|
|
عبوديةٌ بثياب الحرية.. تحقيقٌ في استلاب الكرامة الإنسانية تحت رأية حكومة دي ويفر في بروكسل
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8540 - 2025 / 11 / 28 - 09:49
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
تحقيقٌ في استلاب الكرامة الإنسانية تحت راية «إصلاحات الرفاهية» في بروكسل ، قلب أوروبا المتدد
١ في بروكسل ، قلب أوروبا التي كانت تُغنّي ذات يوم أناشيد الحرية والمساواة والتضامن، يجري اليوم أكبر عملية إعادة استعبادٍ جماعي منذ سقوط النازية. ليست بالأغلال الحديدية، ولا بالسوط، ولا بالمعسكرات، بل بأناقةٍ قانونيةٍ مُرعبة: قطع إعانة البطالة عمّن تجاوز الخامسة والخمسين، رفع سن التقاعد إلى السابعة والستين، اشتراط خمسٍ وأربعين سنة عملٍ متصلة للحصول على معاشٍ كامل، وكأن الإنسان لم يُخلق إلا ليعمل حتى يموت، ثم يُدفن بلا اسم.
هذا ليس «إصلاحاً»، ولا «تكييفاً مع الواقع الديموغرافي»، بل عمليةُ نقلٍ هائلةٍ ومنظّمة للثروة من جيوب الطبقة العاملة والطبقة الوسطى إلى جيوب أقليةٍ ماليةٍ لا تتجاوز نسبتها واحد في المئة، تملك اليوم أكثر مما ملكته الطبقة الأرستقراطية الأوروبية قبل الثورة الفرنسية مجتمعة.
٢ الرواية الرسمية تُردّد في كل برلمانات القارة العجوز جملةً واحدة تتكرر كتعويذة: «شيخوخة السكان». لكن الأرقام تُكذّب التعويذة. نسبة من هم فوق الخامسة والستين إلى من هم في سن العمل في أوروبا الغربية اليوم (٢٠٢٥) هي ٣١٪، بينما كانت في الستينيات والسبعينيات ٢٨٪ فقط، عندما كان التقاعد في الستين أمراً عادياً، وفي الخامسة والخمسين أمراً ممكناً. أما الإنتاجية لكل عامل فقد ارتفعت منذ ذلك الحين أربعمئة بالمئة. الآلة وحدها تنتج اليوم ما كان يحتاج إلى ملايين الأيدي البشرية. فلماذا إذن نُطالَب بأن نعمل أكثر، أطول، أقسى؟
الجواب لا يقبع في الديموغرافيا، بل في قاعات الاجتماعات الزجاجية في نيويورك ولندن وجنيف، حيث تجلس الاحتكارات الأمريكية العابرة للقارات: BlackRock، Vanguard، State Street، Fidelity، JPMorgan Chase، Goldman Sachs. هذه الخمسة وحدها تملك حصصاً مسيطرة في أكثر من ٩٠٪ من الشركات الأوروبية الكبرى، من TotalEnergies إلى Siemens، من L’Oréal إلى ING. هي التي تُملي شروط «الحوكمة» على الحكومات، وهي التي تُقيّم «مخاطر الدين السيادي»، وهي التي تُصدر تقاريرها السنوية التي تُصبح مرجعاً مقدساً لكل وزير مالية أوروبي.
٣ في عام ٢٠١٨، أصدرت BlackRock تقريراً بعنوان «Dealing with the Next Downturn» طالب فيه صراحةً بـ«إصلاحات هيكلية جذرية في أسواق العمل الأوروبية» تشمل «رفع سن التقاعد، تقليص الإنفاق الاجتماعي، وإنهاء الإعانات طويلة الأمد». لم يكن التقرير سرياً، بل نُشر على موقع الشركة وأُرسل إلى كل حكومة أوروبية. بعد خمس سنوات فقط، بدأت الحكومات تنفيذه حرفياً، من اليونان إلى إسبانيا، من إيطاليا إلى بلجيكا. لم يكن صدفة. كان تنفيذ أوامر.
لأن هذه الاحتكارات لا تكتفي بامتلاك الأسهم، بل تملك الديون أيضاً. عندما ترفع وكالات التصنيف (التي تملكها نفس العائلات) تصنيف دولة ما، ترتفع فوائد الدين، فتضطر الحكومة إلى «توفير» المزيد من المال، فيقطعون من المعاشات والإعانات، فيذهب المال إلى دفع الفوائد لنفس الجهات. حلقةٌ شيطانيةٌ مثالية.
