|
|
رواية : مفتاحٌ في صدر ميت
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 09:05
المحور:
الادب والفن
تُقدَّم هذه الرواية القصيرة جداً، المكونة من خمسة فصول فحسب، كنصٍ يُشبه الشظية الحادة التي تُخرج من الجسد بعد سنوات من الدفن؛ شظيةٌ صغيرة، لكنها كفيلة بأن تُعيد فتح جرحٍ كان يُعتقد أنه قد التأم. إنها ليست رواية حرب بالمعنى التقليدي، ولا هي سيرة انتحار بالمعنى السريري، بل هي ما يمكن تسميته "رواية الاعتراف المُستحيل"، ذلك النوع الذي ينبثق حين يُصبح الصمت جريمةً أكبر من الكلام، وحين يُصبح البقاء خيانةً للأموات.
منذ السطر الأول في الفصل الأول، يُقيم النص حقل توترٍ لا ينفكّ يتسع ويضيق كالتنفس المُضطرب. لا نُقدَّم لشخصية بالمعنى الروائي الكلاسيكي، بل لـ"ظلٍ يحمل بندقية"، ظلٍ يُدرك منذ اللحظة الأولى أن كل رصاصة يطلقها تُطلق على نفسه أيضاً، لكن ببطءٍ مؤجّل. اللغة هنا لا تُصفّي الحرب، بل تُعيد خلقها كتجربة وجودية داخل الجسد الواحد؛ كل صوت انفجار يُسمع داخل القفص الصدري، وكل صرخة مكتومة تُولد في الحنجرة ولا تخرج. هذا الفصل هو لحظة السقوط الأولى، لكن السقوط هنا ليس في المعركة، بل في الوعي؛ إنه السقوط في مرآة الضمير التي تكسرت ولم تتفتت، فظلت قطعها الحادة تُدمي صاحبها مع كل حركة.
أما الفصل الثاني فيُمثل الانهيار البطيء، ذلك الانهيار الذي لا يُعلن عن نفسه بصراخ، بل بالفراغ الذي يتسع داخل الجملة والمسافة بين الكلمات. اللغة هنا تُشبه صوت الماء الذي يقطر في كهف مهجور؛ قطرة، ثم قطرة، ثم صمت طويل يجعل كل قطرة تُسمع كضربة مطرقة. الرجل يعود إلى مدينته كما يعود الميت إلى قبره قبل أن يُدفن، وهذه الجملة وحدها كافية لأن تُحدد الموقف الوجودي للنص كله. لا شفاء هنا، ولا إعادة تأهيل، ولا حتى أمل خفي. هناك فقط محاولة للعيش داخل جثة لا تزال تتنفس، وكل محاولة تُثبت أن التنفس نفسه أصبح خيانة.
في الفصل الثالث، تنتقل الرواية من الفضاء الداخلي إلى فضاء الحديقة، ذلك المكان الذي يُشبه المسرح اليوناني في بساطته المُرعبة: شجرة، مقعد، ظلال. هنا يتحول الضمير إلى محكمة، والأموات إلى قضاة لا يتكلمون، لأن نظراتهم كافية. اللغة تُصبح أكثر كثافة، كأن كل كلمة تُكتب بدمٍ خفي، وكل جملة تُحفر في اللحم. هذا الفصل هو ذروة الوعي بالإثم، لكنه ليس وعياً تأملياً، بل وعياً جسدياً؛ الإثم هنا ليس فكرة، بل هو ثقل مادي يُجلس على الصدر، هو رائحة لا تُغادر الأنف، هو طعم دم في الفم حتى لو لم يُصب الإنسان.
الفصل الرابع هو لحظة الاعتراف العلني، وهو أخطر فصول النص وأكثرها حدّة. الكتابة على فيسبوك ليست مجرد فعل تقني، بل هي صلب علني في عصر الشاشات. الرجل لا يكتب ليُخفف عن نفسه، بل ليُثقل الآخرين بما يحمله. اللغة هنا تُصبح نبوءة، وكل كلمة تُطلق كرصاصة لن ترجع. هذا الفصل يُذكّرنا بأن الاعتراف في عصرنا لم يعد سرّاً يُقال في غرفة مظلمة، بل قنبلة تُوضع في الفضاء العام لتنفجر في وجدان الجميع. الرجل لا يطلب الغفران، لأنه يعرف أن الغفران سلعة رخيصة في زمن الإعجاب والقلوب الحمراء، بل يطلب أن يُترك العالم وحده مع ما فعله، وهذا طلب أكثر رعباً من أي لعنة.
