تكلم، وكان يبدو كأنه أكتف ناصر الأيمن. لكن في الغرف المغلقة، كان يجلس مع المستشارين البريطانيين والأميركيين، يوقّع اتفاقياتٍ سريةً تضمن استمرار تدفق النفط مهما كلف الأمر، وكان يردد في سره: «السلامة أولاً… السلامة أولاً». وعندما عاد إلى الرياض، ألقى خطاباً تاريخياً في المسجد الأعظم، بكى فيه على القدس، ووعد بالجهاد، وكان الناس يبكون معه، لكن في قلبه كان يعرف أن دموعه كذب، وأن الجهاد الذي يعد به لنفسه لن يأتي أبداً.
في إحدى الليالي، عندما كانت الرياض نائمةً تحت سماءٍ صافيةٍ لا قمر فيها، استيقظ فيصل بن سعود من نومه المضطرب، يشعر بثقلٍ في صدره كأن صخرةً كبيرةً وضعت عليه. نهض، مشى بخطى ثقيلة نحو النافذة، فرأى في الظلام الدامس جيشاً من الأشباح يقف في صفوفٍ منتظمةٍ أمام القصر، أ grand army من أطفال القدس وجنود سيناء ونساء الجولان، يحملون أعلاماً ممزقة، ينظرون إليه بعيونٍ فارغةٍ ويرددون بنفس الصوت: «كذبت… كذبت… كذبت». حاول أن يطردهم بصوتٍ عالٍ، لكن الصوت لم يخرج من حلقه، وبقوا واقفين ينظرون إليه حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء كأنهم لم يكونوا.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العالم الإسلامي الآن في يدكم»، كان فيصل بن سعود يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحباً كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار فيصل بن سعود بطلاً إسلامياً في الظاهر، يدعو إلى المؤتمرات، يرفع شعارات الجهاد، يبكي على القدس، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوتاً خافتاً يهمس في أذنه: «كذاب… كذاب… كذاب»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مسرحٍ للكذب الأكبر الذي يعيشه العرب منذ ذلك اليوم.
الفصل الرابع : أشباحُ الدمى المحترقة تطرقُ الأبواب
1
في غرف الظلام التي لا يعرفها إلا من باع روحه مرتين، حيث يُدار التاريخ بأصابعٍ لا تترك أثراً، برزت غرفة الموك الأردنية كقلبٍ شيطانيٍّ ينبض تحت الأرض، يضخ الخيانة في عروق الأمة بدل الدم. كانت الغرفة في قبوٍ قديمٍ تحت قصرٍ مهجورٍ في عمان، جدرانها من حجرٍ أسود لا يعكس الضوء، وسقفها منخفضٌ حتى يضطر الداخل إلى الانحناء كأنه يقدّم فروض الطاعة قبل أن يتكلم. في وسطها طاولةٌ طويلةٌ من خشب الجوز، عليها خريطةٌ كبيرةٌ لسوريا واليمن والعراق، وأمام الخريطة شموعٌ سوداءُ تذوب ببطء، فتسيل شمعها الأحمر على الخشب كأنه دمٌ يتجمد قبل أن يصل إلى الأرض.
الملك فيصل بن سعود جلس في رأس الطاولة، لكنه لم يكن يجلس كملك. كان يجلس كرجلٍ ينتظر الحكم. ثوبه الأبيض مُجعدٌ قليلاً، وتاجه الصغير مائلٌ على جبهته كأنه يريد أن يهرب، وعيناه غائرتان كأنه لم ينم منذ أن سمع اسم «ناصر» لأول مرة. إلى يمينه جلس الأمير بندر بن فهد، ابن أخيه الأصغر، وجهه شاحبٌ كأنه لم يرَ الشمس منذ سنين، يداه ترتجفان قليلاً وهو يمسك بكأسٍ فارغ. إلى يساره جلس الأمير سلمان بن عبد العزيز، أخوه الأكبر، وجهه صلبٌ كالصخر، عيناه ثاقبتان كالصقر، ينظر إلى الخريطة كأنه يرى فيها فريسةً تنتظره. وفي الظلال، وقف ثلاثة رجالٍ أجانب: السيد هنري بلاكستون البريطاني، الكولونيل موشيه كوهين الإسرائيلي، والعميد جون سميث الأميركي، كلهم يرتدون بدلاتٍ سوداء ويحملون ملفاتٍ جلديةً مكتوباً عليها «سري للغاية».
رفع بلاكستون كأساً من الويسكي، ولم يكن هناك قهوةٌ عربيةٌ على الطاولة هذه الليلة، وقال بصوتٍ هادئٍ يشبه صوت الثلج وهو يتساقط: «الآن نبدأ المرحلة الجديدة… سوريا واليمن معاً… سنُسقط الأنظمة الوطنية، ونُحل محلها جماعاتٍ ترفع راية الإسلام… وأنتم تدفعون، ونحن نُنسق». ثم أخرج من جيبه خريطةً أخرى، وكانت مليئةً بنقاطٍ سوداءَ تشير إلى معسكراتٍ تدريبٍ في أفغانستان وباكستان، وفي أسفل الخريطة اسمٌ واحدٌ مكتوبٌ بخطٍ كبير: «داعش».
تحدث موشيه كوهين لأول مرة، صوته خشنٌ كالحصى: «سنبدأ في سوريا… سنرسل المقاتلين من الحدود التركية، وسنقصف من الجو إذا لزم الأمر… كل شيءٍ سيبدو وكأنه حربٌ أهلية». ثم نظر إلى فيصل بن سعود بعينين لا ترمش، وأضاف: «طالما بقي النفط يتدفق، سنبقيكم على عرشك».
تحدث جون سميث بالإنجليزية أولاً، ثم ترجم بنفسه إلى العربية بصوتٍ منخفض: «من كلس، سنرسل الأسلحة الأميركية… صواريخ ودبابات وطائراتٍ بدون طيار… كلها ستحمل شعاراتٍ إسلامية». ثم فتح الملف، وكانت فيه قائمةٌ طويلةٌ بأسماء الجماعات التي ستُموّل، وفي أسفل القائمة اسمٌ واحدٌ عربي: فيصل بن سعود، مكتوبٌ بخطٍ صغيرٍ جداً، كأنه توقيعٌ على حكمٍ بالإعدام.
في تلك اللحظة، سمعوا صوتاً خافتاً من أعلى، صوت خطواتٍ على الدرج الحجري، خطواتٍ ثقيلةً كأنها تحمل شيئاً ثقيلاً. توقف الجميع، حتى بلاكستون توقف عن التدخين. ثم فُتح الباب ببطء، ودخل رجلٌ طويلٌ يرتدي ثوباً أسود ممزقاً، وجهه مخفيٌ تحت كوفيةٍ ملطخةٍ بالدم، وفي يده سيفٌ قديمٌ يقطر دماً طازجاً. وقف في مدخل الغرفة، ثم رفع السيف ببطء، وصرخ بصوتٍ يشبه صوت الريح في الوديان المهجورة: «يا بائع الأمة… يا خادم الصهيوني!».
قفز كوهين على قدميه، وسحب مسدسه، وكذلك فعل سميث، لكن الرجل لم يتحرك. ظل واقفاً، السيف مرفوعاً، والدم يقطر من طرفه على الأرض، قطرة… قطرة… قطرة. ثم بدأ وجهه يتغير، يذوب كالشمع، يتحول إلى وجوهٍ أخرى، وجه طفل سوري، وجه جندي عراقي، وجه امرأةٍ يمنية، كلهم ينظرون إلى فيصل بن سعود بنفس العينين الفارغتين، وكلهم يرددون بنفس الصوت: «خائن… خائن… خائن».
أطلق كوهين النار، لكن الرصاصة مرّت من خلال الرجل واصطدمت بالجدار، ولم يسقط الرجل. بقي واقفاً، ثم بدأ يتقدم خطوةً خطوة، والدم يقطر من سيفه، والأصوات ترتفع حتى صارت جوقةً مخيفة. حاول فيصل بن سعود أن يقوم، لكنه وجد نفسه ملتصقاً بالكرسي، كأن يدين غير مرئيتين تمسكانه. اقترب الرجل حتى صار وجهه أمام وجه الملك، ثم همس في أذنه كلمةً واحدةً فقط، كلمةً جعلت الدم يتجمد في عروقه: «حارس».
فجأة، اختفى الرجل، واختفت الأصوات، وعاد الهدوء إلى الغرفة كأن شيئاً لم يكن. لكن على الطاولة، حيث كانت الخريطة، كان هناك الآن ورقةٌ أخرى، ورقةٌ بيضاءُ مكتوبٌ عليها بخطٍ أحمر: «الآن أنت لست ملكاً… أنت أداة». نظر فيصل بن سعود إلى بلاكستون وكوهين وسميث، لكنهم كانوا يبتسمون ابتساماتٍ صفراء، كأنهم لم يروا شيئاً، ثم قال بلاكستون بهدوء: «تخيلات يا جلالة الملك… مجرد تخيلات… الآن، هيا نكمل التنسيق».
لكن فيصل بن سعود لم يعد يسمع. كان ينظر إلى الورقة، ويرى الكلمات تتحرك، تتغير، تصبح وجوهًا، وجوه الذين سيُقتلون غداً باسمه، ينظرون إليه ويرددون: «حارس… حارس… حارس». ومن تلك الليلة، صار الملك يجلس في تلك الغرفة كل ليلة، ينسق الضربات، يوقّع الأوامر، لكن عيناه فارغتان، وفي كل مرةٍ يرفع فيها قلمه، كان يسمع صوت الرجل الطويل: «خائن… خائن… خائن»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخل قلبه، قلبٍ تحول إلى غرفةٍ سريةٍ لا يخرج منها أحد.
2
جاء الرسل من الغرب والشرق كأرواحٍ تائهةٍ في ليلةٍ لا قمر فيها، يحملون في جيوبهم أسراراً أثقل من الرصاص وأخطر من السم. كانوا يصلون في طائراتٍ صغيرةٍ بلا أضواء، تهبط في مطارٍ سريٍّ في قلب الصحراء، ثم يُنقلون في سياراتٍ سوداء النوافذ إلى القصر القديم على شاطئ البحر الأحمر، حيث كانت غرفة الموك تنتظرهم كفمٍ مفتوحٍ في الأرض. في تلك الغرفة، حيث لا يدخل ضوء الشمس ولا صوت البحر، كان الملك فيصل بن سعود يجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ بسيطٍ كأنه في محاكمةٍ سرية، وجهه شاحبٌ تحت ضوء مصباحٍ زيتيٍّ واحد، عيناه غائرتان كأنه لم ينم منذ أن بدأت الحرب في سوريا واليمن.
كان أول الوافدين رجلاً طويلاً نحيلاً، بشرته بيضاء كالحليب، عيناه رماديتان لا تعكسان شيئاً، يرتدي بدلةً سوداء ويحمل حقيبةً جلديةً صغيرة. قدم نفسه باسم «السيد ألبرت وايت، وقال إنه يمثل «الأصدقاء في لندن». تبعه رجلٌ قصيرٌ عريض المنكبين، بشرته سمراء داكنة، عيناه صغيرتان حادتان كشفرتي سكين، يرتدي ثوباً عربياً لكنه يحمل في حزامه مسدساً أميركياً لامعاً، وقدم نفسه باسم «الكولونيل يوسف ليفي»، وقال إنه جاء من تل أبيب «للمساعدة». ثم جاء ثالثٌ، رجلٌ أشقرَ بعينين زرقاوين باردتين، يتحدث العربية بلهجةٍ أميركيةٍ خفيفة، وقدم نفسه باسم «العميد جوناثان سميث»، وقال إنه يمثل «البنتاغون».
جلس الثلاثة أمام الملك كأنهميرٍ سريٍّ يحاكمه بصمت، ووضعوا على الطاولة خريطةً كبيرةً لسوريا واليمن، وعليها نقاطٌ سوداءُ تشير إلى معسكراتٍ تدريبٍ جديدة، ونقاطٌ حمراءُ تشير إلى مدنٍ ستُحرق. رفع ألبرت وايت كأساً من الويسكي، ولم يكن هناك قهوةٌ عربيةٌ على الطاولة هذه الليلة، وقال بصوتٍ هادئٍ يشبه صوت الثلج: «الآن نبدأ المرحلة الثانية… سنُسقط دمشق وصنعاء معاً… سنُحل محل الأنظمة الوطنية جماعاتٍ ترفع راية الإسلام… وأنتم تدفعون، ونحن نُنسق».
تحدث يوسف ليفي لأول مرة، صوته خشنٌ كالحصى: «لدينا خلايا نائمة في حلب وإدلب… سنُفعّلها، وسنرسل المقاتلين من الحدود التركية… كل شيءٍ سيبدو وكأنه ثورةٌ شعبية». ثم نظر إلى فيصل بن سعود بعينين لا ترمش، وأضاف: «طالما بقي النفط يتدفق، سنبقيكم على عرشك».
تحدث جوناثان سميث بالإنجليزية أولاً، ثم ترجم بنفسه إلى العربية بصوتٍ منخفض: «من كلس، سنرسل الأسلحة الأميركية… صواريخ ودبابات وطائراتٍ بدون طيار… كلها ستحمل شعاراتٍ إسلامية». ثم فتح الملف، وكانت فيه قائمةٌ طويلةٌ بأسماء الجماعات التي ستُموّل، وفي أسفل القائمة اسمٌ واحدٌ عربي: فيصل بن سعود، مكتوبٌ بخطٍ صغيرٍ جداً، كأنه توقيعٌ على حكمٍ بالإعدام.
في تلك اللحظة، سمعوا صوتاً خافتاً من أعلى، صوت خطواتٍ على الدرج الحجري، خطواتٍ ثقيلةً كأنها تحمل شيئاً ثقيلاً. توقف الجميع، حتى وايت توقف عن التدخين. ثم فُتح الباب ببطء، ودخل رجلٌ طويلٌ يرتدي ثوباً أسود ممزقاً، وجهه مخفيٌ تحت كوفيةٍ ملطخةٍ بالدم، وفي يده سيفٌ قديمٌ يقطر دماً طازجاً. وقف في مدخل الغرفة، ثم رفع السيف ببطء، وصرخ بصوتٍ يشبه صوت الريح في الوديان المهجورة: «يا بائع الأمة… يا خادم الصهيوني!».