٤ في بلجيكا، حيث يجري اليوم الجزء الأقسى من المسرحية، أعلنت حكومة بارت دي ويفر في نوفمبر ٢٠٢٥ أنها «أنقذت الميزانية» بقطع إعانة البطالة عن ١٤٥ ألف شخص، معظمهم فوق الخامسة والخمسين. لكن من استفاد حقاً؟ في اليوم نفسه تقريباً، أعلنت شركة Ageas (التأمين البلجيكية الكبرى التي تملك BlackRock ٨٪ منها) عن أرباح قياسية بلغت ١,٤ مليار يورو، ووزّعت ٧٥٠ مليون يورو على مساهميها. نفس الشركة التي ترفض توظيف من تجاوز الخمسين لأن «تكاليف التأمين مرتفعة».
٥ الإضرابات الأوروبية الأخيرة لم تكن مجرد احتجاجات عابرة، بل كانت صرخة وجودية. في ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٥، توقفت بلجيكا كلياً للمرة الأولى منذ ١٩٩٢. لم تتحرك قطارة، لم تقلع طائرة من مطاري بروكسل وشارلروا، أغلقت موانئ أنتويرب وزيبروج، توقفت المدارس والمستشفيات والمستشفيات جزئياً. مئة وخمسون ألف إنسان خرجوا إلى شوارع بروكسل تحت المطر الغزير، يحملون لافتات تقول: «أعطينا أعمارنا للمجتمع، والآن يريدون أن يأخذوا كرامتنا».
في فرنسا، استمرت الإضرابات أسابيع ضد رفع سن التقاعد إلى ٦٤، وأحرق المتظاهرون صور ماكرون ولافتات BlackRock معاً. في إيطاليا، أضرب عمال ميناء جنوة لأن الحكومة سمحت لصندوق استثمار أمريكي بشراء الميناء. في إسبانيا، خرجت مئات الآلاف في مدريد وبرشلونة ضد «قانون التقشف الجديد» الذي كُتب في واشنطن. في ألمانيا، أضرب عمال السكك الحديدية والمطارات لأشهر، وهم يرددون: «نحن لسنا آلات».
كل هذه الإضرابات لم تكن من أجل زيادة رواتب، بل من أجل الحق في التوقف عن العمل قبل الموت.
٦ في الدول التي لا يزال يُطلق عليها «متخلفة»، كان الإنسان يُعامل كإنسان. في سوريا قبل الحرب وبعدها جزئياً، كان الرجل يتقاعد في الستين بعد خمس وعشرين سنة عمل فقط، والمرأة في الخامسة والخمسين بعد عشرين سنة. كان بإمكانك أن تترك وظيفتك في الخامسة والأربعين إذا أكملت السنوات، وتعيش على معاشٍ يكفي للطعام والدواء والسكن، وتبقى لك سنوات طويلة تمارس فيها ما تحب: تكتب شعراً، تزرع حديقة، تربي أحفادك، تُعلّم جيرانك مهنة، تصنع أثاثاً، تُصلح الراديوهات القديمة، تعيش.
في يوغوسلافيا الاشتراكية، كان التقاعد في الخامسة والخمسين للنساء والستين للرجال أمراً عادياً، وكان المعاش يكفي للسفر داخل البلقان كل صيف. في كوبا حتى اليوم، يتقاعد الطبيب والمهندس والمعلم في الستين أو قبلها، ويبقى له معاشٌ يكفيه ليعيش بكرامة، فيما الدولة تتكفل بالتعليم والصحة مجاناً. هناك، لم يكن الإنسان عبداً للسوق، بل كان مواطناً.
٧ أما في أوروبا «المتقدمة»، فيُقال للإنسان الذي قضى أربعين سنة في المصنع: «لا، لا يكفي. ابحث عن عمل جديد، حتى لو كانت ركبتاك لا تحملانك، حتى لو كان السوق يرفضك، حتى لو كانت تكاليف تأمينك الصحي تجعل أي صاحب عمل يهرب. إما أن تعمل، وإما أن تموت جوعاً». ثم يأتي الإعلام ليقول له: «أنت كسول»، أو «أنت غير مؤهل»، أو «أنت سبب العجز».