أما الفصل الخامس فهو النهاية التي ليست نهاية. الموت هنا لا يُغلق شيئاً، بل يفتح كل شيء. الجثة تحت الشجرة ليست نهاية القصة، بل بداية حياة أخرى للكلمات التي تُركت. اللغة في هذا الفصل تُصبح هادئة بشكل مخيف، كأن العاصفة قد مرت وتركت وراءها صمتاً يُسمع فيه كل شيء. الرجل يتحول إلى سؤال مفتوح، إلى جرح لا يُغلق، إلى صوت لا يمكن إسكاته. النص هنا يُحقق ما عجزت عنه كل الروايات الحربية الكبرى: أن يُثبت أن الموتى لا يموتون حقاً إلا إذا نسيهم الأحياء، وأن القتلة لا يعيشون حقاً إلا إذا تذكروا.
ما يُميز هذه الرواية ليس موضوعها فحسب، بل قدرتها على تحويل الإثم إلى مادة جمالية. اللغة لا تُجمّل الألم، بل تُعريه بقسوةٍ تُشبه الجراح، ومع ذلك فهي تُحقق نوعاً من السمو التراجيدي الخالص. لا نجد هنا خطاباً سياسياً مباشراً، ولا شعارات، ولا حتى اتهاماً صريحاً. الاتهام يأتي من الداخل، من الجسد نفسه، من الضمير الذي يأكل صاحبه حياً. هذا ما يجعل النص مُرعباً حقاً: أنه لا يحتاج إلى أن يُقنعنا بالجريمة، بل يجعلنا نشعر أننا نعرفها مسبقاً، وأننا نعرف أيضاً أننا سنظل ننظر إلى الجهة الأخرى.
تُثبت هذه الرواية أن الأدب لا يزال قادراً على أن يكون فعل مقاومة، ليس برفع الشعارات، بل بإجبار القارئ على مواجهة نفسه في مرآة لا تكذب. الرجل الذي مات تحت الشجرة لم يمت وحده. مات معه شيء من كل واحد منا، شيء كان يُحب أن يظل نائماً. وهذا، ربما، هو أقسى أنواع الانتصار التي يمكن للأدب أن يحققها في زماننا.
مقدمة
في ليلٍ احتلال لا ينتهي، حيث يتدلى القمر كدمعة مُعلّقة فوق أرضٍ جرحُها أقدم من الزمن، تُولد هذه الرواية من بين الرماد والأنين، كأنها زهرة سوداء نبتت من تربةٍ شربت دم النكبة منذ سبعة وسبعين عاماً، وما زالت تشرب.
قد يكون بطلها ضابطاً من لحم ودم، ارتدى زيّ الاحتلال الأطلسي-الصهيوني، وصار في يده مفتاح مدنٍ لم يعد لها أبواب، وفي عينيه خرائط مدمرة ليافا وحيفا وعسقلان والمجدل واللد والجليل، مدنٌ صارت أسماءً على لوحات عسكرية، وأرقاماً في ميزانيات حاملة طائرات تُدعى إسرائيل، تسبح في شرق المتوسط محمّلة بأحلام الإمبراطورية الأمريكية، تُطلق صواريخها بأموال دافعي الضرائب البعيدين، وتُلقي بظلالها على أطفال لا يعرفون اسم البحر الذي يُحاصرونهم.
أو ربما ليس هو الضابط أصلاً. ربما هو صوت اللاجئ الفلسطيني نفسه، ذلك الذي طُرد من بيته عام ثمانية وأربعين، فحمل المفتاح في جيبه حتى صار المفتاح عظمةً في صدره، وصار الباب شبحاً يطرقه كل ليلة في مخيمات الشتات، في غزة المحاصرة، في الأردن، في لبنان، في سوريا، في كل مكانٍ يُدعى المنفى. ربما هو صوت الأم التي لا تزال تُعدّ القهوة لأبنائها الذين لم يعودوا، وصوت الجدّ الذي يروي لأحفاده عن أشجار الزيتون التي كانت تُظلّل بيتهم في قرية لم يعد لها وجود سوى في حكاية.