قفز ليفي على قدميه، وسحب مسدسه، وكذلك فعل سميث، لكن الرجل لم يتحرك. ظل واقفاً، السيف مرفوعاً، والدم يقطر من طرفه على الأرض، قطرة… قطرة… قطرة. ثم بدأ وجهه يتغير، يذوب كالشمع، يتحول إلى وجوهٍ أخرى، وجه طفل سوري، وجه جندي عراقي، وجه امرأةٍ يمنية، كلهم ينظرون إلى فيصل بن سعود بنفس العينين الفارغتين، وكلهم يرددون بنفس الصوت: «خائن… خائن… خائن».
أطلق ليفي النار، لكن الرصاصة مرّت من خلال الرجل واصطدمت بالجدار، ولم يسقط الرجل. بقي واقفاً، ثم بدأ يتقدم خطوةً خطوة، والدم يقطر من سيفه، والأصوات ترتفع حتى صارت جوقةً مخيفة. حاول فيصل بن سعود أن يقوم، لكنه وجد نفسه ملتصقاً بالكرسي، كأن يدين غير مرئيتين تمسكانه. اقترب الرجل حتى صار وجهه أمام وجه الملك، ثم همس في أذنه كلمةً واحدةً فقط، كلمةً جعلت الدم يتجمد في عروقه: «حارس».
فجأة، اختفى الرجل، واختفت الأصوات، وعاد الهدوء إلى الغرفة كأن شيئاً لم يكن. لكن على الطاولة، حيث كانت الخريطة، كان هناك الآن ورقةٌ أخرى، ورقةٌ بيضاءُ مكتوبٌ عليها بخطٍ أحمر: «الآن أنت لست ملكاً… أنت أداة». نظر فيصل بن سعود إلى وايت وليفي وسميث، لكنهم كانوا يبتسمون ابتساماتٍ صفراء، كأنهم لم يروا شيئاً، ثم قال وايت بهدوء: «تخيلات يا جلالة الملك… مجرد تخيلات… الآن، هيا نكمل التنسيق».
لكن فيصل بن سعود لم يعد يسمع. كان ينظر إلى الورقة، ويرى الكلمات تتحرك، تتغير، تصبح وجوهًا، وجوه الذين سيُقتلون غداً باسمه، ينظرون إليه ويرددون: «حارس… حارس… حارس». ومن تلك الليلة، صار الملك يجلس في تلك الغرفة كل ليلة، ينسق الضربات، يوقّع الأوامر، لكن عيناه فارغتان، وفي كل مرةٍ يرفع فيها قلمه، كان يسمع صوت الرجل الطويل: «خائن… خائن… خائن»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخل قلبه، قلبٍ تحول إلى غرفةٍ سريةٍ لا يخرج منها أحد.
3
أشباح الماضي لم تعد تك تكتفي بالهمس في الظلام؛ بدأت تُمسك بالأيدي. في كل ليلةٍ بعد منتصف الليل، كان الملك فيصل بن سعود يشعر بأصابعٍ باردةٍ تمتد من تحت سريره، تلامس كاحله، ثم تتسلق ساقه ببطء كأنها عناكبٌ من جليد. كان يقفز من فراشه مذعوراً، يشعل كل الأنوار، فيجد الغرفة فارغة، لكن على الأرض تكون هناك آثارُ أقدامٍ صغيرةٍ حافيةٍ مبللةٍ بالماء والتراب، آثارٌ تتجه نحو النافذة ثم تختفي فجأة كأن صاحبها طار. في إحدى الليالي، استيقظ على صوت بكاءٍ طفلٍ حقيقي، فتح الباب، فرأى في الرواق طفلاً يمنياً لا تتجاوز الثامنة، وجهه أسود من الحروق، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ مخيف: «عمو… بيتنا احترق بسبب طياراتك». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن الطفل ذاب في الهواء، ولم يبقَ سوى رائحة اللحم المحترق.
في الأيام، صارت الأشباح تظهر حتى في وضح النهار. في اجتماعات مجلس الوزراء، كان فيصل بن سعود يرى في زاوية القاعة جندياً سورياً مقطوع الرأس يحمل رأسه بين يديه وينظر إليه. في المسجد أثناء صلاة الجمعة، كان يرى امرأةً عراقيةً تقف بين الصفوف، ثيابها ممزقة، وتهمس في أذن الإمام كلماتٍ لا يسمعها أحدٌ سواه. وفي كل مرةٍ يحاول أن يخبر أحداً، كانوا ينظرون إليه بابتساماتٍ صفراء ويقولون: «جلالتكم متعب… تحتاج إلى راحة». لكن الراحة لم تعد موجودة، لأن الأشباح لم تعد تأتي ليلاً فقط، صارت تعيش معه، تأكل معه، تنام بجانبه، وكلما حاول أن يغلق عينيه كانت تربت على كتفه بأصابعٍ باردة وتهمس: «ما زلنا هنا».
في إحدى الليالي، عندما كانت الرياض تغرق في عاصفةٍ رمليةٍ نادرة، استيقظ فيصل بن سعود على صوت طرقٍ عنيفٍ على الباب. فتح الباب، فلم يجد أحداً، لكن في الرواق القصر كان هناك صفٌ طويلٌ من الأشباح، رجالٌ ونساءٌ وأطفال، يرتدون ثياباً ممزقةً ملطخةً بالدم والتراب، يحملون أعلاماً محترقة، ويقفون في صفينٍ متقابلين كأنهم يشكلون ممراً له. تقدم الملك خطوةً خطوة بينهم، وكلما مرّ بجانب شبحٍ كان يمد يده ويلمس كتفه، وكان يشعر ببرودةٍ تخترق عظامه، ويسمع صوتاً يهمس في أذنه اسماً: «أحمد من حلب… مات بقنبلتك»، «فاطمة من الموصل… اغتُصبت بسبب صمتك»، «خالد من صنعاء… جوع حتى الموت بسبب حصارك». وصل إلى نهاية الممر، فوجد باباً مفتوحاً لم يكن موجوداً من قبل، فتح الباب، فوجد نفسه في غرفة الموك نفسها، لكن الطاولة كانت فارغةً إلا من ورقةٍ واحدةٍ مكتوبةٍ عليها بخطٍ أحمر: «الثمن لم يُدفع بعد».
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية في سوريا بدأت بنجاح»، وجد الملك جالساً على الأرض في غرفة العرش، يمسك بمسبحةٍ مكسورة، وكان وجهه شاحباً كالرماد، وعيناه فارغتان. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار فيصل بن سعود يعيش بين الأحياء لكنه ميتٌ من الداخل، يوقّع الأوامر، يستقبل الضيوف، يبتسم ابتساماتٍ صفراء، لكن عيناه فارغتان، وفي كل ليلةٍ كان يسمع صوت الأشباح يهمس في أذنه: «الثمن قادم… الثمن قادم… الثمن قادم»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
4
مع سقوط المدن كأوراقٍ خريفيةٍ ميتةٍ تتهاوى دون صوت، صار فيصل بن سعود يعيش في عالمٍ من الفراغ المُرعب، حيث كانت أخبار الانتصارات تأتيه كل صباحٍ كأنها أخبار جنازاتٍ لا يحضرها أحد. كان يجلس على عرشه في قاعةٍ شاسعةٍ جدرانها مغطاةٌ بستائرٍ سوداء ثقيلةٍ كأنها أكفانٌ معلقة، وكان يتلقى التقارير من يد الأمير بندر بن فهد، ابن أخيه الذي صار عينيه في الخارج، وكان بندر يقرأ الأرقام بصوتيرةٍ آليةٍ كأنه يقرأ قائمة تسوق: «حلب سقطت… الموصل سقطت… صنعاء تحت الحصار… داعش تقدّمت عشرين كيلومتراً». لكن فيصل بن سعود لم يعد يسمع الأرقام، كان يسمع أصواتاً أخرى، أصوات نساءٍ يبكين، أطفالٍ يصرخون، رجالٍ يُذبحون، أصواتاً تخرج من الجدران نفسها، من السجادة، من الهواء.
في إحدى الليالي، عندما كانت الرياض تغرق في صمتٍ ثقيلٍ كأن الأرض نفسها تخشى أن تتنفس، استيقظ فيصل بن سعود على صوت طرقٍ خفيفٍ على باب غرفته. فتح الباب، فلم يجد أحداً، لكن في الرواق كان هناك صفٌ طويلٌ من الأشباح، رجالٌ ونساءٌ وأطفال، يرتدون ثياباً ممزقةً ملطخةً بالدم والتراب، يحملون أعلاماً محترقة، ويقفون في صفينٍ متقابلين كأنهم يشكلون ممراً له. تقدم الملك خطوةً خطوة بينهم، وكلما مرّ بجانب شبحٍ كان يمد يده ويلمس كتفه، وكان يشعر ببرودةٍ تخترق عظامه، ويسمع صوتاً يهمس في أذنه اسماً: «أحمد من حلب… مات بقنبلتك»، «فاطمة من الموصل… اغتُصبت بسبب صمتك»، «خالد من صنعاء… جوع حتى الموت بسبب حصارك». وصل إلى نهاية الممر، فوجد باباً مفتوحاً لم يكن موجوداً من قبل، فتح الباب، فوجد نفسه في غرفة الموك نفسها، لكن الطاولة كانت فارغةً إلا من ورقةٍ واحدةٍ مكتوبةٍ عليها بخطٍ أحمر: «الثمن لم يُدفع بعد».
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية في سوريا بدأت بنجاح»، وجد الملك جالساً على الأرض في غرفة العرش، يمسك بمسبحةٍ مكسورة، وكان وجهه شاحباً كالرماد، وعيناه فارغتان. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار فيصل بن سعود يعيش بين الأحياء لكنه ميتٌ من الداخل، يوقّع الأوامر، يستقبل الضيوف، يبتسم ابتساماتٍ صفراء، لكن عيناه فارغتان، وفي كل ليلةٍ كان يسمع صوت الأشباح يهمس في أذنه: «الثمن قادم… الثمن قادم… الثمن قادم»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
5
في ليلةٍ لا قمر فيها، حين تكون السماء سوداء تماماً كأنها غُطيت بجنازةٍ كبيرة، وقع الاتفاق الذي لم يُكتب على ورقٍ أبيض، بل كُتب بدمٍ غير مرئيٍّ في قلوبٍ لا تزال تنبض بالخوف. كانت الغرفة نفسها، غرفة الموك تحت قصر الملك فيصل بن سعود، لكنها هذه المرة أكثر ظلاماً، أثقل رائحةً، أشد كتماناً. لم تكن هناك شموعٌ سوداء، بل مصابيحُ كهربائيةٌ خافتةٌ تُضيء فقط الخريطة الممدودة على الطاولة، خريطةٌ جديدةٌ هذه المرة، تمتد من دمشق إلى صنعاء إلى بغداد، وعليها خطوطٌ سوداءُ كالأفعى تتلوى بين المدن كأنها تحدد مساراً لسمٍ يُحقن ببطء.
جلس فيصل بن سعود في مكانه المعتاد، لكنه لم يعد يرتدي ثوبه الأبيض. كان يرتدي رداءً رمادياً باهتاً كأنه ثوبُ أسيرٍ في محكمةٍ لم تبدأ بعد. إلى يمينه وقف الأمير بندر بن فهد، وجهه شاحبٌ كورقةٍ قديمة، يداه ترتجفان وهو يمسك بكأسٍ فارغ. إلى يساره وقف الأمير سلمان بن عبد العزيز، عيناه حادتان كالسكين، وجهه جامدٌ كالصخر، كأنه جاء ليشهد على جنازةٍ لم يُعلن عنها بعد. وفي الظلال، وقف ثلاثة رجالٍ أجانب: السيد هنري ويلسون البريطاني، الكولونيل إيلي كوهين الإسرائيلي، والجنرال جوناثان رايت الأميركي، كلهم يرتدون بدلاتٍ سوداء ويحملون ملفاتٍ جلديةً مكتوباً عليها «سري للغاية».
رفع ويلسون كأساً من الويسكي، وقال بصوتٍ هادئٍ يشبه صوت الثلج: «الآن نوقّع العهد الجديد… سوريا واليمن والعراق ستسقط معاً… وأنتم ستبقون ملوكاً… طالما بقي النفط يتدفق».
تحدث إيلي كوهين لأول مرة، صوته خشنٌ كالحصى: «سنرسل الخلايا النائمة… سنُفعّل الجماعات… سنقصف من الجو إذا لزم الأمر… كل شيءٍ سيبدو وكأنه ثورةٌ شعبية». ثم نظر إلى فيصل بن سعود بعينين لا ترمش، وأضاف: «طالما بقي النفط يتدفق، سنبقيكم على عرشك».
تحدث جوناثان رايت بالإنجليزية أولاً، ثم ترجم بنفسه إلى العربية بصوتٍ منخفض: «من كلس، سنرسل الأسلحة الأميركية… صواريخ ودبابات وطائراتٍ بدون طيار… كلها ستحمل شعاراتٍ إسلامية». ثم فتح الملف، وكانت فيه قائمةٌ طويلةٌ بأسماء الجماعات التي ستُموّل، وفي أسفل القائمة اسمٌ واحدٌ عربي: فيصل بن سعود، مكتوبٌ بخطٍ صغيرٍ جداً، كأنه توقيعٌ على حكمٍ بالإعدام.
في تلك اللحظة، سمعوا صوتاً خافتاً من أعلى، صوت خطواتٍ على الدرج الحجري، خطواتٍ ثقيلةً كأنها تحمل شيئاً ثقيلاً. توقف الجميع، حتى ويلسون توقف عن التدخين. ثم فُتح الباب ببطء، ودخل رجلٌ طويلٌ يرتدي ثوباً أسود ممزقاً، وجهه مخفيٌ تحت كوفيةٍ ملطخةٍ بالدم، وفي يده سيفٌ قديمٌ يقطر دماً طازجاً. وقف في مدخل الغرفة، ثم رفع السيف ببطء، وصرخ بصوتٍ يشبه صوت الريح في الوديان المهجورة: «يا بائع الأمة… يا خادم الصهيوني!».
