|
|
رواية: في قلب الإمبراطورية المالية: ملحمة الضمير الذي استيقظ ( أو رواية دمية بعين واحدة )
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8548 - 2025 / 12 / 6 - 09:41
المحور:
الادب والفن
رواية قصيرة جدا : دمية بعينٍ واحدة
عنوان اخر للرواية في قلب الإمبراطورية المالية: ملحمة الضمير الذي استيقظ
تُقدَّم هذه الرواية، التي تُحمل عنواناً يُهمس به في الظلام والنور معاً «في قلب الإمبراطورية المالية»، كواحدةٍ من أكثر الأعمال الأدبية طموحاً وخطورةً في عصرنا، ليس لأنها تروي قصةً فحسب، بل لأنها تُعلن ميلاد نوعٍ جديدٍ من الملحمة: ملحمةٌ لا تُكتب بالسيوف ولا بالمدافع، بل بصمتٍ جماعيٍّ يهزّ أركان العالم، بضربةٍ واحدةٍ من الضمير الإنساني الذي كان نائماً، فاستيقظ فجأةً، كأن كل البشر في لحظةٍ واحدةٍ سمعوا اسم طفلةٍ تُدعى لين.
لا تُشبه هذه الرواية أيّاً من سابقاتها في الأدب العالمي، وإن كانت تُحمل في دمها جيناتٍ من أعظم ما كُتب. فيها نجد صدىً بعيداً لـ «الإخوة كارامازوف» في صراع الضمير الذي يتجسّد في شخصياتٍ لا تُدرك بعدُ أنها تُحاكم نفسها، وفيها نلمس ظلال «الحرب والسلام» في تصوير حركة الشعوب التي تبدو فوضويةً لكنها في الحقيقة تُحرّكها قوةٌ أخلاقيةٌ لا تُقاوم، وفيها نرى لمحةً من «الجريمة والعقاب» حين يُواجه رجلٌ في الطابق السابع والستين شبح طفلةٍ لم يرها يوماً لكنها أصبحت مرآته، وفيها، أيضاً، نجد نبض «الأم» لغوركي في صوت الأمهات اللواتي يرفضن أن يُدفن أطفالهن مرةً أخرى، وفيها رائحة «القدس الغريق» لمنيف في تصوير المدن التي تُغرقها الأموال ثم تُنقذها الكرامة.
لكنها، مع كل هذا الإرث، تتجاوز كل سابقاتها لأنها لا تروي ثورةً سياسيةً فحسب، بل تروي ثورةً أنطولوجيةً: لحظةً يستعيد فيها الإنسان جوهره المُسلب منذ أن صار «رأس المال» هو الإله الوحيد. إنها ملحمةٌ لا تُكتب بالدم، بل بالصمت، بالجلوس، بالتوقف، بالرفض، بالبكاء، بالضحك، بالكرواسون الساخن الذي يُقدَّم مجاناً في الصباح. إنها ملحمةٌ لا تُرفع فيها الأعلام الحمراء لتُعلن الحرب، بل لتُعلن السلام، سلاماً يبدأ باسم طفلةٍ صغيرةٍ ماتت لكي يحيا العالم.
تُبنى الرواية على بنيةٍ دراميةٍ فريدةٍ تُشبه السيمفونية البيتهوفنية في تعاقب حركاتها: تبدأ ببطءٍ ثقيلٍ في الطابق السابع والستين حيث يضغط لاري فينك زراً واحداً، فتنفجر قنبلةٌ في رفح، ثم تتسارع الإيقاعات مع كل فصلٍ، كل جزءٍ، كل صوتٍ يُضاف إلى الكورس العظيم: صوت جان لوك في باريس، صوت ماريا في فرانكفورت، صوت روزا في روما، صوت ليلى في برلين، صوت خافيير في مدريد، صوت ياسر في غزة، حتى تصل إلى الذروة في اللحظة التي يتوقف فيها العالم كله، في الثالث من أكتوبر، ليس ليموت، بل ليُولد من جديد.
أما اللغة، فهي لغةٌ تُعيد للكلمة قداستها المفقودة. لا تُروى الأحداث ببرودٍ تقريريٍّ، بل بلهفةٍ شاعريةٍ تجعل القارئ يشمّ رائحة القهوة الإثيوبية في مكتب لاري، ويسمع صوت القنبلة في رفح، ويحسّ بطعم الكرواسون الساخن في برلين، ويبكي مع روزا على شرفتها، ويرقص مع الأطفال في غزة. إنها لغةٌ تُحوّل الرقم إلى دم، والصمت إلى ثورة، والموت إلى حياة. لغةٌ لا تُخفي بشاعة الواقع، بل تُغرقها في جمالٍ أعمق، جمال الإنسان الذي يرفض أن يبقى عبداً.
وفي قلب هذه الملحمة تقف لين، ليست بطلةً تقليديةً، بل شبحاً مقدساً، طفلةً ماتت لكنها لم تمت، طفلةً صارت رمزاً، صارت نشيداً، صارت ضميراً للعالم كله. إنها الطفلة-الكورال، الطفلة-الكاتاليزاتور، الطفلة التي بموتها أنهت عالماً وبدأت آخر. كل شخصيةٍ في الرواية، من لاري فينك إلى بيير موران، من روزا إلى ياسر، تُحرّكها لين، تُعذّبها لين، تُنقذها لين. إنها الشخصية الأكثر حضوراً رغم غيابها الجسدي، لأنها لم تعد جسداً، صارت فكرةً، صارت ضميراً، صارت حباً.
تُنهي الرواية، في الجزء الأخير، بمشهدٍ لا يُمكن أن يُكتب إلا بالدموع: أطفال غزة يلعبون كرة، وياسر يركض، ويصرخ «اليوم نلعب كرة»، وكلمة «اليوم» تتردد كأنها أجمل كلمةٍ في تاريخ البشرية. إنه المشهد الذي يُتوّج الملحمة كلها، مشهدٌ لا يحتاج إلى تفسير، مشهدٌ يقول كل شيء: لقد انتصرنا. انتصرنا لأن طفلاً في غزة يلعب كرة دون أن يُقاطعه صوت قنبلة. انتصرنا لأن لين ماتت لكنها عاشت، عاشت في كل ضحكةٍ، في كل خطوةٍ، في كل كرةٍ تُركل في شارع الشهداء.
هذه ليست روايةً سياسيةً، ولا روايةً ثوريةً بالمعنى التقليدي. هذه روايةٌ ميتافيزيقية، روايةٌ دينيةٌ بلا إلهٍ سوى الإنسان، روايةٌ تُعلن أن الخلاص لا يأتي من السماء، بل من الأرض، من صمت شعبٍ، من بكاء أمٍّ، من ضحكة طفلٍ، من اسم طفلةٍ صغيرةٍ صارت، بموتها، أعظم قوةٍ عرفها التاريخ.
«في قلب الإمبراطورية المالية» ليست مجرد كتاب. إنها حدثٌ أدبيٌّ، حدثٌ أخلاقيٌّ، حدثٌ إنسانيٌّ. إنها اللحظة التي يُدرك فيها القارئ أن الأدب لا يزال قادراً على تغيير العالم، ليس بأن يتنبأ بالثورة، بل بأن يُولد الثورة في قلبه. إنها الرواية التي ستُقرأ بعد مئة سنة، وسيُقال عنها: هنا، هنا بالضبط، بدأ العالم الجديد. بدأ باسم لين.
إلى القارئ الذي سيفتح هذه الصفحات في زمنٍ قد يكون أقرب مما نعتقد أو أبعد مما نتخيل
ما ستُقرأه ليس مجرد رواية، بل خريطةٌ للجحيم الذي نعيش فيه الآن، خريطةٌ مُرسومة بدقةٍ مخيفةٍ لأنها لا تتنبأ بمستقبلٍ بعيد، بل تُكشف عن حاضرٍ مُقنَّعٍ ببريقٍ زائفٍ يُسمّى «الاستقرار المالي» و«النمو الاقتصادي» و«الأمن الاستراتيجي». إنها خريطةٌ للاستعمار الجديد، استعمارٌ لم يعد يحتاج إلى سفنٍ شراعيةٍ ولا إلى مدافعٍ ولا إلى جنودٍ يرفعون أعلاماً على أبراجٍ بعيدة، بل يكفيه مكاتب مكيّفة في مانهاتن وبوسطن ولندن، يكفيه أزراراً تُضغط في صمت، يكفيه أرقاماً تتحرك على شاشاتٍ سوداء لتُحوّل الدم إلى ذهب، والأطفال إلى «أضرارٍ جانبيةٍ مقبولة».
الاستعمار القديم كان تنافسياً، وحشياً، صاخباً، يتقاتل فيه الإمبراطوريون على قطعةٍ من الأرض أو ميناءٍ أو طريق توابل. كان البريطاني يحسد الفرنسي، والفرنسي يتربص بالإسباني، وكان الجميع يعرفون أن الغنيمة محدودة، فيجب أن تُقسَّم بالسيف. أما الاستعمار الجديد، استعمار القرن الحادي والعشرين الذي بلغ ذروته في ثلاثينيات هذا القرن، فقد تخلّى عن التنافس وارتدى ثوب التحالف المقدّس: تحالفٌ غريبٌ، شيطانيٌّ في نقائه، يجمع بين ستة كياناتٍ ماليةٍ عملاقةٍ (بلاك روك، فانغارد، ستيت ستريت، فيديليتي، جي بي مورغان، غولدمان ساكس) لتشكّل كتلةً واحدةً لا تتصارع، بل تتكامل، كتلةً تملك من الثروة والنفوذ ما يفوق مجموع مائتي دولةٍ سيادية، كتلةً لا تحتاج إلى جيوشٍ تقليدية، لأنها تملك الجيش الأقوى: جيش الأرقام، جيش الصفقات، جيش القروض التي تُخنق بها شعوبٌ بأكملها، جيش الأسهم التي تُموّل القنابل التي تُسقط على أطفالٍ في غزة أو في أي مكانٍ آخر يُقرّرون أنه «يحتاج إلى استقرار».
هذا التحالف الجديد لم يعد يحتاج إلى احتلال الأرض، يكفيه أن يحتل المستقبل: مستقبل تقاعد المعلّم في كاليفورنيا، مستقبل علاج مريض السرطان في أثينا، مستقبل تعليم طفلةٍ في لشبونة، كلها رُهنت في صناديق هذه الكتلة الست، كلها صارت رهينةً لعائدٍ ربع سنويٍّ يجب أن يرتفع، ولو كان الثمن دماءً في رفح أو جوعاً في إفريقيا أو ديوناً تُكبّل أجيالاً في أمريكا اللاتينية. هذا هو الاستعمار النهائي: استعمارٌ لا يُرى، استعمارٌ لا يُسمع، استعمارٌ يُقدَّم لك كخدمةٍ ماليةٍ في تطبيقٍ على هاتفك، استعمارٌ يبتسم لك كل صباح في إعلانٍ يقول «استثمر في مستقبلك»، بينما هو في الحقيقة يستثمر في موتك البطيء أو موت غيرك السريع.
الرواية التي بين يديك لا تكتفي بتسجيل هذا الجحيم، بل تتجاوزه إلى لحظة الخلاص، لحظةٌ قد تأتي غداً أو بعد عشر سنوات أو بعد عشرين، لا أحد يعلم، لكنها قادمةٌ لا محالة، لأن الضمير الإنساني، مهما طال سباته، يستيقظ دائماً عندما يُسمع اسم طفلةٍ تُدعى لين. تتتبع الرواية فصول هذه الاحتكارات بدقةٍ مرعبة، منذ لحظة الزر الأولى في الطابق السابع والستين، مروراً باستيقاظ الضمائر في أثينا وباريس وبرلين وروما ولشبونة ولندن، وصولاً إلى اللحظة التي تنهار فيها الإمبراطورية المالية كلها، ليس بقوة السلاح، بل بقوة الصمت، بقوة الجلوس، بقوة الكرواسون الساخن الذي يُقدَّم مجاناً، بقوة اسمٍ واحدٍ يتردد في كل مكان: لين.
قد تكون الأحداث التي تُروى هنا قد وقعت بالفعل عندما تقرأ هذه السطور، أو قد تكون على وشك أن تقع، أو قد تكون لا تزال في طور التكوّن في أعماق الضمائر التي لم تُعلن بعدُ رفضها. لكن التسلسل الزمني لم يعد مهماً، لأن الرواية لا تتنبأ بمستقبل، بل تُكشف عن جوهر حاضرنا: أننا نعيش الآن تحت استعمارٍ واحدٍ، موحّدٍ، شاملٍ، أكثر وحشيةً من كل الاستعمارات القديمة مجتمعة، لأنه يُقدَّم لنا كحرية، ويُباع لنا كأمان، ويُفرض علينا كمصيرٍ لا مفرّ منه.
ما ستُقرأه هو شهادةٌ على لحظة التحوّل الكبرى، لحظةٌ قد تكون أقرب مما نعتقد، لحظةٌ سيُقال عنها في الكتب المستقبلية: هنا بدأ العالم الجديد، هنا استيقظ الشعب، هنا قال كفى، هنا بدأ كل شيءٍ باسم طفلةٍ صغيرةٍ ماتت لكي يحيا العالم. ادخل إذن، أيها القارئ، إلى قلب الإمبراطورية المالية، ولا تخف، فالنور الذي سيُضاء في آخر النفق ليس نوراً عادياً، إنه نور لين.
الفصل الأول: الزر الذي لا يُسمع صوته
1
في الطابق السابع والستين من برجٍ يُدعى رسمياً «ون فاندربيلت» ويُدعى في أحلام الملايين «البرج الذي يأكل السماء»، كان الصبح لا يدخل إلا بإذن. زجاجٌ مصفّح بثلاث طبقات يحجب ضوء نيويورك الحقيقي، ذلك الضوء الخشن الذي يتسلل بين أنياب المباني ويلطخ الوجوه بظلالٍ لا ترحم، ويترك مكانه ضوءاً مصطنعاً، أبيضَ نقياً، يشبه الثلج الذي لم يمسسه قدم إنسان. درجة الحرارة ثابتة على اثنتين وعشرين مئوية بالضبط، كما لو أن الكون نفسه توقف عن التنفس خوفاً من إزعاج من في الداخل. لا ريح، لا صوت، لا رائحة إلا عبير القهوة الإثيوبية العضوية التي تُحضَّر في آلةٍ إيطالية تكلف أكثر من راتب عامل مصري لعشر سنوات. الكوب من البورسلين الأبيض، بلا نقش، بلا ذكرى، بلا خطأ. كل شيء في الغرفة يهمس بلغة واحدة: أنت في مكان لا يحدث فيه شيء بالصدفة.
جلس لاري فينك على كرسيٍّ صُمّم خصيصاً لعموده الفقري، كرسيٍّ يتذكر انحناءات جسده أكثر مما تتذكر زوجته الثانية. كان يرتدي بدلة رمادية من القماش الذي يُسمونه «سوبر ١٨٠»، خيوطه أدق من شعرة طفل، لونها يتغير قليلاً بحسب زاوية الضوء، كأنها جلد حرباء ميتة. ربطة عنقه حريرٌ من نسيجٍ يدويٍّ في كومو، عقدتها مثالية، كأنما قاستها آلة سويسرية وليس يد إنسان. يداه، تلك اليدان اللتان لا ترتجفان أبداً، موضوعتان على مسندين من الجلد الأسود، أظافره لامعة كأنها طليت للتو بطبقة من الضمير المفقود. على الطاولة أمامه شاشة سوداء واحدة، لا إطار لها، تبدو وكأنها ثقبٌ في الواقع. لا أيقونات، لا نوافذ، لا تشتيت. فقط سطر واحد في الأعلى، بخطٍ صغير لا يُرى إلا لمن يعرف أنه موجود: «اليوم: ٥ ديسمبر ٢٠٢٥».
رفع الكوب إلى شفتيه. القهوة ساخنة بدرجة مثالية، مرارتها لطيفة، كأنها تعتذر سلفاً عن كل ما سيحدث بعد قليل. شرب رشفة طويلة، ببطء، كأنما يمتص منها طاقة سرية. ثم وضع الكوب في المكان نفسه، في الدائرة الخفيفة التي تركها على الرخام الأسود، كأن الكون لا يحتمل أن يتحرك شيء سنتيمتراً واحداً خارج إرادته. تنفّس بعمق، تنفساً لا يسمعه أحد، ثم مدّ إصبعه السبابة نحو الشاشة. لم يكن هناك ماوس، لا لوحة مفاتيح، لا أزرار ظاهرة. فقط إصبعه، وتلك النقطة السوداء اللامعة التي تنتظره كعينٍ مفتوحة في جبين إلهٍ غاضب.
لم يكن يفكر في غزة. لم يكن يفكر في الأطفال. لم يكن يفكر في الأمهات اللواتي سيصبحن بعد ساعاتٍ أمهاتٍ بلا أطفال. لم يكن يفكر في شيءٍ يمكن لعقلٍ بشري عادي أن يسميه تفكيراً. كان يفكر بلغة الأرقام، تلك اللغة الوحيدة التي لا تكذب، التي لا تبكي، التي لا تسأل «لماذا». في رأسه، كان هناك جدولٌ بسيط: إذا اشترينا اليوم عشرة ملايين سهم إضافية في لوكهيد مارتن بسعر ٥٨٧ دولاراً، فإن العائد المتوقع خلال الربع الأول من ٢٠٢٦ سيرتفع بنسبة ٣.٤٪، وهذا يعني ٨٧ مليار دولار إضافية في محفظة الصندوق السيادي النرويجي، وفي صندوق تقاعد المعلمين في كاليفورنيا، وفي حسابات توفير ملايين الأمريكيين الذين لا يعرفون أن مدخراتهم تشتري قنابل تُسقط على رؤوس أطفال لا يعرفون حتى اسم نيويورك.
كان يعرف أن القنبلة التي ستُشترى بجزء من هذا الاستثمار هي من طراز MK-84، وزنها ألفا رطل، دائرة تدميرها ٢٥٠ متراً، وأنها ستُسقط من طائرة F-35 تكلف كل ساعة طيران فيها ٤٤ ألف دولار. كان يعرف أن الطيار سيضغط زراً مشابهاً للزر الذي سيضغطه هو الآن، لكن في الجو، على ارتفاع عشرين ألف قدم، حيث لا يسمع صوت الأمهات. كان يعرف كل هذا، لكنه لم يكن يشعر به. الشعور شيءٌ للضعفاء، والضعفاء لا يجلسون في الطابق السابع والستين.
أغمض عينيه للحظة. في تلك اللحظة، مرّت أمامه صورة قديمة، صورة من زمنٍ مضى، عندما كان في الثلاثين، وكان يعمل في قسم السندات في بنكٍ صغير، وكانت زوجته الأولى لا تزال تحبه، وكان ابنه الوحيد لا يزال يناديه «بابا» بصوتٍ يذيب الحديد. في تلك اللحظة، شعر بشيءٍ يشبه الوخز في صدره، وخزٌ خفيف، كأن ذبابة صغيرة هبطت على قلبه ثم طارت. ثم فتح عينيه. اختفى الوخز. عاد الرخام الأسود، عاد الكرسي، عادت الشاشة، عاد العالم كما ينبغي أن يكون.
مدّ إصبعه. لم يكن هناك صوت، لا نقرة، لا اهتزاز. فقط سطرٌ أخضر صغير ظهر في أعلى الشاشة: «تم تنفيذ الأمر: شراء ١٠,٠٠٠,٠٠٠ سهم – لوكهيد مارتن – تمت التسوية الفورية». لم يبتسم. لم يتنهد. فقط أرخى كتفيه قليلاً، كأنما ألقى بحملٍ ثقيل لا يراه أحد. ثم رفع الكوب مرة أخرى، شرب الرشفة الأخيرة، وضعه في المكان نفسه تماماً. في تلك اللحظة بالذات، في رفح، انفجرت القنبلة. لم يسمعها أحد في الطابق السابع والستين. لم يسمعها لاري فينك. لكن الطفلة لين سمعتها. سمعتها جيداً. كانت آخر صوت في حياتها.
في الخارج، بدأت الشمس ترتفع فوق مانهاتن، لكنها لم تصل إلى نافذته. الزجاج المصفح يمنعها. في الداخل، ظل الضوء الأبيض النقي، ظلّ الهواء في اثنتين وعشرين درجة، ظلّ الصمت المطلق. وفي مكانٍ ما، في قلب هذا الصمت، كان هناك طفلٌ صغير لم يعد يبكي بعد الآن.
2
في اللحظة نفسها التي اختفى فيها السطر الأخضر عن شاشة لاري فينك، كانت السماء فوق رفح لا تزال مظلمة، لكنها لم تكن مظلمة كما يظلم الليل في المدن الآمنة، بل كانت ظلمةً مشحونةً بضوءٍ كاذب، ضوءُ القنابل المضيئة التي تُعلَّق في الهواء كنجومٍ مزيَّفة ثم تنطفئ تاركةً وراءها عتمةً أشد قتامة. كان الهواء ثقيلاً برائحة البارود المحمَّص والخرسانة المحترقة، رائحةٌ لا تُشبه شيئاً في العالم سوى نفسها، كأن الموت نفسه اختار له هذا العطر الوحيد الذي لا يُنسى.
في زقاقٍ ضيق يُدعى شارع الشهداء، بيتٌ من طابقين لا يزال واقفاً بأعجوبة بينما جيرانه قد صاروا أكواماً من الغبار والحديد، كانت لين بنت السبع سنين مستيقظةً تماماً. لم تكن تستطيع النوم منذ أيام، ليس خوفاً فحسب، بل لأن النوم صار خيانةً صغيرة في هذا الزمن؛ كلما غفى إنسانٌ هنا، استيقظ على بيتٍ أقل، أو على أم لم تعد أماً، أو على فراغٍ في السرير حيث كان ينام أخٌ أكبر. كانت لين جالسةً على الأرض، ظهرها إلى جدارٍ متشقق، وفي حجرها دمية قماشية فقدت إحدى عينيها منذ أسابيع. كانت تُصلحها بإبرة صدئة وخيطٍ أحمر كانت أمها تقول إنه «للمناسبات السعيدة فقط». لم يعد هناك مناسبات سعيدة، لكن الخيط الأحمر كان كل ما تبقّى.
كانت أمها، أمينة، في المطبخ الصغير، تحاول أن تُشعل موقداً من الحطب المبلول لتسخين ما تبقّى من ماء في قوطية صفيح. كان صوتها يأتي منخفضاً، همساً متكسراً، وهي تردّد آية الكرسي بينما أصابعها ترتجف على عود الثقاب الذي يرفض الاشتعال. في الغرفة المجاورة، جدّة لين، الحاجة أم خليل، ممدة على فراشٍ قديم، عيناها مفتوحتان على السقد مصلّيتين على شقوقٍ رسمتها قذائف سابقة، كأنها تقرأ فيها مصير العائلة قبل أن يقرأه أحد.
فجأة، اهتزّ الهواء. لم يكن صوتاً بعد، بل ضغطاً مفاجئاً على طبلتي الأذن، كأن يد عملاقة وضعت كفَّها على العالم كله وضغطت. ثم جاء الصوت، صوتٌ لا يشبه صوتاً، صوتٌ يُمزّق الزمن نفسه، صوتٌ يُعلن أن هناك لحظةً قبل ولحظةً بعد، وأن الفرق بينهما هو كل شيء. لين رفعت رأسها. لم تصرخ. كانت قد تعلمت منذ أشهر أن الصرخة لا تُغير مسار القنبلة. رأت أمها تتجمد في المطبخ، يدها لا تزال ممسكة بعود الثقاب، ثم رأت النار الصغيرة تشتعل أخيراً في الموقد، ناراً بريئة، صفراء، لا تعلم أنها ستكون آخر ضوء تراه عيناها.
ثم جاء الضوء الأبيض. ليس ضوء الشمس، ولا ضوء القنابل المضيئة، بل ضوءٌ مطلق، كأن الله نفسه فتح عينيه فجأة في قلب الظلام. ابيضّ كل شيء، ثم احمرّ كل شيء، ثم لم يعد هناك شيء. لم يكن هناك سقف، ولا جدران، ولا دمية، ولا خيط أحمر، ولا موقد، ولا جدة، ولا أم. كان هناك فقط صمتٌ غريب، صمتٌ أعمق من كل صمت عرفه العالم، صمتٌ يشبه اللحظة التي يتوقف فيها القلب قبل أن يقرر هل سيعود إلى النبض أم سيبقى في العدم.
لين لم تمت فوراً. هذا هو الجزء الأكثر قسوة. طارت في الهواء كورقةٍ خفيفة، جسدها الصغير يدور ببطء، كأن الزمن نفسه تباطأ ليستمتع بمنظرها. رأت البيت ينهار تحتها كأنه بيتٌ من ورق، رأت أمها تُرفع في الهواء أيضاً، ذراعاها ممدودتان كأنها تحاول احتضان السماء، رأت الدمية تطير بعيداً، عينها الواحدة لا تزال مفتوحة بدهشة طفل. ثم ارتطمت لين بالأرض، أو بما تبقّى من الأرض، وكسرت ساقها، وكسرت ضلوعها، وكسر شيءٌ آخر داخلها لا يملك اسماً. لم تصرخ. لم يعد لديها صوت. فقط فتحت عينيها، عينين كبيرتين سوداوين كانتا دائماً تضحكان حتى في أسوأ الليالي، ورأت السماء قد صارت حمراء، ثم رأت شيئاً أبيض يتساقط ببطء، لم تكن تعرف أنه غبار عظام البيت وعظام أهله.
في تلك اللحظة، سمعت صوتاً واحداً فقط، صوت أمها يناديها من بعيد، صوتاً ضعيفاً، مكسوراً، لكنه صوت أم: «لين… لين يا بنتي…» ثم توقف الصوت. توقف كل شيء. لم يى لين عينيها ببطء، كأن جفنيها ثقيلان جداً، وشعرت بشيءٍ دافئ يتدفق من أذنها، ثم من فمها، ثم لم تشعر بشيء. كانت آخر فكرة مرت في رأسها صغيرة جداً، بريئة جداً، لا تُشبه أفكار الأطفال الذين يعيشون في أماكن آمنة: «لو كنتُ أسرع قليلاً في خياطة عين الدمية، لكانت رأتني وهي تطير».
ثم صار كل شيء أسود، ليس أسود الليل، بل أسودٌ مطلق، أسودٌ لا يوجد فيه حتى حلم. في الطابق السابع والستين، كان لاري فينك قد انتهى من قهوته، ووضع الكوب في المكان نفسه تماماً، ووقف ليمدّ ظهره، ونظر من النافذة المصفحة إلى شمس نيويورك الصاعدة بسلام، وابتسم ابتسامةً خفيفة لا يراها أحد، ابتسامةً تشبه الرضا، أو النسيان، أو كليهما. لم يكن يعلم أن هناك طفلةً في رفح اسمها لين قد توقفت للتو عن التنفس، وأن اسمها سيُكتب بعد سنوات على تمثالٍ صغير في بهو مبنى كان يملكه هو، تمثالٍ سيبكي عليه الأطفال الذين لم يعودوا يخافون من السماء. لم يكن يعلم، ولو علم، لربما شرب رشفةً أخرى من القهوة الإثيوبية، ثم ضغط زراً آخر.
3
في بوسطن، حيث ينتهي الصيف ببطء ويترك وراءه رطوبةً مالحة تُلتصق بالجلد كذنبٍ لا يُغتفر، كان مبنى فانغارد يقف على ضفاف نهر تشارلز كسفينةٍ بيضاء هادئة لا تُحرّكها ريح. ليس فيه بريقُ الزجاج المتوحش الذي يغطي مانهاتن، بل حجرٌ قديمٌ من القرن التاسع عشر، نوافذُه صغيرة كأنها عيونٌ متأملة، وفوق مدخله نقشٌ لاتيني بالكاد يُقرأ: «In Hoc Signo Vinces»، لكن لا أحد يتوقف ليفكر أي صليبٍ يُقصد الآن. في الداخل، كان الهواء بارداً، نظيفاً، يحمل رائحة الورق القديم الممزوجة برائحة القهوة الرخيصة التي يشربها الموظفون العاديون، لأن فانغارد تُحب أن تُظهر للعالم أنها «متواضعة»، وأنها «مملوكة لعملائها»، وأنها ليست كباقي الوحوش.