هذا هو معنى «العصا والجزرة» في أبشع صوره. العصا هي قطع الإعانة، والجزرة وعدٌ كاذب بـ«فرصة عمل» لا توجد إلا في الإحصاءات المزورة. الدراسات نفسها تثبت أن فرصة إيجاد عمل لمن تجاوز الخامسة والخمسين في بلجيكا أو فرنسا أو ألمانيا لا تتجاوز ١٥٪، وأن معظم الوظائف المقدمة هي عقود مؤقتة أو جزئية أوأجور بخسة. لكن الدراسات لا تُقرأ في البرلمانات، لأن من يكتب القوانين ليس من يعيش هذه الحقيقة.
٨ في الولايات المتحدة، حيث بدأت القصة، تملك نفس الاحتكارات الأمريكية الخمسة أكثر من ٨٨٪ من أسهم الشركات الأمريكية الكبرى. هناك، لا يوجد تقاعد حكومي حقيقي، ولا تأمين صحي مجاني، ويُجبر الناس على العمل حتى السبعين أو الخامسة والسبعين، ويموت الكثيرون في وظائفهم لأنهم لا يستطيعون تحمل تكاليف الدواء. هذا النموذج بالضبط يُراد تصديره إلى أوروبا، ليس بالدبابات، بل بالتقارير والتصنيفات والقروض المشروطة.
٩ لكن التاريخ يعلمنا أن الإنسان لا يقبل العبودية إلى الأبد. كلما ضاقت الحلقة، كلما ازدادت المقاومة. الإضرابات التي شلت بلجيكا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا في ٢٠٢٣–٢٠٢٥ لم تكن من أجل زيادة رواتب، بل من أجل الحق في التوقف عن العمل قبل الموت. كانت صرخة وجودية: «نحن لسنا آلات». كانت رفضاً لفكرة أن الإنسان مجرد «موارد بشرية» تُستخدم ثم تُرمى.
في بروكسل، في ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٥، وقف مئة وخمسون ألف إنسان تحت المطر الغزير، يحملون لافتة كُتب عليها بالفرنسية والهولندية والألمانية: «أعطينا أعمارنا للمجتمع، والآن يريدون أن يأخذوا كرامتنا». لم يعودوا يصدقون أن التقاعد في الستين رفاهية، بل يرونه حقاً إنسانياً أساسياً. لم يعودوا يقبلون أن تُقطع إعانة البطالة عن من أعطى عمره للمجتمع، ثم يُرمى في الشارع لأن السوق لم يعد بحاجة إليه.
١٠ في النهاية، المعركة ليست في البرلمانات، بل في الوعي. كلما فهم إنسانٌ واحد أن ما يُسمى «إصلاحات» هو في الحقيقة إعادة توزيع للثروة لصالح الأغنياء، كلما اقتربنا من يومٍ نستعيد فيه الزمن الذي سُرق منا، الزمن الذي كان يُمكن أن نعيش فيه، لا أن نعمل فقط حتى نموت.
ذلك اليوم ليس بعيداً. لأن الإنسان، حتى لو أُريد له أن يكون عبداً، يظل يحمل في داخله نار الحرية التي لا تنطفئ. وتلك النار، مهما حاولوا إخمادها بالقوانين والديون والتقارير، ستبقى مشتعلة حتى تُحرق الأغلال الجديدة، وتُعيد للإنسان كرامته، ووقته، وحياته.
……….
عبوديةٌ فاخرة برائحة عطر ديور ودم خفي
دليل المواطن الأوروبي لفن الموت البطيء بابتسامة هوليوودية إصدار خاص برعاية بلاك روك، فانغارد، المفوضية الأوروبية وأصدقائهم الذين لا ينامون أبداً
أيها يا شعب أوروبا الجميل، يا من كنتم تظنون أن العبودية انتهت مع إلغاء تجارة الرقيق في القرن التاسع عشر، لقد فاتكم الخبر السعيد: العبودية عاد، لكن هذه المرة ببدلة أرماني وربطة عنق هرمز وابتسامة لاري فينك. لا حاجة لسلاسل حديدية بعد اليوم، يكفي بطاقة ائتمانية فارغة ورسالة نصية من مكتب الرفاه تقول لك: «عذراً، لقد انتهت صلاحيتك كإنسان».