قفز كوهين على قدميه، وسحب مسدسه، وكذلك فعل رايت، لكن الرجل لم يتحرك. ظل واقفاً، السيف مرفوعاً، والدم يقطر من طرفه على الأرض، قطرة… قطرة… قطرة. ثم بدأ وجهه يتغير، يذوب كالشمع، يتحول إلى وجوهٍ أخرى، وجه طفل سوري، وجه جندي عراقي، وجه امرأةٍ يمنية، كلهم ينظرون إلى فيصل بن سعود بنفس العينين الفارغتين، وكلهم يرددون بنفس الصوت: «خائن… خائن… خائن».
أطلق كوهين النار، لكن الرصاصة مرّت من خلال الرجل واصطدمت بالجدار، ولم يسقط الرجل. بقي واقفاً، ثم بدأ يتقدم خطوةً خطوة، والدم يقطر من سيفه، والأصوات ترتفع حتى صارت جوقةً مخيفة. حاول فيصل بن سعود أن يقوم، لكنه وجد نفسه ملتصقاً بالكرسي، كأن يدين غير مرئيتين تمسكانه. اقترب الرجل حتى صار وجهه أمام وجه الملك، ثم همس في أذنه كلمةً واحدةً فقط، كلمةً جعلت الدم يتجمد في عروقه: «حارس».
فجأة، اختفى الرجل، واختفت الأصوات، وعاد الهدوء إلى الغرفة كأن شيئاً لم يكن. لكن على الطاولة، حيث كانت الخريطة، كان هناك الآن ورقةٌ أخرى، ورقةٌ بيضاءُ مكتوبٌ عليها بخطٍ أحمر: «الآن أنت لست ملكاً… أنت أداة». نظر فيصل بن سعود إلى ويلسون وكوهين ورايت، لكنهم كانوا يبتسمون ابتساماتٍ صفراء، كأنهم لم يروا شيئاً، ثم قال ويلسون بهدوء: «تخيلات يا جلالة الملك… مجرد تخيلات… الآن، هيا نكمل التنسيق».
لكن فيصل بن سعود لم يعد يسمع. كان ينظر إلى الورقة، ويرى الكلمات تتحرك، تتغير، تصبح وجوهًا، وجوه الذين سيُقتلون غداً باسمه، ينظرون إليه ويرددون: «حارس… حارس… حارس». ومن تلك الليلة، صار الملك يجلس في تلك الغرفة كل ليلة، ينسق الضربات، يوقّع الأوامر، لكن عيناه فارغتان، وفي كل مرةٍ يرفع فيها قلمه، كان يسمع صوت الرجل الطويل: «خائن… خائن… خائن»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخل قلبه، قلبٍ تحول إلى غرفةٍ سريةٍ لا يخرج منها أحد.
6
الأمراء يديرون غرفة الموك كأنهم يديرون مسرحاً لدمى خشبية، لكن الدمى هذه المرة تنزف دماً حقيقياً وتصرخ بأصواتٍ لا يسمعها إلا الملك فيصل بن سعود في أعماق لياليه. كان الأمير بندر بن فهد، الشاب الوسيم ذو العينين المتقدتين الذي كان يُلقب بـ«أمير الظل»، يجلس على رأس الطاولة الآن، يرتدي بدلةً سوداء إيطاليةً لا تشوبها غبار، ويضع أمامه جهازاً لوحياً يضيء وجهه بضوءٍ أزرقٍ بارد، يحرك أصابعه على الشاشة كأنه يعزف لحناً من الموتاتٍ قاتلة. إلى يمينه يجلس الأمير سلمان بن عبد العزيز، الرجل الصلب الذي لا يبتسم إلا نادراً، ينظر إلى الخريطة بتركيزٍ يشبه تركيز صيادٍ يراقب فريسةً جريحة. وفي الظلال، يقف السيد جورج بلاكوود البريطاني والكولونيل إيلي كوهين الإسرائيلي والجنرال جون رايت الأميركي، يتبادلون الهمسات بلغاتٍ ثلاث، وكلهم يتفقون على شيءٍ واحد: الدم العربي رخيص، والنفط غالٍ.
كان بندر بن فهد يتحدث بصوتٍ منخفضٍ هادئٍ لكنه حادٌ كشفرة: «اليوم نُفعّل الخلية في دمشق… غداً في بغداد… وبعد غدٍ في صنعاء». يحرك إصبعه على الشاشة، فيظهر على الخريطة نقطةٌ حمراءُ تومض، ثم تنطفئ، ثم تظهر نقطةٌ أخرى، وكل نقطةٍ تعني مدينةً ستحترق، أو حياً سيُمحى، أو مدرسةً ستُقصف. وكان سلمان بن عبد العزيز يضيف بصوته الخشن: «الإعلام سيقول إنها عملياتٌ إرهابيةٌ… والعالم سيصدق… لأننا نملك القنوات». ثم يبتسم ابتسامةً صغيرةً باردة، ويرفع كأسه، وكان الكأس مملوءاً بالويسكي لا بالقهوة، لأن القهوة لم تعد تُقدَّم في غرفة الموك منذ زمن.
كان فيصل بن سعود يجلس في الخلف، على كرسيٍّ صغيرٍ في الظل، كأنه ضيفٌ غير مرحبٍ به في بيته. لم يعد يتحدث، لم يعد يسأل، فقط ينظر ويوقّع. كان وجهه قد صار كقناعٍ من الشمع، عيناه فارغتان، وشفتاه ترتجفان قليلاً كأنه يحاول أن يقول شيئاً لكنه يخرج الصوت. في تلك اللحظة، سمع صوتاً خافتاً من أعلى، صوت خطواتٍ على الدرج الحجري، خطواتٍ ثقيلةً كأنها تحمل شيئاً ثقيلاً. توقف الجميع، حتى بندر توقف عن الحركة على الشاشة. ثم فُتح الباب ببطء، ودخل رجلٌ طويلٌ يرتدي ثوباً أسود ممزقاً، وجهه مخفيٌ تحت كوفيةٍ ملطخةٍ بالدم، وفي يده سيفٌ قديمٌ يقطر دماً طازجاً.
وقف في مدخل الغرفة، ثم رفع السيف ببطء، وصرخ بصوتٍ يشبه صوت الريح في الوديان المهجورة: «يا بائعي الأمة… يا خدم الصهيوني!». قفز كوهين على قدميه، وسحب مسدسه، وكذلك فعل رايت، لكن الرجل لم يتحرك. ظل واقفاً، السيف مرفوعاً، والدم يقطر من طرفه على الأرض، قطرة… قطرة… قطرة. ثم بدأ وجهه يتغير، يذوب كالشمع، يتحول إلى وجوهٍ أخرى، وجه طفل سوري، وجه جندي عراقي، وجه امرأةٍ يمنية، كلهم ينظرون إلى فيصل بن سعود بنفس العينين الفارغتين، وكلهم يرددون بنفس الصوت: «خائن… خائن… خائن».
أطلق كوهين النار، لكن الرصاصة مرّت من خلال الرجل واصطدمت بالجدار، ولم يسقط الرجل. بقي واقفاً، ثم بدأ يتقدم خطوةً خطوة، والدم يقطر من سيفه، والأصوات ترتفع حتى صارت جوقةً مخيفة. حاول فيصل بن سعود أن يقوم، لكنه وجد نفسه ملتصقاً بالكرسي، كأن يدين غير مرئيتين تمسكانه. اقترب الرجل حتى صار وجهه أمام وجه الملك، ثم همس في أذنه كلمةً واحدةً فقط، كلمةً جعلت الدم يتجمد في عروقه: «حارس».
فجأة، اختفى الرجل، واختفت الأصوات، وعاد الهدوء إلى الغرفة كأن شيئاً لم يكن. لكن على الطاولة، حيث كانت الخريطة، كان هناك الآن ورقةٌ أخرى، ورقةٌ بيضاءُ مكتوبٌ عليها بخطٍ أحمر: «الآن أنت لست ملكاً… أنت أداة». نظر فيصل بن سعود إلى بندر وسلمان وبلاكوود وكوهين ورايت، لكنهم كانوا يبتسمون ابتساماتٍ صفراء، كأنهم لم يروا شيئاً، ثم قال بندر بهدوء: «تخيلات يا عم… مجرد تخيلات… الآن، هيا نكمل التنسيق».
لكن فيصل بن سعود لم يعد يسمع. كان ينظر إلى الورقة، ويرى الكلمات تتحرك، تتغير، تصبح وجوهًا، وجوه الذين سيُقتلون غداً باسمه، ينظرون إليه ويرددون: «حارس… حارس… حارس». ومن تلك الليلة، صار الملك يجلس في تلك الغرفة كل ليلة، ينسق الضربات، يوقّع الأوامر، لكن عيناه فارغتان، وفي كل مرةٍ يرفع فيها قلمه، كان يسمع صوت الرجل الطويل: «خائن… خائن… خائن»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخل قلبه، قلبٍ تحول إلى غرفةٍ سريةٍ لا يخرج منها أحد.
7
أشباح القتلى لم تعد تكتفي بالزيارة ليلاً؛ صارت تُقيم في القصر إقامةً دائمة، كأنها استأجرت الجدران والأبواب والنوافذ ودفعت الإيجار بدمائها. في كل غرفةٍ من غرف القصر الكبير، كان فيصل بن سعود يرى وجهاً جديداً يطل من زاويةٍ مظلمة، أو يسمع صوت خطواتٍ خفيفةٍ خلفه، أو يشم رائحة البارود واللحم المحترق تتسلل من تحت الباب. في إحدى الليالي، استيقظ على صوت بكاءٍ خافتٍ يأتي من خلف الستارة، فرفع الستارة بيدٍ مرتجفة، فوجد طفلةً سوريةً صغيرةً تجلس على الأرض، ثيابها ممزقة، وجهها مغطىً بالتراب، تمسك بدميةٍ مقطوعة الرأس، وتبكي بصوتٍ لا يخرج من فمها بل من عينيها فقط، دموعٌ سوداءُ كالحبر. حاول أن يمد يده ليلمسها، لكن يده مرّت من خلالها كأنها دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدموع إلى دمٍ حقيقيٍّ يسيل على السجاد، وصارت الطفلة تهمس: «أبي مات تحت قنبلتك».
في الصباح، كان الحراس يجدون الملك نائماً على الأرض، وجهه ملطخٌ بالتراب، وفي يده دميةٌ صغيرةٌ محترقةٌ لم تكن موجودةً من قبل. لم يعد أحدٌ يجرؤ على سؤاله من أين جاءت الدمية، لأن الجميع صار يعرف أن القصر لم يعد قصراً، بل صار مقبرةً حيةً يسكنها الموتى ويحكمها الأحياء الموتى.
في اجتماعات مجلس الوزراء، صار فيصل بن سعود يرى في كل كرسيٍّ شبحاً يجلس، في كل مرآةٍ وجهٌ يحدّق، في كل نافذةٍ يدٌ تبطش. كان يحاول أن يتكلم، لكن الكلمات تخرج من فمه مشوهةً، كأن لسانه قد صار ثقيلاً من كثرة الكذب. في إحدى الجلسات، بينما كان الأمير بندر بن فهد يقرأ تقريراً عن «تقدم داعش في الموصل»، رفع فيصل رأسه فجأة، ورأى في زاوية القاعة جندياً عراقياً مقطوع الرأس يحمل رأسه بين يديه، ينظر إليه ويهمس: «أنا من الفلوجة… قتلتني بطائرتك». حاول الملك أن يشير إلى الزاوية، لكن لا أحد رأى شيئاً، واستمروا في الحديث عن «النصر الإسلامي» كأن الجثة لم تكن موجودة.
في المسجد الكبير، أثناء صلاة الجمعة، كان فيصل بن سعود يقف في الصف الأول، يصلي خلف الإمام، لكن عندما سجد، رأى تحت جبهته وجه امرأةٍ يمنيةٍ مدفونةٍ في التراب، عيناها مفتوحتان، وفمها يتحرك بصمت: «ابني مات جوعاً بسبب حصارك». رفع رأسه مذعوراً، فوجد الناس ينظرون إليه باستغراب، لأنه كان يصرخ في السجود، صرخةً لم يسمعها أحدٌ سواه.
في النهاية، صار القصر كله يرن بأصوات الأشباح، حتى الحراس بدأوا يسمعون خطواتٍ في الرواق، وبكاءً في الغرف الفارغة، ورائحة الدم في الهواء. لكن لا أحد كان يجرؤ على الكلام، لأن الجميع صار يعرف أن الملك لم يعد ملكاً، بل صار سجيناً في قصره، سجيناً لأشباحٍ لا ترحل، أشباحٍ تنتظر الثمن الذي لم يُدفع بعد، وتعرف أن الثمن لن يكون ذهباً، بل روحاً. ودماءً وأمةً بأكملها.
وفي كل ليلة، كان فيصل بن سعود يستيقظ على صوت امرأةٍ عجوزٍ تهمس في أذنه: «الثمن قادم… الثمن قادم… الثمن قادم»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ حيةٍ يسكنها الموتى ولا يخرج منها أحد.
8
في ليلةٍ من ليالي الشتاء الذي لا يعرف البرد إلا في القلوب، جلس الملك سليمان بن عبد الرحيم على كرسيٍّ خشبيٍّ قديمٍ في غرفةٍ عاليةٍ من قصره الشاهق، غرفةٌ لم تعد تضم سوى الظلال والذكريات والأشباح التي لم تعد تُخفي وجوهها. كان يمسك بمسبحةٍ مكسورةٍ منذ سنوات، حباتها متناثرةٌ على الأرض كأنها عظامٌ صغيرةٌ لأطفالٍ لم يُدفنوا، وكان ينظر إلى الفراغ كأنما يبحث فيه عن وجهٍ لم يره منذ زمنٍ بعيد، وجهه هو قبل أن يصبح ملكاً.