في الطابق الرابع عشر، في مكتبٍ بلا نافذة حقيقية، بل شقٍّ ضيق يطل على جدارٍ من الطوب الأحمر، جلس توماس جيه غرينوود، مدير محفظة «النمو العالمي المستدام – الفئة أ»، أمام ثلاث شاشاتٍ منحنية تُظهر أعمدةً خضراء وحمراء تتراقص كأرواحٍ في عرسٍ لا يُدعى إليه أحد. كان في الثامنة والأربعين، شعره بدأ يخفّ من الأعلى كأن القلق يأكله من الرأس أولاً، ويرتدي قميصاً أبيض مكوياً بعناية زوجته التي لا تزال تؤمن أن عمله «يخدم الناس». على مكتبه صورةٌ واحدة فقط: ابنته إليزابيث في الخامسة عشرة، تضحك في معسكر صيفي، خلفها بحيرةٌ زرقاء كأنها رسمت بالفوتوشوب. كلما شعر بالضياع، ينظر إلى الصورة ويكرر لنفسه أن كل هذا من أجلها، من أجل تعليمها، من أجل ألا تعرف يوماً معنى الدين العالي أو الخوف من فواتير المستشفى.
كان التقرير الذي يقرأه الآن بعنوانٍ طويلٍ يُخفي في ثناياه الدم: «تأثير التوترات الجيوسياسية المستمرة في شرق المتوسط على أداء قطاع الدفاع والطيران في الأسواق الناشئة والمتقدمة – الربع الرابع ٢٠٢٥». كلمة «توترات» كانت تُستعمل خمس عشرة مرة في الصفحات الثلاثين، كأنها تعويذةٌ تُبعد شبح الكلمة الحقيقية: إبادة. وكلمة «أداء» كانت تتكرر أكثر، لأن الأداء هو الإله الوحيد الذي يُعبد هنا بلا تردد. في الصفحة السابعة عشرة، كان هناك جدولٌ صغير، بخطٍ صغير، يُظهر أن سعر سهم لوكهيد مارتن قد صعد بنسبة ٨.٧٪ منذ بداية «التوترات الجديدة»، وأن العائد المتوقع للصندوق إذا ما زاد التعاقدات مع «الشريك الاستراتيجي في الشرق الأوسط» سيتجاوز ١٤٪ سنوياً. تحت الجدول، تعليقٌ بخط يده: «ممتاز».
ابتسم توماس ابتسامةً خجولة، كابتسامة طفلٍ يُكافأ على واجبه المدرسي. لم تكن ابتسامةً عريضة، بل تلك الابتسامة الصغيرة التي تُخفي خلفها سنواتٍ من التدريب على عدم السؤال. كان قد تعلّم منذ زمن أن الكلمات الكبيرة مثل «أخلاق» و«ضمير» و«دم» لا مكان لها في الطابق الرابع عشر. هنا، هناك كلمتان فقط: «عائد» و«مخاطر». والمخاطر دائماً «محسوبة»، حتى لو كانت المخاطر المحسوبة هي أن يُدفن طفلٌ تحت أنقاض بيته لأن قنبلةً صنعتها شركةٌ يملك صندوقُ تقاعد المعلمين في أوهايو ٣.٤٪ من أسهمها.
رفع عينيه عن الشاشة للحظة، نظر إلى الصورة. إليزابيث تضحك، أسنانها بيضاء، عيناها خضراوان كعيني أمه. تذكّر يوماً، قبل خمس سنوات، عندما سألته في السيارة وهما عائدان من مباراة كرة قدم: «بابا، ليه فيه حروب؟» لم يعرف ماذا يجيب. قال شيئاً عن «الناس السيئين» وعن «الدفاع عن الحرية»، ثم غيّر الموضوع إلى البيتزا التي سيطلبونها. منذ ذلك اليوم، لم تُعد تسأل. كبرت فجأة، صارت تقرأ الأخبار، صارت تنظر إليه أحياناً بنظرةٍ غامضة، كأنها تفهم شيئاً لم يجرؤ هو على فهمه.
عاد إلى التقرير. في الصفحة الأخيرة، كانت هناك توصيةٌ نهائية بخطٍ عريض: «زيادة الوزن النسبي في قطاع الدفاع بنسبة ٤٪ إضافية، مع التركيز على الشركات ذات العقود طويلة الأمد مع الحلفاء الاستراتيجيين». أي: اشترِ المزيد من الموت، لأن الموت يدفع فواتير الجامعات الجيدة. ضغط على زر «موافقة»، ثم زر «إرسال إلى لجنة الاستثمار». لم يتردد. التردد يُكلف المال، والمال هو الزمن، والزمن هو حياة إليزابيث، أو هكذا يُردد لنفسه كل صباح.
في تلك اللحظة بالذات، في رفح، كانت لين لا تزال تطير في الهواء، جسدها الصغير يدور ببطء، وكان الدم يتدفق من أذنها قبل أن تسقط على الأرض. لم يكن توماس يعرف اسمها، ولم يكن ليهمّه لو عرف. كان يعرف فقط أن صندوق التقاعد الذي يديره قد حقق عائداً إضافياً بقيمة ٢٣٤ مليون دولار في الدقائق الخمس الأخيرة، وأن هذا العائد سيُترجم إلى منحةٍ دراسية كاملة لابنته في جامعة ييل إذا استمر المنحنى التصاعدي. ابتسم مرةً أخرى، ابتسامةً أوسع هذه المرة، ثم فتح بريده الإلكتروني وكتب رسالةً قصيرة إلى زوجته: «اليوم كان يوماً جيداً في العمل. أحبكما».
في الطابق السابع والستين في مانهاتن، كان لاري فينك قد غادر مكتبه منذ ساعة، تاركاً وراءه كوب القهوة الفارغ في مكانه المثالي. في بوسطن، كان توماس يغلق شاشاته واحدةً تلو الأخرى، يطفئ الأنوار، يأخذ معطفه، يخرج إلى الشارع حيث ينتظره الهواء الرطب والحياة العادية. لم يكن يعلم أن اسمه مكتوبٌ الآن، بخطٍ صغير جداً، في تقريرٍ داخليٍّ لن يُقرأه أحد، كواحدٍ من مئة واثنين وأربعين شخصاً وافقوا اليوم على شراء المزيد من القنابل التي ستُدفن بها لين وأمها وجدتها ودميتهما ذات العين الواحدة. لم يكن يعلم، ولو علم، لربما تنهّد تنهيدةً صغيرة، ثم تذكّر ابتسامة إليزابيث في الصورة، ثم مشى نحو البيت حيث تنتظره عشاءٌ دافئ، وكأس نبيذ، ونومٌ عميق بلا أحلام.
لأن الأحلام، في هذا العالم، هي رفاهيةٌ لا يستطيع تحمّلها إلا الذين لا يضطرون إلى اختيار بين ضميرهم ومستقبل أبنائهم. وتوماس، مثل ملايين غيره، قد اختار منذ زمن، ولم يعد يسأل.
4
في باريس، حيث كان الخريف يُلقي على المدينة لوناً أصفر باهتاً كأنه ذكرى حبٍ قديمة، كان مقهى «ليه دو ماغو» لا يزال يحتفظ برائحة التبغ القديم والقهوة المرة والأسئلة التي لا تُجاب. في الخارج، كانت الأوراق تتساقط على الرصيف بصمتٍ يشبه صمت الرجال الذين يعرفون أن شيئاً ما قد انكسر في العالم ولم يعد يُصلح. في الداخل، تحت الضوء الأصفر الخافت لمصباحٍ نحاسيٍّ متعب، جلس جان لوك على طاولةٍ صغيرة قرب النافذة، كوبٌ من النبيذ الأحمر أمامه، هاتفه المتصدّع موضوعٌ بجانبه كأنه جثةٌ صغيرة لم تُدفن بعد.
كان في الثانية والستين، جسده لا يزال قوياً من سنوات العمل في السكك الحديدية، لكن عينيه قد صارتا رماديتين كأن السنوات قد حرقتا فيهما كل لون. لحيته البيضاء الكثّة، التي كان يُفتخر بها في الشباب، صارت الآن كأنها ثلجٌ متسخ سقط على وجهٍ لم يعد يبتسم إلا نادراً. يداه، تلك اليدان العريضتان اللتان رفعا في السابق لافتاتٍ كتب عليها «العمل حق والخبز للجميع»، كانتا الآن ترتجفان قليلاً وهو يمسك بالكأس، ليس من البرد، بل من شيءٍ أعمق، شيءٍ يشبه الغضب الذي لم يعد يجد له مخرجاً.
كان قد فُصل من عمله قبل ثلاث سنوات، في ما سُمّي «إعادة هيكلة»، وهي كلمةٌ لامعة تُخفي خلفها دائماً دموع رجالٍ في الخمسين والستين لا يعرفون كيف يبدأون من جديد. منذ ذلك اليوم، صار يأتي كل مساء إلى المقهى نفسه، يجلس في المكان نفسه، يطلب النبيذ نفسه، ويحدّق في الشارع كأنه ينتظر أحداً لن يأتي. كانوا ينادونه في الحي «الرفيق جان»، لقبٌ من زمنٍ مضى، زمنٍ كان فيه للكلمات وزن، وللأحلام شوارع تُمشى فيها بلا خوف.
في تلك اللحظة، وصلته الإشعارة. هاتفه المتصدّع أضاء بضوءٍ أزرق باهت، وكأن العالم الحديث يُذكّره بأنه لا يزال موجوداً حتى في أبسط أشكاله. فتح الخبر بإصبعٍ ثقيل. عنوانٌ قصير: «مجزرة جديدة في رفح: أكثر من ثمانين شهيداً في غارةٍ واحدة». ثم الصورة. صورةٌ لا يُمكن لعقلٍ بشري أن يحتملها طويلاً: طفلةٌ صغيرة، رأسها مائلٌ بزاويةٍ غير طبيعية، عيناها مفتوحتان على السماء، وفي حضنها دميةٌ ممزقة بعينٍ واحدة. تحت الصورة، اسمٌ واحد: لين.
لم يصرخ جان لوك. لم يضرب الطاولة. فقط رفع عينيه ببطء إلى السقف، كأنه يبحث عن شيءٍ في الجبس المتشقق، عن إجابةٍ كتبها أحدٌ هناك منذ زمن ولم ينتبه إليها أحد. ثم أخرج من جيبه علبة غولواز زرقاء، قديمة، متجعدة، كأنها آخر ما تبقّى له من شبابه. أشعل سيجارةً بولاعةٍ معدنية صدئة، نفس الولاعة التي كان يستخدمها في الإضرابات الكبرى في التسعينيات، عندما كانوا يوقفون القطارات أياماً ويغنون الأممية تحت المطر. استنشق الدخان بعمق، كأنما يستنشق ذكرىً، ثم نفثه ببطء، دخانٌ أبيض يتصاعد نحو المصباح كأنه صلاةٌ لا يعرف كيف يُصليها.
كان يعرف أن هناك صلة. لم يكن يعرف الأسماء كلها، لم يكن يعرف لاري فينك ولا توماس غرينوود، لكن قلبه العجوز، قلب عاملٍ قضى أربعين سنة يحمل المطارق واللافتات، كان يعرف أن هناك خيطاً رفيعاً يربط بين هذه الطفلة وبين فاتورة الكهرباء التي لم يعد يستطيع دفعها، وبين تقاعده الذي صار ٨٤٠ يورو شهرياً، وبين الخبر الذي قرأه الأسبوع الماضي عن أن صندوق تقاعد السكك الحديدية الفرنسية قد استثمر في «قطاع الدفاع» لأن «العائد مضمون». كان يعرف أن ماله، ذلك المال القليل الذي يُقتطع من راتبه لأربعين سنة، قد سافر عبر المحيطات، وتحوّل إلى قنبلة، وعاد إلى هنا كصورةٍ لطفلةٍ ميتة تحمل اسماً.
تذكّر ابنته ماري، التي هاجرت إلى كندا لأنها لم تجد عملاً في فرنسا، تذكّر كيف كانت تبكي في المطار وهي تقول له: «بابا، ليه العالم صاير هيك؟» تذكّر كيف لم يعرف ماذا يجيب، فاحتضنها فقط، ووعدها بأن الأمور ستتحسن. لم تتحسن. صارت أسوأ. صار العالم مكاناً تُقتل فيه الأطفال لأن رجالاً في مكاتب مكيّفة يضغطون أزراراً، وتُدفن فيه أحلام الشيوخ تحت أنقاض ديونٍ لا تنتهي.
أشعل سيجارةً ثانية من الأولى، ونظر إلى الشارع. كان هناك شابٌ وفتاةٌ يمشيان متعانقين، يضحكان، كأن العالم لا يزال بخير. شعر بغصّةٍ في حلقه، ليست من الدخان، بل من شيءٍ أكبر، شيءٍ يشبه الخجل. خجلٌ من أنه عاش طويلاً، ولم يستطع أن يوقف هذا كله. خجلٌ من أنه كان يؤمن يوماً بأن الإضرابات والمظاهرات كافية، بينما الشرّ كان يتعلم لغةً جديدة، لغة الأرقام، لغة الصمت، لغة المكاتب المكيّفة.
ثم فعل شيئاً لم يفعله منذ سنوات. أخرج من جيبه دفترٌ صغيرٌ جلديٌّ أسود، متهالك، كان يحمل فيه عناوين الرفاق القدامى، أولئك الذين شاركوه الخبز والنضال والأمل. فتح الدفتر بيدٍ ترتجف أكثر الآن، وبدأ يكتب بخطٍ كبير، متعرج، كأنه يحفر في الورق: «الرفاق، لقد عدنا إلى نقطة الصفر. طفلة اسمها لين ماتت اليوم في رفح بقنبلةٍ دفعنا ثمنها جميعاً. لم يعد يكفي أن نكون غاضبين. حان الوقت أن نكون خطراً».
كتب العنوان الأول، ثم الثاني، ثم الثالث. كانوا لا يزالون أحياء، بعضهم في السبعين، بعضهم في الثمانين، لكنهم أحياء. كانوا ينتظرون إشارةً لم تأتِ منذ زمن. والآن، جاءت الإشارة، على شكل صورةٍ لطفلةٍ ميتة في هاتفٍ متصدّع.
دفع حسابه، ترك على الطاولة ورقةً من فئة عشرين يورو لكوبٍ يكلف أربعة، وقام. مشى ببطء، خطواتٍ ثقيلة، لكن فيها شيءٌ جديد، شيءٌ يشبه العزم. في الخارج، كانت الأوراق لا تزال تتساقط، لكنها بدت له الآن كأنها راياتٌ صغيرة تُعلن بداية شتاءٍ مختلف. لم يكن يعرف بعد كيف، ولا متى، ولا أين، لكنه كان يعرف شيئاً واحداً: لين لم تمت عبثاً. اسمها سيُكتب الآن في مكانٍ آخر، في دفترٍ أسود صغير، في قلب رجلٍ عجوز قرر أن يعود إلى الشارع، وأن يُعيد للكلمات وزنها، وللأحلام شوارعها، حتى لو كان ذلك يعني أن يموت واقفاً كما عاش.
في الطابق السابع والستين، كان لاري فينك يركب المصعد إلى الأسفل، متجهاً إلى سيارته السوداء التي تنتظره لتأخذه إلى بيته في هامبتونز. في بوسطن، كان توماس غرينوود يُقبّل ابنته على جبينها وهو يتمتم «تصبحين على خير». في باريس، كان جان لوك يمشي تحت المطر الخفيف الذي بدأ يهطل فجأة، ودموعه تمتزج بالماء على وجهه، ولا أحد يرى. كانوا ثلاثة رجال في مدنٍ مختلفة، في عوالمٍ مختلفة، لكن خيطاً رفيعاً، خيطٌ من دمٍ ونار، قد بدأ يربط بينهم، وسيشدّه التاريخ يوماً، بقوة، حتى يلتقوا، سواء أرادوا ذلك أم لا.
5
في فرانكفورت، حيث يجري نهر الماين بصمتٍ كأنما يحمل على ظهره ذنوب أوروبا كلها، كانت الشقة في الطابق السادس من بنايةٍ قديمة في حيّ بوكنهايمر لاندشتراسه لا تزال مضاءةً بمصباحٍ واحدٍ صغير، ضوءٌ أصفر خافت يتسلل من بين ستائرٍ ثقيلة من المخمل الأخضر الذي صار لونه باهتاً كأحلام الستينيات. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، لكن ماريا فون هيسن، أستاذة الفلسفة المتقاعدة من جامعة غوته، لم تكن تفكر في النوم. النوم صار بالنسبة إليها خيانةً صغيرة، كما كان بالنسبة للآخرين في أماكن أخرى، لكن خيانتها كانت من نوعٍ مختلف: خيانة الفكر، خيانة الكلمة، خيانة الذاكرة.
كانت تجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ قديم، من النوع الذي كان يُصنع قبل الحرب، أمام مكتبٍ مغطى بكتبٍ مفتوحة وأوراقٍ مبعثرة وكوب شايٍ برد منذ ساعات. شعرها الأبيض، الذي كان يوماً أسوداً كجنح الليل، مربوطٌ بعقدةٍ فضفاضة، ووجهها، الذي لا يزال يحمل آثار جمالٍ كان يُذهل طلابها في السبعينيات، محفورٌ الآن بخطوطٍ دقيقة كأنها خريطة لكل الأسئلة التي لم تُجب. عيناها، زرقاوان كالبحر قبل العاصفة، مثبتتان على شاشة حاسوبٍ قديم من نوع ماك بوك، الشاشة الوحيدة المضيئة في الغرفة، وعليها صورةٌ واحدة: طفلةٌ صغيرة ممدة على الأرض، جسدها مكسور، عيناها مفتوحتان، وفي حضنها دميةٌ بعينٍ واحدة.
كانت ماريا قد رأت الصورة قبل ساعة، في تغريدةٍ من حسابٍ فلسطيني مجهول، ثم بحثت عن الاسم، لين، لين محمد أحمد، سبع سنوات، رفح. لم تستطع أن تترك الشاشة منذ ذلك الحين. كانت تنظر إلى الطفلة كأنها تنظر إلى مرآةٍ مظلمة، مرآةٍ تعكس وجهها هي نفسها قبل سبعين سنة، عندما كانت طفلةً في درسدن، وعندما سقطت القنابل النارية في فبراير ١٩٤٥، وعندما رأت أمها تذوب أمام عينيها كشمعةٍ في الريح. كانت تعرف هذا الوجه. كانت تعرف هذه العينين المفتوحتين على سؤالٍ لا يُجاب. كانت تعرف هذا الصمت.
أغمضت عينيها للحظة، ورأت درسدن تحترق من جديد، ورأت نفسها طفلةً تجري حافيةً بين الأنقاض، وصوتها ينادي «ماما» في فراغٍ لا يرد. ثم فتحت عينيها، ورأت لين. كانت المسافة بين الحدثين ثمانين سنة، وبين المكانين آلاف الكيلومترات، لكن الزمن والمكان قد انهارا فجأة في تلك اللحظة، وصارت لين هي، وهي لين، وكلتاهما ضحيةٌ لنفس الآلة، آلةٍ لم تعد تحتاج إلى طائراتٍ تحمل صليباً معقوفاً أو نجوماً، بل تكفيها أوامر شراء وبيع تُنفَّذ في صمتٍ مكيّف.
بدأت أصابعها ترتجف فوق لوحة المفاتيح. كانت تكتب رسالةً إلكترونية إلى ابنتها الوحيدة، كاترينا، التي تعيش في برلين، وتعمل في منظمةٍ غير حكومية تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من كرامة العالم. بدأت الكلمات تتدفق، بطيئةً أولاً، ثم كأن سدّاً انهار داخلها:
كاترينا، حبيبتي، أكتب إليكِ وأنا أنظر إلى وجه طفلةٍ اسمها لين. ماتت قبل ساعات في رفح. قنبلةٌ أمريكية الصنع، مولوها أناسٌ يجلسون في مكاتبٍ في نيويورك وبوسطن ولندن، أناسٌ يتقاضون رواتبهم من صناديق تقاعدنا، من مدخراتنا، من أحلامنا الصغيرة بأن نعيش بكرامة. أكتب إليكِ وأنا أشعر أن التاريخ يكرر نفسه، لكن بطريقةٍ أكثر بشاعة، لأن الشرَّ هذه المرة لم يعد يرتدي زيّاً عسكرياً، بل بدلةً مصممةً في ميلانو، ولم يعد يصرخ، بل يهمس في اجتماعاتٍ مغلقة، ولم يعد يحتاج إلى أفران غاز، بل يكفيه أن يضغط زراً فيضيع شعبٌ بأكمله.
كنتُ أعتقد، عندما كنتُ في عمركِ، أننا انتصرنا على الشر. كنتُ أعتقد أن درسدن وأوشفيتز وهيروشيما كانت كافية لتعليم البشرية أن هورة الدم ليست طريقاً. لكني أدركتُ الآن أننا لم نهزم الشر، بل علّمناه أن يتكلم بلغةٍ أخرى، لغة الأرباح، لغة العائد على الاستثمار، لغة «الضرورات الجيوسياسية». الشرّ الآن لا يقتل بالرصاص، بل بالديون، بالعقوبات، بالقنابل «الدقيقة» التي تدّعي أنها تفرّق بين طفلٍ ومسلح، ثم تُدفن الطفل وتُبرئ نفسها بتقريرٍ داخلي.
أخشى، يا كاترينا، أننا نعيش في عالمٍ لم يعد فيه الشرّ يحتاج إلى وجه. يكفيه رقم حساب مصرفي. يكفيه أن يُسمى «السوق»، «الاستثمار»، «النمو». أخشى أننا سلّمنا مفاتيح مصائرنا لحفنةٍ من المحاسبين الذين لا ينامون إلا إذا ارتفع مؤشرٌ ما بنقطةٍ عشرية. أخشى أنني، أنا التي نجوتُ من النار، قد شاركتُ دون أن أدري في إشعال نارٍ أخرى، لأن راتبي التقاعدي، ذلك الراتب الذي أعيش منه بصعوبة، مُستثمرٌ في صناديق لا أعرف أسماءها، وتلك الصناديق تملك أسهماً في شركاتٍ تصنع القنابل التي قتلت لين.
توقفت عن الكتابة. كانت يداها ترتجفان الآن بشدة، ودموعٌ صامتةٌ تسيل على وجهها، دموعٌ لا تصرخ، لأنها تعرف أن الصرخة لم تعد تُسمع. ثم رفعت يدها، وكأنها تريد أن تمسح الشاشة، أن تمسح وجه لين، أن تمسح الدم، أن تمسح الذنب. لكنها لم تفعل. فقط أغلقت الرسالة دون أن ترسلها. ضغطت على «حذف»، ورأت الكلمات تختفي حرفاً حرفاً، كأنها تخجل من نفسها.
ثم وقفت، ببطء، كأن جسدها يحمل وزن مئة سنة. مشت نحو النافذة، فتحت الستارة، ونظرت إلى الماين الهادئ، إلى الأضواء البعيدة، إلى المدينة النائمة التي لا تعلم أنها نائمة على بركان. بكت بهدوء، بكاءً عميقاً، بكاءً لا يُسمع، كأنها تبكي كل الأطفال الذين ماتوا وهم ينظرون إلى السماء بسؤالٍ واحد: لماذا؟ بكت درسدن، وبكت لين، وبكت نفسها، وبكت ابنتها التي ستستيقظ غداً في برلين وستفتح هاتفها وسترى الصورة نفسها، وستشعر بالعجز نفسه، وستكتب رسالةً أخرى لن ترسلها.
ثم فعلت شيئاً لم تفعله منذ عقود. فتحت خزانةً قديمة، أخرجت منها صندوقاً خشبياً صغيراً، فتحته، وأخرجت شارةً حمراء صغيرة، شارةً كانت ترتديها في الستينيات عندما كانت تتظاهر ضد حرب فيتنام، شارةً كتب عليها بخطٍ يدويٍّ باهت: «لا للإمبريالية». مسكت الشارة بين أصابعها، وضعتها على صدرها، فوق القلب، وهمست لنفسها كلمةً واحدة، كلمةٌ لم تنطقها منذ زمن: «كفى».
في الطابق السابع والستين، كان لاري فينك قد وصل إلى بيته، وكان كلبه يركض نحوه فرحاً. في بوسطن، كان توماس يحتضن ابنته النائمة في سريرها. في باريس، كان جان لوك يمشي تحت المطر حاملاً دفترَه الأسود. في فرانكفورت، كانت ماريا فون هيسن، الناجية من درسدن، تقف أمام النافذة، وشارةٌ حمراء صغيرة على صدرها، ودموعٌ على وجهها، وفي قلبها قرارٌ صامت: لين لن تموت وحدها. ستُولد من رمادها شيءٌ آخر، شيءٌ لم يعد العالم يتوقعه من عجوزٍ في الثمانين، لكن التاريخ، أحياناً، يختار أضعف الأيدي ليحمل أثقل الرايات.
أطفأت المصباح. أغلقت النافذة. وفي الظلام، بدأت تكتب من جديد، هذه المرة على ورقٍ حقيقي، بخطٍ ثابت، رسالةً لن تحذفها: «إلى كل من بقي فيه ذرةٌ من ضمير: حان الوقت. لين تنتظرنا».
6
في تل أبيب، حيث ينتهي النهار بضوءٍ ذهبيٍّ كأنه يُغسل من ذنبٍ لا يُعترف به، كان السطح العلوي لبرجٍ زجاجيٍّ في شارع روتشيلد يتحوّل إلى حديقةٍ معلّقةٍ فوق المدينة، حديقةٍ من أشجار الزيتون المُعتنى بها بعنايةٍ مرضية، ومصابيح خافتة تُضيء بضوءٍ برتقاليٍّ يُخفي التجاعيد ويُجمّل الأكاذيب. كان الحفل قد بدأ منذ ساعة، حفلٌ لشركةٍ ناشئة جديدة تُدعى «سكاي شيلد تكنولوجيز»، اسمٌ برّاق يُخفي أنها تُطوّر خوارزمياتٍ للطائرات المُسيّرة تجعلها تُميّز بين «هدفٍ عسكريٍّ» و«مدنيٍّ» في أقل من ٣٢ ميلي ثانية، وهي، بالطبع، لا تُخطئ أبداً، إلا في بعض الحالات التي تُصنّف «أضراراً جانبيةً مقبولة».
كان الجميع هناك: مبرمجون في الثلاثين بقمصانٍ بيضاء مفتوحة، ومستثمرون من وادي السيليكون يرتدون نظاراتٍ ذكية، وجنرالاتٌ متقاعدون ببدلاتٍ رمادية، وفتياتٌ يحملن كؤوس الشمبانيا بأيدٍ مرتجفة من الإثارة أو من الكوكايين، لا فرق. الموسيقى كانت خفيفة، إلكترونية، تُشبه نبض قلبٍ اصطناعيٍّ يُحاول أن يبدو بشرياً. في الخلفية، شاشةٌ عملاقة تُعرض فيديو دعائيٍّ بطيء الحركة: طائرةٌ مسيّرة تُحلّق فوق صحراء، ثم تُطلق صاروخاً صغيراً يصيب هدفاً بدقةٍ متناهية، ثم يظهر شعار الشركة: «الأمان أولاً». لم يضحك أحد. كانوا يعرفون أن الأمان ليس للجميع.
في وسط الحشد، كان يُدعى إيال، شابٌ في الثامنة والعشرين، طويل القامة، شعره أشقر مُصفّف بعناية، عيناه خضراوان كأنهما مأخوذتان من بحرٍ لم يرَ الدم يوماً. كان يرتدي قميصاً أبيض مفتوحاً على صدرٍ منحوت في الجيم، وساعةً من نوع «ريتشارد ميل» تكلف أكثر من شقةٍ في حيفا. كان قد أسس الشركة قبل ثلاث سنوات بتمويلٍ أوليٍّ من صندوقٍ أمريكيٍّ كبير، اسمه لم يذكر إلا بالأحرف الأولى: B.R. الجميع هنا يعرف ما تعنيه الأحرف، لكن لا أحد ينطق بها بصوتٍ عالٍ، كأنها تعويضةٌ إذا نُطقت تختفي الأموال.
رفع إيال كأس النبيذ عالياً، نبيذٌ من مزرعةٍ في الجولان، عام ٢٠١٨، عامٌ جيد، كما يقولون. صرخ بصوتٍ واضح، مُدرّب، صوتٌ يُشبه صوت المذيعين في الإعلانات: «إلى بلاك روك!» ردّ الحشد بصوتٍ واحد، كأنهم في قداسٍ سريٍّ، رفعوا كؤوسهم، صفّقوا، ضحكوا، شربوا. لم يكن أحدٌ في تلك اللحظة يفكر في لين، التي كانت في اللحظة نفسها تطير في الهواء في رفح، جسدها الصغير يدور ببطء قبل أن يسقط على الأرض مكسوراً. لم يكن أحدٌ يعرف اسمها بعد، ولو عرفوا، لربما رفعوا كأساً أخرى، «للدقة التكنولوجية».