ربما هو الاثنان معاً. الجلاد والضحية في جسدٍ واحد، في روحٍ واحدة مُمزقة، في صرخةٍ واحدة تُطلقها الإنسانية حين تُجبر على أن ترى نفسها في المرآة المُحطمة. ربما التشابه مقصود، وربما هو قدرٌ لا مفرّ منه: أن يلتقي الجاني بالمجني عليه في لحظة الاعتراف الأخيرة، تحت شجرةٍ في أسدود، أو تحت نخلةٍ محترقة في غزة، أو في فراغٍ لا مكان له سوى داخل الضمير.
هذه الرواية لا تروي قصةً واحدة. إنها تروي قصة شعبٍ صُودر وطنه فصار وطنه في الذاكرة، وصار المنفى وطناً، والمفتاح سلاحاً، والحكاية مقاومة. وفي الوقت نفسه تروي قصة من حمل السلاح ليحفظ الكذبة، فاكتشف أن الكذبة ابتلعته، فلم يجد طريقاً للخلاص سوى أن يُعلن أمام العالم أنه كان جزءاً من الجريمة، وأن يموت لكي يحيا الصوت الذي كتمه الاحتلال عقوداً.
فإذا قرأتم هذه الصفحات، فاعلموا أنكم لا تقرؤون عن رجلٍ مات تحت شجرة. أنتم تقرؤون عن أرضٍ ما زالت تُنزف، وعن شعبٍ ما زال يُولد من الرماد كل يوم، وعن إنسانية تُحاكم نفسها في محكمة الضمير، حيث لا تُقبل الأعذار، ولا تُسمع التبريرات، ولا يبقى سوى الحقيقة عاريةً، دامعةً، صارخةً:
كفى. كفى للظلم الذي يُسمى دفاعاً. كفى للاحتلال الذي يُسمى أمناً. كفى للنكبة التي لا تزال مُستمرة.
وإذا انتهيتم من القراءة، فأغلقوا الكتاب، ثم افتحوا عيونكم على البحر، على الشمس، على الأرض، واسألوا أنفسكم: متى يعود المفتاح إلى بابه؟ متى تعود الأرواح إلى بيوتها؟ متى يُسمح للإنسان أن يكون إنساناً، لا جلاداً ولا ضحية، لا سجاناً ولا أسيراً، فقط إنساناً؟
حتى ذلك اليوم، تبقى هذه الرواية صرخةً في الظلام، ونبضاً في قلب الأرض المُغتصبة، وشهادةً لا تموت.
…
الفصل الاول
الرصاصة التي لم تُطلق عليّ بعد
في الصباح الذي كان لا يزال يحاول أن يولد، وقف الرجل على تلة من التراب المحروق، يمسك بندقيته كما يمسك المحكوم عليه بالإعدام حبل مشنقته. كان الهواء ثقيلاً برائحة البارود والخوف، وكانت الشمس تطلع خلف جدار من الدخان كأنها تخجل من أن ترى ما سيحدث. لم يكن اسمه مهمّاً بعد الآن، فقد أصبح مجرد ظل في صفحة طويلة من الأوامر المكتوبة بحبر لا يُمحى. كان يعرف أن ما سيفعله اليوم سيبقى معلقاً في حلقه إلى الأبد، لكنه كان يعرف أيضاً أن الرفض يعني أن يصبح هو نفسه هدفاً للرصاصة التي يحملها.
تحت قدميه، كانت الأرض تتنفس أنيناً خافتاً، أنين من يعرف أن الدم الذي سيسكب عليه لن يجف أبداً. تقدمت الدبابات كوحوش حديدية بطيئة، ووراءها سار الجنود كأيتام في جنازة لا يعرفون لمن هي. كان هو في المقدمة، يحمل أمراً مكتوباً بكلمات بسيطة: "تطهير المنطقة". لم يسأل ماذا تعني الكلمة، لأنه كان يعرف. كان يعرف أن التطهير يعني أن يصبح الإنسان تراباً، وأن يصبح البيت حفرة، وأن يصبح الطفل ذكرى لا يجرؤ أحد على نطقها.