في تلك اللحظة، فتح الباب ببطءٍ من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، حافياً، ثوبه ممزقٌ وملطخٌ بالتراب والدم، يمسك بيده دميةً متفحمةً كأنها خرجت لتوّها من نارٍ لم تنطفئ بعد. وقف الطفل في الزاوية، ينظر إلى الملك بعينين كبيرتين فارغتين، ثم قال بصوتٍ هادئٍ يشبه همس الريح في المقابر: «عمو… ليه حرقت بيتي؟ أنا ما عملت حاجة». لم يستطع الملك أن يرد، لم تخرج الكلمات من حلقه، وبقي ينظر إلى الطفل حتى ذاب في الظلام، لكن الصوت بقي يتردد في أذنيه، يتردد في جدران القصر، يتردد في عظامه: «ليه… ليه… ليه».
في الصباح، جاءه السيد وليام غراي كعادته، يحمل ملفاً جديداً، يبتسم ابتسامةً عريضةً صفراء، ويقول بصوتٍ هادئٍ مُطمئن: «العملية تسير حسب الخطة، جلالة الملك… الحديدة تحت الحصار، والموانئ مُغلقة، والجوع يقوم بعمله». نظر سليمان بن عبد الرحيم إلى الفراغ، ثم أومأ برأسه ببطء، وكانت يده ترتجف حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت في عينيه كقطرة دمٍ طازجة. لم يسأل، لم يعترض، لم يتكلّم، فقط وقّع.
ومع كل توقيعٍ جديد، كانت الأشباح تتكاثر. في إحدى الليالي، استيقظ على صوت خطواتٍ خفيفةٍ في الرواق، فتح الباب، فوجد صفّاً طويلاً من الأطفال، كلهم يشبهون بعضهم، كلهم يحملون دمىً محترقة، كلهم ينظرون إليه بعيونٍ فارغةٍ ويقولون بصوتٍ واحدٍ هادئٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟». حاول أن يغلق الباب، لكن الباب لم يُغلق، وبقوا واقفين ينظرون إليه حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء، لكن الصوت بقي، يرن في رأسه، يتسلل إلى أحلامه، صوتٌ واحدٌ لا يتوقف: «ليه… ليه… ليه».
في الأيام التي تلت، صار القصر كله يرن بأصواتهم. الحراس بدأوا يسمعون بكاءً في الغرف الفارغة، ورائحة الدخان في الرواق، وخطواتاً حافيةً على السجاد. لم يعد أحدٌ يجرؤ على الكلام، لأن الجميع صار يعرف أن الملك لم يعد ملكاً، بل صار سجيناً في قصره، سجيناً لأشباحٍ لا ترحل، أشباحٍ تنتظر شيئاً لم يعد أحدٌ يعرف ما هو. في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب من تلقاء نفسه، ودخل الطفل مرةً أخرى، لكن هذه المرة لم يكن وحده، كان يقف خلفه صفٌ طويلٌ من الأمهات، يحملن أطفالهن المحترقين، وكلهن ينظرن إلى الملك بعيونٍ لا تبكي، لأن الدموع قد جفّت منذ زمن، وكلهن يقلن بصوتٍ واحدٍ هادئٍ مخيف: «ليه… ليه… ليه».
حاول الملك أن يصرخ، لكن الصرخة لم تخرج، حاول أن يهرب، لكن الأرجل لم تتحرّك، حاول أن يُغمض عينيه، لكن العيون بقيت مفتوحة. بقي جالساً على كرسيه، ينظر إليهن حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء، لكن الصوت بقي، يرن في القصر، يرن في المدينة، يرن في الأرض كلها: «ليه… ليه… ليه». وكان يعرف أن الصوت لن يتوقف، لأن الجواب لم يُقال يوماً، ولن يُقال أبداً، لأن الجواب هو هو نفسه، هو الملك، هو العرش، هو البقاء، هو الخيانة التي صارت اسمه، وصارت قبره، وهو لا يزال حيّاً.
الفصل الخامس : لماذا؟… صرخةٌ في قصرٍ أصم
1
في عصرنا، حيث تكررت المأساة في الجنوب كأن التاريخ يعيد نفسه بملابسٍ جديدةٍ وأسلحةٍ أحدث، أعلن الوزير الشاب عادل الجابر، من قلب واشنطن، بدء عملية «عاصفة الحزم» ضد الحوثيين في اليمن، وكان صوته يرن في القاعة البيضاء كأنه صوتٌ يخرج من قبرٍ فخمٍّ مزيّنٍ بالذهب. كان عادل الجابر يقف أمام الكاميرات، يرتدي بدلةً سوداء إيطاليةً وبجانبه علمٌ سعوديٌّ كبير، يبتسم ابتسامةً عريضةً يعرفها الجميع إلا هو أنها صفراء كالرماد، ويقول بصوتٍ يحاول أن يكون حاسماً: «اليمن جزءٌ من أمننا القومي… وسنعيد الشرعية مهما كلف الأمر». لكن في عينيه كان هناك شيءٌ آخر، شيءٌ يشبه خوف طفلٍ يقف على حافةٍ ولا يعرف أن الأرض تنهار تحته.
في تلك اللحظة، في الرياض، كان الملك سلمان بن عبد العزيز يجلس في غرفة العرش، يشاهد الإعلان على شاشةٍ كبيرة، وكان وجهه جامداً كالصخر، لكن يده التي تمسك بالعصا كانت ترتجف ببطء. بجانبه وقف الأمير بندر بن سلطان، الرجل الذي عاد من الآن من لندن بعد سنواتٍ من المنفى الذهبي، ينظر إلى الشاشة ويهمس في أذن الملك: «هذا هو الوقت… ناصر مات، والثورات انتهت، والآن نُعيد كتابة التاريخ». لكن سلمان بن عبد العزيز لم يرد، فقط أومأ برأسه، وكان يعرف في قلبه أن التاريخ لا يُكتب من جديد، بل يُعاد تمثيله بنفس الممثلين وبنفس النهاية.
في الأيام التي تلت الإعلان، تحولت اليمن إلى جحيمٍ يوميٍّ يُبث على الهواء مباشرة. الطائرات السعودية تقصف القرى والمدارس والمستشفيات، والصواريخ الأميركية تُطلق من البحر، والمرتزقة الكولومبيون والسودانيون يحاربون على الأرض، وكل شيءٍ يُبرَّر باسم «استعادة الشرعية». وكان فيصل بن سعود يجلس في غرفة العمليات كل ليلة، يستمع إلى التقارير، يرى الصور، يقرأ أسماء القتلى، وكان يشعر في كل تقرير بثقلٍ جديدٍ يُضاف إلى صدره، ثقلٌ يشبه صخرةً تتدحرج من أعلى جبل ولا تتوقف.
في إحدى الليالي، عندما كانت القنابل تسقط على صنعاء كالمطر، استيقظ فيصل بن سعود على صوت طرقٍ خفيفٍ على الباب. فتح الباب، فلم يجد أحداً، لكن في الرواق كان هناك طفلٌ يمنيٌّ صغيرٌ يقف حافياً، ثيابه ممزقة، وجهه مغطىً بالتراب والدم، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن يده مرّت من خلال الطفل كأنه دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدمية إلى رماد في يد الملك، وصارت الطفل تهمس: «بسببك… بسببك… بسببك». استيقظ الملك صارخاً، لكن الصرخة لم تخرج من حلقه، وبقي جالساً في السرير ينظر إلى الفراغ حتى طلع الفجر.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، وجد الملك جالسداً بلا روح، يوقّع الأوامر، يستقبل الضيوف، يبتسم ابتساماتٍ صفراء، لكن عيناه فارغتان، وفي كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
ومع استمرار العدوان الذي أودى بحياة مئات الآلاف وشرد الملايين، صار فيصل بن سعود يعيش في قصرٍ من الزجاج، يرى فيه كل شيء ولا يستطيع أن يلمس شيئاً. كان يوقّع العقود مع الأميركيين والبريطانيين والإسرائيليين، يدفع المليارات، يشتري الأسلحة، ويعود إلى عرشه ينتظر الدور التالي. لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوتاً خافتاً يهمس في أذنه: «الثمن قادم… الثمن قادم… الثمن قادم»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، وجهه مشوهٌ من الحروق، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن يده مرّت من خلال الطفل كأنه دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدمية إلى رماد في يد الملك، وصارت الطفل تهمس: «بسببك… بسببك… بسببك». استيقظ الملك صارخاً، لكن الصرخة لم تخرج من حلقه، وبقي جالساً في السرير ينظر إلى الفراغ حتى طلع الفجر.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي لي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، كان فيصل بن سعود يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحباً كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار فيصل بن سعود ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، يستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ
2
كشفت الخلايا الاستخباراتية كأن السماء انشقت فجأةً وألقت على الأرض مرآةً مكسورةً تعكس وجه الخيانة بوضوحٍ لا يحتمل. في ليلةٍ من ليالي صنعاء الدامسة، حين كانت الجبال تتكلم بلغة الصواريخ والمدافع، ألقت قوات أنصار الله القبض على شبكةٍ تجسسيةٍ مشتركةٍ تضم عملاء من الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية والسعودية، كانوا يعملون من غرفةٍ سريةٍ تحت الأرض في نجد والحجاز، غرفةٌ مبنيةٌ من الخرسانة المسلحة والكذب المسلح، جدرانها مغطاةً بخرائطٍ إلكترونيةٍ تضيء بضوءٍ أزرقٍ بارد، وفي وسطها طاولةٌ تحمل أجهزةً حديثةً ترصد كل صاروخٍ يمنيٍّ ينطلق، وكل طفلٍ يمنيٍّ يولد، وكل أمٍ تبكي في سرّها.
كان رئيس الخلية رجلاً في الأربعين، يُدعى «العميد علي رضا»، سعودي الأصل لكنه يحمل جوازاً أميركياً ولهجةً إسرائيليةً خفيفة، وكان يجلس أمام شاشةٍ كبيرةٍ يراقب تحركات الصواريخ الباليستية اليمنية، يرفع إحداثياتٍ دقيقةً لمواقع التصنيع والإطلاق، ويرسلها فوراً إلى قاعدةٍ أميركيةٍ في البحر الأحمر وقاعدةٍ إسرائيليةٍ في النقب. بجانبه كان يجلس «الكابتن دانيال كوهين»، إسرائيليٌّ يتحدث العربية كأنه ولد في عدن، ينسق الضربات الجوية، و«الرائد جوناثان سميث»، أميركيٌّ يدير الاتصالات مع البنتاغون. كانوا يعملون في صمتٍ مخيف، فقط صوت الأجهزة يرن كأنه نبض قلبٍ ميت، وصوت الملك فيصل بن سعود يأتيهم عبر خطٍ مشفر من الرياض يقول بصوتٍ هادئٍ مكسور: «استمروا… النفط يتدفق… والعرش باقٍ».
لكن في تلك الليلة، انقطع الصمت فجأة. انفتح الباب الحديدي بعنف، ودخلت قوات أنصار الله كالريح، مسلحةً ومدربةً، تحيط بالغرفة من كل جانب. رفع العميد علي رضا يديه ببطء، وكان وجهه شاحباً كالرماد، وعيناه فارغتان كأنه يعرف أن النهاية قد جاءت. سأله القائد اليمني بصوتٍ هادئٍ لكنه حادٌ كالسيف: «من أنتم؟». فأجاب علي رضا بصوتٍ مرتجف: «نحن… نحن نجمع معلومات». ضحك القائد ضحكةً قصيرةً كأنها رصاصة، ثم قال: «نعم… ونحن نجمعكم».
في الأيام التي تلت، بثت قناة المسيرة اليمنية فيديوهات الاعترافات، وكانت الصور واضحةً حتى إنك ترى الخوف في عيون العملاء وهم يعترفون بكل شيء: كيف تدربوا في قواعد سعودية، كيف تلقوا الأوامر من الرياض وتل أبيب وواشنطن، كيف رفعوا إحداثيات مستشفيات ومدارس وأسواق لتُقصف لاحقاً. وكان فيصل بن سعود يشاهد الفيديوهات في غرفته العلوية، يجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ بسيط، وجهه شاحبٌ كالرماد، عيناه فارغتان، وكان يمسك بكأسٍ فارغٍ كأنه يحاول أن يشرب منه شيئاً لم يعد موجوداً.
في تلك اللحظة، سمع صوتاً خافتاً من خلفه، صوت خطواتٍ حافيةٍ على السجادة، التفت، فرأى الطفل اليمني الصغير يقف في الزاوية، ثيابه ممزقة، وجهه مغطىً بالتراب والدم، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… كشفتونا… دلوقتي دور مين؟». حاول الملك أن يرد، لكن الكلمات تجمدت في حلقه، وبقي ينظر إلى الطفل حتى ذاب في الظلام، لكن الصوت بقي يتردد في رأسه: «دلوقتي دور مين… دلوقتي دور مين… دلوقتي دور مين».
في الأيام التي تلت، صارت الشوارع العربية تغلي، والناس ينظرون إلى القصور بغضبٍ جديد، والأصوات ترتفع في المساجد والمقاهي والجامعات: «خيانة… خيانة… خيانة». وكان فيصل بن سعود يجلس في غرفة العرش، يستمع إلى الأصوات من بعيد، وكان يشعر بأن العرش يهتز تحته ببطء، كأن الأرض نفسها قررت أن تبتلعه. في إحدى الليالي، استيقظ على صوت طرقٍ عنيفٍ على الباب، فتح الباب، فلم يجد أحداً، لكن في الرواق كان هناك صفٌ طويلٌ من الأشباح، رجالٌ ونساءٌ وأطفال، يحملون أعلاماً يمنيةً وفلسطينيةً وسوريةً ممزقة، ينظرون إليه ويرددون بنفس الصوت: «الثمن قادم… الثمن قادم… الثمن قادم».
حاول أن يغلق الباب، لكن الباب لم يُغلق، وبقوا واقفين ينظرون إليه حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء كأنهم لم يكونوا. لكن الصوت بقي، يرن في رأسه، يتردد في جدران القصر، يتسلل إلى أحلامه، صوتٌ واحدٌ لا يتوقف: «الثمن قادم». وكان يعرف أن الثمن لن يكون ذهباً، بل دماً، وأمةً، وروحاً. وكان يعرف أن الثمن قد بدأ يُدفع بالفعل، قطرةً قطرة، صاروخاً صاروخاً، طفلاً طفلاً، حتى يأتي اليوم الذي يُدفع فيه الثمن كاملاً، وتسقط الأقنعة، وتنهار العروش، وتستيقظ الأمة من سباتها الطويل.