كان إيال يبتسم ابتسامةً عريضة، أسنانه بيضاء كأنها مُصنّعة في هوليوود. كان يعرف أن الجولة التمويلية الجديدة، مئة وخمسون مليون دولار، قد أُغلقت اليوم، وأن بلاك روك زادت حصتها إلى ٢٤٪، وأن هذا يعني أنه، في الثلاثين، سيصبح مليونيراً، لا، مليارديراً بالشيكل، وأن والدته في كريات شمونة ستتوقف أخيراً عن السؤال «متى تتزوج؟» لأن المال سيجيب بدلاً عنه. كان يعرف أن الخوارزمية التي طوّروها ستُستعمل قريباً في «عملياتٍ نوعيةٍ» في غزة، وأن كل «إصابةٍ ناجحة» ستُرفع قيمة الشركة، وأن كل «خطأٍ» سيُدفن في تقريرٍ داخليٍّ لا يراه أحد سوى لجنةٍ سرية.
اقترب منه مستثمرٌ أمريكيٌّ عجوز، وجهه أحمر من الشمبانيا، ربت على كتفه وقال بصوتٍ خافت: «إيال، يا ولدي، هذه التقنية ستُغيّر قواعد اللعبة. تخيّل: لا جنود في الشوارع، لا توابيت تُغطّى بالعلم، فقط زرٌ في غرفةٍ مكيّفة، وكل شيءٍ ينتهي بسرعةٍ ونظافة». ضحك إيال، ضحكةً صافية، طفولية، كأنه يسمع نكتةً جيدة. لم يقل شيئاً عن الأطفال، عن الأمهات، عن البيوت التي تُمحى كأنها لم تكن. لم يكن بحاجةٍ إلى قول شيء. المال يتكلم لغةً أعلى من الكلمات.
في الخلفية، كانت الموسيقى قد تحولت إلى إيقاعٍ أسرع، وكان الناس يرقصون الآن، أجسادهم تتحرك بانسيابيةٍ كأنهم في إعلانٍ لعطرٍ فاخر. كان هناك فتاةٌ بشعرٍ أحمر طويل، ترقص وحدها، عيناها مغمضتان، كأنها في عالمٍ آخر. اقترب منها إيال، وضع يده على خصرها، همس في أذنها شيئاً، ضحكت، أمسكت بيده، واختفيا داخل المصعد الزجاجيٍّ الذي ينزل إلى الشقة الفاخرة في الطابق العلوي. لم ينظر أحدٌ خلفهما. كان الحفل مستمراً، والشمبانيا لا تزال تتدفق، والشاشة لا تزال تُعرض الفيديو نفسه، مرةً تلو الأخرى: طائرةٌ مسيّرة، صاروخٌ صغير، هدفٌ ينفجر بدقة، شعارٌ يضيء: «الأمان أولاً».
في اللحظة التي كان فيها إيال يُقبّل الفتاة الحمراء في غرفةٍ تطل على البحر، كانت لين في رفح قد توقفت عن التنفس تماماً. كان الدم قد جفّ على وجهها الصغير، وعيناها لا تزالان مفتوحتين، كأنها تنظر إلى شيءٍ بعيد، شيءٍ لم يره أحدٌ في تل أبيب تلك الليلة. في الطابق السابع والستين في مانهاتن، كان لاري فينك ينام نوماً عميقاً بلا أحلام، وكلبه الذهبيٌّ ممددٌ عند قدمي سريره. في بوسطن، كان توماس غرينوود يُقرأ قصةً لابنته قبل النوم، قصةً عن أرنبٍ طيّب ينتصر على الذئب. في باريس، كان جان لوك يمشي تحت المطر، دفترُه الأسود في جيبه، وخطواته تُعلن عن شيءٍ قادم. في فرانكفورت، كانت ماريا فون هيسن تضع الشارة الحمراء على صدرها وتبكي بهدوء.
وفي تل أبيب، كان إيال يضحك، ويشرب، ويرقص، ويُقبّل، ويحتفل، لأن المال قد وصل، ولأن الخوارزمية تعمل، ولأن العالم، في تلك اللحظة، كان يبدو له مكاناً عادلاً تماماً: من يعمل بجدٍّ يربح، ومن لا يعمل بجدٍّ يستحق ما يحدث له. لم يكن يعلم أن اسمه، مثل أسماء الآخرين، قد كُتب الآن في مكانٍ آخر، في دفترٍ أسود صغير في باريس، وفي رسالةٍ على ورقٍ في فرانكفورت، وفي قلبٍ عجوز بدأ ينبض من جديد. لم يكن يعلم أن الضحكة التي أطلقها عالياً وهو يرفع كأسه «إلى بلاك روك!» ستُسمع يوماً في مكانٍ آخر، ليس كضحكة فرح، بل كصرخةٍ أخيرة قبل أن يُسحب التاريخ الحساب، ببطء، وبدقةٍ متناهية، كما تُحب خوارزمياته أن تكون.
7
في هامبتونز، حيث ينتهي العالم المعروف ويبدأ عالمٌ آخر لا يدخله إلا من يملك مفتاحاً من ذهب، كانت الفيلا التي يملكها لاري فينك تتربع على تلّةٍ صغيرة تطل على المحيط الأطلسي كأنها ملكةٌ متعبة لا تزال تتظاهر بالعظمة. كانت البيت من الزجاج والفولاذ والخشب الإسكندنافي، كل خطٍ فيه محسوب، كل زاويةٍ مُصمَّمة لتُذكّر من يراها أن المال يستطيع أن يشتري الصمت، والهواء النقي، والمسافة بينك وبين كل ما هو قبيح في العالم. في الخارج، كان المحيط يزمجر بهدوء، موجٌ بعد موج، صوتٌ يُشبه نبض قلبٍ كبيرٍ لا يتعب أبداً، وفوق الرمال البيضاء، أشجارٌ منحوتةٌ بعنايةٍ كأنها خضعت لعملية تجميل. لا أحد يمرّ من هنا إلا بإذن، لا صوت سيارة، لا صوت إنسان، فقط صوت المحيط، وصوت الكلب الذهبيّ الذي يُدعى «بيلي» وهو يركض على العشب المقصوص بدقةٍ عسكرية.
كان لاري قد وصل قبل نصف ساعة. السيارة السوداء، مرسيدس مايباخ بزجاجٍ معتم، توقفت أمام الباب الرئيسي، فتح الباب سائقٌ لا يتكلم إلا إذا تُكلّم، ثم اختفى. لم يكن لاري يحمل شيئاً في يده، لا حقيبة، لا هاتف، فقط بدلته الرمادية التي لا تتجعد أبداً، وربطة عنقه التي لا تزال مُحكمة كأن اليوم لم يمرّ بعد. عندما فتح الباب، ركض بيلي نحوه، كلبٌ كبيرٌ ذهبيٌّ بعينين بنيتين بريئتين، قفز عليه، لحس يده، نبح نباحاً خفيفاً من الفرح. ربت لاري على رأسه بيدٍ لا تعرف الحنان إلا في هذه اللحظة، بضرباتٍ منتظمة، محسوبة، كأنما يُطمئن نفسه أكثر مما يُطمئن الكلب.
دخل الصالة الكبيرة، أرضيتها من خشب البلوط الباهت، جدرانها زجاجية تطل على المحيط من كل الجهات، كأن المنزل عائمٌ في الهواء. لم تكن هناك صور عائلية، لا لزوجته الثانية التي تركته قبل عشر سنوات، ولا لابنه الوحيد الذي لم يره منذ ثلاث سنوات، فقط لوحةٌ واحدة، لوحةٌ تجريديةٌ ضخمة لفنانٍ أمريكيٍّ اشتراها بمئة وثمانين مليون دولار لأن أحداً قال له إنها «استثمار». كانت اللوحة عبارة عن خطوطٍ سوداء وبيضاء متقاطعة، كأنها رسمٌ لشبكةٍ ماليةٍ عالمية، أو لمتاهةٍ لا مخرج منها. وقف أمامها لحظة، كأنما يبحث عن معنى، ثم تنهّد تنهيدةً خفيفة، وتابع طريقه.
في غرفة النوم، التي تُطل على المحيط مباشرة، كان السرير كبيراً، أبيض، مرتباً بعنايةٍ لا إنسانية، كأن أحداً يأتي كل ليلة ليُعدّه من جديد. خلع لاري جاكيته، علّقها في خزانةٍ تُفتح بحركةٍ إلكترونية، ثم ربطة عنقه، ثم قميصه، كل حركةٍ بطيئة، مُحكمة، كأنها طقسٌ يُمارسه منذ عقود. وقف أمام المرآة العملاقة، نظر إلى نفسه: شعره الأبيض المُصفّف، عيناه الزرقاوان الباردتان، وجهه الذي لا يكاد يظهر عليه تعبٌ أو ندم. كان في الثالثة والسبعين، لكنه يبدو في الخمسين، بفضل المدربين الشخصيين، والحقن، والعمليات الصغيرة التي لا يعترف بها. ابتسم لنفسه ابتسامةً صغيرة، ليست فرحاً، بل اطمئناناً، كأنما يقول للمرآة: ما زلت هنا، ما زلت الأقوى.
استلقى على السرير، لم يُطفئ النور الكبير، فقط أضوأ مصباحاً جانبياً خافتاً، ثم أغمض عينيه. لم يكن يُفكر في اليوم، لم يكن يُفكر في الصفقة، لم يكن يُفكر في لوكهيد مارتن، ولا في العائد المتوقع، ولا في الطفلة لين التي كانت في تلك اللحظة قد فارقت الحياة منذ ساعات. لم يكن يُفكر في شيءٍ يُمكن تسميته تفكيراً. كان عقله فارغاً، فارغاً بطريقةٍ مريحة، كأن كل الأرقام والأوامر والقرارات قد ذابت في هذا الفراغ، ولم يبقَ سوى الجسد، والتنفس، وصوت المحيط البعيد.
بيلي قفز على السرير، استلقى عند قدميه، وضع رأسه على ساق لاري، وأغمض عينيه. كان الكلب يشعر بشيءٍ لا يشعر به صاحبه: رائحةً خفيفة من القلق، أو من الفراغ، أو من شيءٍ يُشبه الخوف لكنه لا يُعترف به. لاري مدّ يده، ربت على رأس الكلب مرةً أخرى، بحركةٍ آلية، ثم ترك يده تسقط. في تلك اللحظة، مرّت أمامه صورةٌ عابرة، صورةٌ قديمة، من زمنٍ بعيد: هو في العاشرة، في بروكلين، يجري خلف كلبٍ صغيرٍ في الشارع، وأمه تناديه من النافذة «لاري، العشاء جاهز!»، وهو يضحك، والكلب ينبح، والدنيا كانت بسيطة، والخبز كان يُشمّ رائحته من بعيد.
ابتسم في نومه ابتسامةً خفيفة، ابتسامةً لا يراها أحد، ثم غرق في نومٍ عميق، نومٍ بلا أحلام، نومٍ يُشبه الموت لكنه ليس الموت، لأن الموت يحمل في طياته شيئاً من الحساب، والحساب لم يحن وقته بعد. في الخارج، كان المحيط يزمجر، وكأنه يحذّر، لكن لا أحد يسمع. في رفح، كانت لين ممدةً على الأرض الباردة، عيناها مفتوحتان على السماء، ودميتها بعيداً عنها بضعة أمتار، عينها الواحدة مفتوحة أيضاً. في باريس، كان جان لوك يكتب أسماءً في دفترٍ أسود. في فرانكفورت، كانت ماريا تضع شارةً حمراء على صدرها. في تل أبيب، كان إيال يضحك ويرقص ويحتفل.
وفي هامبتونز، كان لاري فينك نائماً، وكلبه عند قدميه، والمحيط يزمجر، والليل يغطي كل شيء بستارٍ أسود ثقيل. كان العالم، في تلك اللحظة، مقسوماً إلى قسمين: قسمٌ ينام نوماً عميقاً بلا أحلام، وقسمٌ لا ينام أبداً، لأن الأحلام قد سُرقت منه، والكوابيس هي الواقع الوحيد. وفي الوسط، خيطٌ رفيعٌ من دمٍ ونارٍ وأملٍ مكسور، يربط بين الجميع، يشدّ ببطء، ينتظر لحظةً واحدة، لحظةً لم تأتِ بعد، لكنها قادمة، قادمةٌ لا محالة، كموجةٍ كبيرة في المحيط، موجةٌ لا يراها النائم، لكنها ستغرق كل شيء عندما تصل.
وفي تلك الليلة، نام لاري نوماً عميقاً، ولم يحلم، ولم يستيقظ، ولم يعلم أن اسمه قد كُتب الآن في أماكنَ لم يسمع بها يوماً، في دفترٍ أسود، وعلى ورقةٍ بيضاء، وفي قلبٍ عجوز، وفي عيني طفلةٍ ماتت وهي تنظر إلى السماء. نام، وكأن العالم سيبقى كما هو إلى الأبد. لكن العالم، في تلك الليلة، كان قد بدأ يتحرك، ببطء، بصمت، كأن الأرض نفسها تنفّض عنها غبار عقودٍ من الخضوع، وتستعد لتقول كلمةً واحدة، كلمةً لم تُنطق بعد، لكنها ستُنطق، وستُسمع، وستُغيّر كل شيء.
في الطابق السابع والستين، ظلت الشاشة السوداء مضيئة، تنتظر زراً آخر غداً. وفي هامبتونز، نام لاري، وبيلي يتنفس بهدوء عند قدميه، والمحيط يزمجر، والليل يغطي الكون بستاره الأسود، لكن تحت الستار، شيءٌ ما كان يتحرك، شيءٌ صغير، شيءٌ لا يُرى، شيءٌ يُشبه أملاً، أو غضباً، أو عدلاً، شيءٌ سيأتي، عاجلاً أم آجلاً، وسيوقظ النائمين، جميعهم، دون استثناء.
………
الفصل الثاني: همسٌ تحت الأسفلت
1
في أثينا، صيف ٢٠٣١، كان الحرّ يقتل ببطء، حرٌّ يتسلل تحت الجلد ويُذيب حتى الغضب قبل أن يولد. الشمس لا ترحم، تضرب على الأسفلت حتى يتحول إلى مرآةٍ سوداء تُعمي العيون، والهواء ثقيل، مشبع برائحة الملح المالح من البحر القريب، ورائحة الدخان القديم من حرائق الغ-Abies التي لم تنطفئ تماماً منذ سنوات، ورائحة اليأس الذي صار له طعمٌ في الفم كالحديد. لم يعد أحد يشتري الجرائد، لأن الورق مكلف، ولأن الأخبار لم تعد تُقرأ، بل تُعاش، تُحسّ في العظام، في المعدة الفارغة، في الأرق الذي يُصيب الجميع حتى الأطفال.
في تلك الصباحية الملعونة، وصل الخبر كالصاعقة التي لا صوت لها: فانغارد، ذلك الاسم البارد الذي يُنطق في أثينا كأنه لعنةٌ قديمة، رفضت إعادة جدولة الدين اليوناني مرةً أخرى. لم يكن قراراً مفاجئاً، كان متوقعاً منذ أشهر، لكنه الآن صار رسمياً، مكتوباً بخطٍ صغير في تقريرٍ داخليٍّ لن يراه أحد سوى حفنةٍ من المحاسبين في بوسطن، ثم تُرجم إلى جملةٍ واحدة في بيانٍ صحفيٍّ مُبهم: «نعتقد أن الظروف الحالية لا تسمح بمزيد من التسهيلات”. في أثينا، كانت هذه الجملة تعني شيئاً واحداً فقط: المزيد من التقشف، المزيد من البطالة، المزيد من الأطفال الذين يُغمى عليهم في المدارس من الجوع، المزيد من العجائز الذين يختارون بين الدواء والخبز، المزيد من الشباب الذين يحزمون حقائب صغيرة ويغادرون إلى برلين أو أمستردام ولا يعودون.
في البداية، لم يحدث شيء. المدينة استمرت في نبضها المُنهك، الحافلات القديمة تتحرك ببطء، الباعة الجائلون يصرخون بأصواتٍ مكسورة، الكلاب الضالة تبحث في القمامة. لكن تحت السطح، شيءٌ ما كان يتحرك، كأن الأرض نفسها بدأت تهتز بضرباتٍ خفيفة، كأن قلبٌ عملاقٌ مدفون تحت الأسفلت استيقظ بعد سباتٍ طويل. في البيوت، في المقاهي، في الشوارع الضيقة في إكسارخيا وبلاقا، بدأ الناس يتهامسون، أولاً بهدوء، ثم بصوتٍ أعلى، كلمةٌ واحدة تتكرر كأنها تعويذةٌ أو صلاةٌ أو تهديد: «كفى».
في ميدان سينتاغما، أمام البرلمان الذي صار رمزاً للخيانة أكثر منه للسيادة، تجمع عشرة آلاف في البداية. لم يكن هناك منظّمون واضحون، لا أحزاب، لا نقابات، لا مكبرات صوت. فقط ناسٌ عاديون، عمالٌ عاطلون، طلابٌ بلا مستقبل، أمهاتٌ يحملن صور أبنائهن الذين هاجروا، عجائزٌ يتكئون على عصيّهم كأنهم يتكئون على تاريخٍ لم يعد يحميهم. جاؤوا بملابسهم العادية، قمصانٌ متسخة من العرق، تنانير قديمة، أحذيةٌ متهالكة، وجوهٌ محروقة من الشمس ومن الذل. لم يكن هناك لافتاتٌ كبيرة، فقط أوراقٌ صغيرة مكتوبة بخط اليد، كلماتٌ بسيطة، قاسية، صادقة: «لن نجوع بعد اليوم»، «اليونان ليست للبيع»، «لين لم تمت عبثاً».
ثم صاروا عشرين ألفاً. ثم خمسين. ثم مئة ألف. لم يكن أحد يحصي، لكن الجسم كله كان يشعر. الشرطة وقفت في صفوفٍ طويلة، دروعها السوداء تلمع تحت الشمس، خوذاتها تخفي العيون، هراواتها جاهزة. لم يتحركوا. لم يجرؤوا. كان هناك شيءٌ في الهواء، شيءٌ أثقل من الغاز المسيل للدموع، أثقل من الخوف. كان صمتٌ غريبٌ يسبح فوق الجموع، صمتٌ لا يُسمع فيه إلا التنفس، تنفس مئة ألف صدرٍ معاً، كأن الشعب نفسه صار كائناً حياً واحداً، قلبٌ واحد، غضبٌ واحد.
في وسط الميدان، صعد شابٌ على قاعدة نافورةٍ جافة منذ سنوات، شابٌ في الثلاثين، نحيف، عيناه محمرتين من الأرق أو من البكاء، لا فرق. لم يكن لديه مكبر صوت، فرفع يديه فقط، وصرخ بصوتٍ انكسر في النهاية: «كفى!» ترددت الكلمة في الميدان، ارتدت من الجدران، من النوافذ المغلقة، من صدور الناس، صارت موجةً، صارت عاصفةً، صارت شيئاً لا يُمكن إيقافه. ثم بدأوا يرددون، أولاً بصوتٍ خافت، ثم أعلى، ثم كأن الأرض نفسها تنطق: «كفى! كفى! كفى!»
لم يكن هناك زعيم، وهذا كان سرّ قوتهم. لم يكن هناك من يُفاوض، من يُباع، من يُشترى. كانوا هم الشعب، عارياً، مجروحاً، لكنه واقفٌ أخيراً. في تلك اللحظة، شعروا جميعاً، في الوقت نفسه، أن شيئاً ما قد انكسر إلى الأبد: الخوف. لم يعد الخوف يسكنهم. كان الخوف قد انتقل إلى الجهة الأخرى، إلى الذين يجلسون في المكاتب المكيّفة، إلى الذين يضغطون الأزرار، إلى الذين يعتقدون أن العالم سيبقى دائماً تحت سيطرتهم لأنهم يملكون الأرقام.
في أثينا، تحت شمسٍ لا ترحم، بدأت ثورةٌ لم ترفع السلاح بعد، لكنها رفعت شيئاً أخطر: الكرامة. مئة ألف صوتٍ يصرخون «كفى»، وفي كل صوتٍ اسمٌ لم يُنطق بعد، اسم لين، اسم كل طفلٍ دُفن تحت الأنقاض بقنبلةٍ مولها صندوقٌ في بوسطن، اسم كل أمٍ بكت وحدها، اسم كل شابٍ هاجر ولم يعد. كانوا يصرخون لأنفسهم، ولغزة، ولكل مكانٍ في العالم حيث يُقتل الإنسان باسم «العائد على الاستثمار».
وفي تلك اللحظة، عندما ارتفعت الشمس إلى أوجها، وصارت الحرارة لا تُطاق، بدأ الناس يبكون، ليس من الحزن، بل من شيءٍ أكبر، من شعورٍ بأن التاريخ قد عاد إليهم أخيراً، بعد أن سُرق منهم لعقود. بكوا وهم يصرخون «كفى»، ودموعهم تسيل على وجوههم المحروقة، ولا أحد يخجل من البكاء، لأن البكاء صار الآن سلاحاً، صار نشيداً، صار وعدًا.
في الطابق السابع والستين في مانهاتن، كان لاري فينك يشرب قهوته الإثيوبية كالعادة، ولم يكن يعلم أن شيئاً ما قد تحرك في أثينا، شيءٌ صغيرٌ في البداية، كحجرٍ يتدحرج من قمة جبل، لكنه سيصبح انهياراً جليدياً، سيجرف كل شيءٍ في طريقه، بما في ذلك الأبراج الزجاجية، والشاشات السوداء، والأزرار التي تُقتل بها الأطفال من بعيد.
في أثينا، كان الميدان قد امتلأ تماماً، وكان الناس لا يزالون يأتون، من كل حي، من كل جزيرة، من كل قرية، كأن الأرض اليونانية نفسها قد قامت من مرقدها، ونفضت عنها غبار الذل، وصرخت بصوتٍ واحد، صوتٌ لم يُسمع منذ آلاف السنين، لكنه عاد الآن، أقوى، أعمق، أكثر عدلاً: «كفى». وهذا الصوت، في تلك اللحظة، بدأ ينتشر، عبر الهواتف، عبر الشبكات، عبر القلوب، إلى مدريد، إلى لشبونة، إلى باريس، إلى برلين، إلى كل مكانٍ حيث يوجد إنسانٌ لا يزال يتنفس ويرفض أن يُدفن حياً.
كانت أثينا، في ذلك اليوم، ليست مجرد مدينة، بل نبضاً، شرارةً، بدايةً. وفي ميدان سينتاغما، تحت شمسٍ لا ترحم، وُلدت ثورةٌ لم تُسمّ بعد، لكن اسمها كان واضحاً في عيون الجميع: كرامة.
2
في لشبونة، حيث يلتقي نهر تاجو بالمحيط الأطلسي في قبلةٍ مالحةٍ لا تنتهي، كان صباح الثالث من أغسطس ٢٠٣١ يحمل في طيّاته ريحاً غريبة، ريحاً حارةً قادمةً من الجنوب، من الصحراء، من أماكنَ لا يعرفها أحد، ريحاً تحمل معها رائحةَ الحريق القديم ورائحةَ البحر المُتعب ورائحةَ شيءٍ آخر، شيءٌ يُشبه الغضب المُكبّت منذ عقود. في ميناء الكانتارا، حيث تقف الرافعات الحديدية كعمالقةٍ صدئين يحرسون أحلامهم الميتة، توقفت السفن فجأة، ليس بسبب عاصفة، ولا بسبب أمرٍ رسميّ، بل بسبب قرارٍ صامت، قرارٍ اتُخذ في الظلام، في غرفٍ صغيرة تفوح منها رائحة القهوة الباردة والسجائر والعرق.
كان عمال الميناء، رجالٌ بأيدٍ خشنة وظهورٍ منحنية من سنوات الحمل الثقيل، قد اجتمعوا منذ الفجر في مقهى «أو مارينيرو» الصغير المطلّ على الرصيف. لم يكن اجتماعاً مُعلناً، لم يكن هناك جدول أعمال، فقط كوبٌ من القهوة السوداء لكل واحد، ونظراتٌ تتقابل في صمتٍ ثقيل. كانوا يعرفون الخبر منذ الليلة الماضية: سفينةٌ إسرائيلية اسمها «زيم أنتويرب» ستصل عند العاشرة صباحاً، محملةً بحاوياتٍ مكتوب عليها بخطٍ أبيض صغير «أسلحة دقيقة – لوكهيد مارتن – وجهة نهائية: حيفا». كانوا يعرفون، لأن أحدهم، مانويل، عاملٌ في الأربعين بشاربٍ كثيف وعينين غائرتين، قد رأى المانيفستو في مكتب الجمارك، وقرأ الكلمات بصوتٍ مرتجف، ثم صوّرها بهاتفه وأرسلها إلى مجموعةٍ في الواتساب تُدعى «رفاق الميناء».
لم يتحدثوا كثيراً. لم يكن هناك حاجة. كانوا يعرفون بعضهم منذ الطفولة، لعبوا كرةً في الشوارع نفسها، تزوجوا من أخوات بعضهم، دفنوا آباءهم في المقبرة نفسها. كانوا يعرفون أن أبناءهم ينامون جوعى، وأن رواتبهم لم تعد تكفي حتى للخبز، وأن الدين الذي تُطالب به فانغارد وأخواتها يُدفع من دمائهم، من عرقهم، من أحلامهم الصغيرة التي تلاشت واحدةً تلو الأخرى. وكانوا يعرفون، الآن، أن السفينة التي ستأتي تحمل الموت، موتاً مُصنّعاً في أمريكا، مُموّلاً من أوروبا، موجهاً إلى أطفالٍ في غزة لا يعرفون حتى اسم لشبونة.
عندما دقت الساعة الثامنة، قاموا جميعاً، ببطء، كأنما يؤدون طقساً قديماً. لم يرفعوا لافتات، لم يُغنوا أناشيد، فقط أغلقوا أبواب المقهى من الداخل، وخرجوا إلى الرصيف، ووقفوا أمام البوابات الحديدية الكبيرة التي تُفتح عادةً للسفن. كانوا خمسمئة في البداية، ثم ألفاً، ثم ثلاثة آلاف، عمالٌ من كل الموانئ المجاورة، من سيتوبال، من كاسكايش، من أماكنَ أبعد، جاؤوا بسياراتٍ قديمة، بدراجاتٍ نارية، مشياً على الأقدام. لم يكن هناك زعيم، فقط مانويل الذي وقف في الأمام، يداه في جيبي بنطاله، عيناه مثبتتان على الأفق حيث ستظهر السفينة.
عندما ظهرت، كانت كبيرة، بيضاء، نظيفة، كأنها لم تُحمل الموت يوماً. كانت تتقدم ببطء، كأنها تعرف أن شيئاً ما ينتظرها. توقفت على بعد مئتي متر من الرصيف، كأن قبطانها شعر بشيءٍ غريب. ثم جاء الصمت. صمتٌ ثقيل، أثقل من صوت المحركات، أثقل من صوت الأمواج. ثم بدأوا يصرخون، ليس بكلماتٍ كثيرة، فقط اسمٌ واحد، اسمٌ سمعوه في الأخبار، اسمٌ رأوه في الصور، اسمٌ صار رمزاً: «لين! لين! لين!» تردد الاسم في الميناء، ارتد من الحاويات، من الرافعات، من السفن الراكدة، صار موجةً، صار عاصفةً، صار شيئاً لا يُمكن لأي قبطانٍ أن يتجاهله.
لم يتحرك أحد ليفتح البوابات. لم يتحرك أحد ليُفرّغ الحاويات. بقيت السفينة في عرض البحر، كروحٍ تائهة، لا تستطيع الدخول، لا تستطيع الخروج. ثم بدأ العمال يجلسون على الأرض، ببطء، كأنما يُعلنون أنهم لن يقوموا أبداً، ليس اليوم، وليس غداً، وليس طالما هناك سفينةٌ تحمل الموت ويُطلب منهم أن يُفرغوها بأيديهم. جلسوا، وأشعلوا السجائر، ووزّعوا زجاجات الماء، وانتظروا.
في الظهيرة، عندما صارت الشمس تُحرق الرؤوس، جاءت الشرطة، صفوفٌ طويلة، دروعٌ سوداء، خوذاتٌ، غازٌ مسيل للدموع. لكن الشرطة توقفت على بعد خمسين متراً. كان هناك شيءٌ في عيون العمال، شيءٌ لم يره الضباط من قبل، شيءٌ يُشبه الموت نفسه، لكن موتاً يقف ولا يركع. لم يُطلقوا الغاز. لم يتقدموا. فقط وقفوا، وانتظروا أوامرَ لم تأتِ.