في اللحظة الأولى التي رأى فيها الطفل يركض، كان شيء ما داخله قد توقف. كان الطفل يحمل شيئاً أبيض، ربما قميصاً، ربما راية استسلام صغيرة، لكن الأمر كان قد صدر: "إطلاق نار على كل متحرك". رفع البندقية، وكانت يده ترجف، ليس خوفاً من الموت، بل خوفاً من أن يصبح قاتلاً. الرصاصة خرجت، وكأنها خرجت من صدره هو نفسه. سقط الطفل، ولم يصرخ. صمت فقط، صمتاً ثقيلاً كأنه حكم نهائي على كل ما كان يؤمن به الرجل.
تقدموا أكثر. دخلوا البيوت التي كانت لا تزال تحمل رائحة الخبز الطازج والنوم الهادئ. في إحدى الغرف، وجدوا امرأة تحتضن طفلين، عيونهم مفتوحة على وسعها كأنها تسأل: لماذا؟ لم يكن هناك وقت للأسئلة. كان هناك أمر فقط. أطلق النار، وكان صوت الرصاص يتردد في رأسه كضربات مطرقة على نعش. عندما خرج من البيت، كان يشعر أن شيئاً ما قد انقطع داخله، كأن روحاً صغيرة تركته ومضت تبحث عن جسد آخر يستحقها.
في منتصف النهار، توقف القتال للحظات. جلس الجنود يأكلون علب الطعام المعلب كأنهم يأكلون رماداً. كان الرجل ينظر إلى يديه، يرى فيهما خطوطاً غريبة لم يرها من قبل، خطوطاً تشبه خرائط مدن محترقة. سأله أحدهم: "هل أنت بخير؟" فابتسم ابتسامة ميتة وقال: "أنا دائماً بخير". لكنه كان يعرف أن الكذبة قد بدأت، وأن الكذبة ستكبر حتى تأكله حياً.
مع غروب الشمس، كانت الأرض قد شربت ما يكفي من الدم. عاد الجنود إلى معسكرهم، يحملون أسلحتهم كما يحمل المذنبون أثقالهم. جلس الرجل وحيداً في خيمته، يحاول أن يغسل يديه في وعاء ماء بارد. الماء أصبح أحمر، ثم عاد شفافاً، لكن الاحمرار بقي في عينيه. كتب في دفتر صغير: "اليوم قتلت جزءاً من نفسي. لا أعرف إن كان هناك ما يكفي من الأجزاء الباقية لأعيش".
في الليل، لم ينم. كان يسمع أصواتاً تأتي من بعيد، أصوات أطفال يبكون، أمهات ينادين بأسماء لن تُرد عليها أبداً. حاول أن يصلي، لكن الكلمات كانت تتكسر في فمه. حاول أن يبكي، لكن الدموع جفت قبل أن تبدأ. كان يشعر أن شيئاً ما قد ولد في هذه الليلة، شيئاً أسود وثقيلاً، يتحرك في صدره كجنين من الإثم.
في الصباح التالي، عادوا إلى القتال. لكن الرجل لم يعد هو نفسه. كان يمشي كما يمشي المحكوم عليه إلى حتفه، ببطء وثبات. كان يعرف أن كل خطوة تقربه من الهاوية، لكنه لم يعد يملك القدرة على التوقف. في عينيه، كان هناك بريق غريب، بريق من يرى الموت ويبتسم له لأنه أصبح صديقاً وحيداً.
في إحدى اللحظات، رفع بندقيته نحو شيخ يقف أمام بيته المحترق، يحمل مصحفاً مفتوحاً. لم يطلق النار. وقف فقط، ينظر إلى الشيخ، وكان الشيخ ينظر إليه بنفس النظرة. في تلك اللحظة، تبادلا شيئاً لا يمكن وصفه، شيئاً أعمق من الكراهية وأقرب إلى الرحمة المستحيلة. ثم جاء الأمر من الخلف: "أطلق النار!" فأطلق، وسقط الشيخ، والمصحف بقي مفتوحاً على الأرض، صفحته ترفرف مع الريح كأنها تحاول أن تقول شيئاً لم يعد هناك من يسمعه.
في نهاية اليوم، جلس الرجل على حافة حفرة كبيرة مليئة بالجثث. كان ينظر إليها كما ينظر المرء إلى مرآة مكسورة تعكس وجهه المشوه. كتب في دفتره: "اليوم دفنت نفسي معهم. لكنني لا أزال أتنفس. هذا هو العذاب الأكبر".