تخيلوا المشهد التالي، وهو ليس خيالاً، بل حدث حقيقي في بروكسل نوفمبر ٢٠٢٥: رجل في الثامنة والخمسين، عمل ٣٨ سنة سائق شاحنة، ظهره مكسور، ركفوف البصر جزئياً من السكري، يتلقى رسالة من RVA: «تهانينا! لقد تم إلغاء إعانتك البطالية لأنك لم تجمع ٣٠ سنة عمل كاملة (ملاحظة: السنوات التي قضيتها في إجازة مرضية بسبب انزلاق غضروفي لا تُحسب، لأن الألم ليس عذراً مقبولاً في اقتصاد السوق الحرة)». يذهب الرجل إلى مقابلة عمل في سوبرماركت، فيقول له المدير الشاب (٢٧ سنة، ماجستير إدارة أعمال من مدرسة تجارية في لوزان): «عظيم، لكن هل تستطيع رفع صناديق ٢٥ كيلو ٣٠٠ مرة يومياً؟» فيجيب الرجل: «لا». فيرد المدير بكل لطف: «ممتاز، إذن أستطيع رفضك قانونياً، وأنت الآن رسمياً كسول، وستُخصم منك ٤٠٪ من دخل الإدماج لأنك رفضت عرض عمل مناسباً». ثم يعود الرجل إلى بيته، فيجد فاتورة كهرباء جديدة مرتفعة ٤٧٪ «بسبب أزمة الطاقة»، فيضحك ضحكة طويلة مريرة، ثم يجلس ويموت بهدوء، لأن حتى الموت أرخص من العيش.
هذه ليست قصة درامية، هذه إحصائية يومية في بلجيكا ٢٠٢٥. وفي اليوم نفسه، أعلنت بلاك روك أن أرباحها السنوية تجاوزت ٨٣٠ مليار دولار، وأنها اشترت للتو ٧٪ إضافية من أسهم Ageas البلجيكية، وأن لاري فينك اشترى قصراً جديداً في توسكانا بـ٤٨٠ مليون يورو نقداً. نقداً، يا جماعة، ليس قروضاً، نقداً، من المال الذي وفّرناه نحن بإلغاء إعاناتكم.
لكن لا تظنوا أن الأمر يقتصر على بلجيكا. في فرنسا، عندما خرج ثلاثة ملايين شخص إلى الشوارع لأن ماكرون أراد رفع سن التقاعد إلى ٦٤، أرسل ١٤ ألف شرطي لكسر رؤوسهم، ثم ظهر في خطاب تلفزيوني وقال بكل برود: «نحن نحمي نظام التقاعد». يعني كما لو أن حرامي دخل بيتك وكسر أثاثك ثم قال لك: «أنا أحمي ممتلكاتك». وبعد أسبوع، أعلنت TotalEnergies (التي تملك بلاك روك وفانغارد ١٤٪ منها) أرباحاً قياسية ٢١ مليار يورو، ووزّعت ٩ مليارات على مساهميها، بينما كان المتقاعدون الفرنسيون يبحثون في القمامة عن علب تونة منتهية الصلاحية.
في ألمانيا، أضرب عمال السكك الحديدية ٥٢ يوماً متتالية في ٢٠٢٤٢٠٢٥، فما كان من الحكومة إلا أن استوردت سائقين من رومانيا بأجر أقل، ثم قالت للألمان: «انظروا، السوق يعمل!». السوق يعمل فعلاً، يعمل على تحويلكم إلى عبيد رخيصين يتنافسون مع عبيد أرخص، حتى تصبح الأجر في النهاية صفراً، والعمل حتى الموت هو الخيار الوحيد.
وفي إيطاليا، باعوا ميناء جنوة لصندوق استثمار أمريكي، ثم تفاجأوا أن العمال أضربوا. فماذا فعلت الحكومة؟ أرسلت الشرطة لتفريقهم، ثم أعلنت أن «الاستثمار الأجنبي ضروري للنمو». نعم، نموّ أرباح بلاك روك، طبعاً.