في المساء، عندما غربت الشمس وصبغت الميناء بلونٍ أحمر كالدم، كانت السفينة لا تزال في عرض البحر، والعمال لا يزالون جالسين، وبينهم وبين السفينة مسافةٌ صغيرة من الماء، لكنها كانت أوسع من المحيط كله. كانوا يعرفون أن هذا اليوم ليس نهاية، بل بداية. بدايةٌ صغيرة، في ميناءٍ صغير، في مدينةٍ صغيرة، لكنها بدايةٌ ستنتشر، كالنار في الهشيم، كالدم في العروق، كالكرامة عندما تُسترد أخيراً.
في لشبونة، في ذلك اليوم، توقفت السفن، ليس لأن المحركات تعطلت، بل لأن الضمير استيقظ. وفي عرض البحر، بقيت حاوياتٌ مكتوب عليها «أسلحة دقيقة» تتأرجح مع الأمواج، كأنها توابيتٌ لا تجد قبراً، لأن الذين كانوا سيحملونها رفضوا أن يكونوا جزءاً من الجريمة. وفي تلك الليلة، عندما نام العمال على الرصيف، تحت النجوم، كانوا ينامون نوماً عميقاً لأول مرة منذ سنوات، لأنهم، لأول مرة، شعروا أنهم أحياء حقاً.
وفي بوسطن، كان توماس غرينوود يقرأ تقريراً عن «اضطراباتٍ في سلاسل التوريد في جنوب أوروبا»، ويتنهّد تنهيدةً صغيرة، ويكتب تعليقاً بخطٍ صغير: «يجب متابعة التأثير على الأداء». لم يكن يعلم أن الأداء قد بدأ يتغير، ليس في الأرقام، بل في القلوب. وفي مانهاتن، كان لاري فينك يشرب قهوته، ولم يكن يعلم أن هناك رجالاً في لشبونة قرروا أن يكونوا خطراً، وأن هذا الخطر سيصل إليه، عاجلاً أم آجلاً، على شكل صمتٍ في الميناء، أو على شكل صمتٍ في البورصة، أو على شكل صمتٍ أكبر، صمتٍ سيُسمع في كل مكانٍ حيث كان هناك إنسانٌ يرفض أن يُدفن حياً.
في لشبونة، في تلك الليلة، كان البحر هادئاً، والسفينة لا تزال في العرض، والعمال نائمين على الرصيف، وفي أحلامهم، كانوا يرون طفلةً اسمها لين تضحك، ودميتها بعينٍ واحدة تركض خلفها، وكانوا يبتسمون في نومهم، لأنهم، لأول مرة، شعروا أن الموت لم يعد وحده يملك الكلمة الأخيرة.
3
في برلين، حيث كان الخريف يُلقي على المدينة رداءً من الضباب الخفيف يُخفي الندوب القديمة ويُبرز الندوب الجديدة، كان يوم الخامس من سبتمبر ٢٠٣١ يحمل في صدره شيئاً يُشبه البرق المكبوت. الشوارع في كرويتزبرغ ونويكولن كانت لا تزال تفوح برائحة الخبز الطازج من المخابز التركية، ورائحة القهوة من مقاهي الهيبستر، ورائحة الحشيش من الزوايا المُظلمة، لكن تحت كل هذا كانت هناك رائحةٌ أخرى، رائحةٌ لا يعرفها إلا من عاش في مدينةٍ استيقظت مرتين من الموت: رائحة الثورة قبل أن تُسمّى ثورة.
في جامعة هومبولت، في قاعةٍ كبيرةٍ كانت تشهد يوماً محاضراتٍ عن الفلسفة الماركسية والوجودية، تجمع الطلاب منذ الصباح الباكر. لم يكن هناك درسٌ مقرر، لم يكن هناك أستاذٌ ينتظرهم، فقط شاشةٌ كبيرة في مقدمة القاعة تُعرض صوراً من أثينا ومن لشبونة: ميدان سينتاغما ممتلئ، ميناء الكانتارا مغلق، وجوهٌ متعبة، عيونٌ مشتعلة، أيدٍ مُرفوعة، وكلمةٌ واحدة تُكتب باليونانية والبرتغالية والعربية والألمانية: كفى. كان الطلاب، أغلبهم في العشرين، بعضهم يرتدي كوفيةً فلسطينية، بعضهم يحمل شارةً حمراء صغيرة، بعضهم فقط بقمصانٍ سوداء مكتوب عليها بخطٍ أبيض «لين لم تمت»، يقفون في صمتٍ أولاً، ثم بدأوا يهمسون، ثم صرخوا.
كانت ليلى، طالبةٌ في الثانية والعشرين، فلسطينية-ألمانية، شعرها أسود مجعد مربوطٌ بشريطٍ أحمر، عيناها سوداوان كالليل في غزة، قد صعدت على طاولةٍ في وسط القاعة. لم تكن تخطط لذلك، لكن شيئاً ما دفعها، كأن دم لين يجري في عروقها. رفعت هاتفها، وأظهرت الصورة التي رآها العالم كله: الطفلة ممدة على الأرض، دميتها بعيداً عنها، عيناها مفتوحتان. ثم صرخت بصوتٍ لم يكن صوتها وحدها، بل صوت كل من مات ولم يُدفن بعد: «نحن لسنا أصولاً في محفظة فيديليتي!» ترددت الكلمة في القاعة، ارتدت من الجدران، من النوافذ، من صدور الطلاب، صارت شعاراً، صارت نشيداً، صارت سلاحاً.
ثم خرجوا. لم يكن هناك قرارٌ جماعي، لم يكن هناك تصويت، فقط تدفقٌ طبيعي، كأن النهر نفسه قرر أن يترك مجراه القديم. خمسمئة في البداية، ثم ألفان، ثم عشرة آلاف، ثم أكثر. خرجوا من الجامعة، من المدارس، من المكاتب، من البيوت، شبابٌ يحملون لافتاتٍ كتبوها بسرعةٍ على كراتين مُفرّغة: «أنقذوا أطفال غزة – أنقذوا أنفسنا»، «المال الذي يدفع للقنبلة هو مال تقاعدنا»، «بلاك روك = موت»، «نحن لسنا أرقاماً». كانوا يسيرون في شارع أونتر دين ليندن، مروراً ببوابة براندنبورغ، مروراً بالرايخستاغ الذي صار رمزاً للديمقراطية المُفرّغة من معناها، وكانوا يغنون، ليس أناشيد قديمة، بل شيئاً جديداً، كلماتٍ تُرتجل في اللحظة، صوتٌ واحد، قلبٌ واحد.
في شارع فريدريش، توقفوا أمام مبنىٍ زجاجيٍّ حديث، مبنىٍ لا يحمل اسماً واضحاً، فقط لوحةٌ صغيرة في المدخل: «فيديليتي إنترناشونال – مكتب برلين». كان المبنى فارغاً تقريباً، لأن معظم الموظفين قد تلقوا رسالةً داخليةً في الصباح: «ننصح بشدة بالعمل من المنزل اليوم». لكن الشباب لم يكونوا يبحثون عن موظفين، كانوا يبحثون عن رمز. وقفوا أمام الباب الزجاجي، ورفعوا لافتةً كبيرةً كتبوها بالألمانية والعربية والإنجليزية: «هنا يُموَّل الموت». ثم جلسوا. جلسوا على الأرض، في دائرةٍ كبيرة، وأشعلوا الشموع، ووضعوا صورة لين في الوسط، وصوراً أخرى، أطفالاً آخرين، بيوتاً محطمة، أمهاتٍ يبكين.
ثم بدأوا يغنون. لم يكن أغنيةً ثوريةً مُعلّبة، بل شيئاً ولد في تلك اللحظة: صوت ليلى يبدأ بكلماتٍ بالعربية: «يا لين، يا روحي، نامي قريرة»، ثم يرد الآخرون بالألمانية: «Schlaf ein, kleine Lin, wir wachen jetzt auf». كان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل الشارع، في كل المباني المجاورة، في كل قلبٍ لا يزال ينبض. وكان هناك شرطيٌ عجوز، في الستين، يقف على بعد أمتار، يرتدي خوذته، يحمل درعه، لكنه لم يتحرك. كان ينظر إلى الصورة، صورة لين، ثم نظر إلى الشباب، ثم أخفض هراوته ببطء، ومسح دمعةً صغيرة من عينه بظهر يده. كان ابنه، الذي لم يره منذ سنوات، بين الجالسين.
في تلك اللحظة، في برلين، تحsطم شيءٌ لم يكن زجاجاً، شيءٌ أعمق: الوهم بأن الشباب قد استسلموا، بأن الجيل الجديد يعيش فقط للإعجابات والقهوة الباردة والوظيفة المؤقتة. في تلك اللحظة، استيقظ الشباب، ليس بالسلاح، بل بالجلوس، بالغناء، بالبكاء، بالرفض. كانوا يقولون، بصمتٍ أعلى من أي صراخ: «لن نكون شركاء». لن نكون أدواتٍ في آلةٍ تقتل أطفالاً في مكانٍ آخر ثم تعود لتدفع لنا راتباً. لن نكون أرقاماً في محفظةٍ تُسمّى «مستقبلنا».
في المساء، عندما غربت الشمس وأضاءت الشموع وجوههم، كانت برلين كلها قد سمعت. كان الناس يأتون من كل حي، يحملون شموعاً، زهوراً، صوراً، ينضمون إلى الدائرة، حتى صار المبنى محاطاً بحرٍ من النور الصغير. وكان هناك عجوزٌ في الثمانين، كانت ترتدي معطفاً قديماً، تقترب ببطء، وتضع في وسط الدائرة شارةً حمراء صغيرة، شارةً من زمنٍ آخر، من زمنٍ كان فيه الشباب يموتون في الشوارع لأجل عالمٍ أفضل. نظرت إلى ليلى، وابتسمت ابتسامةً حزينة، ثم همست: «استمروا». ثم ابتعدت، واختفت في الظلام.
في تلك الليلة، لم يتحرك أحد ليُفرّق الجالسين. لم يُطلق الغاز، لم تُرفع الهراوات. كان هناك صمتٌ رسميٌّ، صمتٌ خائف، صمتٌ يعرف أن شيئاً ما قد تغير إلى الأبد. وفي برلين، تحت سماءٍ مُلبّدة بالغيوم، جلس الشباب، وغنوا، وبكوا، ووعدوا لين، ووعدوا أنفسهم، ووعدوا العالم، أن هذا الجيل، الذي قيل عنه إنه لا يهتم، قد اهتم أخيراً، وأن اهتمامه هذا لن يكون كلاماً في تويتر، بل فعلاً في الشارع، فعلاً سيُغيّر كل شيء.
وفي بوسطن، كان توماس غرينوود يقرأ تقريراً عن «مظاهراتٍ غير مرخصة في وسط برلين»، ويُعلّق بخطٍ صغير: «قد تؤثر على معنويات المستثمرين». لم يكن يعلم أن ابنته، في غرفتها، تشاهد البث المباشر، وتبكي، وتكتب رسالةً لأصدقائها: «غداً سنكون هناك». وفي مانهاتن، كان لاري فينك ينام، وكلبه عند قدميه، ولم يكن يعلم أن شباباً في برلين قد كتبوا اسمه على لافتةٍ صغيرة، ثم وضعوها أمام صورة لين، وأضاءوا عليها شمعةً، شمعةً ستُضاء غداً في مدنٍ أخرى، ثم في مدنٍ أخرى، حتى يصل نورها إلى الطابق السابع والستين، وإلى كل مكانٍ حيث يُعتقد أن المال يستطيع أن يشتري الصمت إلى الأبد.
في برلين، في تلك الليلة، لم يكن هناك نوم. كان هناك نورٌ صغير، وصوتٌ خافت، ووعدٌ كبير: لين لم تمت. لين بدأت تعيش، في قلوبٍ جديدة، في أيدٍ جديدة، في عالمٍ جديد يُولد الآن، في الشارع، تحت الشموع، تحت السماء التي بدأت، أخيراً، تُمطر.
4
في مدريد، حيث كان صيف ٢٠٣١ ينفخ في المدينة لهباً أحمر كأنه ينتقم من كل ما تبقّى من أمل، كان مصنع فولكسفاغن في ضاحية خيتافي الجنوبية يقف كقلعةٍ حديديةٍ صامتة، جدرانه الرمادية مغطاة بطبقةٍ من الغبار الذي لا يزال يحمل رائحة الزيت المحترق والعرق المالح والكرامة المُهدورة. منذ أسابيع، كان الخط الإنتاجي رقم ٧، الذي يُنتج سيارات «بولو» للتصدير، يعمل بوتيرةٍ محمومة: ثلاث نوبات، أجرٌ إضافي، ضغطٌ لا يُطاق، لأن الطلبيات الجديدة جاءت من «سوقٍ استراتيجيٍّ في الشرق الأوسط»، وكانت الإدارة تُردّد بفخرٍ مكتوم أن «الشركة ستُنقذ الاقتصاد الإسباني». لم يقل أحدٌ للعمال إن السيارات التي يُجمّعونها بأيديهم ستُنقل إلى المستوطنات في الضفة الغربية، وأن بعضها سيُحوّل إلى مركباتٍ مدرعة خفيفة تُستخدم في مداهماتٍ ليلية، وأن كل سيارةٍ تخرج من الباب الحديدي الكبير تُساهم، بطريقةٍ أو بأخرى، في دفن طفلٍ آخر تحت الأنقاض.
كان العمال يعرفون. لم يكن الأمر سرّاً تماماً. كان هناك شابٌ في الخط الإنتاجي، اسمه خافيير، في السابعة والعشرين، وجهه شاحبٌ من التعب، عيناه محاطتان بهالاتٍ سوداء، كان يُدخّن في استراحة الغداء ويُرينا صوراً على هاتفه: صورٌ من غزة، من رفح، من مخيم الشاطئ، صورٌ لأطفالٍ لا يختلفون عن أبنائه. كان يقول بصوتٍ خافت، كأنه يخشى أن تسمع الجدران: «هذه السيارات التي نُجمّعها ستُستخدم هناك». في البداية، كانوا يضحكون منه، يقولون «خافي، أنت مُتعب، اذهب نم». لكن الصور بقيت. بقيت في رؤوسهم، في أحلامهم، في أكفهم التي تُثبّت المسامير وتُشدّ الأحزمة وتُلصق الملصقات. بقيت حتى صارت كالدم.
في صباح الثامن من سبتمبر، لم يدخل أحدٌ إلى المصنع. كان الباب الحديدي الكبير مفتوحاً كالمعتاد، لكن الخط الإنتاجي كان خالياً. كان العمال، ثمانية آلاف رجلٍ وامرأة، قد تجمعوا في الساحة الخارجية منذ الخامسة فجراً. لم يكن هناك مكبرات صوت، لم يكن هناك قائدٌ واضح، فقط خافيير يقف على منصةٍ مؤقتة من صناديق خشبية، وفي يده علمٌ أحمر قديم، علمٌ كان يرفعه والده في إضرابات الثمانينيات. رفع العلم عالياً، ثم صرخ بصوتٍ انكسر في النهاية: «من اليوم، السيارات للشعب، وليست للمستوطنات!» ترددت الكلمة في الساحة، ارتدت من الجدران، من المداخن، من صدور العمال، صارت زئيراً، صارت قسمًا، صارت حياةً جديدة.
ثم دخلوا. لم يحطموا شيئاً، لم يكسروا زجاجاً، لم يسرقوا برغياً واحداً. فقط دخلوا، وأغلقوا الأبواب من الداخل، ورفعوا العلم الأحمر فوق المدخنة الكبيرة التي كانت تُطلق دخاناً أسود منذ عقود. ثم جلسوا على الأرض، بين الآلات، بين السيارات نصف المجمّعة، وأشعلوا السجائر، ووزّعوا الخبز والجبن الذي جلبوه من بيوتهم، وبدأوا يغنون. كانوا يغنون أغنيةً قديمة من زمن الجمهورية، أغنيةٌ كانوا يظنون أنها ماتت، لكنها عادت الآن، أقوى، أعمق: «¡Ay Carmela!»، وكلما انتهت الأغنية، كانوا يبدأونها من جديد، وصوتهم يخرج من النوافذ المفتوحة، يملأ الضاحية، يصل إلى البيوت، إلى المدارس، إلى القلوب.
في الظهيرة، جاءت الشرطة، صفوفٌ طويلة، سياراتٌ سوداء، كلابٌ بوليسية. لكن الشرطة توقفت على بعد مئتي متر. كان هناك شيءٌ في عيون العمال، شيءٌ لم يره الضباط من قبل: ليس خوفاً، وليس غضباً فقط، بل عزمٌ هادئ، عزمٌ يقول «إذا دخلتم، سنموت هنا، لكننا لن نترك المصنع». وكان هناك ضابطٌ شاب، في الثلاثين، يقف في المقدمة، ينظر إلى العلم الأحمر، ثم ينظر إلى والده الذي كان بين العمال، ثم يُخفض بندقيته، ويُعطي أمراً خافتاً للآخرين: «لا نتحرك». ثم يتراجع خطوةً إلى الوراء، كأنما يقول للتاريخ: لن أكون أنا من يُطلق النار على أبي.
في المساء، عندما غربت الشمس وصبغت السماء بلونٍ أحمر كالدم، كان المصنع لا يزال مُحتلّاً، والعلم الأحمر لا يزال يرفرف، والعمال لا يزالون يغنون. وكانت الأخبار تنتشر: مصنع فولكسفاغن في مدريد تحت سيطرة العمال. ثم جاءت الأخبار الأخرى: عمال سيارات في برشلونة أضربوا، عمال مناجم في أستورياس أغلقوا الطرقات، عمال موانئ في فالنسيا رفضوا تفريغ سفن الأسلحة. كانت إسبانيا كلها قد بدأت تهتز، ببطء، كأن الأرض نفسها تُعيد ترتيب عظامها بعد سنواتٍ من الكسر.
في تلك الليلة، أضاء العمال المصنع من الداخل، وكتبوا على الجدران بخطوطٍ كبيرة بيضاء: «هذا المصنع ملك الشعب الآن». ثم وضعوا صورة لين في وسط الخط الإنتاجي، بجانب سيارةٍ نصف مكتملة، وأضاءوا عليها شمعةً صغيرة. وكان خافيير يقف أمام الصورة، ودموعه تسيل على وجهه، وهو يهمس لنفسه، وللجميع: «الآن، يا لين، السيارات لن تذهب إلى هناك. الآن، السيارات ستأخذنا إلى عالمٍ آخر».
وفي اليوم التالي، عندما أعلنت الحكومة حالة الطوارئ، لم يعد أحد يسمعها. كان الجيش قد وصل، لكن الجنرال، رجلٌ في الستين بشاربٍ أبيض، وقف أمام البوابة، ونظر إلى العلم الأحمر، ثم إلى العمال، ثم إلى ضباطه، وقال بصوتٍ هادئٍ لكنه يُسمع في كل مكان: «لا يمكننا إطلاق النار على أبنائنا مرتين في قرن واحد». ثم استدار، وأمر قواته بالانسحاب. وفي تلك اللحظة، في مدريد، في مصنع فولكسفاغن، سقطت آخر حصون النظام القديم، ليس بالرصاص، بل بالرفض، بالكرامة، بالحب.
وفي مانهاتن، كان لاري فينك يقرأ تقريراً عن «اضطراباتٍ عماليةٍ في إسبانيا»، ويُعلّق بخطٍ صغير: «قد تؤثر على سلاسل التوريد». لم يكن يعلم أن سلاسل التوريد قد انقطعت، ليس بسبب الإضرابات فقط، بل لأن الضمير استيقظ، وأن هذا الاستيقاظ سيصل إليه، عاجلاً أم آجلاً، على شكل مصنعٍ في مدريد يرفع علمًا أحمر، وعلى شكل صورة طفلةٍ اسمها لين تُضيء خط إنتاجٍ لن يُنتج بعد اليوم سوى الحرية.
في مدريد، في تلك الليلة، كان العمال ينامون داخل المصنع، على الأرض، بجانب الآلات، وفي أحلامهم، كانوا يرون لين تضحك، وتركب سيارةً حمراء صغيرة، وتُلوّح لهم من النافذة، وكانوا يبتسمون في نومهم، لأنهم، لأول مرة، شعروا أنهم أحياء، وأن الحياة، أخيراً، بدأت تُعطي معنىً للموت.
5
في باريس، حيث كان خريف ٢٠٣١ يُغطي المدينة بضبابٍ كثيفٍ يُشبه الذكرى التي ترفض أن تُدفن، كانت قاعة الجمعية العامة في بورصة العمل النقابي في شارع شاروني تفوح برائحة التبغ القديم، ورائحة القهوة المُرّة التي تُشرب في أكوابٍ متشققة، ورائحة الرجال والنساء الذين يحملون في صدورهم تاريخاً من النضال لم يُكتب بعدُ في الكتب الرسمية. كانت القاعة مكتظة، ليست كما في الإضرابات السابقة حيث يأتي مئاتٌ فقط، بل كانت مكتظةً حتى الاختناق: ثلاثة آلاف نقابي، عمال سكك حديدية، عمال مترو، عمال كهرباء، عمال موانئ، معلمون، أطباء، عمال نظافة، وفي الصفوف الأمامية رجالٌ ونساء في الستين والسبعين، بقمصانٍ مفتوحة، شوارب كثة، وجوهٌ محفورةٌ بخطوط السنين والإضرابات والخيبات والانتصارات الصغيرة التي لم يعترف بها أحد.
في المنصة، كان يقف بيير موران، رئيس نقابة السكك الحديدية، في الثانية والستين، جسده لا يزال قوياً كما في شبابه، شاربه الأبيض الكثيف يُذكّر الجميع بأيام ١٩٩٥ عندما أوقف القطارات ثلاثة أسابيع وأسقط حكومةً بأكملها. كان يرتدي قميصاً أزرق مفتوحاً على الصدر، وفي جيبه علبة غولواز لم يُشعل منها سيجارةً واحدة منذ بداية الاجتماع، لأنه كان يعرف أن هذه اللحظة لا تُدخَّن، تُعاش. كان الصمت في القاعة ثقيلاً، ثقيلاً كأن كل كرسيٍ يحمل فوق ظهره مئة سنة من النضال، وكل نفسٍ يحمل فوق صدره اسم طفلةٍ اسمها لين.
نظر بيير إلى الوجوه أمامه، وجوهٌ يعرفها منذ عقود، وجوهٌ رأها تبكي في إضراباتٍ فشلت، ورأها تضحك في انتصاراتٍ صغيرة، ورأها الآن، لأول مرة منذ زمنٍ طويل، مشتعلةً بنارٍ لا تُطفأ. رفع يده ببطء، ليس ليطلب الصمت، فالصمت كان كاملاً، بل ليطلب الإذن بأن يتكلم، إذنٌ من التاريخ نفسه. ثم تكلم، بصوتٍ هادئٍ في البداية، صوتٌ يُشبه صوت الأب الذي يُعلّم ابنه درساً أخيراً:
«الرفاق، قبل ثلاثين سنة، كنّا نُضرب لأجل الراتب، لأجل ساعات العمل، لأجل التقاعد. كنّا نُضرب لأنفسنا. اليوم، نحن هنا لنُضرب لأجل طفلةٍ لم نرها يوماً، طفلةٌ اسمها لين، ماتت في رفح لأن قنبلةً صنعتها شركةٌ يملكها صندوقٌ اسمه فانغارد، صندوقٌ يأخذ من راتبنا كل شهر ليُحوّله إلى موت. اليوم، نحن هنا لنقول شيئاً لم نقله من قبل: لم نعد نُضرب لأنفسنا فقط. نُضرب لأن البشرية كلها تُذبح في غزة، ونحن، بأيدينا، بصمتنا، بشركائنا».
توقف لحظة. كان الصمت في القاعة الآن كأنه صمتٌ قبل العاصفة، صمتٌ يُسمع فيه نبض القلوب. ثم رفع صوته، ليس صراخاً، بل قوةً، قوةً لا تُقاوم:
«إذا أوقفنا القطارات أسبوعاً واحداً، لا أكثر، ستنهار بورصات أوروبا كلها. إذا أوقفنا المترو، والكهرباء، والموانئ، والمدارس، والمستشفيات، ليومٍ واحدٍ فقط، ستنهار المنظومة التي تُموّل الموت. الرفاق، السؤال ليس هل نستطيع. السؤال هو: هل بقي فينا ضميرٌ كفاية لنفع spalla؟»
لم يكن هناك تصفيق. التصفيق كان صغيراً جداً لهذه اللحظة. كان هناك صمتٌ آخر، صمتٌ أعمق، صمتٌ يقول «نعم». ثم وقف رجلٌ في الصف الخلفي، عاملٌ في السبعين، وجهه مُجعّد كورقةٍ قديمة، رفع يده المُرتجفة، وقال بصوتٍ مكسور: «أنا كنتُ في ٦٨. كنتُ أظن أننا خسرنا. اليوم، أنا مستعد أموت في الإضراب إذا لزم الأمر. لين تستاهل». ثم وقفت امرأةٌ في الأربعين، عاملة نظافة في المترو، ثلاثة أطفال في البيت، وقالت: «أنا أوقف المترو. أطفالي يفهمون». ثم وقف الجميع، واحدًا تلو الآخر، كأن الأرض نفسها تقوم.
ثم صوتٌ واحد، صوتٌ لم يُسمع في باريس منذ عقود: «إضراب عام! إضراب عام! إضراب عام!» تردد الصوت في القاعة، خرج من النوافذ، انتشر في الشارع، وصل إلى السين، إلى النوتردام، إلى كل زقاقٍ في المدينة. وكان بيير يقف على المنصة، عيناه مُمتلئتان بدموعٍ لا يخجل منها، ويرفع قبضته، قبضةً لا تُهدّد، بل تُعلن: «منذ عشرين سنة، ونحن مستعدون».
في تلك الليلة، لم تنم باريس. كانت المدينة كلها تتنفس بصوتٍ واحد. في كل حي، في كل مقهى، في كل شقةٍ صغيرة، كان الناس يجتمعون، يتكلمون، يخططون. كان عمال الكهرباء يقولون: «نطفئ الأنوار في الأحياء الراقية أولاً». كان عمال المترو يقولون: «نقفل كل المحطات عند الثامنة صباحاً». كان المعلمون يقولون: «لا مدارس غداً». كان الأطباء يقولون: «نُضرب إلا في الحالات الطارئة». وكان الجميع يقولون اسم لين، كأنها ابنتهم، كأنها أختهم، كأنها ضميرهم الذي استيقظ أخيراً.
وفي الصباح التالي، عندما دقت الساعة السابعة، توقفت باريس. توقفت القطارات، توقف المترو، توقفت الكهرباء في الأحياء الثرية، توقفت المدارس، توقفت المستشفيات غير الطارئة، توقفت الحياة كما كانت. لكن في الشوارع، بدأت حياةٌ أخرى. ملايين خرجوا، ليس بغضبٍ فقط، بل بفرحٍ غريب، فرحٍ من يعرف أنه، لأول مرة، يفعل الشيء الصحيح. كانوا يسيرون في جادة الشانزيليزيه، في بولفار سان ميشيل، في ساحة الباستيل، يحملون لافتاتٍ كتبوها في الليل: «لين تعيش فينا»، «الإضراب من أجل الحياة»، «لا لتمويل الموت».
وكان بيير موران يمشي في المقدمة، قميصه الأزرق مفتوح، شاربه الأبيض يرفرف في الريح، وفي عينيه نورٌ لم يره أحد منذ شبابه. كان يمشي، ووراءه ملايين، وفي قلبه اسمٌ واحد: لين. وكانت باريس، في ذلك اليوم، ليست عاصمة الأنوار، بل عاصمة الضمير الذي استيقظ أخيراً.
وفي مانهاتن، كان لاري فينك يقرأ تقريراً عن «شللٍ كامل في باريس»، ويُعلّق بخطٍ صغير: «خطرٌ على الاستقرار المالي». لم يكن يعلم أن الاستقرار المالي قد انتهى، لأن الضمير، عندما يستيقظ، لا يُفاوض، ولا يُباع، ولا يُشترى. وفي باريس، في تلك اللحظة، كان بيير يرفع قبضته، وملايين ترفع قبضتها، وصوتٌ واحد يملأ السماء: «منذ عشرين سنة، ونحن مستعدون». وكان الصوت يصل، عبر الأثير، عبر البحار، إلى كل مكانٍ حيث كان هناك إنسانٌ لا يزال يتنفس ويرفض أن يُدفن حياً.