3
في غرفةٍ سريةٍ تحت قصر اليمامة، حيث لا يصل ضوء الشمس ولا صوت البشر، جلس الملك سليمان بن عبد الرحيم أمام خريطةٍ كبيرةٍ مُعلّقةٍ على الجدار كلوحةٍ من الدم والنار. كانت الخريطة تُظهر الشرق الأوسط بأكمله، خطوطٌ حمراءٌ تربط بين ثلاث مدنٍ كأنها عروقٌ تنبض بالسمّ: الرياض، الدوحة، أنقرة. وفي وسط الغرفة، على طاولةٍ سوداء لامعة، كان يرقد ملفٌ سميكٌ مكتوبٌ عليه بخطٍ أحمر: «القوس الذهبي – المرحلة النهائية».
كان الأمير محمود بن سليمان، الشاب ذو العينين اللامعتين كالجمر تحت الرماد، يقف بجانب الملك، يشير بإصبعه النحيل إلى الخريطة ويقول بصوتٍ هادئٍ يحمل برودة السكين: «كل شيء جاهز، جلالة الملك… المليارات تتدفق من خزائننا، القنوات في الدوحة تُعدّ الرأي العام، والحدود في أنقرة مفتوحةٌ كأبواب الجحيم. الوحوش التي أطلقناها ستأكل سوريا أولاً، ثم العراق، ثم كل من يُهدّد عرشنا». ابتسم ابتسامةً صغيرةً كأنها شقٌّ في وجهٍ من حجر، وأضاف: «وسنُسمّيها ثورةً شعبيةً، كي يصدّق العالم، ويصدّق الشعب، ونصدّق نحن أيضاً».
في الدوحة، كان الأمير طاهر بن حمد يجلس في غرفةٍ زجاجيةٍ تُطل على الخليج، يدير إمبراطوريةً إعلاميةً تملك الأصوات قبل الأخبار، يتحدث عبر خطٍ آمنٍ مع شريكه في أنقرة، ويقول بصوتٍ ناعمٍ كالحرير المسموم: «سنُظهِر الطغيان في دمشق، وسنُبكي على الأطفال، وسنُطالب بالحرية، وفي الخفاء نرسل المليارات للجماعات التي ستُحرق الأطفال أنفسهم». وفي أنقرة، كان رجب طيب أردوغان يقف على شرفة قصره الجديد، ينظر إلى البوسفور كأنه يرى فيه مستقبلاً إمبراطورياً، ويهمس لنفسه بصوتٍ يحمل نبرة الواعظ المزيّف: «سنفتح الحدود للمجاهدين، وسنُسميهم ثواراً، وسنُصلّي لأجلهم في المساجد، ثم نُصلّي على جثثهم حين ينتهي دورهم».
كان المثلث يعمل كآلةٍ دقيقةٍ لا تتوقف: الرياض تُموّل، الدوحة تُروّج، أنقرة تُمرّر. كانوا يُنتجون وحوشاً من اللحم والدم، يُلبسونها أثواب الدين، ويُطلقونها في الشوارع لتأكل كل ما يُهدّد العروش الثلاثة. كانوا يعرفون أن الوحوش ستأكل يوماً أصحابها، لكنهم كانوا يعتقدون أن بإمكانهم السيطرة عليها بالمال والإعلام والحدود، وأن الشعوب ستظل صامتةً خوفاً أو طمعاً أو خداعاً.
لكن في ليلةٍ من ليالي الرياض الباردة، بينما كان سليمان بن عبد الرحيم يجلس وحيداً في غرفته العلوية، سمع صوتاً خافتاً من خلف الباب، صوت خطواتٍ حافيةٍ على السجاد، خطواتٌ لم تكن للحراس ولا للخدم. فتح الباب بيدٍ مرتجفة، فوجد طفلاً صغيراً يقف في الرواق، ثيابه ممزقة، وجهه مغطىً بالغبار والدم، يحمل دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ يقطع القلب: «عمو… ليه حرقت بيتي في حلب؟ أنا ما عملت حاجة». حاول الملك أن يرد، لكن الكلمات تجمدت في حلقه، وبقي ينظر إلى الطفل حتى ذاب في الظلام، لكن الصوت بقي يتردد في رأسه كاللعنة: «ليه… ليه… ليه».
في الأيام التي تلت، صارت الأشباح تتكاثر. كان يستيقظ على صوت بكاءٍ خافتٍ في الرواق، فيجد أطفالاً من حلب وإدلب والموصل يقفون في صفٍ طويل، يحملون دمىً محترقة، ينظرون إليه بعيونٍ فارغة، ويقولون بصوتٍ واحدٍ هادئٍ مخيف: «بسببك… بسببك… بسببك». كان يحاول أن يُغلق الباب، لكن الباب لم يُغلق، كان يحاول أن يُغمض عينيه، لكن العيون بقيت مفتوحة، كان يحاول أن يصرخ، لكن الصرخة لم تخرج.
في الصباح، كان يجلس على عرشه، يتلقى التقارير عن «تقدّم الثورة»، عن «سقوط الأسد قريباً»، عن «النصر الإسلامي»، لكن كل كلمةٍ كانت تصل إليه كأنها من عالمٍ آخر، عالمٌ لم يعد ينتمي إليه. كان يوقّع، يوقّع، يوقّع، وكل توقيعٍ كان يُضيف شبحاً جديداً إلى الصف الطويل الذي ينتظره كل ليلة. كان يعرف أن الوحوش التي أطلقها لن تتوقف عند حدود سوريا، وأن النار التي أشعلها ستعود يوماً لتأكل قصره، لكن كان يُردّد في سرّه كتعويذةٍ مكسورة: «البقاء أولاً… البقاء أولاً».
وفي ليلةٍ من ليالي الشتاء القاسية، عندما كانت العاصفة تُجنّ أكثر من أي وقتٍ مضى، فتح الباب من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ من الموصل، ثم طفلٌ من إدلب، ثم طفلٌ من حلب، ثم صفٌ طويلٌ من الأطفال، كلهم يحملون دمىً محترقة، كلهم ينظرون إليه بعيونٍ لا تبكي لأن الدموع جفّت، وكلهم يقولون بصوتٍ واحدٍ يملأ القصر: «بسببك… بسببك… بسببك». حاول الملك أن يقوم، لكن جسده لم يطعه، حاول أن يصرخ، لكن صوته اختفى، بقي جالساً على عرشه، ينظر إليهم وهم يقتربون ببطء، خطوةً خطوة، حتى أحاطوا به من كل جانب، ووضعوا دماهم المحترقة حول عرشه كأكاليلٍ من نارٍ لا تنطفئ، وبدأوا يهمسون بصوتٍ يتردد كالرعد البعيد: «الثمن قادم… الثمن قادم… الثمن قادم».
ومن تلك الليلة، صار سليمان بن عبد الرحيم ملكاً في الظاهر، لكنه في الباطن صار سجيناً لأشباحٍ لا ترحل، أشباحٍ تنتظر ثمناً لم يُدفع بعد، ثمناً لن يكون ذهباً ولا نفطاً، بل شيئاً أعمق، شيئاً سيأخذونه منه يوماً، ربما في ليلةٍ مثل هذه، ليلةٍ لا يعود فيها الفجر. وكان يعرف أن الوحوش التي أطلقها لن تعود إلى قفصها، وأن النار التي أشعلها لن تنطفئ، وأن السؤال «ليه؟» سيبقى يتردد إلى أن يأتي اليوم الذي يُصبح فيه هو نفسه الإجابة، الإجابة المحترقة، الإجابة المُعلّقة على عرشٍ من رماد.
4
في أعماق الليل الذي لا يعرف النوم، حيث تذوب الحدود بين الواقع والكابوس، جلس الملك سليمان بن عبد الرحيم وحيداً في غرفة العرش الكبيرة، غرفةٌ كانت يوماً تضجّ بالأصوات والضحكات والوعود، فصارت الآن قبراً بارداً يضمّ ظلاله فقط. كان يمسك بكأسٍ من القهوة لم يعد يشرب منها، ينظر إلى الجدران المذهبة كأنها عيونٌ تُراقبه، وفجأة شعر ببرودةٍ غريبةٍ تتسلل إلى عظامه، برودةٌ لم تأتِ من النوافذ المفتوحة، بل من مكانٍ أعمق، من مكانٍ يعرفه جيداً ويخاف منه.
في تلك اللحظة، سمّع صوتاً خافتاً، صوت خطواتٍ حافيةٍ على السجاد الثمين، خطواتٌ خفيفةٌ كأنها ليست من هذا العالم. التفت ببطء، فرأى طفلاً صغيراً يقف في الزاوية، ثيابه ممزقةٌ ملطخةٌ بالتراب والدم، وجهه شاحبٌ وعيناه فارغتان كحفرتين في الرمال، يمسك بيده دميةً محترقةً جزئياً، كأنها نجت من حريقٍ هائلٍ لتكون شاهدةً على ما لا يُقال. اقترب الطفل خطوةً واحدةً، ثم وقف، ونظر إلى الملك بعيونٍ لا تطرف، وقال بصوتٍ هادئٍ يشبه همس الريح في المقابر المهجورة: «عمو… ليه حرقت بيتي؟ أنا ما عملت حاجة». تجمد الملك في مكانه، لم يستطع أن يتحرّك، لم يستطع أن يرد، وبقي ينظر إلى الطفل حتى بدأ يذوب في الظلام ببطء، كأنه دخانٌ يتفرّق، لكن الصوت بقي، يتردد في الغرفة، يتردد في رأسه، يتردد في قلبه: «ليه… ليه… ليه».
في الأيام التي تلت، صارت الأشباح تتكاثر. كان الملك يستيقظ على صوت طرقٍ خفيفٍ على الباب، فيفتح، فيجد صفّاً طويلاً من الأطفال، كلهم يشبهون بعضهم، كلهم يحملون دمىً محترقة، كلهم ينظرون إليه بعيونٍ فارغةٍ ويقولون بصوتٍ واحدٍ هادئٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟». حاول أن يغلق الباب، لكن الباب لم يُغلق، وبقوا واقفين ينظرون إليه حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء، لكن الصوت بقي، يرن في القصر، يرن في المدينة، يرن في الأرض كلها: «ليه… ليه… ليه».
في الصباح، كان يجلس على عرشه كالمعتاد، يتلقى التقارير، يوقّع الأوامر، يبتسم للضيوف، لكن عيناه كانتا فارغتين، ويده كانت ترتجف كلما اقترب من القلم. كان السيد وليام غراي يأتيه كل يوم، يحمل ملفاً جديداً، يبتسم ابتسامةً عريضةً صفراء، ويقول بصوتٍ هادئٍ مُطمئن: «العملية تسير حسب الخطة، جلالة الملك… الحصار يُضيّق، والجوع يقوم بعمله، والنصر قريب». كان الملك يومئ برأسه، يوقّع، لكن كل توقيعٍ كان يشعر به كطعنةٍ في صدره، كل ورقةٍ كانت تُضاف إلى جبل الذنب الذي يرتفع يوماً بعد يوم.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطءٍ من تلقاء نفسه، ودخل الطفل مرةً أخرى، لكن هذه المرة لم يكن وحده، كان يقف خلفه صفٌ طويلٌ من الأمهات، يحملن أطفالهن المحترقين، وكلهن ينظرن إلى الملك بعيونٍ لا تبكي، لأن الدموع قد جفّت منذ زمن، وكلهن يقلن بصوتٍ واحدٍ هادئٍ مخيف: «ليه… ليه… ليه». حاول الملك أن يصرخ، لكن الصرخة لم تخرج، حاول أن يهرب، لكن الأرجل لم تتحرّك، حاول أن يُغمض عينيه، لكن العيون بقيت مفتوحة. بقي جالساً على كرسيه، ينظر إليهن حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء، لكن الصوت بقي، يرن في القصر، يرن في المدينة، يرن في الأرض كلها: «ليه… ليه… ليه».
ومع كل ليلةٍ جديدة، كانت الأشباح تتكاثر، كانت الأصوات تتعالى، كانت الدمى المحترقة تتراكم في زوايا القصر كأنها جثثٌ صغيرةٌ لا تُدفن. كان الملك يستيقظ على صوت بكاءٍ خافتٍ في الرواق، فيجد أطفالاً يجلسون على الأرض، يرسمون بدمائهم على السجاد، يرسمون بيوتاً محترقةً وطائراتٍ تقصف وأمهاتٍ تبكي. كان يحاول أن يُكلّمهم، لكن الكلمات كانت تتجمد في حلقه، وكانوا ينظرون إليه فقط، ينظرون ويهزون رؤوسهم ببطء، كأنهم يقولون: «أنت تعرف… أنت تعرف».
في الصباح، كان يجلس على عرشه، يستمع إلى التقارير عن «التقدّم»، عن «إضعاف العدو»، عن «النصر الوشيك»، لكن الكلمات كانت تصل إليه كأنها من عالمٍ آخر، عالمٌ لم يعد ينتمي إليه. كان يوقّع، يوقّع، يوقّع، وكل توقيعٍ كان يُضيف شبحاً جديداً إلى الصف الطويل الذي ينتظره كل ليلة. كان يعرف أن الثمن لم يُدفع بعد، وأن الثمن لن يكون ذهباً أو نفطاً أو نفوذاً، بل شيئاً أعمق، شيئاً لا يملكه إلا هو، شيئاً سيأخذونه منه يوماً، ربما في ليلةٍ مثل هذه، ليلةٍ لا يعود فيها الفجر.
وفي إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تُجن أكثر من أي وقتٍ مضى، فتح الباب ببطءٍ من تلقاء نفسه، ودخل الطفل مرةً أخرى، لكن هذه المرة كان يمشي ببطءٍ نحو العرش، خطوةً خطوةً، وكل خطوةٍ كانت تُثقل قلب الملك أكثر. وقف الطفل أمامه، رفع الدمية المحترقة، ووضعها على ركبة الملك، ثم نظر إليه بعيونٍ لا تطرف، وقال بصوتٍ هادئٍ لكنه يحمل كل ألم العالم: «هذي لك… عشان تفتكر». ثم ذاب في الظلام، لكن الدمية بقيت، ثقيلةً كالرصاص، ساخنةً كالنار، موجودةً في يد الملك، لا تذوب ولا تختفي.