الآن دعونا نكون صرحاء قليلاً، بما أن الكذب أصبح مهنة رسمية: هم لا يريدونكم تعملون أكثر لأن هناك نقصاً في اليد العاملة. هم يريدونكم تعملون أكثر لأن الآلة أصبحت تنتج كل شيء، ولم يعد هناك حاجة لكم. لكنهم لا يستطيعون أن يقولوا لكملايين الناس: «شكراً، لقد انتهت صلاحيتكم كبشر، يمكنكم الآن الذهاب للموت بهدوء». هذا غير لائق اجتماعياً. فاخترعوا حلاً أنابغاً: يجبرونكم على العمل حتى تموتوا فعلاً، لكن بطريقة قانونية، وبابتسامة، وبكلمات مثل «إصلاح» و«استدامة» و«مسؤولية فردية». يعني يقتلونك ويطلبون منك أن تشكرهم.
وإذا قلت لهم: «لكن في سوريا كانوا يتقاعدون في الخامسة والأربعين!»، سيضحكون حتى يبكوا، ثم يرسلون لك طائرة بدون طيار لتتذكر لماذا لا يسمحون لأحد أن يعيش بكرامة خارج نطاق سيطرتهم. وإذا قلت: «لكن في كوبا لا يزال الناس يتقاعدون في الستين ويعيشون!»، سيقولون لك: «نعم، ولذلك نحن نحاصرهم منذ ٦٥ سنة، لا نريد عدوى الكرامة أن تنتقل».
الخلاصة يا عبيدي الأعزاء، يا من تظنون أنفسكم مواطنين: لقد انتصرتم في الحرب العالمية الثانية ضد النازية، فاقتلوكم اليوم بقانون، بفائدة مركبة، بابتسامة مصرفي، وبلافتة مكتوب عليها «نحن نحمي مستقبلكم». أنتم الآن في أجمل سجن في التاريخ: سجن بلا جدران، لكن بفواتير، وبطاقات ائتمان، وبرامج تلفزيون واقع يقول لكم كل ليلة إن الفقير مذنب بفقره.
فاستمتعوا بالحرية الجديدة: حرية أن تموت واقفاً في وظيفة لا تريدها، حرية أن تُدعى كسولاً لأنك تريد أن ترى أحفادك قبل أن يدفنوك، حرية أن تُرمى في الشارع لأنك مريض، حرية أن تشكر بلاك روك لأنها سمحت لك بالتنفس حتى الآن.
وإذا شعرت يوماً أنك تريد الثورة، تذكر فقط أن لاري فينك يملك يختاً جديداً طوله ١٤٣ متراً، ويحتاج إلى طاقم كامل من العبيد فوق الستين، راتب ممتاز: ثلاث وجبات يومياً، سرير في المخزن، وصورة سيلفي مع لاري إذا كنت محظوظاً.
فابتسم، يا عبدي الجميل، أنت في أوروبا الحرة، حيث الكرامة ماتت، والموت ما زال يعمل دواماً كاملاً، وكلاهما برعاية بلاك روك.
……..
ملاحظة : المقصود بـ«قلب أوروبا المتدد» في سياق المقال هو بلجيكا نفسها، وتحديداً بروكسل، لأسباب رمزية وواقعية في آن واحد: جغرافياً: بلجيكا تقع فعلياً في المركز الهندسي لأوروبا الغربية، بين فرنسا وألمانيا وهولندا ولوكسمبورغ، وهي نقطة التقاء الشمال بالجنوب والشرق بالغرب. سياسياً: بروكسل هي العاصمة الفعلية للاتحاد الأوروبي. هنا تجلس المفوضية الأوروبية، والبرلمان الأوروبي (جزئياً)، ومجلس أوروبا، ومقر حلف الناتو. أي قانون أو «إصلاح» يُطبّخ في بروكسل ينتشر بعد أسابيع إلى باريس وبرلين ومدريد وروما كأنه فيروس. رمزياً: بلجيكا دولة صغيرة (١١,٥ مليون نسمة)، لكنها تُعتبر «المختبر الأوروبي» لكل السياسات النيوليبرالية القاسية. عندما تريد بلاك روك أو المفوضية الأوروبية أو صندوق النقد الدولي تجربة فكرة جديدة في قطع المعاشات أو رفع سن التقاعد أو إلغاء إعانات البطالة عن المسنين، تبدأ دائماً من بلجيكا، لأنها: دولة اتحادية معقدة، فإذا نجحت التجربة هنا فستنجح في أي مكان. شعبها منقسم لغوياً (فلمنكيون ووالون)، فسهل تشتيت الغضب الشعبي. نقاباتها قوية جداً، فإذا استطاعوا كسرها هنا، فسيكسرونها في أي مكان آخر. لذلك عندما قلتُ «قلب أوروبا المتدد»، كنتُ أقصد أن ما يحدث اليوم في شوارع بروكسل وأنتويرب ولييج وشارلروا ليس مجرد أزمة بلجيكية محلية، بل هو نبض المرض الأوروبي كله. إذا سقطت الكرامة الاجتماعية في بلجيكا، فسوف تسقط في كل القارة خلال سنوات قليلة، لأن بروكسل هي المكان الذي يُصنع فيه المستقبل الأوروبي… أو بالأحرى يُباع فيه.بضعة مكاتب زجاجية في حي الأعمال الأوروبي، على بُعد خطوات من تمثال مانيكن بيس الذي يتبول بلا مبالاة على كل ما تبقى من أحلام الطبقة العاملة.باختصار: بلجيكا ليست مجرد دولة صغيرة في الخريطة، بل هي القلب المتدد (أي المتورّم بالألم والمقاومة معاً) الذي إذا توقف عن النبض، توقفت معه آخر بقايا أوروبا الاجتماعية التي كنا نعرفها.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من بغدادَ العلم إلى رياضِ و دوحة الخيانة: سقوطُ الضمير العرب
...