وفي الليل، بدأ الشيطان يزوره. لم يكن شيطاناً بقرون وذيل، بل كان وجهاً صغيراً، وجه الطفل الذي قتله في اليوم الأول. كان يجلس في زاوية الخيمة، ينظر إليه بصمت، يبتسم ابتسامة لا معنى لها. حاول الرجل أن يطرده، لكنه لم يستطع. كان الطفل قد أصبح جزءاً منه، جزءاً لن يفارقه أبداً.
وهكذا بدأت الرحلة الحقيقية، رحلة ليست في الأرض المحترقة، بل في الظلام الذي يحمله في صدره. كان يعرف أن الحرب لم تبدأ في السابع من أكتوبر، ولم تنته فيه. الحرب بدأت في اللحظة التي وافق فيها على أن يصبح أداة، وستنتهي فقط عندما يجد طريقة ليغفر لنفسه ما لا يغتفر.
…..
الفصل الثاني
البيت الذي عُدتُ إليه ميتاً
عاد إلى المدينة التي ولد فيها كما يعود الميت إلى قبره قبل أن يُدفن. كان البحر في أسدود يصفع الشاطئ بنفس الإيقاع الذي كان يضرب به قلبه في الليالي الأولى بعد السابع من أكتوبر، لكن الصوت الآن كان يبدو وكأنه يتهمه، موجة بعد موجة، بأنه عاد حيّاً بينما آخرون بقوا هناك، تحت التراب، أو تحت الأنقاض، أو في ذاكرة لا ترحم.
دخل الشقة الصغيرة التي كانت يوماً ملجأً، فوجدها غريبة كأنها تنتمي لرجل آخر. الجدران نفسها، لكن الضوء الذي يتسلل من النافذة كان يحمل لوناً باهتاً، لون الدم المخفف بالماء. جلس على الأريكة، ولم يخلع حذاءه العسكري، كأنه لا يزال ينتظر أمراً بالتحرك. في صدره، كان هناك ثقل يشبه حجرة وضعوها فوق قبر مفتوح لئلا يخرج الميت. لم يكن يعرف إن كان الحجر يمنعه من الخروج، أم يمنع العالم من النظر إلى ما تحته.
في الأيام الأولى، حاول أن يعيش كما يعيش الناس. اشترى خبزاً، طبخ بيضاً، فتح الراديو. لكن كل شيء كان يتلوّن بلون البارود. رغيف الخبز كان يشبه وجه طفل رآه مقطوعاً، صفار البيض كان يذكره بالدم المتجمد على جدار غرفة لم يعد يعرف عنوانها. أغلق الراديو عندما بدأت أغنية حب، لأن الكلمات كانت تصرخ في رأسه: "كيف يمكن للحب أن يبقى بعد أن صرت أنا؟"
في الليل، كان يجلس أمام المرآة حتى تشرق الشمس. لم يعد يعرف الوجه الذي يراه. كان هناك رجل ذو عينين غائرتين، خدود غارقة، فم يبتسم فقط عندما يُجبر على الكذب. كان يمد يده ليلمس الزجاج، يتساءل إن كان الوجه الحقيقي هو الذي في المرآة، أم الذي يختفي عندما يُطفئ النور. في إحدى الليالي، همس لانعكاسه: "من أنت؟" فأجابه الصمت بصوت الطفل الذي لا يزال يجلس في زاوية الغرفة، يبتسم ابتسامة لا معنى لها.
ذهب إلى قسم إعادة التأهيل في وزارة الدفاع. هناك، جلسوا معه في غرفة بيضاء لا نوافذ فيها سوى واحدة صغيرة تطل على موقف سيارات. كان الطبيب النفسي يسأله أسئلة مكتوبة مسبقاً، وكان هو يجيب بكلمات مكتوبة مسبقاً أيضاً، كأنهما يلعبان مسرحية يعرفان نهايتها. "هل تسمع أصواتاً؟" سأله الطبيب. ابتسم الرجل ابتسامة ميتة وقال: "أسمع أصواتاً لم تُسمع بعد، أصوات من سيُقتلون غداً باسمي". لم يفهم الطبيب، فكتب في تقريره: "هلاوس سمعية محتملة، يحتاج تقييماً إضافياً".