ومن تلك الليلة، صار الملك يحمل الدمية المحترقة معه أينما ذهب، يضعها على مكتبه، على وسادته، على صدره وهو نائم، كأنها قلبٌ ثانٍ ينبض بالذنب. كان ينظر إليها كل صباح، يلمسها بأصابعه المرتجفة، ويشعر أنها تكبر يوماً بعد يوم، أنها تمتصّ منه شيئاً، أنها تُفرغه من الداخل. وكان يعرف أن اليوم الذي ستكتمل فيه الدمية، اليوم الذي لن يبقى فيه مكانٌ للنار، سيكون اليوم الذي يدفع فيه الثمن، الثمن الحقيقي، الثمن الوحيد الذي كان يخاف منه أكثر من الموت: أن يُصبح هو نفسه الدمية المحترقة، جالساً على عرشه، ينتظر طفلاً آخر يسأله «ليه؟»، ولا يجد جواباً، لأن الجواب قد احترق منذ زمنٍ بعيد.
5
في أعماق الصحراء التي لا ترحم، حيث تذوب الشمس في الرمال ويبقى البرد يعضّ العظام، بدأت الحرب تأكل أبناءها قبل أن تولد. كان الملك سليمان بن عبد الرحيم يجلس في غرفة العمليات السرية تحت القصر، محاطاً بشاشاتٍ زرقاء تضيء وجهه كضوء قبرٍ حديث، وأمامه خريطة اليمن ممدودة كجرحٍ مفتوح ينزف نقاطاً حمراء تكبر كل لحظة. بجانبه وقف الأمير محمود بن سليمان، عيناه جمرتان مخفيتان تحت رماد الابتسامة، يهمس: «الآن نُفعّل الخطة البديلة… مرتزقة من كولومبيا والسودان، وسيُقال إنهم متطوعون يدافعون عن الإسلام».
استمع الملك، لكنه لم يعد يسمع. كان يرى في كل نقطةٍ حمراء وجهاً واحداً يتكرر: طفلٌ صغير يقف وسط القصف، يمسك دميةً محترقة، ينظر إليه بعينين فارغتين. حاول أن يُغمض عينيه، لكن الصورة بقيت، تتنفس، تُحدّق. ثم شعر ببرودةٍ تسللت إلى ظهره، التفت، فرأى الطفل نفسه يقف في الزاوية، ثيابه ممزقة، وجهه مغطىً بالتراب والدم، يقول بهمسٍ طفوليٍّ يشبه صوت الريح في المقابر: «عمو… ليه حرقت بيتي؟ أنا ما عملت حاجة». تجمدت الكلمات في حلق الملك، وبقي ينظر حتى ذاب الطفل في الظلام، لكن الصوت بقي يتردد في رأسه كلعنةٍ لا تنتهي: «ليه… ليه… ليه».
منذ تلك الليلة، صارت الحرب تُدار من بعيد، لكنها صوتٌ واحدٌ في الخارج: صوت الطائرات والقذائف والإعلانات الرسمية، وصوتٌ آخر في الداخل: صوت طفلٍ لا يتوقف عن السؤال. كان الملك يوقّع كل صباح أوامر جديدة، يُرسل المزيد من المرتزقة، يُشدّد الحصار، يُقطع الدواء والغذاء، وكل توقيعٍ كان يُضيف شبحاً جديداً إلى الصف الذي ينتظره كل ليلة. صار القصر يرن بأصواتٍ لا يسمعها الحراس، خطواتٍ حافيةٍ في الرواق، بكاءً خافتاً في الغرف الفارغة، رائحة دخانٍ لا ينطفئ. وفي كل ليلةٍ كان الطفل يعود، أحياناً وحده، وأحياناً مع صفٍ طويلٍ من أطفالٍ يشبهونه، يحملون دماهم المحترقة كأكاليلٍ من نارٍ صغيرة، ويقفون حول سريره ينظرون إليه بعيونٍ لا تبكي لأن الدموع جفّت منذ زمن، ويهزون رؤوسهم ببطء كأنهم يقولون: «أنت تعرف… أنت تعرف».
كان الملك يحاول أن يهرب منهم في أحلامه، فيجد نفسه يمشي في ممرٍ طويلٍ من الأطفال، كل واحدٍ منهم يمد يده الباردة ويلمس كتفه، ويسمع اسماً يهمس في أذنه: «أحمد من الحديدة… مات جوعاً»، «فاطمة من تعز… احترقت في القصف»، «علي من صعدة… مات من الكوليرا». وفي نهاية الممر بابٌ مفتوحٌ لم يكن موجوداً من قبل، يدخل منه فيجد نفسه في غرفة العمليات نفسها، لكن الطاولة فارغة إلا من ورقةٍ واحدةٍ مكتوبةٍ بخطٍ أحمر: «الثمن لم يُدفع بعد».
كان يستيقظ مذعوراً، يلهث، يمسح عرقاً بارداً عن جبينه، ثم يعود إلى عرشه في الصباح، يوقّع، يبتسم للكاميرات، يردد «النصر قريب»، لكن عيناه كانتا فارغتين، ويده ترتجف كلما اقتربت من القلم. كان يعرف أن الثمن ليس النفط ولا المليارات، بل شيءٌ أعمق، شيءٌ يأخذونه منه قطعةً قطعة، ليلةً إثر ليلة، حتى لم يبقَ منه سوى قشرةٍ ملكيةٍ تتحرّك وتتكلّم وتوقّع، بينما الروح قد صارت مقبرةً حيةً لا تتسع لجثةٍ جديدة.
وفي ليلةٍ من ليالي الرياض الطويلة، عندما كانت العاصفة تُجنّ أكثر من أي وقتٍ مضى، فتح الباب من تلقاء نفسه، ودخل الطفل، لكن هذه المرة لم يقف في الزاوية، بل مشى ببطءٍ نحو العرش، خطوةً خطوة، ووضع الدمية المحترقة على ركبة الملك، ثم رفع وجهه الصغير المشوّه، ونظر إليه بعينين لا عمر لهما، وقال بهمسٍ يملأ القصر كله: «الثمن… دلوقتي». ثم ذاب في الهواء، لكن الدمية بقيت، ثقيلةً كالرصاص، ساخنةً كالجمر، موجودةً في يد الملك، تنبض بالذنب، تُفرغه من الداخل، حتى لم يعد يعرف إن كان هو الذي يحملها أم هي التي تحمله.
ومنذ تلك الليلة، صار سليمان بن عبد الرحيم يحمل الدمية معه أينما ذهب، يضعها على مكتبه، على وسادته، على صدره وهو نائم، كأنها قلبٌ ثانٍ ينبض بالألم. كان ينظر إليها كل صباح، يلمسها بأصابع مرتجفة، ويشعر أنها تكبر، أنها تُفرغه، أنها تأخذ منه آخر ما تبقّى من إنسانيته. وكان يعرف أن اليوم الذي تكتمل فيه الدمية، اليوم الذي لا يبقى فيه مكانٌ للنار، سيكون اليوم الذي يدفع فيه الثمن كاملاً، الثمن الذي لم يعد يخاف منه، لأنه صار ينتظره كما ينتظر الميت قبره. وكان يعرف أن ذلك اليوم قريب، لأن الدمية صارت الآن أثقل من العرش، وأسخن من الرمال في الظهيرة، وأقرب إلى قلبه من دمه نفسه.
6
في ليلةٍ من ليالي الرياض الحارة التي لا يبرد فيها حتى الهواء، انعقد المجلس الأعلى للخيانة في غرفةٍ سريةٍ تحت قصر اليمامة، غرفةٌ لم يعد يدخلها ضوءٌ منذ سنوات، ولا صوتٌ إلا همس الموتى الذين لم يُدفنوا بعد. كان الملك سلمان بن عبد العزيز يجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ بسيطٍ في الظل، وجهه شاحبٌ كالرماد، عيناه فارغتان كأنه يرى من خلال الجدران إلى اليمن البعيد الذي يحترق باسمه. أمامه، على الطاولة الطويلة، كان يجلس ثلاثة رجالٍ فقط هذه المرة، ثلاثة أمراءٍ من الجيل الجديد، أبناءٌ وأحفادٌ صاروا يديرون الدولة كأنها شركةٌ مساهمةٌ يريدون رفع أسهمها مهما كلف الأمر.
الأمير محمد بن نايف، الرجل الذي كان يُلقب بـ«أمير الظلام»، يجلس في الوسط، يرتدي بدلةً سوداء إيطاليةً لا تشوبها غبار، يضع أمامه جهازاً لوحياً يضيء وجهه بضوءٍ أزرقٍ مريض، وكان يتحدث بصوتٍ منخفضٍ حاد: «الآن نُنهي اليمن… نُرسل المزيد من المرتزقة… نُحاصر الموانئ… نُجوعهم حتى يستسلموا». إلى يمينه يجلس الأمير محمد بن سلمان، الشاب الطموح ذو العينين المتقدتين، يبتسم ابتسامةً صغيرةً باردة، ويقول: «والإعلام سيغطي كل شيء… سنقول إنها عملياتٌ إنسانية… وسنُظهِر الحوثيين وحوشاً». وإلى يساره يجلس الأمير خالد بن سلمان، الأصغر، ينظر إلى الخريطة ويهمس: «والأميركيون والبريطانيون والإسرائيليون سيقدمون الدعم اللوجستي… كل شيءٍ جاهز».
كان سلمان بن عبد العزيز يستمع، لكنه لم يعد يرد. كان يرى في الشاشة وجهاً واحداً يتكرر، وجه طفلٍ يمنيٍّ صغيرٍ يقف وسط القصف، يمسك بيده دميةً محترقة، وينظر إليه بعينين فارغتين. حاول أن يغلق عينيه، لكن الصورة بقيت، تتحرك، تتنفس، تُحدّق. ثم سمع صوتاً خافتاً من خلفه، صوت خطواتٍ حافيةٍ على السجادة، التفت، فرأى الطفل اليمني يقف في الزاوية، ثيابه ممزقة، وجهه مغطىً بالتراب والدم، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه حرقت بيتي؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يرد، لكن الكلمات تجمدت في حلقه، وبقي ينظر إلى الطفل حتى ذاب في الظلام، لكن الصوت بقي يتردد في رأسه: «ليه حرقت بيتي… ليه حرقت بيتي… ليه حرقت بيتي».
في الأيام التي تلت، صارت الحرب تأكل اليمن كالنار تأكل الهشيم، والقرى تحترق، والأطفال يموتون جوعاً، والأمهات يبكين في الصمت لأن الصرخة لم تعد تخرج من حلوقهن. وكان سلمان بن عبد العزيز يجلس في غرفة العرش كل صباح، يتلقى التقارير، يرى الصور، يقرأ أسماء القتلى، وكان يشعر في كل تقرير بثقلٍ جديدٍ يُضاف إلى صدره، ثقلٌ يشبه صخرةً تتدحرج من أعلى جبل ولا تتوقف.
في إحدى الليالي، عندما كانت القنابل تسقط على الحديدة كالمطر، استيقظ سلمان بن عبد العزيز على صوت طرقٍ خفيفٍ على الباب. فتح الباب، فلم يجد أحداً، لكن في الرواق كان هناك صفٌ طويلٌ من الأطفال اليمنيين، يرتدون ثياباً ممزقةً ملطخةً بالدم والتراب، يحملون دمىً محترقة، ويقفون في صفينٍ متقابلين كأنهم يشكلون ممراً له. تقدم الملك خطوةً خطوة بينهم، وكلما مرّ بجانب طفلٍ كان يمد يده ويلمس كتفه، وكان يشعر ببرودةٍ تخترق عظامه، ويسمع صوتاً يهمس في أذنه اسماً: «أحمد من الحديدة… مات جوعاً»، «فاطمة من تعز… ماتت تحت القصف»، «خالد من صنعاء… مات من الكوليرا». وصل إلى نهاية الممر، فوجد باباً مفتوحاً لم يكن موجوداً من قبل، فتح الباب، فوجد نفسه في غرفة الموك نفسها، لكن الطاولة كانت فارغةً إلا من ورقةٍ واحدةٍ مكتوبةٍ عليها بخطٍ أحمر: «الثمن لم يُدفع بعد».