-
عندما يصبح الربحٌ إلهاً: سيرة الإبادة الرأسمالية:من بوتوسي إ
...
-
مجرمو السيليكون: من وادي الكاليفورنيا إلى قبور غزة
-
القرم إلى الأبد والغاز بالروبل
-
الاغتيالات : كيف تكشف ضربات إسرائيل الأخيرة عجزها الاستراتيج
...
-
الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك ( كتيب )..مقارنات بين امين وبري
...
-
الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك(كتيب )..مقارنات سمير امين مع بر
...
-
«الفراغ العظيم: انهيار النظام الإمبريالي وإمكانية العالم الج
...
-
من أوشفيتز إلى غزة: دراسة نقدية أدبية في شهادات بريمو ليفي و
...
-
«قمرٌ على سريرٍ وميلٌ في قامة» كتيب حول مداخلة في الشعر العر
...
-
-من أوشفيتز إلى غزة: ذاكرة الناجين وصرخة الأحياء- ..بين شهاد
...
-
«دمٌ تحت الشمس ودمعٌ تحت القمر» مقارنة بين رواية رجال تحت ال
...
-
سوريا الأسد: مقاومة العقل أمام دواعش الريال والدرهم
-
رواية : ارض الرماد والأنين ..فصلان
-
رواية : شجرةُ لينَ تُضيءُ الكونَ
-
الصين: أمل البشرية في اشتراكية عالمية
-
العقوبات: مِعول السيادة
-
إمبراطوريات إبداعية بلا متاعب
-
سلاح الكرامة والسيادة في مواجهة نفق الدولة الفاشلة
-
«الجنجويد والدعم السريع: استعمار جديد في السودان»..ملخص كتاب
...
المزيد.....
-
الأونروا: أكثر من 32 ألف شخص مشردين من مخيمات الضفة
-
نعي
-
تحقيق العدالة الاجتماعية رهين بإعادة النظر في إشكاليات التنم
...
-
من تدريب الموظفين إلى لعب كرة القدم: حلول لافتة من الشركات ا
...
-
Belgium: three-day national strike against the government’s
...
-
الآلاف يتظاهرون في عدد من المدن والبلدات السورية احتجاجا على
...
-
WFTU Statement for the 29th of November International Day of
...
-
بيان اتحاد النقابات العالمي بمناسبة الـ 29 تشرين الثاني اليو
...
-
الوزير الأول بالجزائر: شركات مصر العاملة في بلادنا نموذج للم
...
-
محكمة غرب الاسكندرية ترفض طلب عمال شركة ا?سكندرية لتداول الح
...
المزيد.....
-
ملامح من تاريخ الحركة النقابية
/ الحاج عبدالرحمن الحاج
-
تجربة الحزب الشيوعي السوداني في الحركة النقابية
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح
...
/ ماري سيغارا
-
التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت (
...
/ روسانا توفارو
-
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
/ جيلاني الهمامي
-
دليل العمل النقابي
/ مارية شرف
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها
/ جهاد عقل
المزيد.....
|