عاد إلى البيت حاملاً علبة أقراص تجعل النوم ممكناً، لكن النوم لم يعد يأتي. كانت الأقراص تحول الليل إلى حفرة سوداء يغوص فيها، لكن الحفرة كانت ممتلئة بوجوه. كانوا يسبحون نحوه، يمدون أيديهم، يحاولون أن يمسكوا به، ليس ليؤذوه، بل ليأخذوه معهم. في إحدى الليالي، استيقظ وهو يصرخ، فوجد نفسه يقف في منتصف الغرفة، يضرب الهواء بيديه كأنه يدفع عن نفسه أجساداً لا تُرى.
بدأ يكتب. ليس رسائل، ليس يوميات، بل اعترافات. كان يكتب في دفتر صغير بقلم حبر أسود ينزف كجرح. "أنا لست أنا بعد الآن. أنا حفرة تمشي على قدمين. أنا صوت يصرخ في فراغ لا يرد الصدى. فعلت ما لا يُغتفر، وأنا أعرف أن الغفران ليس لي، لكنني أريد على الأقل أن أُفهم". كان يكتب والبيت صامت، لكن الصمت كان يصرخ. كل كلمة كان يضعها على الورق كانت تقطع من لحمه قطعة صغيرة، لكن القطع لم تكن تكفي ليخف الثقل.
في إحدى الجلسات، سألته المعالجة: "هل تشعر بالذنب؟" فبكى لأول مرة منذ عودته. لم تكن دموعه كدموع الناس، كانت ثقيلة، حارة، كأنها دم يخرج من عينيه. قال لها بصوت مكسور: "الذنب هو كل ما تبقى لي. لو فقدته، لن يبقى شيء يثبت أنني كنت إنساناً يوماً ما". لم تفهم هي أيضاً، فكتبت في تقريرها: "شعور مفرط بالذنب، يحتاج تعديل دوائي".
خرج إلى الشوارع ليلاً. كانت أسدود نائمة، لكن النوم كان يبدو له كذبة كبيرة. كل بيت مضيء كان يذكره ببيت أطفأه. كل ضحكة طفل في الشارع كانت تطعنه في خاصرته. كان يمشي وكأنه يحمل تابوتاً شفافاً لا يراه أحد سواه. في إحدى الليالي، وقف أمام البحر، وصرخ في الظلام: "خذني! أنا لا أستحق الهواء!" لكن البحر لم يرد، ظل يضرب الشاطئ بنفس الإيقاع الذي يضرب به قلبه، موجة اتهام بعد موجة.
عاد إلى البيت، فتح الفيسبوك لأول مرة منذ أشهر. كان هناك أصدقاء قديمون يضحكون في صور، يحتفلون بأعياد ميلاد، يعلنون خطوبات. كان العالم قد تابَع حياته، بينما هو توقف في لحظة واحدة، لحظة الرصاصة الأولى. كتب منشوراً طويلاً، ثم محاه، ثم كتبه من جديد. كان يكتب ويبكي، وكل دمعة تسقط على لوحة المفاتيح كانت تضيف كلمة جديدة من الاعتراف. "أنا خراب ودمار. فعلت أشياء لا تُغتفر. لا أحد يفهمني، لأن لا أحد يريد أن يفهم. هناك شيطان يطاردني منذ السابع من أكتوبر، وأنا أعرف أنني هو الشيطان".
لم ينشر المنشور بعد. احتفظ به في المسودات، كأنه يحتفظ بقنبلة لا يعرف متى ستنفجر. في تلك الليلة، جلس على الأرض، ظهره إلى الحائط، ورأى الطفل مجدداً. كان الطفل يكبر الآن، يقترب، يمد يده. لم يعد يبتسم. كان يقول شيئاً بلا صوت، وكان الرجل يعرف ما يقوله: "لماذا أنا؟" فأجابه بصوت مكسور: "لأنني لم أكن قوياً بما يكفي لأرفض".
وفي الصباح، عندما طلعت الشمس على أسدود كأنها تخجل من نفسها، كان الرجل لا يزال جالساً في الزاوية، عيناه مفتوحتان، لكنه لم يعد يرى العالم. كان يرى فقط الظلام الذي يحمله داخله، الظلام الذي أصبح أوسع من العالم كله. وكان يعرف أن الشيطان لم يعد يطارده من الخارج. الشيطان استقر في صدره، يتنفس معه، يضحك معه، يبكي معه، وينتظر اللحظة التي سيأخذ فيها كل شيء.