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، وجد الملك جالساً على الأرض في غرفة العرش، يمسك بمسبحةٍ مكسورة، وكان وجهه شاحباً كالرماد، وعيناه فارغتان. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار سلمان بن عبد العزيز ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، ياستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
ومع استمرار العدوان الذي أودى بحياة مئات الآلاف وشرد الملايين، صار سلمان بن عبد العزيز يعيش في جحيمٍ من الذكريات، يرى في كل مرآة وجه طفلٍ يمنيٍّ يبتسم له ابتسامةً حزينة، ويسمع في كل صمت صوت أمٍ تبكي، ويشعر في كل لمسةٍ ثقل الدماء التي سالت باسمه. كان يردد في سره: «البقاء أولاً… البقاء أولاً»، لكن في قلبه كان يعرف أن البقاء هذا هو موتٌ بطيء، موتٌ يبدأ من الروح ويـنتهي بالجسد.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، وجهه مشوهٌ من الحروق، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن يده مرّت من خلال الطفل كأنه دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدمية إلى رماد في يد الملك، وصارت الطفل تهمس: «بسببك… بسببك… بسببك». استيقظ الملك صارخاً، لكن الصرخة لم تخرج من حلقه، وبقي جالساً في السرير ينظر إلى الفراغ حتى طلع الفجر.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، كان سلمان بن عبد العزيز يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحبٌ كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار سلمان بن عبد العزيز ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، ياستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
ومع استمرار العدوان الذي أودى بحياة مئات الآلاف وشرد الملايين، صار سلمان بن عبد العزيز يعيش في جحيمٍ من الذكريات، يرى في كل مرآة وجه طفلٍ يمنيٍّ يبتسم له ابتسامةً حزينة، ويسمع في كل صمت صوت أمٍ تبكي، ويشعر في كل لمسةٍ ثقل الدماء التي سالت باسمه. كان يردد في سره: «البقاء أولاً… البقاء أولاً»، لكن في قلبه كان يعرف أن البقاء هذا هو موتٌ بطيء، موتٌ يبدأ من الروح ويـنتهي بالجسد.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، وجهه مشوهٌ من الحروق، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن يده مرّت من خلال الطفل كأنه دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدمية إلى رماد في يد الملك، وصارت الطفل تهمس: «بسببك… بسببك… بسببك». استيقظ الملك صارخاً، لكن الصرخة لم تخرج من حلقه، وبقي جالساً في السرير ينظر إلى الفراغ حتى طلع الفجر.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، كان سلمان بن عبد العزيز يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحبٌ كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار سلمان بن عبد العزيز ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، ياستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
ومع استمرار العدوان الذي أودى بحياة مئات الآلاف وشرد الملايين، صار سلمان بن عبد العزيز يعيش في جحيمٍ من الذكريات، يرى في كل مرآة وجه طفلٍ يمنيٍّ يبتسم له ابتسامةً حزينة، ويسمع في كل صمت صوت أمٍ تبكي، ويشعر في كل لمسةٍ ثقل الدماء التي سالت باسمه. كان يردد في سره: «البقاء أولاً… البقاء أولاً»، لكن في قلبه كان يعرف أن البقاء هذا هو موتٌ بطيء، موتٌ يبدأ من الروح ويـنتهي بالجسد.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، وجهه مشوهٌ من الحروق، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن يده مرّت من خلال الطفل كأنه دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدمية إلى رماد في يد الملك، وصارت الطفل تهمس: «بسببك… بسببك… بسببك». استيقظ الملك صارخاً، لكن الصرخة لم تخرج من حلقه، وبقي جالساً في السرير ينظر إلى الفراغ حتى طلع الفجر.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، كان سلمان بن عبد العزيز يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحبٌ كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار سلمان بن عبد العزيز ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، ياستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
ومع استمرار العدوان الذي أودى بحياة مئات الآلاف وشرد الملايين، صار سلمان بن عبد العزيز يعيش في جحيمٍ من الذكريات، يرى في كل مرآة وجه طفلٍ يمنيٍّ يبتسم له ابتسامةً حزينة، ويسمع في كل صمت صوت أمٍ تبكي، ويشعر في كل لمسةٍ ثقل الدماء التي سالت باسمه. كان يردد في سره: «البقاء أولاً… البقاء أولاً»، لكن في قلبه كان يعرف أن البقاء هذا هو موتٌ بطيء، موتٌ يبدأ من الروح ويـنتهي بالجسد.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، وجهه مشوهٌ من الحروق، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن يده مرّت من خلال الطفل كأنه دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدمية إلى رماد في يد الملك، وصارت الطفل تهمس: «بسببك… بسببك… بسببك». استيقظ الملك صارخاً، لكن الصرخة لم تخرج من حلقه، وبقي جالساً في السرير ينظر إلى الفراغ حتى طلع الفجر.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، كان سلمان بن عبد العزيز يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحبٌ كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار سلمان بن عبد العزيز ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، ياستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
ومع استمرار العدوان الذي أودى بحياة مئات الآلاف وشرد الملايين، صار سلمان بن عبد العزيز يعيش في جحيمٍ من الذكريات، يرى في كل مرآة وجه طفلٍ يمنيٍّ يبتسم له ابتسامةً حزينة، ويسمع في كل صمت صوت أمٍ تبكي، ويشعر في كل لمسةٍ ثقل الدماء التي سالت باسمه. كان يردد في سره: «البقاء أولاً… البقاء أولاً»، لكن في قلبه كان يعرف أن البقاء هذا هو موتٌ بطيء، موتٌ يبدأ من الروح ويـنتهي بالجسد.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، وجهه مشوهٌ من الحروق، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن يده مرّت من خلال الطفل كأنه دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدمية إلى رماد في يد الملك، وصارت الطفل تهمس: «بسببك… بسببك… بسببك». استيقظ الملك صارخاً، لكن الصرخة لم تخرج من حلقه، وبقي جالساً في السرير ينظر إلى الفراغ حتى طلع الفجر.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، كان سلمان بن عبد العزيز يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحبٌ كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار سلمان بن عبد العزيز ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، ياستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
7
في أعماق الليالي التي لا يعرفها إلا من باع روحه مراتٍ عديدة، صار الملك سلمان بن عبد العزيز يعيش في قصرٍ من الظلال، قصرٌ كان يوماً رمزاً للعزة لكنه تحول إلى سجنٍ فخمٍ يحرسه الأشباح والذنب. كان يجلس في غرفته العلوية كل ليلة، بعد أن يُطفأت الأنوار ويُغلق كل باب، يمسك بمسبحةٍ مكسورةٍ لم تعد تُحرّك، وينظر إلى الفراغ كأنه يبحث فيه عن وجهٍ لم يعد يعرفه. كان الطفل اليمني الصغير يأتيه كل ليلة، يقف في الزاوية، ثيابه ممزقة، وجهه مغطىً بالتراب والدم، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه حرقت بيتي؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك مراتٍ عديدة أن يرد، أن يصرخ، أن يهرب، لكن الصوت كان يتجمد في حلقه، والأرجل كانت تُثقل كأن الأرض نفسها تمسك به.
في الصباح، كان يستقبل التقارير كالمعتاد، يجلس على عرشه، يستمع إلى الأمير محمد بن سلمان وهو يتحدث عن «تقدم العمليات»، عن «إضعاف الحوثيين»، عن «استعادة الشرعية»، وكان يومئ برأسه كأنه يوافق، لكن عيناه كانتا فارغتين، وقلبه كان ينزف. في إحدى الجلسات، بينما كان الأمير محمد بن نايف يقرأ تقريراً عن «نجاح الحصار في الحديدة»، رفع سلمان بن عبد العزيز رأسه فجأة، ورأى في زاوية القاعة صفاً من الأطفال اليمنيين يقفون صامتين، ينظرون إليه بعيونٍ فارغة، وكان كل طفلٍ يمسك بيده دميةً محترقة. حاول أن يشير إلى الزاوية، لكن لا أحد رأى شيئاً، واستمروا في الحديث عن «النصر الوشيك» كأن الجثث لم تكن موجودة.
في المسجد الكبير، أثناء صلاة الجمعة، كان سلمان بن عبد العزيز يقف في الصف الأول، يصلي خلف الإمام، لكن عندما سجد، رأى تحت جبهته وجه طفلٍ يمنيٍّ مدفونٍ في التراب، عيناه مفتوحتان، وفمها يتحرك بصمت: «بسببك… بسببك… بسببك». رفع رأسه مذعوراً، فوجد الناس ينظرون إليه باستغراب، لأنه كان يصرخ في السجود، صرخةً لم يسمعها أحدٌ سواه.
في النهاية، صار القصر كله يرن بأصوات الأشباح، حتى الحراس بدأوا يسمعون خطواتٍ في الرواق، وبكاءً في الغرف الفارغة، ورائحة الدم في الهواء. لكن لا أحد كان يجرؤ على الكلام، لأن الجميع صار يعرف أن الملك لم يعد ملكاً، بل صار سجيناً في قصره، سجيناً لأشباحٍ لا ترحل، أشباحٍ تنتظر الثمن الذي لم يُدفع بعد، وتعرف أن الثمن لن يكون ذهباً، بل روحاً. ودماءً وأمةً بأكملها.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل صفٌ طويلٌ من الأطفال اليمنيين، يرتدون ثياباً ممزقةً ملطخةً بالدم والتراب، يحملون دمىً محترقة، ويقفون في صفينٍ متقابلين كأنهم يشكلون ممراً له. تقدم الملك خطوةً خطوة بينهم، وكلما مرّ بجانب طفلٍ كان يمد يده ويلمس كتفه، وكان يشعر ببرودةٍ تخترق عظامه، ويسمع صوتاً يهمس في أذنه اسماً: «أحمد من الحديدة… مات جوعاً»، «فاطمة من تعز… ماتت تحت القصف»، «خالد من صنعاء… مات من الكوليرا». وصل إلى نهاية الممر، فوجد باباً مفتوحاً لم يكن موجوداً من قبل، فتح الباب، فوجد نفسه في غرفة الموك نفسها، لكن الطاولة كانت فارغةً إلا من ورقةٍ واحدةٍ مكتوبةٍ عليها بخطٍ أحمر: «الثمن لم يُدفع بعد».
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، وجد الملك جالساً على الأرض في غرفة العرش، يمسك بمسبحةٍ مكسورة، وكان وجهه شاحباً كالرماد، وعيناه فارغتان. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار سلمان بن عبد العزيز ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، ياستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
ومع استمرار العدوان الذي أودى بحياة مئات الآلاف وشرد الملايين، صار سلمان بن عبد العزيز يعيش في جحيمٍ من الذكريات، يرى في كل مرآة وجه طفلٍ يمنيٍّ يبتسم له ابتسامةً حزينة، ويسمع في كل صمت صوت أمٍ تبكي، ويشعر في كل لمسةٍ ثقل الدماء التي سالت باسمه. كان يردد في سره: «البقاء أولاً… البقاء أولاً»، لكن في قلبه كان يعرف أن البقاء هذا هو موتٌ بطيء، موتٌ يبدأ من الروح ويـنتهي بالجسد.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، وجهه مشوهٌ من الحروق، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن يده مرّت من خلال الطفل كأنه دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدمية إلى رماد في يد الملك، وصارت الطفل تهمس: «بسببك… بسببك… بسببك». استيقظ الملك صارخاً، لكن الصرخة لم تخرج من حلقه، وبقي جالساً في السرير ينظر إلى الفراغ حتى طلع الفجر.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، كان سلمان بن عبد العزيز يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحبٌ كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار سلمان بن عبد العزيز ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، ياستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
ومع استمرار العدوان الذي أودى بحياة مئات الآلاف وشرد الملايين، صار سلمان بن عبد العزيز يعيش في جحيمٍ من الذكريات، يرى في كل مرآة وجه طفلٍ يمنيٍّ يبتسم له ابتسامةً حزينة، ويسمع في كل صمت صوت أمٍ تبكي، ويشعر في كل لمسةٍ ثقل الدماء التي سالت باسمه. كان يردد في سره: «البقاء أولاً… البقاء أولاً»، لكن في قلبه كان يعرف أن البقاء هذا هو موتٌ بطيء، موتٌ يبدأ من الروح ويـنتهي بالجسد.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، وجهه مشوهٌ من الحروق، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن يده مرّت من خلال الطفل كأنه دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدمية إلى رماد في يد الملك، وصارت الطفل تهمس: «بسببك… بسببك… بسببك». استيقظ الملك صارخاً، لكن الصرخة لم تخرج من حلقه، وبقي جالساً في السرير ينظر إلى الفراغ حتى طلع الفجر.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، كان سلمان بن عبد العزيز يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحبٌ كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار سلمان بن عبد العزيز ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، ياستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
ومع استمرار العدوان الذي أودى بحياة مئات الآلاف وشرد الملايين، صار سلمان بن عبد العزيز يعيش في جحيمٍ من الذكريات، يرى في كل مرآة وجه طفلٍ يمنيٍّ يبتسم له ابتسامةً حزينة، ويسمع في كل صمت صوت أمٍ تبكي، ويشعر في كل لمسةٍ ثقل الدماء التي سالت باسمه. كان يردد في سره: «البقاء أولاً… البقاء أولاً»، لكن في قلبه كان يعرف أن البقاء هذا هو موتٌ بطيء، موتٌ يبدأ من الروح ويـنتهي بالجسد.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، وجهه مشوهٌ من الحروق، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن يده مرّت من خلال الطفل كأنه دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدمية إلى رماد في يد الملك، وصارت الطفل تهمس: «بسببك… بسببك… بسببك». استيقظ الملك صارخاً، لكن الصرخة لم تخرج من حلقه، وبقي جالساً في السرير ينظر إلى الفراغ حتى طلع الفجر.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، كان سلمان بن عبد العزيز يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحبٌ كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار سلمان بن عبد العزيز ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، ياستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
ومع استمرار العدوان الذي أودى بحياة مئات الآلاف وشرد الملايين، صار سلمان بن عبد العزيز يعيش في جحيمٍ من الذكريات، يرى في كل مرآة وجه طفلٍ يمنيٍّ يبتسم له ابتسامةً حزينة، ويسمع في كل صمت صوت أمٍ تبكي، ويشعر في كل لمسةٍ ثقل الدماء التي سالت باسمه. كان يردد في سره: «البقاء أولاً… البقاء أولاً»، لكن في قلبه كان يعرف أن البقاء هذا هو موتٌ بطيء، موتٌ يبدأ من الروح ويـنتهي بالجسد.
في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب ببطء من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، وجهه مشوهٌ من الحروق، يمسك بيده دميةً محترقة، ويقول بصوتٍ طفوليٍّ بريءٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟ أنا ما عملتش حاجة». حاول الملك أن يمد يده ليلمسه، لكن يده مرّت من خلال الطفل كأنه دخان، وفي اللحظة التي مرّت فيها يده، تحولت الدمية إلى رماد في يد الملك، وصارت الطفل تهمس: «بسببك… بسببك… بسببك». استيقظ الملك صارخاً، لكن الصرخة لم تخرج من حلقه، وبقي جالساً في السرير ينظر إلى الفراغ حتى طلع الفجر.
في الصباح، عندما جاءه السيد ويليام غراي ليبلغه أن «العملية تسير حسب الخطة»، كان سلمان بن عبد العزيز يجلس على عرشه، ينظر إلى الفراغ، وكان وجهه شاحبٌ كالرماد. لم يسأل، لم يعترض، فقط أومأ برأسه، وكانت يده ترتجف هذه المرة بشدة حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت كقطرة دمٍ طازجة. ومن تلك اللحظة، صار سلمان بن عبد العزيز ملكاً في الظاهر، يدير الحرب، يوقّع العقود، ياستقبل الضيوف، لكن في كل ليلةٍ كان يسمع صوت الطفل اليمني يهمس في أذنه: «بسببك… بسببك… بسببك»، وكان يعرف أن الصوت ليس من الظلام، بل من داخله، من قلبٍ تحول إلى مقبرةٍ لكل من قُتل باسمه ولم يُدفن بعد.