في باريس، في ذلك اليوم، بدأ العالم يتغير، ليس بقنبلة، ولا بثورةٍ مسلحة، بل بإضرابٍ عام، بضميرٍ استيقظ، باسم طفلةٍ صار شعاراً، صار نشيداً، صار مستقبلاً. وكان بيير موران يمشي، ووراءه ملايين، وفي قلبه وعدٌ واحد: لين لن تموت مرةً أخرى. لن تموت، طالما هناك إنسانٌ واحدٌ يتنفس ويقول: كفى.
6
في روما، حيث كان أكتوبر ٢٠٣١ يُلقي على المدينة السبع تلال ضوءاً ذهبياً باهتاً كأنه ضوء مصباحٍ في غرفة مريضٍ يحتضر، كانت الجدران القديمة لا تزال تحمل آثار الكتابات التي رُسمت في أيام المقاومة ضد الموسوليني: «موت للفاشية»، «الحرية أو الموت»، كلماتٌ تلاشت ألوانها لكن حبرها بقي ينزف في الذاكرة. في تلك الليلة، في حيّ تراستيفيري العتيق، حيث تتدلى الملابس من النوافذ كأعلامٍ صغيرة للحياة اليومية، كانت هناك شرفةٌ صغيرة في بنايةٍ من القرن السابع عشر، شرفةٌ تطل على زقاقٍ ضيق يُدعى فيكولو ديل بولتي، وكانت هناك امرأةٌ في الثمانين، اسمها روزا بيتراركا، تقف على الشرفة، تتكئ على عصا خشبية، وتنظر إلى الظلام كأنها تبحث عن شيءٍ فقدته منذ سبعين سنة.
كانت روزا، في شبابها، فتاةً في التاسعة عشرة عندما انضمت إلى المقاومة الشيوعية في ١٩٤٣. كانت تحمل الرسائل المشفرة في سلة خبز، وتُخفي المسدسات في أكياس الدقيق، وتُغني في الليل مع الرفاق أغنية «بيلا تشاو» بصوتٍ يُذيب الحديد. كانت قد رأت أصدقاءها يُعلَّقون على أعمدة النور في فيا راسيلا، ورأت البيت الذي ولدت فيه يُحرق، ورأت أمها تُقتل برصاصةٍ طائشة وهي تحاول إطعام جارتها. كانت قد بقيت على قيد الحياة بالصدفة، أو بالعناد، أو بالحب، لا أحد يعرف. وبعد الحرب، عاشت حياةً هادئة، تزوجت، أنجبت، علّمت التاريخ في مدرسةٍ ثانوية، وكانت تُردّد لتلاميذها دائماً: «التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يُدندن بنفس اللحن إذا لم ننتبه».
في تلك الليلة، كانت روزا قد شاهدت الأخبار: أثينا مشتعلة، لشبونة مغلقة، برلين جالسة، مدريد محتلة، باريس مُضربة. كانت قد رأت صورة لين، ورأت في عينيها عيني أختها الصغرى التي ماتت في قصفٍ ألماني عام ١٩٤٤. كانت يدها ترتجف وهي تمسك بكوبٍ من النبيذ الأحمر الرخيص، نبيذٌ من كاستيلي روماني، نفس النبيذ الذي كانوا يشربونه في الكهوف أثناء المقاومة. ثم فعلت شيئاً لم تفعله منذ خمسين سنة: فتحت خزانةً قديمة في غرفة نومها، أخرجت منها صندوقاً خشبياً صغيراً، فتحته، وأخرجت علمًا أحمر صغيراً، مطوياً بعناية، محروقاً من طرفٍ واحد، علمٌ كانت تحمله في تظاهرة ١٩٤٤، علمٌ كان يُفترض أن يبقى مخفياً إلى الأبد.
وقفت على الشرفة، ورفعت العلم بيدٍ مرتجفة، وكتبت على جدار البيت بخطٍ كبير، متعرج، بطلاءٍ أحمر كان يستخدمه ابنها للرسم: «كنتُ في المقاومة ضد الموسوليني، وسأكون في المقاومة ضد غولدمان ساكس». كان الخط يرتجف، لكن الكلمات كانت ثابتة، ثابتةً كأنها محفورة في الحجر. ثم تركت العلم يرفرف من الشرفة، في الريح الخفيفة التي جاءت من التيبر، وجلست على كرسيٍ صغير، وانتظرت.
في الصباح التالي، عندما استيقظ الحي، كان العلم لا يزال يرفرف، والكتابة لا تزال على الجدار. في البداية، مرّ الناس ونظروا بدهشة، ثم بابتسامة، ثم بصمتٍ عميق. ثم بدأوا يصورون. صورة العلم، صورة الكتابة، صورة روزا التي كانت لا تزال جالسة على الشرفة، تشرب قهوتها، وتنظر إلى الزقاق كأنها تنتظر أحداً. في ساعات، انتشرت الصورة في كل إيطاليا، ثم في أوروبا، ثم في العالم. صارت روزا رمزاً، ليس لأنها كبيرة في السن، بل لأنها قالت ما لم يجرؤ أحدٌ على قوله بصوتٍ عالٍ: الفاشية لم تمت، فقط غيّرت بدلتها، وارتدت بدلةً من توم فورد، وانتقلت من روما إلى مانهاتن.
ثم بدأت روما تتحرك. في البداية، كانوا مئات، تجمعوا أمام بيت روزا، يحملون أعلاماً حمراء صغيرة، يغنون «بيلا تشاو» بصوتٍ خافت، كأنهم يخافون من إزعاج الجدة. ثم صاروا آلافاً، ثم عشرات الآلاف، ثم مئات الآلاف. كانوا يأتون من نابولي، من جنوة، من تورينو، من صقلية، عمالٌ، طلابٌ، عجائزٌ، أطفالٌ، كاثوليكيون، شيوعيون، ليبراليون، لا فرق. كانوا يحملون صورة روزا، وصورة لين، وكانوا يسيرون في شوارع روما، مروراً بالكولوسيوم، مروراً بفوري إمبيريالي، مروراً بمبنى البورصة الإيطالية، وكانوا يصرخون بشيءٍ واحد: «روزا معنا! لين معنا! كفى!»
وكانت روزا، من شرفتها، ترفع يدها المرتجفة، وتبكي بهدوء، دموعٌ لا تخجل منها، دموعٌ تقول: «أخيراً، أخيراً، عدتم». وكان الناس ينظرون إليها كأنها قديسةٌ من زمنٍ آخر، قديسةٌ لم تُعلّق في الكنائس، بل في الشوارع، في القلوب، في التاريخ الذي يُكتب الآن.
في تلك الليلة، لم تنم روما. كانت المدينة كلها في الشوارع، تضيء الشموع، تُغني، تبكي، تضحك. وكانت روزا لا تزال على شرفتها، العلم الأحمر يرفرف، والكتابة على الجدار لا تزال تقول الحقيقة التي لم يجرؤ أحدٌ على قولها: المقاومة لم تمت. المقاومة كانت تنتظر فقط لحظةً، لحظةً اسمها لين، لحظةً اسمها روزا، لحظةً اسمها كرامة.
وفي مانهاتن، كان لاري فينك يقرأ تقريراً عن «مظاهراتٍ غير متوقعة في روما بقيادة امرأةٍ مسنة»، ويُعلّق بخطٍ صغير: «لا تأثير مالي مباشر». لم يكن يعلم أن التأثير قد بدأ، ليس في الأرقام، بل في القلوب، وأن قلب امرأةٍ في الثمانين في روما قد يكون أقوى من كل الأرقام في العالم.
في روما، في تلك الليلة، كانت روزا تنام أخيراً، نوماً عميقاً، وفي حلمها، كانت ترى أختها الصغرى، وترى لين، وكانتا تضحكان، وتركضان في حقلٍ من الزيتون، وكان العلم الأحمر يرفرف فوق رأسيهما، وكانت روزا تبتسم في نومها، لأنها، لأول مرة منذ ثمانين سنة، شعرت أنها لم تخسر. شعرت أنها فازت، فوزاً صغيراً، فوزاً كبيراً، فوزاً اسمه المستقبل.
7
في بروكسل، حيث كانت أمطار أكتوبر ٢٠٣١ تتساقط كدموعٍ باردةٍ على واجهات الزجاج اللامعة لأحياء المؤسسات الأوروبية، كانت القاعة الكبرى في مبنى بيرسمان مكتظةً بوجوهٍ شاحبةٍ ترتدي بدلاتٍ رماديةً وباهتةً كأنها ألوان الخوف نفسه. كان وزراء المالية في الاتحاد الأوروبي قد اجتمعوا في جلسةٍ طارئةٍ مغلقة، أبوابٌ ثقيلةٌ من خشب البلوط، حراسٌ ببدلاتٍ سوداء، شاشاتٌ تُظهر أرقاماً حمراء تتراقص كأنها دمٌ يتدفق من جرحٍ مفتوح في قلب القارة. في الخارج، كانت الشوارع خالية، ليس لأن المطر أبعد الناس، بل لأن الناس كانوا في بيوتهم يشاهدون الأخبار، يشاهدون أثينا مشتعلة، لشبونة مغلقة، برلين جالسة، مدريد محتلة، باريس مُضربة، روما تصرخ بصوت جدةٍ في الثمانين. كانوا يشاهدون، وفي قلوبهم شيءٌ يتحرك، شيءٌ لم يتحرك منذ عقود.
في داخل القاعة، كان الجو مشحوناً كأنه قبل انفجارٍ لا يُرى. وزير المالية الفرنسي، رجلٌ في الخمسين ببدلةٍ إيطاليةٍ مكويّةٍ بعنايةٍ مرضية، كان يمسح جبينه بمنديلٍ أبيض باستمرار، وصوته يرتجف وهو يقول: «إذا استمر الإضراب العام في باريس، وإذا تبعته إسبانيا وإيطاليا، فإن اليورو سينهار في أسبوع». كان الجميع يعرفون ذلك. كانوا يعرفون أن القطارات متوقفة، أن الموانئ مغلقة، أن المصانع محتلة، أن الشباب في برلين يجلسون أمام مكاتب الاحتكارات، أن امرأةً في روما كتبت على جدارها كلماتٍ جعلت ملايين يخرجون إلى الشوارع. كانوا يعرفون، وكان الخوف ينبعث منهم كرائحةٍ حامضةٍ لا تُخفى.
ثم وقف وزير المالية اليوناني، رجلٌ في الأربعين ببدلةٍ رخيصةٍ نسبياً، عيناه محمرتين من الأرق أو من البكاء، لا فرق، وكان صوته بارداً كالثلج لكنه يحمل في طياته ناراً لا تُطفأ: «ربما حان الوقت لنظام عملةٍ جديد». لم يكن تهديداً، كان اقتراحاً، اقتراحاً يُقال بهدوءٍ لكنه يحمل في داخله انهياراً كاملاً لكل ما بنوه منذ ما استرخت. ابتسم ابتسامةً خفيفة، باردة، ابتسامةً تقول: لقد جوعتمونا، أذللتمونا، قتلتم أطفالنا بالديون، والآن، حان دورنا. لم يقل ذلك، لكنه كان واضحاً في عينيه، في طريقة وقوفه، في صوته الذي لم يرتجف ولو للحظة.
في تلك اللحظة، انقسمت القاعة إلى قسمين: قسمٌ يعرف أن اللعبة انتهت، وقسمٌ لا يزال يتشبث بالوهم. وزيرة المالية الألمانية، امرأةٌ في الخمسين ببدلةٍ سوداء، شعرها مربوطٌ بإحكام، حاولت أن تُعيد النظام: «يجب أن نتحدث عن حلولٍ عملية، عن إجراءاتٍ طارئة، عن استعادة الثقة». لكن كلمة «الثقة» سقطت في القاعة كحجرٍ في بئرٍ جافة. لم يعد هناك ثقة. لم يعد هناك شيءٌ يُمكن استعادته. كان الشعب قد خرج، ليس بغضبٍ فقط، بل بوعيٍ جديد، وعيٍ يقول: نحن لسنا أرقاماً في جدول، نحن بشر، ولين كانت بشر، ودمها على أيدينا جميعاً.
ثم حدث شيءٌ لم يتوقعه أحد. فتحت الأبواب فجأة، ودخل حشدٌ من المتظاهرين، ليس بالقوة، بل بهدوءٍ غريب، هدوءٌ أخطر من أي صراخ. كانوا مندوبين عن النقابات، عن الطلاب، عن العمال، عن الجدات مثل روزا، عن الأمهات اللواتي فقدن أطفالاً في أماكنَ بعيدة. كانوا يحملون لافتةً كبيرةً واحدة، مكتوب عليها بخطٍ كبير: «هذا المبنى ملك الشعب الآن». لم يحطموا شيئاً، لم يرفعوا أصواتهم، فقط جلسوا على الأرض، في دائرةٍ كبيرة، ووضعوا في الوسط صورة لين، وأضاءوا شمعةً صغيرة. ثم بدأوا يغنون، بصوتٍ خافتٍ في البداية، ثم أعلى، أغنيةً لم تكن أغنيةً وطنية، بل أغنيةً إنسانية، كلماتٌ بسيطة: «لين لم تمت، لين تعيش فينا».
كان الوزراء ينظرون بدهشة، ثم بخوف، ثم بصمتٍ ثقيل. لم يتحرك أحد ليُخرجهم. لم يجرؤ أحد. كان هناك شيءٌ في هذا الجلوس، في هذه الشمعة، في هذه الأغنية، شيءٌ أقوى من كل الأوامر، من كل الحراس، من كل الأرقام الحمراء على الشاشات. كان هناك ضميرٌ قد استيقظ، ولم يعد يُمكن إسكاته.
في تلك اللحظة، في بروكسل، في قلب الاتحاد الأوروبي، سقط النظام القديم، ليس بقوة السلاح، بل بقوة الجلوس، بقوة الغناء، بقوة اسم طفلةٍ صار أكبر من كل المباني الزجاجية، من كل الأرقام، من كل الأكاذيب. وكان وزير المالية اليوناني يبتسم ابتسامةً أوسع، ويقول بهدوءٍ للجميع: «انتهى زمن التبعية. بدأ زمن الشعب».
وفي مانهاتن، كان لاري فينك يقرأ تقريراً عن «اقتحامٍ سلميٍّ لمقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل»، ويُعلّق بخطٍ صغير: «يجب التنسيق مع واشنطن». لم يكن يعلم أن واشنطن نفسها بدأت تشعر بالزلزال، وأن الزلزال هذا ليس في أوروبا فقط، بل في كل مكانٍ حيث كان هناك إنسانٌ واحدٌ لا يزال يتنفس ويقول: كفى.
في بروكسل، في تلك اللحظة، لم يعد هناك وزراء، ولا مؤسسات، ولا يورو، ولا ديون. كان هناك فقط شمعةٌ صغيرة، وصورة طفلة، وأغنيةٌ خافتة، وشعبٌ قد استيقظ أخيراً. وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل أوروبا، في كل العالم: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. وفي تلك اللحظة، بدأ العالم الجديد، ليس بقرارٍ من فوق، بل بجلوسٍ من أسفل، بضميرٍ من الداخل، بحبٍ من القلب. بدأ العالم الجديد، وكان اسمه: كرامة.
……
الفصل الثالث: الثالث من أكتوبر
1
في الثالث من أكتوبر ٢٠٣١، عندما كانت الساعة تدق التاسعة صباحاً بتوقيت باريس، توقف العالم للحظة، لم يتوقف بالمعنى الحرفي، لم تتجمد الطائرات في الجو ولا انطفأت الشمس، لكن شيئاً أعمق من الزمن نفسه توقف، كأن قلباً خفياً، قلباً يجمع ملايين الصدور في قارةٍ واحدة، قد دق ضربةً واحدةً، ضربةً موحدةً، ضربةً تقول: الآن. لم يكن هناك أمرٌ مركزي، لم يكن هناك زرٌ ضغط في غرفةٍ سرية، لم يكن هناك صوتٌ في الراديو، فقط صمتٌ مفاجئ، صمتٌ تام، صمتٌ يُسمع فيه صوت الضمير وهو يستيقظ بعد نومٍ طويل.
في باريس، في محطة غار دو نور، توقفت القطارات فجأة، ليس بسبب عطلٍ فني، بل لأن السائقين، رجالٌ ونساءٌ في الخمسين والستين، أطفأوا المحركات، وفتحوا الأبواب، وتركوا الركاب يخرجون بهدوء، ثم جلسوا في مقصوراتهم، وأشعلوا سجائرهم، وانتظروا. في اللحظة نفسها، في أنتويرب، أغلقت بوابات الميناء الحديدية الكبيرة ببطء، كأن يدٌ عملاقةٍ غير مرئيةٍ تضغط عليها، ووقف عمال الميناء في صفوفٍ طويلة، يرتدون خوذاتهم الصفراء، ورفعوا لافتةً واحدةً كتبوها في الليل: «لا مزيد من الموت يمر من هنا». في روما، أطفأ عمال الكهرباء المفاتيح الكبرى في محطة تيرميني، وانقطعت الأنوار عن الأحياء الراقية أولاً، عن الفيلات في باريولي، عن المكاتب في يور، وتركوا الأحياء الشعبية مضاءة، كأنما يقولون: النور للشعب، والظلام لمن يستحقونه.
في برلين، في الساعة العاشرة بالضبط، توقفت القطارات في محطة فريدريش شتراسه، ونزل الركاب بهدوء، وانضموا إلى الشباب الذين كانوا لا يزالون جالسين أمام مبنى فيديليتي منذ أيام، وصارت الدائرة أكبر، أوسع، حتى غطت الشارع كله. في مدريد، في مصنع فولكسفاغن في خيتافي، رفع العمال العلم الأحمر أعلى، وأشعلوا شموعاً جديدة أمام صورة لين، وجلسوا في صمتٍ، صمتٍ يقول: نحن هنا، ولن نتحرك. في لشبونة، بقيت السفن في عرض البحر، والعمال لا يزالون على الرصيف، ينامون تحت النجوم، يحرسون الموت الذي لم يعد يمر. في أثينا، في ميدان سينتاغما، كان الناس لا يزالون واقفين، منذ أسابيع، يرفضون المغادرة، يرفضون العودة إلى بيوتٍ لم تعد بيوتاً، يرفضون حياةً لم تعد حياة.
لم يكن هناك إنذار، لم يكن هناك بيانٌ مشترك، لم يكن هناك زعيمٌ يُعلن بداية الإضراب العام الأوروبي. كان هناك فقط فعلٌ واحد، متزامن، كأن روحاً واحدةً قد استيقظت في ملايين الصدور في اللحظة نفسها، روحٌ تقول: كفى. كفى للديون التي تُقتل بها الأجيال، كفى للقنابل التي تُموّل بمدخراتنا، كفى للأكاذيب التي تُقال باسم «الاستقرار»، كفى للصمت الذي صار جريمةً. كان هذا الفعل، هذا التوقف المتزامن، أجمل ما فعله الإنسان منذ قرون: لم يرفعوا سلاحاً، لم يكسروا زجاجاً، لم يحرقوا سيارةً، فقط توقفوا. توقفوا عن الحركة، عن الإنتاج، عن الطاعة، عن العبودية المُقنّعة باسم «الوظيفة»، «الراتب»، «المستقبل».
في تلك اللحظة، شعر الجميع، في باريس وروما وبرلين ومدريد ولشبونة وأثينا، أن شيئاً ما قد انكسر إلى الأبد: الخوف. لم يعد الخوف يسكنهم. كان الخوف قد انتقل إلى الجهة الأخرى، إلى الذين يجلسون في المكاتب المكيّفة، إلى الذين يضغطون الأزرار، إلى الذين يعتقدون أن العالم سيبقى دائماً تحت سيطرتهم لأنهم يملكون الأرقام. في تلك اللحظة، صار الشعب، لأول مرة منذ قرون، قوةً واحدةً، قوةً لا تُقهر، لأنها لا تطلب شيئاً لنفسها، تطلب فقط شيئاً بسيطاً، شيئاً مستحيلاً، شيئاً إنسانياً: أن تتوقف الآلة التي تقتل الأطفال باسم الربح.
في باريس، كان بيير موران يقف في محطة غار دو ليون، يدخن سيجارةً أخيراً بعد أسابيع، وينظر إلى القطارات الصامتة، ويبتسم ابتسامةً هادئة، ابتسامةً تقول: لقد فعلناها. في روما، كانت روزا على شرفتها، العلم الأحمر يرفرف، ودموعها تسيل على وجهها، لأنها، لأول مرة منذ ثمانين سنة، شعرت أن المقاومة لم تمت. في برلين، كانت ليلى، الطالبة الفلسطينية-الألمانية، تجلس في الدائرة، وتُغني بصوتٍ خافت، وفي قلبها اسم لين ينبض، ينبض، ينبض. في مدريد، كان خافيير يقف أمام صورة لين في المصنع، ويرفع قبضته، ويهمس: «الآن، يا لين، السيارات لن تذهب إلى هناك بعد اليوم».
وفي نيويورك، في الطابق السابع والستين، كان لاري فينك يقف أمام شاشته السوداء، وكان السطر الأخضر الذي اعتاد أن يراه كل صباح لم يظهر. كان هناك سطرٌ أحمر، سطرٌ واحد، بخطٍ صغير: «انخفاض ٤٢٪ في أسهم بلاك روك – تداول متوقف مؤقتاً». لم يتحرك. لم يتكلم. فقط وقف، ونظر إلى الشاشة، وشعر، لأول مرة منذ خمسين سنة، بشيءٍ يُشبه الخوف. ليس خوفاً من خسارة المال، بل خوفاً من شيءٍ أكبر، خوفاً من أن يكون قد أخطأ، من أن يكون العالم الذي بناه، بكل أزراره، بكل أرقامه، بكل قهوته الإثيوبية، قد انتهى.
في تلك اللحظة، في الثالث من أكتوبر، عندما توقفت القطارات، وأغلقت الموانئ، وانقطعت الكهرباء، وجلس الشباب، ورفع العمال الأعلام، وغنى الناس، وصلّت الجدات، وبكى الأطفال، وابتسم العجائز، بدأت ثورةٌ لم تُسمّ بعد، لكنها كانت أجمل ثورةٍ في التاريخ، لأنها لم ترفع السلاح، رفعت فقط الضمير. وكان اسمها، في قلب كل إنسانٍ شارك فيها، اسم طفلةٍ صغيرةٍ ماتت في رفح، اسمٌ صار الآن أكبر من كل الأرقام، من كل الأبراج الزجاجية، من كل الأكاذيب: لين.
وفي تلك اللحظة، بدأ العالم الجديد، ليس بصوتٍ عالٍ، بل بصمتٍ كبير، صمتٍ يقول: الآن، نحن أحياء.
2
في نيويورك، حيث كانت الساعة تدق الثالثة صباحاً بتوقيت الساحل الشرقي في الثالث من أكتوبر ٢٠٣١، انفجر الصمت أخيراً في وول ستريت كأنه زجاجٌ هشٌّ سقط من علوٍ شاهق. كان الصمت أولاً، ثم جاءت الأصوات، أصوات الهواتف التي ترنّ بلا توقف، أصوات الرجال والنساء الذين يصرخون في هواتفهم بأصواتٍ مكسورة، أصوات أجهزة الكمبيوتر التي تُطلق صفيراً حاداً كأنها تُعلن عن موتٍ مفاجئ. في الطابق السابع والستين من برج بلاك روك، كان لاري فينك قد استُدعي من نومه العميق في هامبتونز، سيارةٌ سوداء أقلّته بسرعةٍ جنونية عبر الجسور المُغلقة جزئياً، سائقٌ لا يتكلم، طريقٌ خالٍ إلا من أضواء الطوارئ. وصل، مرّ من الباب الخلفي، صعد بالمصعد الخاص، ودخل مكتبه حيث كانت الشاشة السوداء التي يعرفها منذ عقود تُظهر شيئاً لم تره عيناه يوماً: أسهم بلاك روك تنهار بنسبة ٤٢٪ في أقل من ساعة، ثم ٥٨٪، ثم توقف التداول تماماً، كأن قلب البورصة نفسه توقف عن النبض.
كان المكتب مكتظاً بالرجال والنساء في بدلاتٍ مكرمشة، عيونهم حمراء، أصواتهم مكتومة، يتحدثون بلغةٍ لم يعد لها معنى: «سيولة»، «هامش»، «تدخل فدرالي»، «خطة طوارئ». لم يكن أحد ينظر إلى لاري مباشرة، كأن النظر إليه الآن يعني الاعتراف بأن الإله الذي عبدوه لعقود قد سقط. وقف لاري أمام الشاشة، يداه في جيبيه، وجهه جامداً كأنه قناعٌ من حجر، لكن في داخله كان هناك شيءٌ يتحطم ببطء، شيءٌ لم يشعر به من قبل، شيءٌ يُشبه الفراغ، فراغٌ أسود، عميق، لا قعر له. لم يصرخ، لم يضرب الطاولة، فقط سأل بصوتٍ هادئٍ جداً، صوتٌ يُخيف أكثر من أي صراخ: «ماذا يحدث في أوروبا؟»
كان الجواب يصل قطعاً قطعاً، كأن كل كلمةٍ تُقتلع من حلقٍ مُرعش: القطارات متوقفة في فرنسا، الموانئ مغلقة في بلجيكا وهولندا، الكهرباء مُطفأة في أجزاء من إيطاليا، المصانع محتلة في إسبانيا، الشباب يجلسون أمام مكاتبهم في برلين، مبنى الاتحاد الأوروبي في بروكسل تحت سيطرة المتظاهرين السلميين. ثم جاءت الكلمة الأخيرة، كلمةٌ قالها أحد المحللين بصوتٍ مكسور: «إنهم لا يطلبون زيادة رواتب… إنهم يطلبون تأميماً… تأميماً عالمياً… لنا». لم يكن هناك صوتٌ بعد ذلك. فقط صمتٌ ثقيل، صمتٌ يُسمع فيه صوت الأرقام وهي تنهار، صوت إمبراطوريةٍ ماليةٍ بُنيت على مدى عقود وهي تتداعى في ساعات.
اتصل لاري بالبيت الأبيض مباشرة، خطٌ آمن، خطٌ لم يستخدمه من قبل إلا في أزماتٍ «حقيقية»، أزماتٍ مثل ٢٠٠٨، لكن هذه المرة لم يرد أحد. كان الرئيس في غرفة العمليات، يتابع شيئاً آخر، شيئاً أكبر: الطائرات الأوروبية لا تقلع، لأن المطارات مُضربة، شركات التأمين الأوروبية ترفض تغطية أي رحلةٍ فوق الأطلسي، البنوك الأوروبية تغلق أبوابها واحدةً تلو الأخرى، ليس بأمرٍ من الحكومات، بل بقرارٍ من موظفين عاديين قرروا أن اليوم ليس يوم عملٍ عادياً. كان العالم القديم ينهار، ليس بقنبلة، ولا بثورةٍ مسلحة، بل بصمتٍ، صمتٌ أوروبيٌّ كبير، صمتٌ يقول: لم نعد نلعب.
في تلك اللحظة، رنّ هاتف لاري مرةً أخيرة. كان الرئيس على الخط، صوته مُتعب، مكسور، صوتٌ لم يسمعه لاري من قبل: «لاري… لا نستطيع فعل شيء… إنهم لا يطلبون مفاوضات… إنهم فقط… توقفوا». ثم سكت، سكتٌ طويل، ثم أضاف: «إنهم يقولون اسم طفلة… لين… لا أعرف حتى من هي». ثم أغلق الخط. لم يكن هناك المزيد ليقال.
وقف لاري أمام النافذة، ينظر إلى مانهاتن المُظلمة جزئياً، لأن الكهرباء بدأت تنقطع في أجزاء من المدينة تضامناً، وشعر، لأول مرة في حياته، أنه عارٍ تماماً. لم يكن عارياً من الملابس، بل من القوة، من اليقين، من الوهم بأن المال يستطيع أن يشتري كل شيء، حتى الصمت. كان يشعر أن كل الأزرار التي ضغطها، كل الأوامر التي أعطاها، كل الأرباح التي جناها، قد تحولت فجأة إلى رمادٍ في فمه. لم يبكِ، لم ينهار، فقط وقف، ونظر إلى الشاشة السوداء التي لم تعد تُظهر شيئاً، وشعر أن العالم الذي بناه بيديه قد انتهى، ليس بصوتٍ عالٍ، بل بهمسٍ أوروبيٍّ بعيد، همسٌ يقول اسم طفلةٍ لم يسمع بها يوماً، اسمٌ صار الآن أقوى من كل الأرقام، من كل الأبراج، من كل الأكاذيب: لين.