8
في ليلةٍ من ليالي الشتاء الذي لا يعرف البرد إلا في القلوب، جلس الملك سليمان بن عبد الرحيم على كرسيٍّ خشبيٍّ قديمٍ في غرفةٍ عاليةٍ من قصره الشاهق، غرفةٌ لم تعد تضم سوى الظلال والذكريات والأشباح التي لم تعد تُخفي وجوهها. كان يمسك بمسبحةٍ مكسورةٍ منذ سنوات، حباتها متناثرةٌ على الأرض كأنها عظامٌ صغيرةٌ لأطفالٍ لم يُدفنوا، وكان ينظر إلى الفراغ كأنما يبحث فيه عن وجهٍ لم يره منذ زمنٍ بعيد، وجهه هو قبل أن يصبح ملكاً.
في تلك اللحظة، فتح الباب ببطءٍ من تلقاء نفسه، ودخل طفلٌ صغيرٌ لا تتجاوز السابعة، حافياً، ثوبه ممزقٌ وملطخٌ بالتراب والدم، يمسك بيده دميةً متفحمةً كأنها خرجت لتوّها من نارٍ لم تنطفئ بعد. وقف الطفل في الزاوية، ينظر إلى الملك بعينين كبيرتين فارغتين، ثم قال بصوتٍ هادئٍ يشبه همس الريح في المقابر: «عمو… ليه حرقت بيتي؟ أنا ما عملت حاجة». لم يستطع الملك أن يرد، لم تخرج الكلمات من حلقه، وبقي ينظر إلى الطفل حتى ذاب في الظلام، لكن الصوت بقي يتردد في أذنيه، يتردد في جدران القصر، يتردد في عظامه: «ليه… ليه… ليه».
في الصباح، جاءه السيد وليام غراي كعادته، يحمل ملفاً جديداً، يبتسم ابتسامةً عريضةً صفراء، ويقول بصوتٍ هادئٍ مُطمئن: «العملية تسير حسب الخطة، جلالة الملك… الحديدة تحت الحصار، والموانئ مُغلقة، والجوع يقوم بعمله». نظر سليمان بن عبد الرحيم إلى الفراغ، ثم أومأ برأسه ببطء، وكانت يده ترتجف حتى سقطت قطرةٌ من العرق على الأرض، قطرةٌ بدت في عينيه كقطرة دمٍ طازجة. لم يسأل، لم يعترض، لم يتكلّم، فقط وقّع.
ومع كل توقيعٍ جديد، كانت الأشباح تتكاثر. في إحدى الليالي، استيقظ على صوت خطواتٍ خفيفةٍ في الرواق، فتح الباب، فوجد صفّاً طويلاً من الأطفال، كلهم يشبهون بعضهم، كلهم يحملون دمىً محترقة، كلهم ينظرون إليه بعيونٍ فارغةٍ ويقولون بصوتٍ واحدٍ هادئٍ مخيف: «عمو… ليه قتلتوني؟». حاول أن يغلق الباب، لكن الباب لم يُغلق، وبقوا واقفين ينظرون إليه حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء، لكن الصوت بقي، يرن في رأسه، يتسلل إلى أحلامه، صوتٌ واحدٌ لا يتوقف: «ليه… ليه… ليه».
في الأيام التي تلت، صار القصر كله يرن بأصواتهم. الحراس بدأوا يسمعون بكاءً في الغرف الفارغة، ورائحة الدخان في الرواق، وخطواتاً حافيةً على السجاد. لم يعد أحدٌ يجرؤ على الكلام، لأن الجميع صار يعرف أن الملك لم يعد ملكاً، بل صار سجيناً في قصره، سجيناً لأشباحٍ لا ترحل، أشباحٍ تنتظر شيئاً لم يعد أحدٌ يعرف ما هو. في إحدى الليالي، عندما كانت العاصفة تضرب النوافذ كأنها تريد اقتحام القصر، فتح الباب من تلقاء نفسه، ودخل الطفل مرةً أخرى، لكن هذه المرة لم يكن وحده، كان يقف خلفه صفٌ طويلٌ من الأمهات، يحملن أطفالهن المحترقين، وكلهن ينظرن إلى الملك بعيونٍ لا تبكي، لأن الدموع قد جفّت منذ زمن، وكلهن يقلن بصوتٍ واحدٍ هادئٍ مخيف: «ليه… ليه… ليه».
حاول الملك أن يصرخ، لكن الصرخة لم تخرج، حاول أن يهرب، لكن الأرجل لم تتحرّك، حاول أن يُغمض عينيه، لكن العيون بقيت مفتوحة. بقي جالساً على كرسيه، ينظر إليهن حتى طلع الفجر، ثم ذابوا في الضوء، لكن الصوت بقي، يرن في القصر، يرن في المدينة، يرن في الأرض كلها: «ليه… ليه… ليه». وكان يعرف أن الصوت لن يتوقف، لأن الجواب لم يُقال يوماً، ولن يُقال أبداً، لأن الجواب هو هو نفسه، هو الملك، هو العرش، هو البقاء، هو الخيانة التي صارت اسمه، وصارت قبره، وهو لا يزال حيّاً.
……… ملخص لفصول الرواية
في أعماق الجزيرة التي ابتلعت الشمس في رمالها، وأخفت تحت ثيابها الأبيض ذنوباً سوداء لا تُغسل، بدأت حكايةٌ لا يُرويها التاريخ الرسمي، بل تُهمس بها أشباح الأطفال في الليالي التي لا ينام فيها الضمير. روايةٌ تُبدأ بخيانةٍ صغيرةٍ في غرفةٍ سريةٍ في الستينيات، وتنتهي بكارثةٍ كبرى في العقد الثاني من الألفية، وما بينهما سلسلةٌ من التوقيعات على ورقٍ أبيض تحولت إلى أكفانٍ لأمةٍ بأكملها.
يبدأ الفصل الأول في زمن فيصل بن سعود، حين كانت الأغاني الثورية تتسلل من القاهرة كالسمّ في العسل، فارتعد العرش، وارتعشت اليد التي وقّعت على تدمير الثورة اليمنية الأولى، وعلى سكوتٍ مدوٍّ عن فلسطين، وعلى تحالفٍ سريٍّ مع الشيطان الغربي ليبقى العرش آمناً. كانت تلك الخيانة الأولى قطرة حبرٍ صغيرة، لكنها كانت بداية النهر الذي سيغرق الأمة بعد عقود.
وفي الفصل الثاني، يتسع النهر، ويصبح فيضاناً. ينتقل العرش إلى سلمان بن عبد الرحيم، ومعه جيلٌ جديدٌ من الأمراء يرتدون البدل الإيطالية ويحملون أحلاماً أكبر من أجدادهم، أحلاماً لا تقف عند حدود الجزيرة، بل تمتد إلى دمشق وبغداد وصنعاء وبيروت. يُرسم مثلثٌ شيطانيٌّ بين الرياض والدوحة وأنقرة، يُموّل بالبترودولار، يُروّج بالإعلام، يُفتح له الحدود، ليُطلق وحوشاً تكفيريةً تأكل الأمة من الداخل، ثم تُقصف عندما تنتهي صلاحيتها، ويبقى العرش آمناً، والشعب ينزف.
وفي الفصل الثالث، تنفجر الكارثة في اليمن. «عاصفة الحزم» التي بدأت كعمليةٍ محدودةٍ تحولت إلى إبادةٍ بطيئة، حصارٌ يقتل بالجوع قبل الرصاص، قنابلٌ عنقوديةٌ تُحصد الأطفال كالزرع، مستشفياتٌ تُقصف، مدارسٌ تُحرق، وكل ذلك باسم «استعادة الشرعية». يوقّع الملك سليمان، ويُشرف الأمير محمود بن سليمان، ويبتسم السيد وليام غراي، ويُعلن النصر كل يوم، بينما الأطفال يموتون كل ساعة.
وفي الفصل الرابع، تبدأ الأشباح تعود. أولاً كظلالٍ على الجدران، ثم كأصواتٍ في الرواق، ثم كأطفالٍ يقفون في الزاوية يحملون دمىً محترقة، يسألون سؤالاً واحداً لا إجابة له: «ليه؟». يحاول الملك أن يُغمض عينيه، لكن الأشباح لا تُغلق، يحاول أن يهرب، لكن القصر صار سجناً، يحاول أن يصرخ، لكن الصرخة تتجمد في حلقه. كل ليلةٍ يزداد عددهم، كل ليلةٍ يقتربون خطوة، كل ليلةٍ يضعون دميةً محترقةً جديدةً على عرشه، حتى لم يعد هناك مكانٌ لجلوسه.
وفي الفصل الخامس، ينهار كل شيء من الداخل. الملك لا يزال يوقّع، لا يزال يبتسم للكاميرات، لا يزال يُعلن النصر، لكنه في الداخل صار قبراً يمشي على قدمين. الدمية المحترقة التي وضعها الطفل على ركبته في إحدى الليالي لم تتركه، صارت تكبر، صارت تُفرغه، صارت قلبه الثاني الذي ينبض بالذنب. لم يعد يعرف إن كان هو الذي يحمل الدمية أم هي التي تحمله، لم يعد يعرف إن كان ملكاً أم شبحاً، لم يعد يعرف إن كان حيّاً أم ميتاً. وفي كل ليلةٍ كان الطفل يعود، يقف أمامه، ينظر إليه بعينين لا عمر لهما، ويقول بهمسٍ يملأ القصر: «الثمن… دلوقتي».
الرواية لا تنتهي بنهايةٍ دراميةٍ كبرى، لا انقلابٌ ولا اغتيالٌ ولا ثورة. تنتهي بملكٍ يجلس على عرشه، يحمل دميةً محترقةً على صدره، ينظر إلى الفراغ، ويسمع صوتاً واحداً لا يتوقف: «بسببك… بسببك… بسببك». تنتهي بأمةٍ نزفت حتى آخر قطرة، وبقي العرش واقفاً، ليس لأن أحداً يحميه، بل لأن لا أحدٌ بقي ليُسقطه. تنتهي بسؤالٍ واحدٍ معلّقٍ في الهواء، سؤالٌ لم يُجب يوماً، وسيظل يُسأل إلى أن يأتي يومٌ لا يعود فيه الفجر، يومٌ تكتمل فيه الدمية، ويُدفع فيه الثمن، ثمنٌ لم يكن ذهباً ولا نفطاً، بل روحاً، روح ملكٍ، روح أمةٍ، روح إنسانيةٍ بأكملها.
هكذا تُروى حكايةٌ لا بداية لها ولا نهاية، حكايةٌ بدأت بخيانةٍ صغيرةٍ في غرفةٍ سرية، وانتهت بأمةٍ كاملةٍ تُحرق على مذبح البقاء، حكايةٌ كتبها الملوك بدماء الأطفال، وقرأها الأطفال بأصواتهم التي لم تسكت، حكايةٌ عنوانها واحدٌ لا يتغيّر: ليه؟
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوريا في السنة الأولى لما بعد الأسد: تقرير من قلب الخراب
-
اكتشاف جبل الكرمل: رحلة في أعماق التاريخ والطبيعة من خلال كت
...
-
رواية: في قلب الإمبراطورية المالية: ملحمة الضمير الذي استيقظ
...
-
رواية : مفتاحٌ في صدر ميت
-
استثمارات بلاك روك في قطاع السلاح: رؤية معمقة نحو الثراء الذ
...
-
بلاك روك للمبتدئين: كيف تكون ناشطاً بيئياً وتاجر سلاح في نفس
...
-
لماذا يجب على العالم أن يسترد سيادته من الاحتكارات الخمس
-
من أنبوب كولن باول إلى أنابيب غاز ترامب: نفس النكتة،
-
سوريا تحت ظلال الفصل السابع رحلة نحو نهاية مكتوبة بأيدي من ظ
...
-
عندما تصبح الدراسات الجامعية برنامجاً حكومياً: رؤية حزب العم
...
-
عندما التقت الدبّة بالتنين: سقوط الهيمنة الغربية بهدوء
-
عبوديةٌ بثياب الحرية.. تحقيقٌ في استلاب الكرامة الإنسانية تح
...
-
من بغدادَ العلم إلى رياضِ و دوحة الخيانة: سقوطُ الضمير العرب
...
-
عندما يصبح الربحٌ إلهاً: سيرة الإبادة الرأسمالية:من بوتوسي إ
...
-
مجرمو السيليكون: من وادي الكاليفورنيا إلى قبور غزة
-
القرم إلى الأبد والغاز بالروبل
-
الاغتيالات : كيف تكشف ضربات إسرائيل الأخيرة عجزها الاستراتيج
...
-
الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك ( كتيب )..مقارنات بين امين وبري
...
-
الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك(كتيب )..مقارنات سمير امين مع بر
...
-
«الفراغ العظيم: انهيار النظام الإمبريالي وإمكانية العالم الج
...
المزيد.....
-
أردوغان يستقبل المخرج الفلسطيني باسل عدرا الفائز بأوسكار
-
توقيع اتفاق للتعاون السينمائي بين إيران وتركيا
-
تسرب مياه في متحف اللوفر يتلف مئات الكتب بقسم الآثار المصرية
...
-
إطلالة على ثقافة الصحة النفسية في مجتمعنا
-
مقتل الفنان المصري سعيد مختار في مشاجرة
-
الفرنسي فارس زيام يحقق فوزه السادس في بطولة الفنون القتالية
...
-
الفيلم التونسي -سماء بلا أرض- يحصد النجمة الذهبية بالمهرجان
...
-
الممثل بورتش كومبتلي أوغلو قلق على حياته بسبب -بوران- في -ال
...
-
-أزرق المايا-: لغز الصبغة التي أُعيد ابتكارها بعد قرنين من ض
...
-
وزير الثقافة الباكستاني يشيد بالحضارة الإيرانية
المزيد.....
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
المزيد.....
|