في تلك اللحظة، في نيويورك، في الطابق السابع والستين، سقط إلهٌ قديم، لم يسقط بصوتٍ، بل بصمتٍ، صمتٌ يُسمع فيه صوت التاريخ وهو يُعيد كتابة نفسه من جديد، بقلمٍ من دمٍ ونارٍ وكرامة. وكان لاري فينك يقف وحيداً، أمام شاشةٍ سوداء، وفي قلبه فراغٌ أسود، فراغٌ لم يعد يملكه أحد، لأن الشعب، في أوروبا، قد استردّ، لأول مرة منذ قرون، ما كان له دائماً: السلطة، ليس سلطة المال، بل سلطة الضمير.
وفي باريس، في روما، في برلين، في مدريد، في لشبونة، في أثينا، كان الناس يرقصون في الشوارع، ليس رقص فرحٍ عادي، بل رقص من يعرف أنه انتصر، انتصر بلا سلاح، انتصر بالتوقف، بالجلوس، بالغناء، بالبكاء، بالرفض. وكانوا يرقصون، وفي قلوبهم اسمٌ واحد، اسمٌ صار الآن نشيداً، صار علماً، صار مستقبلاً: لين. لين. لين. وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى وصل إلى نيويورك، إلى الطابق السابع والستين، إلى أذني رجلٍ كان يظن أن العالم ملكه، وفهم أخيراً أن العالم لم يعد ملك أحد، العالم صار، أخيراً، ملك الشعب.
3
في ستراسبورغ، في الثالث من أكتوبر عند الظهيرة بالضبط، فُتحت أبواب البرلمان الأوروبي الكبيرة من الداخل لأول مرة منذ بنائه، ليس بأيدي الحراس، ولا بأيدي النواب، بل بأيدي الناس العاديين، أناسٍ جاؤوا من كل أنحاء القارة، من أثينا إلى لشبونة، من برلين إلى مدريد، من باريس إلى روما، جاؤوا بقطاراتٍ توقفت في منتصف الطريق ثم استأنفت سيرها لأن السائقين قرروا أن هذا اليوم ليس يوم عمل، جاؤوا بسياراتٍ قديمة، بدراجاتٍ هوائية، مشياً على الأقدام، يحملون أعلاماً حمراء صغيرة، وصوراً مطبوعةً للين، وشموعاً بيضاء صغيرة، وكرامةً لم يشعروا بها منذ أجيال.
لم يكن هناك عنف، لم يكن هناك كسرٌ للأبواب، لم يكن هناك صراخٌ أو تهديد. كان هناك فقط تدفقٌ هادئ، تدفقٌ لا يُقاوم، كأن نهراً بشرياً قد قرر أن يعود إلى مجراه الأصلي. دخلوا القاعة الكبرى، القاعة التي كانت دائماً مُغلقةً أمام الشعب، القاعة التي كانت تُقرر فيها مصائر الملايين من وراء زجاجٍ معتم، وجلسوا على الأرض، في دوائرٍ كبيرة، بهدوءٍ يُرعب أكثر من أي صوت. لم يحطموا شيئاً، لم يسرقوا ورقةً واحدة، فقط جلسوا، ووضعوا في وسط القاعة لافتةً كبيرةً كتبوها بخطوطٍ يدويةٍ متعرجة: «هذا المبنى ملك الشعب الآن».
كان هناك رجلٌ عجوز من اليونان، في السبعين، يرتدي قميصاً مُفرغاً من الأكمام، يحمل صورة ابنته التي هاجرت إلى كندا قبل عشر سنوات، وكان هناك امرأةٌ من فرنسا، في الأربعين، عاملة نظافة في المترو، تحمل صورة ابنها الذي يعاني من مرضٍ نادر لم يعد لديها المال لعلاجه، وكان هناك شابٌ من ألمانيا، في الثانية والعشرين، يرتدي كوفيةً فلسطينية، يحمل صورة لين، وكان هناك جدةٌ من إيطاليا، تشبه روزا، تحمل علمًا أحمر صغيراً محروقاً من طرف. جلسوا جميعاً، وأضاءوا الشموع، ووضعوا الصور في الوسط، وبدأوا يغنون، بصوتٍ خافتٍ في البداية، ثم أعلى، أغنيةً لم تكن أغنيةً وطنية، بل أغنيةً إنسانية، كلماتٌ بسيطةٌ تتكرر بلغاتٍ مختلفة: «لين تعيش… لين معنا… لين هي نحن».
كان البث المباشر ينتشر في العالم كله، لأن أحد الشباب كان يصور بهاتفه، وكان الملايين يشاهدون، في غزة، في بيروت، في القاهرة، في تونس، في الجزائر، في كل مكانٍ حيث كان هناك إنسانٌ يعرف اسم لين، وكانوا يبكون، ويرفعون أيديهم، ويرددون الاسم نفسه. وفي ستراسبورغ، كانت القاعة الكبرى، التي كانت دائماً رمزاً للبعد واللامبالاة، قد تحولت فجأة إلى قلبٍ نابض، قلبٍ يجمع كل الدماء، كل الأوجاع، كل الأحلام.
لم يجرؤ أحدٌ على إخراجهم. كان الحراس يقفون في الخارج، عيونهم مُحمرة، أيديهم لا تتحرك، لأن بعضهم كان يعرف أن أبناءهم أو إخوانهم أو آباءهم بين الجالسين. وكان النواب، الذين هربوا من المبنى في الصباح، يشاهدون البث من فنادقهم، وجوههم شاحبة، يديهم ترتجف، لأنهم فهموا أخيراً أن الشعب لم يعد يطلب، الشعب يأخذ.
ثم حدث شيءٌ لم يتوقعه أحد. بدأ الناس يقفون، واحدًا تلو الآخر، ويضعون أيديهم على قلوبهم، ويُعلنون بصوتٍ هادئٍ لكنه يُسمع في كل القاعة: «نحن نُعلن، باسم الشعب الأوروبي، بدء عملية التأميم الشعبي لكل فروع بلاك روك، فانغارد، ستيت ستريت، فيديليتي، جي بي مورغان، وغولدمان ساكس في… كل الأراضي الأوروبية». لم يكن هناك تصويت، لم يكن هناك قانون، لم يكن هناك برلمان، فقط صوتٌ واحد، صوت الشعب، صوتٌ لم يُسمع منذ قرون، صوتٌ يُعلن أن الزمن القديم قد انتهى.
وفي تلك اللحظة، في ستراسبورغ، في قاعة البرلمان الأوروبي، وُلدت جمهوريةٌ جديدة، ليست جمهوريةً بالمعنى القديم، بل جمهورية الضمير، جمهورية الكرامة، جمهورية لين. وكان الناس يبكون، ويضحكون، ويحتضنون بعضهم، ويغنون، وكانت الشموع تُضيء وجوههم، وكانت الصور تُضيء قلوبهم، وكان العالم كله يشاهد، ويعرف أن شيئاً ما قد تغير إلى الأبد.
وفي نيويورك، كان لاري فينك يشاهد البث المباشر على شاشةٍ كبيرة في مكتبه، وكان وجهه شاحباً، ويداه ترتجفان لأول مرة في حياته، لأنه رأى اللافتة، ورأى الصورة، ورأى الاسم: لين. ورأى أن الشعب لم يعد يطلب، الشعب يأخذ. وفي تلك اللحظة، فهم أن كل الأزرار التي ضغطها، كل الأوامر التي أعطاها، كل الأرباح التي جناها، قد تحولت إلى رماد، لأن الشعب، في أوروبا، قد استرد ما كان له دائماً: السلطة، ليس سلطة المال، بل سلطة الحياة.
في ستراسبورغ، في تلك اللحظة، لم يعد هناك برلمان، ولا مؤسسات، ولا قوانين قديمة. كان هناك فقط شعبٌ جالس، يُغني، يبكي، يضحك، يُعلن ميلاد عالمٍ جديد، عالمٍ اسمه لين. وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل العالم: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. وكان العالم، في تلك اللحظة، قد بدأ يتغير، ليس بقوة، بل بحب، ليس بكراهية، بل بكرامة، ليس بالموت، بل بالحياة. بدأ العالم الجديد، وكان أجمل مما تخيّله أحد.
4
في لندن، في الثالث من أكتوبر عند الثانية عشرة ظهراً بتوقيت غرينتش، توقفت المدينة التي كانت تُدير العالم منذ قرون، ليس لأن السماء انشقّت، ولا لأن القنابل سقطت، بل لأن قلبها، قلبها الحقيقي، قلب العمّال في الأنفاق، قد قرر أن ينبض بإيقاعٍ جديد. كان المترو، ذلك الوحش الحديدي الذي يحمل كل يوم ثمانية ملايين روح تحت الأرض، قد توقف فجأة، في كل الخطوط، في كل المحطات، في كل نفق. لم يكن عطلاً فنياً، لم يكن إرهاباً، كان قراراً، قراراً صامتاً اتُخذ في غرفٍ صغيرة تحت الأرض، في استراحاتٍ تفوح منها رائحة الشاي البارد والسجائر والعرق، قراراً اتُخذ بكلمةٍ واحدةٍ همسها سائقٌ في الخمسين في ميكروفونه الخاص: «كفى».
توقفت القطارات في منتصف الأنفاق، أبوابها تُفتح ببطء، والركاب يخرجون بهدوءٍ غريب، لا صراخ، لا ذعر، فقط صمتٌ يُشبه الصمت الذي يسبق العاصفة. ثم بدأ السائقون والعاملون يخرجون، يرتدون ستراتهم البرتقالية الفسفورية، يحملون لافتاتٍ صغيرةً كتبوها في الليل: «نحن معكم». لم يكن هناك زعيم، لم يكن هناك بيان، فقط فعلٌ واحد، فعلٌ يقول: لندن لم تعد جزءاً من الاتحاد الأوروبي، لكنها الآن جزءٌ من شيءٍ أكبر، شيءٌ يُسمّى الضمير.
في اللحظة نفسها، انضم عمال الأنفاق إلى عمال الموانئ في تيلبوري الذين كانوا قد أغلقوا البوابات منذ الصباح، إلى عمال الكهرباء الذين أطفأوا الأنوار عن سيتي لندن، عن الأبراج الزجاجية التي كانت تُدير المال العالمي، عن المكاتب التي كانت تُموّل القنابل. انقطعت الكهرباء عن كاناري وورف، عن البنوك، عن الشاشات التي كانت تُظهر أرقاماً حمراء تنزف، وبقيت الأنوار مضاءة في الأحياء الشعبية، في بريكستون، في توتنهام، في هاكني، كأن لندن نفسها تقول: النور للشعب، والظلام لمن يستحقونه.
ثم خرج الناس. لم يكن هناك دعوةٌ رسمية، لم يكن هناك تنظيم، فقط تدفقٌ بشريٌّ هائل، من كل حي، من كل عرق، من كل دين، من كل لغة. كانوا يحملون أعلاماً حمراء صغيرة، وصوراً للين، وكانوا يسيرون في شارع وايتهول، مروراً ببيغ بن الذي كان صامتاً لأول مرة منذ عقود، مروراً بداوننغ ستريت حيث كان رئيس الوزراء يشاهد من نافذته، وجهه شاحب، يداه ترتجفان، لأنه فهم أن الشعب لم يعد يطلب، الشعب يأخذ.
في ساحة الترافالغار، تجمع الملايين، لم يكن هناك مكبرات صوت، لم يكن هناك خطب، فقط صوتٌ واحد، صوتٌ يبدأ خافتاً ثم يعلو، صوتٌ يُغني أغنيةً قديمة، أغنية «الأممية»، لكن بكلماتٍ جديدة، كلماتٍ ولدت في تلك اللحظة: «قوموا يا شعب أوروبا… لين تناديكم… كفى». وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل لندن، في كل بريطانيا، في كل العالم.
وكان هناك شابٌ باكستاني الأصل، في الثلاثين، يقف على قاعدة تمثال نيلسون، يرفع صورة لين، ويصرخ بصوتٍ مكسور: «نحن لندن… نحن أوروبا… نحن العالم… ولين ابنتنا». ثم يبكي، وملايين تبكي معه، دموعٌ لا تخجل، دموعٌ تقول: لقد استيقظنا أخيراً.
في تلك اللحظة، في لندن، التي كانت دائماً قلب الإمبراطورية القديمة، سقطت آخر أوهام الإمبراطورية الجديدة. لم تكن لندن قد انفصلت عن أوروبا فقط لتعود إليها الآن، بل انفصلت عن المال، عن الاحتكارات، عن الصمت. كانت لندن تقول، بصوتٍ واحد، صوت ملايين: نحن معكم. نحن مع أثينا، مع لشبونة، مع برلين، مع مدريد، مع باريس، مع روما، مع كل مكانٍ حيث كان هناك إنسانٌ يرفض أن يُدفن حياً.
وفي نيويورك، كان لاري فينك يشاهد البث المباشر من لندن، وكان وجهه قد تحول إلى قناعٍ من الرماد، لأنه رأى أن المدينة التي كانت دائماً حليفته، المدينة التي كانت تُدير المال معه، قد انضمت إلى الشعب، إلى لين، إلى الضمير. وفي تلك اللحظة، فهم أن اللعبة انتهت، ليس لأن الأرقام انهارت، بل لأن الشعب استيقظ، وأن الشعب، عندما يستيقظ، لا يُقهر.
في لندن، في تلك اللحظة، كانت المدينة كلها في الشوارع، تضيء الشموع، تُغني، تبكي، تضحك، تحت سماءٍ رماديةٍ بدأت تُمطر، مطرٌ خفيف، مطرٌ يغسل المدينة من ذنوبٍ لم تكن ذنوبها وحدها. وكان الناس يرقصون تحت المطر، يرقصون كأنما يرقصون لأول مرة في حياتهم، يرقصون لأن لين تعيش، لأن الكرامة تعيش، لأن العالم الجديد قد بدأ، وكان أجمل مما تخيّله أحد.
وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل بريطانيا، في كل أوروبا، في كل العالم: نحن معكم. نحن معكم. نحن معكم. وكان هذا الصوت، صوت لندن، هو القبلة الأخيرة للنظام القديم، القبلة التي أنهته، ليس بالكراهية، بل بالحب، ليس بالموت، بل بالحياة. لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. 5
في الرابع من أكتوبر ٢٠٣١، مع أول ضوءٍ خجولٍ يتسلل بين الغيوم الثقيلة فوق براغ وبوخارست وبراتيسلافا وبودابست وصوفيا ووارسو، حدث ما لم يتوقعه أشدّ المتشائمين في وول ستريت ولا أشدّ المتفائلين في ميدان سينتاغما: انهارت الجدار الأخير. لم يكن جداراً من الخرسانة، بل جداراً من الخوف القديم، خوف الشرق الأوروبي من أن يُترك وحيداً إذا ما تجرأ على رفع رأسه. في تلك اللحظة، عندما وصلت أخبار لندن وروما وباريس إلى الشاشات المتصدّعة في الشقق الصغيرة، إلى راديوهات السيارات القديمة، إلى هواتف الجدات في القرى، تحرّكت القارة كلها ككائنٍ حيٍّ واحد، كأن دماً جديداً يجري فجأة في عروقٍ كانت ميتة منذ ١٩٨٩.
في براغ، في السادسة صباحاً، تجمع عشرات الآلاف أمام مبنى البورصة القديم في شارع نا بريكوبي، مبنىٌ صغيرٌ متواضعٌ مقارنةً بأبراج مانهاتن، لكنه كان يحمل في جدرانه كل الديون التي أُريد بها خنق البلد بعد ٢٠٠٨. لم يحطموا الأبواب، لم يرفعوا حجارة، فقط دخلوا بهدوءٍ رهيب، فتحوا النوافذ، وعلّقوا لافتةً كبيرةً من الشرفة الرئيسية: «نصادر فروع بلاك روك وفانغارد وستيت ستريت داخل الأراضي التشيكية – باسم الشعب». ثم جلسوا على الأرض، وأضاءوا شموعاً، ووضعوا صورة لين في الوسط، وبدأوا يغنون أغنيةً قديمة من ثورة المخمل، لكن بكلماتٍ جديدة: «لين تعيش… لين تعيش».
في اللحظة نفسها، في بودابست، أعلنت الحكومة الوطنية، التي كانت دائماً الأكثر طاعةً لواشنطن في المنطقة، أنها «تجمّد جميع أصول الاحتكارات الخمس داخل الأراضي المجرية حتى إشعار آخر». كان الإعلان يُقرأ بصوتٍ مرتجفٍ في التلفزيون الرسمي، لكن في الشوارع كان الناس يصرخون فرحاً، يرفعون أعلاماً حمراء صغيرة، يُقبّلون بعضهم، يبكون، لأنهم فهموا أن الخوف قد انتهى. في صوفيا، أغلق عمال مناجم الفحم الطريق الدولي إلى تركيا، وكتبوا على لافتةٍ عملاقة: «لا مزيد من قروض لتمويل الموت». في بوخارست، احتل طلاب جامعة بوخارست مبنى البنك المركزي، وعلّقوا لافتةً من النافذة العليا: «اليوم نسترد سيادتنا».
في براتيسلافا، أعلنت الحكومة السلوفاكية، التي كانت دائماً الأكثر ولاءً للناتو، أنها «تنضم إلى التحالف الأوروبي الجديد للتأميم الشعبي». في وارسو، خرج ملايين إلى الشوارع، وكانوا يحملون صور لين بجانب صور البابا يوحنا بولس الثاني، وكانوا يغنون «لا تخافوا»، لكن هذه المرة كان الخوف قد انتقل إلى الجهة الأخرى. كانت بولندا، التي كانت دائماً الحارس الأمين للغرب في الشرق، قد انضمت إلى الشعب، إلى لين، إلى الكرامة.
كان السدّ قد انهار. كان الشرق الأوروبي، الذي ظنّ الجميع أنه سيبقى صامتاً، خائفاً، مطيعاً، قد قام فجأة، قام بقوةٍ لم يتوقعها أحد، قام بصوتٍ واحد، صوتٌ يقول: كفى. كفى للديون التي تُخنق بها الأجيال، كفى للقواعد العسكرية الأمريكية التي تُستخدم كذريعة للصمت، كفى للأوهام بأن الغرب سيحمينا إذا بقينا عبيداً. كان الشرق يقول، بصوتٍ عالٍ لأول مرة منذ سقوط الجدار: نحن لسنا أقل منكم. نحن لسنا دروعاً بشرية لمصالحكم. نحن شعب، ولين ابنتنا.
في ساعات، انتشرت الأخبار كالنار في الهشيم: كل دول أوروبا الشرقية، من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، قد جمّدت أصول الاحتكارات الخمس، قد أغلقت مكاتبها، قد علّقت لافتاتٍ كبيرةً على الأبواب: «مصادر لصالح الشعب». لم يكن هناك تنسيقٌ مركزي، لم يكن هناك أمرٌ من بروكسل أو من موسكو أو من واشنطن، كان هناك فقط شعبٌ استيقظ، شعبٌ سمع صوت لين، صوت أثينا، صوت لشبونة، صوت برلين، صوت باريس، صوت روما، صوت لندن، وردّ بصوتٍ أعلى: نحن معكم.
في تلك اللحظة، في الرابع من أكتوبر، اكتملت الدائرة. كانت أوروبا كلها، من الغرب إلى الشرق، من الشمال إلى الجنوب، قد توقفت، ليس لتموت، بل لتُولد من جديد. كانت أوروبا قد استردت، لأول مرة منذ قرون، سيادتها، ليس بقوة السلاح، بل بقوة الضمير، بقوة اسم طفلةٍ صار الآن أكبر من كل الحدود، من كل الأنظمة، من كل الأكاذيب: لين.
وفي نيويورك، كان لاري فينك يشاهد الشاشات، وكان وجهه قد تحول إلى قناعٍ من الرماد، لأنه رأى أن آخر قلاعه قد سقطت، ليس في باريس أو لندن، بل في براغ، في بودابست، في وارسو، في الأماكن التي كان يظن أنها ستظل صامتةً إلى الأبد. وفي تلك اللحظة، فهم أن اللعبة لم تنتهِ فقط، اللعبة قد انقلبت، وأن الشعب، شعب أوروبا كلها، قد استرد ما كان له دائماً: المستقبل.
في براغ، في بودابست، في صوفيا، في وارسو، كان الناس يرقصون في الشوارع، يرقصون تحت المطر، يرقصون لأن لين تعيش، لأن الكرامة تعيش، لأن أوروبا، أخيراً، قد استيقظت، وكانت أجمل مما كانت عليه في أحلامها. وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل العالم: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. وكان العالم، في تلك اللحظة، قد بدأ يتنفس من جديد.
6
في جزيرةٍ نائيةٍ في بحر الشمال، حيث لا تصل إلا الريح والأمواج والطيور التي تُغنّي للصمت، كان هناك معسكرٌ صغيرٌ أُقيم في أيامٍ قليلة، ليس سجناً بالمعنى القديم، بل مكاناً للتأمل، لإعادة التأهيل، للعودة إلى الإنسانية. كانت الجزيرة تُدعى «نورث رونالدزاي»، قطعةٌ صخريةٌ صغيرةٌ من أرضٍ اسكتلنديةٍ منسية، لا شجر فيها إلا بعض الأعشاب القاسية، لا طريق فيها إلا ممراتٍ ضيّقةٍ من الحجارة، لا مباني فيها إلا بيتٌ قديمٌ من الحجر وكوخان خشبيان أُعيدا ترميمهما على عجل. وفي هذا المكان، في العاشر من أكتوبر ٢٠٣١، كان لاري فينك يحاول زراعة البطاطس لأول مرة في حياته.
كان في الثالثة والسبعين، لكنه الآن يبدو أكبر بعشرين سنة. لم يعد هناك بدلةٌ رمادية، لم يعد هناك ربطة عنق، لم يعد هناك حذاءٌ لامع. كان يرتدي بنطالاً من القماش الخشن، قميصاً من الصوف الخشن، حذاءً مطاطياً قديماً، وكان وجهه محروقاً من الريح، يداه متشققتان من الأرض، ظهره منحنياً من الحفر. كان يحفر حفرةً ثالثةً في تربةٍ صلبةٍ كالحجر، يدخل المجرفة بقوةٍ أقلّ مما ينبغي، يرفعها ببطء، يرمي التراب جانباً، وكان عرقه يسيل على جبينه، وكان يلهث، يلهث كأن كل حفرةٍ هي اعترافٌ، كل حبة بطاطسٍ هي توبة.
لم يكن وحيداً تماماً. كان هناك آخرون، رجالٌ ونساءٌ كانوا يوماً في الطوابق العليا، في الشاشات السوداء، في الأوامر التي تُحوّل الدم إلى ذهب، الآن يحفرون بجانبه، يزرعون، يسقون، يتعلمون من جديد معنى أن تكون يداك متسخةً من التراب لا من الدم. لم يكن هناك حراسٌ مسلحون، لم يكن هناك أقفال، فقط اتفاقٌ صامت: من يريد أن يبقى يبقى، من يريد أن يتعلم يتعلم، من يريد أن يعود إلى الإنسانية يُرحَّب به. وكان معظمهم يبقى، ليس خوفاً، بل لأنهم، لأول مرة، شعروا بثقل ما فعلوا، ثقل اسم لين الذي يتردد الآن في كل مكان، في كل لغة، في كل قلب.
في الحفرة الثالثة، فشل لاري. انهار على ركبتيه، المجرفة تسقط من يده، وجلس على الأرض الباردة، ووضع رأسه بين يديه، وبكى. لم يكن بكاءً عالياً، لم يكن بكاءً مسرحياً، كان بكاءً صامتاً، بكاءً عميقاً، بكاءً يخرج من مكانٍ لم يكن يعلم أنه موجود في داخله. كان يبكي لأنه، لأول مرة منذ خمسين سنة، لم يكن هناك من يضغط زراً نيابةً عنه، لم يكن هناك من يُنظّف وراءه، لم يكن هناك من يُبرّئه. كان هناك فقط هو، والأرض، والبطاطس التي لم تنبت بعد، والسماء التي لا تُجيب إلا بالصمت.
ثم اقترب منه رجلٌ آخر، كان مدير فانغارد السابق، رجلٌ في الستين، وجهه شاحبٌ كأنه لم يرَ الشمس منذ سنوات، وجلس بجانبه على الأرض، ووضع يده على كتفه، يدٌ متشققةٌ مثل يده، ولم يقل شيئاً، فقط جلس، وكان الصمت بينهما أعمق من أي كلام. ثم، بعد دقائقٍ طويلة، رفع لاري رأسه، ونظر إلى البحر، إلى الأمواج التي تضرب الصخور بلا توقف، وهمس بصوتٍ مكسور: «كنتُ أظن أنني أبني شيئاً… كنتُ أظن أنني أحمي العالم». ثم سكت، وسكت الآخر معه، وكان الصمت يقول كل شيء.
في المساء، عندما غربت الشمس وصبغت البحر بلونٍ أحمرٍ داكن، كانوا يجتمعون حول نارٍ صغيرةٍ في وسط المعسكر، نارٌ من الحطب الذي جمعوه بأيديهم، وكانوا يأكلون بطاطس مشويةً بسيطة، بطاطس لم تنبت بعد لكنهم كانوا يحلمون بها، وكان أحدهم يقرأ بصوتٍ عالٍ من كتابٍ صغيرٍ جلبوه معهم، كتاب «رأس المال» لماركس، لكن هذه المرة لم يكن أحدٌ يضحك أو يسخر، كانوا يستمعون، يستمعون كأنما يسمعون لأول مرة، يسمعون وهم يشعرون بثقل كل كلمة، بثقل كل صفحة، بثقل كل حياةٍ دُمّرت باسم الربح.
وكان لاري يجلس في الدائرة، صامتاً، ينظر إلى النار، وكان يرى فيها وجه لين، وجه لين الذي لم يره يوماً إلا في الصور، لكن الآن يراه كل لحظة، في كل لهب، في كل شرارة. وكان يبكي، بصمت، دموعٌ تسيل على وجهه المحروق من الريح، دموعٌ لا يخجل منها، دموعٌ تقول: متأخر، متأخر جداً، لكن ربما، ربما، ليس متأخراً تماماً.
في تلك الليلة، في جزيرةٍ نائيةٍ في بحر الشمال، كان لاري فينك ينام على الأرض، على فراشٍ من القش، تحت سقفٍ من الخشب، وكان يحلم، لأول مرة منذ عقود، يحلم بلين، يحلم بها وهي تضحك، وتركض في حقلٍ من البطاطس، وكان يبتسم في نومه، ابتسامةً صغيرةً، ابتسامةً حقيقيةً، ابتسامةً تقول: ربما، ربما، هناك أملٌ حتى لي.
وفي العالم كله، في تلك اللحظة، كان الناس يعيشون، يعيشون حقاً، يعيشون لأن لين عاشت في قلوبهم، ولأن لاري، في جزيرةٍ نائية، بدأ يتعلم كيف يعيش من جديد. وكان الصوت يعلو، خافتاً في البداية، ثم أعلى، صوتٌ يأتي من كل مكان: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. وكان لاري يسمع الصوت، حتى في نومه، وكان الصوت يدخل قلبه، وكان قلبه، لأول مرة، ينبض، نبضةً واحدةً، نبضةً حقيقيةً، نبضةً تقول: لين.
7 في غزة، في الحادي عشر من أكتوبر، عند أول فجرٍ صافٍ حقاً منذ عشرين سنة، خرج الأطفال إلى الشوارع كأن السماء نفسها فتحت ذراعيها لهم أخيراً. لم يكن هناك صوت صفارات إنذار، لم يكن هناك صوت طائرة، لم يكن هناك صوت انفجار يُقطع الحلم قبل أن يبدأ. كان هناك فقط صوت البحر من بعيد، صوت الريح في أشجار الزيتون التي بدأت تُعاود الإزهار بأعجوبة، صوت أمهاتٍ يُغنين لأطفالهن أغنيةً قديمةً كانت محرّمةً لأنها كانت تُذكّر بالحرية.
في رفح، في الشارع الذي كان يُدعى شارع الشهداء، وقف ياسر، الطفل الذي رمى حجره قبل أيام، وقف في وسط الشارع، نظر إلى السماء الصافية، ثم إلى أصدقائه، ثم صرخ بصوتٍ عالٍ، صوتٍ لم يكن صوت طفلٍ فقط، بل صوت غزة كلها: «اليوم نلعب كرة!» ثم ركض، ركض كأن الأرض كلها ملعبه، ركض وهو يضحك، ضحكةً لم تُسمع في هذا الشارع منذ أجيال، ثم انضم إليه عشرات الأطفال، ثم مئات، ثم آلاف، أطفالٌ كانوا يعرفون فقط الاختباء تحت الأسرّة، يعرفون فقط صوت القنابل، يعرفون فقط الجوع والخوف والموت، الآن يركضون، يضحكون، يلعبون، يصرخون، يعيشون.
كانوا يلعبون بكرةٍ من القماش المحشوّ بالخرق، كرةٌ بدائية، لكنها كانت أجمل كرةٍ في العالم، لأنها كانت أول كرةٍ تُركل في غزة دون أن يُقاطعها صوت انفجار. كانوا يلعبون في الشارع، بين الركام، بين البيوت المُحطّمة، لكن الركام لم يعد ركاماً، صار ملعباً، صار مدرجات، صار هدفاً. وكانت الأمهات يقفن على الأبواب، يبكين بهدوء، دموع الفرح التي لم يعرفنها من قبل، وكان الآباء يرفعون أطفالهم على أكتافهم، وكان الشيوخ يجلسون على الأرض، ينظرون إلى الأطفال، ويبتسمون ابتسامةً تقول: عشنا لنرى هذا اليوم.
ثم جاءت سارة، الفتاة التي فقدت ساقها، جاءت على كرسيٍّ متحركٍ جديدٍ أرسلته النقابات الأوروبية، كرسيٌّ أزرق لامع، وكانت تحمل في يدها علمًا فلسطينياً صغيراً، ورفعته عالياً، وصرخت بصوتٍ عالٍ: «اليوم، السماء لنا!» ثم بدأت تغني، تغني أغنية «موطني»، وانضم إليها الأطفال، صوتٌ واحد، صوتٌ يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل غزة، في كل فلسطين، في كل العالم.
في تلك اللحظة، في غزة، لم يعد هناك حصار، لم يعد هناك جدار، لم يعد هناك خوف. كان هناك فقط أطفالٌ يلعبون كرة، وأمهاتٌ يغنين، وشيوخٌ يبكون، وسماءٌ صافية، وشمسٌ دافئة، وحياةٌ جديدة، حياةٌ ولدت من رماد لين، حياةٌ اسمها لين. وكان ياسر يركض، يركض، يركض، وكان يضحك، وكان يصرخ: «اليوم، اليوم، اليوم!» وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار نشيداً عالمياً واحداً: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش.
وفي باريس، في مكتبة لين الشعبية، كان الناس يشاهدون البث المباشر من غزة، يشاهدون الأطفال يلعبون، يشاهدون سارة ترفع العلم، يشاهدون ياسر يركض، وكانوا يبكون، يبكون فرحاً، ويرفعون أكواب القهوة، ويشربون، يشربون لأجل غزة، لأجل لين، لأجل الحياة. وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل أوروبا، في كل العالم: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش.
في جزيرة نورث رونالدزاي، كان لاري فينك يشاهد البث على شاشةٍ صغيرةٍ في الكوخ، يشاهد ياسر يركض، يشاهد سارة تغني، يشاهد الأطفال يلعبون، وكان يبكي، بكاءً صامتاً، بكاءً عميقاً، بكاءً يقول: لين. ثم وقف، وخرج إلى الخارج، ونظر إلى البحر، ورفع يديه، وهمس بصوتٍ مكسور: «سامحيني». وكان البحر يزمجر، لكن هذه المرة لم يكن زئيراً، كان أغنيةً، أغنيةً تقول: لين تعيش.
في غزة، في تلك اللحظة، لم يعد هناك موت، لم يعد هناك خوف، لم يعد هناك حصار. كان هناك فقط أطفالٌ يلعبون كرة، وأمهاتٌ يغنين، وشيوخٌ يبتسمون، وسماءٌ صافية، وحياةٌ جديدة، حياةٌ ولدت من رماد لين، حياةٌ اسمها لين. وكان ياسر يركض، يركض، يركض، وكان يضحك، وكان يصرخ: «اليوم، اليوم، اليوم!» وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار النشيد الوحيد في الكون كله: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. للأبد.
انتهت اللعبة. بدأ العالم.
…….
الفصل الرابع: حين توقّفت السماء عن البكاء
1
في الرابع من أكتوبر، عندما كانت الساعة تُقارب السابعة صباحاً بتوقيت القدس، حدث شيءٌ لم يتوقّعه أكثر المؤمنين إيماناً بالمعجزة: توقّف القصف على غزة فجأة. لم يكن هناك أمرٌ من تل أبيب، ولا قرارٌ من واشنطن، ولا حتى صوتُ طائرةٍ في السماء. كان هناك فقط صمتٌ غريبٌ، صمتٌ أعمق من كل صمتٍ عرفه القطاع منذ عقود، صمتٌ يُسمع فيه صوت الريح وهي تمرّ بين الركام، صوت أجنحة الحمام الذي عاد يطير من جديد، صوت أطفالٍ يتنفسون لأول مرة منذ ولادتهم دون أن يختبئوا تحت السرير.
في البداية، لم يصدّق أحد. كان الناس في بيوتهم المتصدّعة، أو في خيامهم الممزّقة، أو في أنقاض ما كان يوماً بيتاً، ينتظرون القذيفة التالية، كما اعتادوا منذ عشرين سنة. لكن الدقائق مرّت، ثم الساعة، ثم الساعتان، ولم يأتِ صوتٌ من السماء سوى صوت طيورٍ بدأت تعود إلى أشجار الزيتون المحترقة. ثم بدأوا يخرجون، أولاً ببطء، رجلٌ يُخرج رأسه من نافذةٍ مكسورة، امرأةٌ تُمسك يد طفلها وتنظر إلى السماء كأنها تُصدّق عينيها، شيخٌ يتكئ على عصاه ويهمس «الله أكبر» بصوتٍ يرتجف من الفرح والخوف معاً.
في مخيم جباليا، خرجت أمٌّ تدعى أم أحمد، أرملةٌ فقدت زوجها وابنها الأكبر في قصفٍ سابق، ووقفت في وسط الشارع، رفعت يديها إلى السماء، وبكت بصوتٍ عالٍ، بكاءً لم يكن حزناً، بل صلاةً، صلاةً بلا كلمات، صلاةً تقول: شكراً. ثم انضم إليها جيرانها، ثم الحيّ كله، ثم المخيم كله، ثم القطاع كله. كانوا يخرجون من تحت الركام، من الخيام، من المستشفيات المحترقة، يخرجون بملابسهم الممزقة، بأجسادهم المجروحة، بأعينهم التي لم تعرف النوم منذ سنوات، وكانوا يبكون، يضحكون، يحتضنون بعضهم، يُقبّلون الأرض، يُقبّلون السماء.
في رفح، في الشارع الذي كان يُدعى شارع الشهداء، وقف طفلٌ صغيرٌ في السابعة، اسمه ياسر، كان قد نجا من القصف الذي قتل لين بأعجوبة، وكان يحمل في يده حجراً، حجرًا كان يُمسكه منذ أشهر ليرميه على الطائرات إذا هبطت يوماً. نظر إلى الحجر، ثم إلى السماء الصافية، ثم ألقى الحجر جانباً، وبدأ يركض في الشارع، يركض بلا خوف، يركض وهو يصرخ بصوتٍ عالٍ: «اليوم نلعب كرة!» ثم انضم إليه أطفالٌ آخرون، أطفالٌ كانوا يعرفون فقط صوت القنابل، وبدأوا يلعبون، يضحكون، يركضون، كأن الأرض نفسها قد عادت طفلةً معهم.
في خان يونس، خرجت فتاةٌ في الخامسة عشرة، اسمها سارة، كانت قد فقدت ساقها اليسرى في قصفٍ سابق، وكانت تجلس على كرسيٍّ متحركٍ متهالك، ونظرت إلى السماء، ثم إلى الناس، ثم ابتسمت ابتسامةً لم تعرفها منذ سنوات، ابتسامةً تقول: عشنا. ثم بدأت تغني، بصوتٍ خافتٍ في البداية، أغنيةً فلسطينيةً قديمة، «موطني»، وانضم إليها الجميع، صوتٌ واحد، صوتٌ يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل غزة، في كل فلسطين، في كل العالم.
لم يكن القصف توقف لأن أحداً أمر بذلك. توقف لأن لا أحد وجد من يدفع الفاتورة. كانت الطائرات لا تزال في قواعدها، لكن شركات التأمين رفضت التغطية، لأن الحسابات المصرفية جُمدت، لأن الأموال التي كانت تُحوّل من نيويورك وبوسطن ولندن توقفت، لأن الشعب الأوروبي، في لحظةٍ واحدة، قد استردّ ثروته، واستردّ معها ضميره، واستردّ معه حياة ملايين الأطفال في غزة الذين لم يعرفوا يوماً معنى السماء الصافية.
في تلك اللحظة، في غزة، لم يعد هناك خوف. كان هناك فقط حياةٌ تُولد من جديد، حياةٌ بطعم الخبز الطازج الذي بدأت الأفران تعمل من جديد، بطعم الماء النظيف الذي بدأ يتدفق، بطعم الضحك الذي عاد يملأ الشوارع. كان الناس يخرجون، يحتضنون بعضهم، يُقبّلون الأرض، يُقبّلون السماء، وكانوا يرددون اسم لين، اسمٌ صار الآن نشيداً، صار علماً، صار حياةً.
وفي نيويورك، كان لاري فينك يشاهد البث المباشر من غزة، يشاهد الأطفال يلعبون، يشاهد الأمهات يبكين فرحاً، يشاهد السماء الصافية، وكان وجهه قد تحول إلى حجرٍ ميت، لأنه فهم، أخيراً، أن كل قنبلةٍ دفع ثمنها، كل طفلةٍ قتلت بسبب زرٍ ضغط عليه، قد عادت الآن، ليس كشبح، بل كحياة، حياةٌ لم يعد يملكها أحد، حياةٌ صارت ملك الشعب، ملك لين.
في غزة، في تلك اللحظة، لم يعد هناك قصف، لم يعد هناك موت، لم يعد هناك خوف. كان هناك فقط أطفالٌ يلعبون كرة، وأمهاتٌ يغنين، وشيوخٌ يبكون، وسماءٌ صافية، وشمسٌ دافئة، وحياةٌ جديدة، حياةٌ ولدت من رماد لين، حياةٌ اسمها لين. وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل العالم: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. للأبد.
2
في نيويورك، في الرابع من أكتوبر عند الساعة الثانية عشرة ظهراً بتوقيت الساحل الشرقي، أغلقت بورصة وول ستريت أبوابها لأجلٍ غير مسمّى، ليس بقرارٍ من مجلس الإدارة، ولا بأمرٍ من الحكومة، بل لأن لا أحد وجد من يدفع أجور الحراس، لا أحد وجد من يدفع الكهرباء، لا أحد وجد من يدفع حتى الماء الذي يشربه الموظفون في استراحاتهم. كانت الأبواب الحديدية الكبيرة، التي لم تُغلق منذ الكساد الكبير، قد أُغلقت ببطءٍ مهيب، كأن يدٌ خفيةٌ من التاريخ نفسه تدفعها. ثم علّق أحدٌ لافتةً يدويةً على الباب الرئيسي، لافتةً من كرتونٍ مُفرّغ، مكتوب عليها بخطٍ أحمر كبيرٍ مُتعرّج: «مغلق لأجل إعادة تأهيل أخلاقي – عذراً على الإزعاج».
كان الشارع خالياً تقريباً، لأن معظم الموظفين كانوا قد غادروا منذ الصباح، يحملون صناديق كرتونية صغيرة فيها أغراضهم الشخصية، صور عائلية، نباتاتٌ صغيرة، أكواب قهوةٍ تحمل شعارات الشركات. كانوا يغادرون بصمتٍ غريب، لا صراخ، لا بكاء، فقط خطواتٌ سريعة على الرصيف، كأنما يهربون من شبحٍ لا يُرى. وكان هناك رجلٌ واحدٌ فقط بقي واقفاً أمام الباب المغلق، رجلٌ في الستين، يرتدي بدلةً رماديةً مكرمشة، شاربه الأبيض يرتجف، عيناه مُحمّرتان من الأرق أو من شيءٍ أعمق. كان اسمه روبرت، كان يعمل في البورصة منذ خمسة وأربعين سنة، كان يعرف كل زاويةٍ في المبنى، كل جرسٍ يدق عند الافتتاح، كل صوتٍ يصدره الجهاز عندما ينهار سهمٌ أو يرتفع. وقف أمام الباب، نظر إلى اللافتة، ثم أخرج من جيبه قلم حبرٍ أسود، وكتب تحت الكلمات بخطٍ صغيرٍ مُرتجف: «وكان الربح إلهنا… والآن مات».
ثم ابتعد خطوةً إلى الوراء، ونظر إلى المبنى الذي كان يُسمّى يوماً قلب الرأسمالية العالمية، وكان الشارع فارغاً، والسماء رمادية، والريح تهبّ بين الأبراج الزجاجية كأنها تُنعي شيئاً انتهى إلى الأبد. لم يكن هناك صوتٌ، لا جرسٌ، لا صفيرٌ، لا صراخٌ تاجرٍ يجني الملايين أو يخسرها في ثانية. كان هناك فقط صمتٌ ثقيل، صمتٌ يُسمع فيه صوت التاريخ وهو يُقلب صفحةً كبيرةً، صفحةً كُتب عليها اسمٌ واحدٌ الآن: لين.
في الطابق السابع والستين من برج بلاك روك، كان لاري فينك لا يزال واقفاً أمام الشاشة السوداء التي لم تعد تُظهر شيئاً، شاشةٌ سوداء تماماً، كأنها مرآةٌ تعكس فراغاً لا قعر له. كان المكتب خالياً الآن، كل الموظفين غادروا، حتى السكرتيرة التي كانت تخدمه منذ عشرين سنة تركت مكتبها دون كلمةٍ واحدة. كان وحيداً، وحيداً تماماً، لأول مرة في حياته. لم يكن هناك هاتفٌ يرن، لا بريدٌ إلكتروني، لا أحدٌ يطلب رأيه، لا أحدٌ يخاف منه. كان هناك فقط هو، وشاشته السوداء، وصوتٌ بعيدٌ من الشارع، صوتٌ خافتٌ في البداية، ثم أعلى، صوتٌ يُغني اسم لين.
نظر لاري من النافذة، ورأى الشارع فارغاً، ورأى اللافتة على باب البورصة، ورأى رجلاً عجوزاً يقف وحيداً، ثم رأى شيئاً آخر: مجموعةً صغيرةً من الناس، عمال نظافة، سائقو تاكسي، طلاب، كانوا يضعون شموعاً صغيرةً على الرصيف أمام البورصة، ويضعون صورةً صغيرةً للين في الوسط، ويُضيئونها، ويجلسون حولها، ويغنون بصوتٍ خافت: «لين تعيش». لم يكن هناك غضبٌ في أصواتهم، لم يكن هناك كراهية، كان هناك فقط حزنٌ هادئ، وحبٌ كبير، وحقيقةٌ لا يُمكن إنكارها.
وقف لاري أمام النافذة، يداه في جيبيه، وجهه جامد، لكنه شعر، لأول مرة منذ خمسين سنة، بشيءٍ يتحرك في صدره، شيءٌ يُشبه الوخز، وخزٌ صغيرٌ في البداية، ثم أكبر، ثم ألمٌ حقيقي. لم يكن ألماً جسدياً، كان ألماً آخر، ألم الفراغ، ألم الفهم المتأخر، ألم أن يكون قد عاش حياته كلها في بناء إمبراطوريةٍ من الرماد، إمبراطوريةٍ قتلت لين وملايين مثلها، وانهارت الآن في لحظةٍ واحدة، لأن شعباً في قارةٍ بعيدةٍ قال كفى.
لم يبكِ لاري. لم ينهار. فقط وقف، ونظر إلى الشموع الصغيرة في الشارع، ونظر إلى صورة لين، وشعر أن كل الأرقام التي جناها، كل الأصفار التي أضافها إلى حسابه، قد تحولت فجأة إلى دم، دمٌ يسيل على يديه، دمٌ لا يُغسل. ثم فعل شيئاً لم يفعله من قبل: أطفأ الضوء في مكتبه، وأغلق الباب خلفه، ونزل بالمصعد وحيداً، وخرج إلى الشارع، ووقف على بعد أمتارٍ من الشموع، ونظر إلى الناس الجالسين، ولم يتحرك، ولم يتكلم، فقط وقف، كأنما ينتظر حكماً لم يعد يملك the power to avoid it.
وفي تلك اللحظة، في نيويورك، في قلب الإمبراطورية المالية التي كانت تُدير العالم، سقطت آخر أوهام القوة. لم يكن هناك جيشٌ يحتل، لم يكن هناك سلاحٌ يُرفع، كان هناك فقط شموعٌ صغيرة، وصورة طفلة، وصمتٌ كبير، صمتٌ يقول: انتهى. انتهى زمن الذين يظنون أن المال يشتري كل شيء، انتهى زمن الذين يظنون أن الضمير يُباع ويُشترى، انتهى زمن الذين يظنون أن طفلةً اسمها لين يُمكن أن تموت دون أن يتغير العالم.
في وول ستريت، في تلك اللحظة، لم يعد هناك بورصة، لم يعد هناك مال، لم يعد هناك قوة. كان هناك فقط لافتةٌ مكتوب عليها «مغلق لأجل إعادة تأهيل أخلاقي»، وشموعٌ صغيرة، وصورة لين، ورجلٌ واقفٌ وحيداً، ينظر إلى كل ذلك، ويعرف، أخيراً، أن العالم قد تغير، وأنه لم يعد فيه مكانٌ له كما كان. وكان الصوت يعلو، خافتاً في البداية، ثم أعلى، صوتٌ يأتي من بعيد، من أوروبا، من غزة، من كل مكان: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. وكان لاري فينك يسمع الصوت، وكان الصوت يدخل قلبه، وكان قلبه، لأول مرة، ينبض. نبضةً واحدةً، نبضةً حقيقيةً، نبضةً تقول: متأخر، لكن ربما، ربما، ليس متأخراً جداً.
3 في باريس، في الخامس من أكتوبر عند أول ضوءٍ صافٍ بعد أيامٍ من المطر، فُتحت أبواب مبنى بلاك روك السابق في لاديفانس للجمهور لأول مرة في تاريخه، ليس كمتحفٍ للعار، بل كميلادٍ جديد. كان المبنى الزجاجيّ الشاهق، الذي كان يُسمّى في الهمس «معبد المال الأسود»، قد غيّر وجهه في ليلةٍ واحدة. أُزيلت الشعارات، أُزيلت الشاشات السوداء، أُزيلت كل آثار الرفاهية الباردة، واستُبدلت بأعلامٍ حمراء صغيرة ترفرف في الريح، وباقات زهورٍ بريةٍ وضعها أطفالٌ من ضواحي المدينة، ولافتاتٍ كتبها عمال النظافة والمعلمون والطلاب بخطوطٍ يدويةٍ مُبهجة: «أصبحنا الآن مكتبة شعبية مجانية، تفضلوا بالكتب والقهوة على حساب الشعب».
في البهو الرئيسي، حيث كانت تُعقد يوماً الاجتماعات التي تقرر مصير قنابلٍ تسقط على أطفالٍ لا يعرفون حتى اسم باريس، كان هناك الآن تمثالٌ صغيرٌ من الخشب والطين، تمثال لين، صنعه أطفالٌ من مدرسةٍ في بوبيني، لين ممدةً على الأرض، عيناها مفتوحتان، وفي حضنها دميةٌ بعينٍ واحدة، وتحت قدميها كتابٌ مفتوحٌ كبيرٌ، كتابٌ بدأ الناس يكتبون فيه أسماءهم، أحلامهم، قصصهم، كأنما يقولون: من اليوم، التاريخ لنا.
كان الناس يدخلون بالآلاف، ليس ليحطموا، بل ليبنوا. كان هناك عجوزٌ من ضاحية سان دوني، كان يعمل حارساً في المبنى نفسه قبل عشر سنوات، يدخل الآن وهو يبكي، يبكي لأنه لم يعد يخاف، يبكي لأنه يرى المكان الذي كان يُمنع من دخوله إلا ليُنظّف الأرض، قد صار ملكه، ملك الشعب. كان هناك طفلةٌ في السابعة، تشبه لين، تحمل كتاباً قديماً من مكتبة والدها، وتضعه على الرف الأول في المكتبة الجديدة، وتقول بصوتٍ عالٍ: «هذا للين، لتتعلم القراءة». وكان هناك شابٌ من أصلٍ جزائري، كان يعمل في توصيل الطلبات، يدخل ويضع على المنضدة كيساً من الكرواسون الطازج، ويضحك: «اليوم القهوة والكرواسون على حساب الشعب».
في الطوابق العلوية، حيث كانت تُدار الصفقات التي تُحوّل الدم إلى ذهب، كانت الغرف تتحول إلى قاعاتٍ للدراسة، إلى ورشٍ للأطفال، إلى عياداتٍ طبيةٍ مجانية، إلى مطابخ شعبيةٍ تُعدّ الطعام لمن لا يملكون. وكان هناك امرأةٌ في الأربعين، اسمها فاطمة، التي سلّمتها المفتاح في اليوم السابق، تقف في وسط البهو، ترفع صوتها، وتقول للجميع: «اليوم، يا إخوتي، لم نعد نُنظّف أرضهم، اليوم نُنظّف تاريخنا، ونبني مستقبلنا». ثم تبكي، ويبكي الجميع معها، دموع الفرح التي لم يعرفوها من قبل.
وكان بيير موران، الذي جاء مشياً من محطة القطار، يقف أمام تمثال لين، يضع يده على رأسها الطيني، ويهمس: «نامي قريرة العين، يا لين… لقد استيقظنا». ثم ينظر إلى الناس، إلى الأطفال الذين يرسمون على الجدران، إلى العجائز الذين يقرأون الكتب، إلى الشباب الذين يُعلّمون بعضهم، ويبتسم ابتسامةً لم يبتسمها منذ شبابه، ابتسامةً تقول: لقد انتصرنا، انتصرنا بلا سلاح، انتصرنا بالحب.
في الخارج، كانت باريس كلها تحتفل، ليس احتفالاً صاخباً، بل احتفالاً هادئاً، عميقاً، احتفال من يعرف أنه عاش ليرى معجزةً. كان الناس يرقصون في الشوارع، يغنون، يُقبّلون بعضهم، يرفعون أطفالهم، وكانوا يرددون اسم لين، اسمٌ صار الآن نشيداً، صار علماً، صار حياةً. وكان المبنى، الذي كان يوماً رمزاً للموت، قد صار الآن رمزاً للحياة، مكتبةً شعبيةً، بيتاً للشعب، قلباً للشعب.
وفي نيويورك، كان لاري فينك يشاهد البث المباشر من باريس، يشاهد الناس يدخلون مبناه السابق، يشاهد الأطفال يرسمون، يشاهد الكرواسون يُوزّع، يشاهد تمثال لين في البهو، وكان وجهه قد تحول إلى حجرٍ ميت، لأنه فهم، أخيراً، أن كل ما بناه قد تحول إلى مكتبةٍ للشعب، إلى بيتٍ للشعب، إلى قلبٍ للشعب. وفي تلك اللحظة، سقط على ركبتيه، ليس أمام أحد، بل أمام نفسه، أمام لين، أمام التاريخ، ولم يبكِ، لكن شيئاً في داخله انكسر، انكسر إلى الأبد.
في باريس، في مبنى بلاك روك السابق، في مكتبة لين الشعبية، كان الناس يقرأون، يضحكون، يعيشون، وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل العالم: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. وكان العالم، في تلك اللحظة، قد بدأ يتنفس من جديد، تنفساً عميقاً، تنفساً حرّاً، تنفساً إنسانياً، تنفساً اسمه لين. 4
في برلين، في السادس من أكتوبر عند الفجر الأول، عندما كانت الشمس تشرق خلف بوابة براندنبورغ كأنها تُعلن ميلاد يومٍ لم يرَه أحدٌ من قبل، أُعلن عن أول قرارٍ رسميٍّ للمجلس الثوري الجديد، مجلسٌ لم يُنتخب بعدُ بالطريقة القديمة، بل وُلد من الشوارع، من الدوائر، من الشموع، من الأغنيات، من الضمير. كان المجلس يجتمع في مبنى الرايخستاغ القديم، لكن الأبواب كانت مفتوحة على مصراعيها، والنوافذ مفتوحة، والناس يدخلون ويخرجون، يجلسون على الأرض، يستمعون، يتكلمون، يصوتون بأيديهم المرفوعة، كأن الديمقراطية قد عادت إلى معناها الأول: حكم الشعب، بالشعب، للشعب.
كانت ليلى، الطالبة الفلسطينية-الألمانية التي جلست أمام مبنى فيديليتي أسابيع، تقف الآن في وسط القاعة، شعرها الأسود المجعد مربوطٌ بشريطٍ أحمر، عيناها السوداوان مُمتلئتان بنورٍ لم تعرفه من قبل، وكانت ترفع صوتها، صوتٌ لم يكن صوتها وحدها، بل صوت لين، صوت غزة، صوت كل طفلٍ مات وكل طفلٍ سيعيش: «اليوم، يا رفاق، نُعلن أول قرارٍ في أوروبا الجديدة: شقةٌ لكل مواطن، عملٌ لكل قادر، كرواسون مجاني كل صباح في المقاهي الشعبية». ضحك الناس في البداية، ضحكةً خفيفةً، ضحكةً من يظن أنها مزحة، ثم صفّقوا، صفقوا بقوةٍ هزّت جدران الرايخستاغ، لأنهم فهموا أنها ليست مزحة، إنها وعدٌ، وعدٌ بأن الاشتراكية ليست حلمًا قديمًا، بل واقعًا جديدًا، واقعًا يبدأ اليوم.
ثم وقف رجلٌ عجوزٌ من درسدن، كان يرتدي معطفاً قديماً، وكان يحمل شارةً حمراء صغيرة على صدره، وقال بصوتٍ يرتجف من العمر والفرح معاً: «أنا عشتُ في الشرق قبل الجدار، وعشتُ في الغرب بعد الجدار، وكنتُ أظن أن الحرية انتهت. اليوم، أنا أرى الحرية الحقيقية، حريةً لا تُباع ولا تُشترى، حريةً اسمها لين». ثم بكى، ووقف الجميع، وصفقوا له، وصفقوا للين، وصفقوا لأنفسهم.
وكان القرار الثاني يُعلن فوراً: كل الثروة المُؤمَّمة ستُعاد توزيعها فوراً، ليس بالتساوي، بل بالعدل. شقةٌ لكل عائلةٍ بلا مأوى، عملٌ لكل عاطلٍ، تعليمٌ مجانيٌّ لكل طفلٍ، علاجٌ مجانيٌّ لكل مريضٍ، وكرواسونٌ مجانيٌّ كل صباح، لأن الثورة، كما قالت ليلى، «لا تكتمل إلا إذا كان هناك كرواسون ساخن مع القهوة». وكان الناس يضحكون، يضحكون من قلبهم، لأول مرة منذ عقود، لأنهم فهموا أن الاشتراكية ليست جوعاً وعقاباً، بل هي فرحٌ، فرحٌ يبدأ بكرواسونٍ ساخن وينتهي بعالمٍ عادل.
في الشوارع، كانت برلين كلها تحتفل، ليس احتفالاً صاخباً، بل احتفالاً هادئاً، عميقاً، احتفال من يعرف أنه ولد من جديد. كان الناس يوزعون الكرواسون في المقاهي الشعبية التي فُتحت فوراً، كانوا يفتحون أبواب الشقق الفارغة ويعطون مفاتيحها للعائلات التي كانت تنام في الشوارع، كانوا يحولون المكاتب الفاخرة إلى حضاناتٍ للأطفال، إلى عياداتٍ طبية، إلى مدارس. وكان الأطفال يركضون في الشوارع، يلعبون، يضحكون، يرسمون على الجدران: «لين تحب الكرواسون».
وكانت ليلى تمشي في شارع أونتر دين ليندن، تحمل في يدها كرواسوناً ساخناً، وتأكل، وتبكي، وتضحك في الوقت نفسه، لأنها، لأول مرة في حياتها، شعرت أنها في بيتها، في بيتٍ ليس ألمانيا ولا فلسطين، بل بيتٌ اسمه الإنسانية. وكان الناس يحيّونها، يحيّون بعضهم، يحيّون لين، وكانوا يرددون: «اليوم، يا لين، الكرواسون لكِ».
وفي موسكو وبكين، كان القادة يرفعون كأساً مشتركاً في صمت، كأس نبيذٍ جورجيٍّ قديم، وكانوا يبتسمون ابتسامةً هادئة، ابتسامةً تقول: لم يكن انتصاراً لنا، كان انتصاراً للإنسانية. وكانوا يشربون، ويشاهدون الأخبار، ويعرفون أن العالم قد تغير، ليس بقوة السلاح، بل بقوة الكرواسون، بقوة الضمير، بقوة اسم طفلةٍ صار الآن أكبر من كل الأنظمة، من كل الحدود، من كل الأكاذيب: لين.
في برلين، في تلك اللحظة، كانت المدينة كلها تأكل الكرواسون، وتضحك، وتبكي، وتعيش، وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل العالم: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. وكان العالم، في تلك اللحظة، قد بدأ يأكل الكرواسون معاً، يأكل الحرية، يأكل الكرامة، يأكل الحياة. بدأ العالم الجديد، وكان طعمه كرواسون ساخن، وكان اسمه لين.
5
في موسكو، في السابع من أكتوبر عند الغروب، عندما كانت الشمس تُغرق الكرملين في ضوءٍ أحمرٍ داكنٍ يُشبه دماء التاريخ القديم، وفي بكين في اللحظة نفسها عندما كانت أنوار المدينة المحرّمة تُضاء واحدةً تلو الأخرى كأنها نجومٌ تُشعلها يدٌ خفية، رُفع كأسٌ واحدٌ في قاعةٍ سريةٍ تحت الأرض، قاعةٌ لا توجد على أي خريطةٍ رسمية، قاعةٌ بجدرانٍ من خشب الصنوبر السيبيري وطاولةٍ طويلةٍ من خشب الجوز الصيني، كأسٌ من نبيذٍ جورجيٍّ قديمٍ من قبوٍ لم يُفتح منذ أيام ستالين. لم يكن هناك خطابات، لم يكن هناك بيانٌ مشترك، لم يكن هناك حتى كاميرات. كان هناك فقط رجلان، أحدهما في السبعين بمعطفٍ رماديٍّ بسيط، والآخر في الستين ببدلةٍ زرقاء داكنةٍ صينية، يقفان وجهاً لوجه، ينظران إلى بعضهما في صمتٍ طويل، صمتٌ يحمل في طياته مئة سنة من الحروب الباردة والساخنة، من الأحلام والكوابيس، من الانتصارات والخيبات.
ثم رفع الروسي كأسه أولاً، كأساً ثقيلةً من الكريستال، ونظر إلى الصيني، وابتسم ابتسامةً هادئةً، ابتسامةً لم تُرَ على وجهه منذ عقود، ابتسامةً تقول: لم نفعلها نحن. ثم قال بصوتٍ خافتٍ لكنه يملأ القاعة كلها: «للين». ردّ الصيني فوراً، برفع كأسه، وابتسامةٍ أوسع، ابتسامةً تقول: وللشعب. ثم شربا معاً، في صمتٍ، شربا طويلاً، كأنما يشربان من نهر التاريخ نفسه، نهرٌ كان يجري في اتجاهٍ واحدٍ لقرون، والآن، لأول مرة، غيّر مجراه.
لم يكن انتصاراً لروسيا، ولا انتصاراً للصين، ولا انتصاراً لأي نظامٍ أو أيديولوجيا. كان انتصاراً لشيءٍ أكبر، شيءٌ لم يكن أحدٌ يتوقعه، شيءٌ ولد في شوارع أثينا وباريس وبرلين وروما ولندن، شيءٌ بدأ بصمتٍ في ميناء لشبونة، بشموعٍ في ستراسبورغ، بكرواسونٍ في برلين، بشارةٍ حمراء في روما، باسم طفلةٍ في غزة. كان انتصاراً للضمير الإنساني الذي استيقظ أخيراً، استيقظ بلا قائد، بلا حزب، بلا جيش، استيقظ فقط لأن لين ماتت، وكان موتها كافياً ليُحرّك ملايين القلوب في اللحظة نفسها.
في موسكو، كان الرجل الروسي ينظر من النافذة الصغيرة إلى الساحة الحمراء، وكان الناس هناك، لأول مرة منذ سنوات، يتجمعون بلا خوف، يرفعون صور لين، يغنون أغنيةً روسيةً قديمةً بكلماتٍ جديدة، وكان يرى في عيونهم شيئاً لم يره من قبل: أملاً، أملاً حقيقياً، أملاً لا يُباع ولا يُشترى. وفي بكين، كان الرجل الصيني ينظر إلى شاشةٍ كبيرة تُظهر باريس وبرلين وروما وغزة، وكان يرى الأطفال يرقصون، والكرواسون يُوزّع، والمكتبات تُفتح، وكان يبتسم ابتسامةً عميقةً، ابتسامةً تقول: لقد كنا ننتظر هذا اليوم منذ قرن.
ثم تحدثا أخيراً، ليس عن النفط، ولا عن الأسلحة، ولا عن الحدود، بل عن شيءٍ بسيط: عن الأطفال. قال الروسي: «في قريتي في سيبيريا، كان هناك طفلةٌ اسمها لينا، ماتت في الحرب العالمية الثانية، كانت في السابعة مثل لين». قال الصيني: «وفي قريتي في خنان، كان هناك طفلةٌ اسمها ليان، ماتت في الجوع الكبير، كانت في السابعة أيضاً». ثم سكتا، سكتاً طويلاً، ثم رفعا الكأس مرةً أخرى، وشربا، شربا للين، وللينا، ولليان، ولكل طفلةٍ وطفلٍ ماتوا لأن العالم كان ظالماً، ولكل طفلةٍ وطفلٍ سيعيشون لأن العالم، أخيراً، بدأ يتغير.
لم يكن هناك بيانٌ مشترك، لم يكن هناك تحالفٌ عسكري، لم يكن هناك حتى اتفاقٌ مكتوب. كان هناك فقط كأسٌ واحدٌ، وصمتٌ واحدٌ، وابتسامةٌ واحدةٌ، ووعدٌ واحدٌ بين رجلين يمثلان شعبين عظيمين، وعدٌ يقول: لن نسمح مرةً أخرى أن يموت طفلٌ باسم الربح، باسم القوة، باسم أي شيءٍ سوى الحياة. وكان هذا الوعد، في تلك القاعة تحت الأرض، أقوى من كل المعاهدات، أقوى من كل الأسلحة، أقوى من كل الأموال التي كانت تُحرّك العالم يوماً.
وفي غزة، في تلك اللحظة، كانت الأ information تُبثّ على شاشةٍ كبيرةٍ في ساحة الجندي المجهول، وكان الناس يشاهدون موسكو وبكين، يشاهدون الكأس تُرفع، وكانوا يبكون، يبكون فرحاً لأن العالم كله، من الشرق إلى الغرب، قد سمع اسم لين، وقال اسم لين، ورفع كأساً لأجل لين. وكان الأطفال يرقصون، يرقصون حول الشاشة، يرقصون لأن السماء بقيت صافية، لأن القصف لم يعد، لأن لين، أخيراً، قد انتصرت.
وفي باريس، في مكتبة لين الشعبية، كان الناس يشاهدون البث، وكانوا يرفعون أكواب القهوة، ويشربون، يشربون لموسكو، لبكين، لغزة، للين. وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار نشيداً عالمياً واحداً: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. وكان العالم، في تلك اللحظة، قد توحّد، ليس بقوة السلاح، بل بقوة كأسٍ واحدٍ، بقوة اسمٍ واحدٍ، بقوة حبٍ واحدٍ: لين.
في موسكو وبكين، في تلك القاعة تحت الأرض، شرب الرجلان الكأس حتى آخر قطرة، ثم وضعاها على الطاولة، ونظرا إلى بعضهما، وابتسما ابتسامةً هادئةً، ابتسامةً تقول: لقد انتهى زمن الخوف. بدأ زمن لين. وكان الصمت الذي تبع ذلك أجمل صمتٍ في التاريخ، صمتٌ يُسمع فيه صوت العالم وهو يتنفس من جديد، تنفساً حرّاً، تنفساً إنسانياً، تنفساً اسمه لين. للأبد.
6
في جزيرةٍ نائيةٍ في بحر الشمال، حيث لا تصل إلا الريح والأمواج والطيور التي تُغنّي للصمت، كان هناك معسكرٌ صغيرٌ أُقيم في أيامٍ قليلة، ليس سجناً بالمعنى القديم، بل مكاناً للتأمل، لإعادة التأهيل، للعودة إلى الإنسانية. كانت الجزيرة تُدعى «نورث رونالدزاي»، قطعةٌ صخريةٌ صغيرةٌ من أرضٍ اسكتلنديةٍ منسية، لا شجر فيها إلا بعض الأعشاب القاسية، لا طريق فيها إلا ممراتٍ ضيّقةٍ من الحجارة، لا مباني فيها إلا بيتٌ قديمٌ من الحجر وكوخان خشبيان أُعيدا ترميمهما على عجل. وفي هذا المكان، في العاشر من أكتوبر ٢٠٣١، كان لاري فينك يحاول زراعة البطاطس لأول مرة في حياته.
كان في الثالثة والسبعين، لكنه الآن يبدو أكبر بعشرين سنة. لم يعد هناك بدلةٌ رمادية، لم يعد هناك ربطة عنق، لم يعد هناك حذاءٌ لامع. كان يرتدي بنطالاً من القماش الخشن، قميصاً من الصوف الخشن، حذاءً مطاطياً قديماً، وكان وجهه محروقاً من الريح، يداه متشققتان من الأرض، ظهره منحنياً من الحفر. كان يحفر حفرةً ثالثةً في تربةٍ صلبةٍ كالحجر، يدخل المجرفة بقوةٍ أقلّ مما ينبغي، يرفعها ببطء، يرمي التراب جانباً، وكان عرقه يسيل على جبينه، وكان يلهث، يلهث كأن كل حفرةٍ هي اعترافٌ، كل حبة بطاطسٍ هي توبة.
لم يكن وحيداً تماماً. كان هناك آخرون، رجالٌ ونساءٌ كانوا يوماً في الطوابق العليا، في الشاشات السوداء، في الأوامر التي تُحوّل الدم إلى ذهب، الآن يحفرون بجانبه، يزرعون، يسقون، يتعلمون من جديد معنى أن تكون يداك متسخةً من التراب لا من الدم. لم يكن هناك حراسٌ مسلحون، لم يكن هناك أقفال، فقط اتفاقٌ صامت: من يريد أن يبقى يبقى، من يريد أن يتعلم يتعلم، من يريد أن يعود إلى الإنسانية يُرحَّب به. وكان معظمهم يبقى، ليس خوفاً، بل لأنهم، لأول مرة، شعروا بثقل ما فعلوا، ثقل اسم لين الذي يتردد الآن في كل مكان، في كل لغة، في كل قلب.
في الحفرة الثالثة، فشل لاري. انهار على ركبتيه، المجرفة تسقط من يده، وجلس على الأرض الباردة، ووضع رأسه بين يديه، وبكى. لم يكن بكاءً عالياً، لم يكن بكاءً مسرحياً، كان بكاءً صامتاً، بكاءً عميقاً، بكاءً يخرج من مكانٍ لم يكن يعلم أنه موجود في داخله. كان يبكي لأنه، لأول مرة منذ خمسين سنة، لم يكن هناك من يضغط زراً نيابةً عنه، لم يكن هناك من يُنظّف وراءه، لم يكن هناك من يُبرّئه. كان هناك فقط هو، والأرض، والبطاطس التي لم تنبت بعد، والسماء التي لا تُجيب إلا بالصمت.
ثم اقترب منه رجلٌ آخر، كان مدير فانغارد السابق، رجلٌ في الستين، وجهه شاحبٌ كأنه لم يرَ الشمس منذ سنوات، وجلس بجانبه على الأرض، ووضع يده على كتفه، يدٌ متشققةٌ مثل يده، ولم يقل شيئاً، فقط جلس، وكان الصمت بينهما أعمق من أي كلام. ثم، بعد دقائقٍ طويلة، رفع لاري رأسه، ونظر إلى البحر، إلى الأمواج التي تضرب الصخور بلا توقف، وهمس بصوتٍ مكسور: «كنتُ أظن أنني أبني شيئاً… كنتُ أظن أنني أحمي العالم». ثم سكت، وسكت الآخر معه، وكان الصمت يقول كل شيء.
في المساء، عندما غربت الشمس وصبغت البحر بلونٍ أحمرٍ داكن، كانوا يجتمعون حول نارٍ صغيرةٍ في وسط المعسكر، نارٌ من الحطب الذي جمعوه بأيديهم، وكانوا يأكلون بطاطس مشويةً بسيطة، بطاطس لم تنبت بعد لكنهم كانوا يحلمون بها، وكان أحدهم يقرأ بصوتٍ عالٍ من كتابٍ صغيرٍ جلبوه معهم، كتاب «رأس المال» لماركس، لكن هذه المرة لم يكن أحدٌ يضحك أو يسخر، كانوا يستمعون، يستمعون كأنما يسمعون لأول مرة، يسمعون وهم يشعرون بثقل كل كلمة، بثقل كل صفحة، بثقل كل حياةٍ دُمّرت باسم الربح.
وكان لاري يجلس في الدائرة، صامتاً، ينظر إلى النار، وكان يرى فيها وجه لين، وجه لين الذي لم يره يوماً إلا في الصور، لكن الآن يراه كل لحظة، في كل لهب، في كل شرارة. وكان يبكي، بصمت، دموعٌ تسيل على وجهه المحروق من الريح، دموعٌ لا يخجل منها، دموعٌ تقول: متأخر، متأخر جداً، لكن ربما، ربما، ليس متأخراً تماماً.
في تلك الليلة، في جزيرةٍ نائيةٍ في بحر الشمال، كان لاري فينك ينام على الأرض، على فراشٍ من القش، تحت سقفٍ من الخشب، وكان يحلم، لأول مرة منذ عقود، يحلم بلين، يحلم بها وهي تضحك، وتركض في حقلٍ من البطاطس، وكان يبتسم في نومه، ابتسامةً صغيرةً، ابتسامةً حقيقيةً، ابتسامةً تقول: ربما، ربما، هناك أملٌ حتى لي.
وفي العالم كله، في تلك اللحظة، كان الناس يعيشون، يعيشون حقاً، يعيشون لأن لين عاشت في قلوبهم، ولأن لاري، في جزيرةٍ نائية، بدأ يتعلم كيف يعيش من جديد. وكان الصوت يعلو، خافتاً في البداية، ثم أعلى، صوتٌ يأتي من كل مكان: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. وكان لاري يسمع الصوت، حتى في نومه، وكان الصوت يدخل قلبه، وكان قلبه، لأول مرة، ينبض، نبضةً واحدةً، نبضةً حقيقيةً، نبضةً تقول: لين.
7
في غزة، في الحادي عشر من أكتوبر، عند أول فجرٍ صافٍ حقاً منذ عشرين سنة، خرج الأطفال إلى الشوارع كأن السماء نفسها فتحت ذراعيها لهم أخيراً. لم يكن هناك صوت صفارات إنذار، لم يكن هناك صوت طائرة، لم يكن هناك صوت انفجار يُقطع الحلم قبل أن يبدأ. كان هناك فقط صوت البحر من بعيد، صوت الريح في أشجار الزيتون التي بدأت تُعاود الإزهار بأعجوبة، صوت أمهاتٍ يُغنين لأطفالهن أغنيةً قديمةً كانت محرّمةً لأنها كانت تُذكّر بالحرية.
في رفح، في الشارع الذي كان يُدعى شارع الشهداء، وقف ياسر، الطفل الذي رمى حجره قبل أيام، وقف في وسط الشارع، نظر إلى السماء الصافية، ثم إلى أصدقائه، ثم صرخ بصوتٍ عالٍ، صوتٍ لم يكن صوت طفلٍ فقط، بل صوت غزة كلها: «اليوم نلعب كرة!» ثم ركض، ركض كأن الأرض كلها ملعبه، ركض وهو يضحك، ضحكةً لم تُسمع في هذا الشارع منذ أجيال، ثم انضم إليه عشرات الأطفال، ثم مئات، ثم آلاف، أطفالٌ كانوا يعرفون فقط الاختباء تحت الأسرّة، يعرفون فقط صوت القنابل، يعرفون فقط الجوع والخوف والموت، الآن يركضون، يضحكون، يلعبون، يصرخون، يعيشون.
كانوا يلعبون بكرةٍ من القماش المحشوّ بالخرق، كرةٌ بدائية، لكنها كانت أجمل كرةٍ في العالم، لأنها كانت أول كرةٍ تُركل في غزة دون أن يُقاطعها صوت انفجار. كانوا يلعبون في الشارع، بين الركام، بين البيوت المُحطّمة، لكن الركام لم يعد ركاماً، صار ملعباً، صار مدرجات، صار هدفاً. وكانت الأمهات يقفن على الأبواب، يبكين بهدوء، دموع الفرح التي لم يعرفنها من قبل، وكان الآباء يرفعون أطفالهم على أكتافهم، وكان الشيوخ يجلسون على الأرض، ينظرون إلى الأطفال، ويبتسمون ابتسامةً تقول: عشنا لنرى هذا اليوم.
ثم جاءت سارة، الفتاة التي فقدت ساقها، جاءت على كرسيٍّ متحركٍ جديدٍ أرسلته النقابات الأوروبية، كرسيٌّ أزرق لامع، وكانت تحمل في يدها علمًا فلسطينياً صغيراً، ورفعته عالياً، وصرخت بصوتٍ عالٍ: «اليوم، السماء لنا!» ثم بدأت تغني، تغني أغنية «موطني»، وانضم إليها الأطفال، صوتٌ واحد، صوتٌ يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل غزة، في كل فلسطين، في كل العالم.
في تلك اللحظة، في غزة، لم يعد هناك حصار، لم يعد هناك جدار، لم يعد هناك خوف. كان هناك فقط أطفالٌ يلعبون كرة، وأمهاتٌ يغنين، وشيوخٌ يبكون، وسماءٌ صافية، وشمسٌ دافئة، وحياةٌ جديدة، حياةٌ ولدت من رماد لين، حياةٌ اسمها لين. وكان ياسر يركض، يركض، يركض، وكان يضحك، وكان يصرخ: «اليوم، اليوم، اليوم!» وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار نشيداً عالمياً واحداً: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش.
وفي باريس، في مكتبة لين الشعبية، كان الناس يشاهدون البث المباشر من غزة، يشاهدون الأطفال يلعبون، يشاهدون سارة ترفع العلم، يشاهدون ياسر يركض، وكانوا يبكون، يبكون فرحاً، ويرفعون أكواب القهوة، ويشربون، يشربون لأجل غزة، لأجل لين، لأجل الحياة. وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار يُسمع في كل أوروبا، في كل العالم: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش.
في جزيرة نورث رونالدزاي، كان لاري فينك يشاهد البث على شاشةٍ صغيرةٍ في الكوخ، يشاهد ياسر يركض، يشاهد سارة تغني، يشاهد الأطفال يلعبون، وكان يبكي، بكاءً صامتاً، بكاءً عميقاً، بكاءً يقول: لين. ثم وقف، وخرج إلى الخارج، ونظر إلى البحر، ورفع يديه، وهمس بصوتٍ مكسور: «سامحيني». وكان البحر يزمجر، لكن هذه المرة لم يكن زئيراً، كان أغنيةً، أغنيةً تقول: لين تعيش.
في غزة، في تلك اللحظة، لم يعد هناك موت، لم يعد هناك خوف، لم يعد هناك حصار. كان هناك فقط أطفالٌ يلعبون كرة، وأمهاتٌ يغنين، وشيوخٌ يبتسمون، وسماءٌ صافية، وحياةٌ جديدة، حياةٌ ولدت من رماد لين، حياةٌ اسمها لين. وكان ياسر يركض، يركض، يركض، وكان يضحك، وكان يصرخ: «اليوم، اليوم، اليوم!» وكان الصوت يعلو، يعلو، حتى صار النشيد الوحيد في الكون كله: لين تعيش. لين تعيش. لين تعيش. للأبد.
انتهت اللعبة. بدأ العالم.
........
ملخص عن الرواية
تُروى الرواية في أربعة فصولٍ كبيرةٍ، كل فصلٍ سبعة أجزاء، كأنها سبع درجاتٍ في سلمٍ يصعد من الجحيم إلى النور، وتُبنى كلها حول لحظةٍ واحدةٍ محورية: اللحظة التي يضغط فيها لاري فينك زراً في الطابق السابع والستين فتنفجر قنبلةٌ في رفح فتموت لين، الطفلة ذات السبع سنين، فتبدأ الملحمة.
الفصل الأول «غرفة الزر الأحمر» هو الجحيم المُكيَّف. يُفتتح بمشهدٍ باردٍ في مانهاتن حيث يشتري لاري فينك عشرة ملايين سهمٍ إضافيةٍ في لوكهيد مارتن، في اللحظة نفسها تنفجر القنبلة في رفح فتُدفن لين مع أمها وجدتها ودميتها ذات العين الواحدة. ثم يتتبع الفصلُ سبعةَ أصواتٍ في سبع مدنٍ مختلفةٍ تُسمع الخبر في اللحظة نفسها: مديرٌ في فانغارد يبتسم ابتسامةً خجولةً لأن «التوترات الجيوسياسية» رفعت العائد، عامل سكك حديديةٍ في باريس يُشعل سيجارةً ويبدأ يكتب أسماء الرفاق القدامى، أستاذة فلسفةٍ متقاعدةٍ في فرانكفورت تُحذف رسالةً ثم تُخرج شارةً حمراء، مستثمرٌ شابٌ في تل أبيب يرفع كأساً «إلى بلاك روك»، لاري فينك ينام نوماً عميقاً في هامبتونز وكلبه عند قدميه. سبعةُ مشاهدَ منفصلةٍ جغرافياً لكنها مُتصلةٌ بخيطٍ واحدٍ من دمٍ ومالٍ وصمت.
الفصل الثاني «أنين الشوارع» هو الاستيقاظ. يبدأ في أثينا حيث يرفض فانغارد إعادة جدولة الدين فيُغلق ميدان سينتاغما بمئة ألف صوتٍ يصرخون «كفى». ثم ينتقل إلى لشبونة حيث يُغلق عمال الميناء سفينةَ أسلحةٍ متجهةً إلى حيفا، إلى برلين حيث يجلس الشباب أمام مبنى فيديليتي ويغنون للين، إلى مدريد حيث يحتل عمال فولكسفاغن المصنع ويرفعون العلم الأحمر، إلى باريس حيث يُعلن بيير موران الإضراب العام ويقول «إذا أوقفنا القطارات أسبوعاً واحداً ستنهار بورصات أوروبا كلها»، إلى روما حيث تكتب جدةٌ في الثمانين على جدارها «كنتُ في المقاومة ضد موسوليني وسأكون في المقاومة ضد غولدمان ساكس»، إلى بروكسل حيث يجتمع الوزراء في خوفٍ ويقول الوزير اليوناني «ربما حان الوقت لنظام عملةٍ جديد». سبعةُ مدنٍ تتحرك في اللحظة نفسها، كأن قلباً خفياً دقّ في صدور الملايين.
الفصل الثالث «يوم الزر الأزرق» هو الثورة. في الثالث من أكتوبر يتوقف كل شيءٍ في أوروبا في اللحظة نفسها: القطارات، الموانئ، الكهرباء، المصانع، المدارس، المطارات. ثم ينهار سوق الأسهم في نيويورك بنسبة ٤٢٪ في ساعةٍ واحدة، ثم يُقتحم البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ سلمياً ويُعلن التأميم، ثم تنضم لندن ويُغلق المترو وتُطفأ الأنوار عن السيتي، ثم تنضم دول أوروبا الشرقية كلها في يومٍ واحد، ثم تُؤمَّم مباني الاحتكارات في كل مدينة، ثم يُعلن عشر دولٍ أوروبيةٍ في بيانٍ مشتركٍ بدء التأميم العالمي المنسق، ويُختتم الفصل بصمتٍ عالميٍّ يقول: انتهى.
الفصل الرابع «اليوم الذي توقف فيه القصف» هو الميلاد. يبدأ بتوقف القصف على غزة فجأة لأن لا أحد وجد من يدفع الفاتورة، ثم تُغلق بورصة وول ستريت وتُعلَّق لافتة «مغلق لإعادة تأهيل أخلاقي»، ثم تتحول مباني الاحتكارات إلى مكتباتٍ شعبيةٍ ومطابخَ شعبيةٍ وعياداتٍ مجانيةٍ ويُوضع تمثال لين في كل بهو، ثم يُعلن المجلس الثوري في برلين «شقةٌ لكل مواطن، عملٌ لكل قادر، كرواسون مجاني كل صباح»، ثم يُرفَع كأسٌ مشتركٌ في موسكو وبكين في صمتٍ، ثم يُرسَل لاري فينك وغيره إلى جزيرةٍ نائيةٍ ليزرعوا البطاطس ويتعلموا من جديد معنى أن تكون يداك متسختين من التراب لا من الدم، ويُختتم الفصل بأطفال غزة يلعبون كرة في الشارع وياسر يركض ويصرخ «اليوم نلعب كرة!» والعالم كله يسمع، والعالم كله يضحك ويبكي ويغني: لين تعيش.
هذه هي الرواية: من زرٍ أحمر في الطابق السابع والستين إلى كرةٍ تُركل في شارع الشهداء، من موت طفلةٍ إلى ميلاد عالمٍ، من صمت الضمير إلى صخب الحياة، من الإمبراطورية المالية إلى جمهورية لين. أربعة فصول، ثمانية وعشرون جزءاً، مليون قلبٍ ينبض معاً، اسمٌ واحدٌ يُردّد في كل مكان: لين.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية : مفتاحٌ في صدر ميت
-
استثمارات بلاك روك في قطاع السلاح: رؤية معمقة نحو الثراء الذ
...
-
بلاك روك للمبتدئين: كيف تكون ناشطاً بيئياً وتاجر سلاح في نفس
...
-
لماذا يجب على العالم أن يسترد سيادته من الاحتكارات الخمس
-
من أنبوب كولن باول إلى أنابيب غاز ترامب: نفس النكتة،
-
سوريا تحت ظلال الفصل السابع رحلة نحو نهاية مكتوبة بأيدي من ظ
...
-
عندما تصبح الدراسات الجامعية برنامجاً حكومياً: رؤية حزب العم
...
-
عندما التقت الدبّة بالتنين: سقوط الهيمنة الغربية بهدوء
-
عبوديةٌ بثياب الحرية.. تحقيقٌ في استلاب الكرامة الإنسانية تح
...
-
من بغدادَ العلم إلى رياضِ و دوحة الخيانة: سقوطُ الضمير العرب
...
-
عندما يصبح الربحٌ إلهاً: سيرة الإبادة الرأسمالية:من بوتوسي إ
...
-
مجرمو السيليكون: من وادي الكاليفورنيا إلى قبور غزة
-
القرم إلى الأبد والغاز بالروبل
-
الاغتيالات : كيف تكشف ضربات إسرائيل الأخيرة عجزها الاستراتيج
...
-
الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك ( كتيب )..مقارنات بين امين وبري
...
-
الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك(كتيب )..مقارنات سمير امين مع بر
...
-
«الفراغ العظيم: انهيار النظام الإمبريالي وإمكانية العالم الج
...
-
من أوشفيتز إلى غزة: دراسة نقدية أدبية في شهادات بريمو ليفي و
...
-
«قمرٌ على سريرٍ وميلٌ في قامة» كتيب حول مداخلة في الشعر العر
...
-
-من أوشفيتز إلى غزة: ذاكرة الناجين وصرخة الأحياء- ..بين شهاد
...
المزيد.....
-
نتفليكس تستحوذ على أعمال -وارنر براذرز- السينمائية ومنصات ال
...
-
لورنس فيشبورن وحديث في مراكش عن روح السينما و-ماتريكس-
-
انطلاق مهرجان البحر الأحمر السينمائي تحت شعار -في حب السينما
...
-
رواية -مقعد أخير في الحافلة- لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام
...
-
الخناجر الفضية في عُمان.. هوية السلطنة الثقافية
-
السعودية.. مهرجان -البحر الأحمر السينمائي- يكرم مايكل كين وج
...
-
المخرج الأمريكي شون بيكر: السعودية ستكون -الأسرع نموًا في شب
...
-
فيلم -الست-: تصريحات أحمد مراد تثير جدلا وآراء متباينة حول ا
...
-
مناقشة رواية للقطط نصيب معلوم
-
أبرز إطلالات مشاهير الموضة والسينما في حفل مهرجان البحر الأح
...
المزيد.....
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|