…….
الفصل الثالث
الدائرة التي لا تُغلق
كانت الحديقة في أسدود ملجأً كاذباً، قطعة أرض خضراء محاصرة بالأسمنت والأسلاك، كأنها قلب صغير لا يزال ينبض داخل صدر ميت. كان يأتي إليها كل مساء، يجلس على المقعد الخشبي الذي تآكلت ألوانه، ويترك الريح تمرّ من بين أصابعه كأنها تحاول أن تمسح شيئاً لا يُمحى. الأشجار كانت تُلقي بظلال طويلة تشبه أصابع متهمة، وكان هو يجلس في وسطها كمحاكم في محكمة لا يوجد فيها قاضٍ سواه.
كان يعرف كل شجرة، كل جذع، كل ورقة سقطت قبل أوانها. كان يعرف أصوات العصافير التي تُغنّي في الغروب، وكيف تتحول أغنيتها إلى صرخة عندما يغيب القمر. كان يعرف أيضاً أن الحديقة ليست ملاذاً، بل سجناً مفتوحاً، سجناً اختاره هو لنفسه لأن الأسوار الحقيقية قد بُنيت داخل رأسه منذ زمن. هنا، على الأقل، كان الهواء يدخل رئتيه دون أن يمرّ عبر خوذة أو قناع غاز، وكان بإمكانه أن يرى السماء دون أن يقطعها صوت طائرة أو صفير قذيفة.
في البداية، كان يأتي ليتنفس. ثم صار يأتي ليبكي دون أن يُسمع. ثم صار يأتي ليتحدث إلى الفراغ، لأن الفراغ كان الوحيد الذي لا يقاطعه. كان يجلس ويُخرج من جيبه ورقة صغيرة مطوية عدة طيات، يفتحها بأصابع مرتجفة، ويقرأ ما كتبه في ليلة سابقة كأنه يقرأ حكماً بالإعدام: "أنا لستُ أنا. أنا قبر يمشي. أنا صوت يصرخ في حفرة لا يسمعها أحد. أنا الذي قتل الطفل ولم يمت معه. أنا الذي ما زال يتنفس بينما الآخرون توقفوا. أنا الخطيئة التي تتنفس".
كان يقرأ بصوت خافت، ثم يطوي الورقة ويعيدها إلى جيبه، وكأنه يعيد الجثة إلى قبرها. ثم يبدأ الحوار الحقيقي. كانوا يأتون واحداً تلو الآخر، لا يمشون، بل يطفون. الطفل أولاً، ثم الشيخ الذي سقط والمصحف مفتوح بين يديه، ثم المرأة التي كانت تحتضن طفليها، ثم الشاب الذي رفع يديه استسلاماً فأُفرغت في صدره عشر رصاصات. كانوا يقفون في دائرة حوله، لا يتكلمون، فقط ينظرون. نظرة واحدة طويلة لا تُحتمل، نظرة لا تطلب شيئاً وتطلب كل شيء.
كان يحاول أن يشرح لهم. كان يقول: "كان هناك أمر. كنتُ أنفّذ. كنتُ أخاف. كنتُ أعتقد أنني أحمي شيئاً. كنتُ أكذب على نفسي". لكنه كان يعرف أن التفسير لا يُقبل في محكمة الأموات. كانوا يظلون صامتين، وصمتهم كان أثقل من أي صراخ. في إحدى الليالي، تجرأ وسأل الطفل: "ماذا تريد مني؟" فابتسم الطفل ابتسامة صغيرة حزينة وقال بصوت لم يسمعه أحد سواه: "أريد أن أعود إلى أمي". فانهار الرجل على المقعد، يعضّ على يديه حتى سال الدم، لكن الدم لم يكن كافياً ليطفئ النار التي تحرق صدره.
كان يأتي في النهار أيضاً، عندما تكون الحديقة ممتلئة بالأمهات والأطفال والعشاق. كان يجلس بعيداً، يراقب. كل طفل يضحك كان يطعنه في القلب. كل أم تضم طفلها كانت تذكّره بأم لم تعد تملك ذراعين. كان ينظر إلى الأطفال يلعبون، ويرى في كل واحد منهم وجهاً آخر، وجه الطفل الذي لم يعد يلعب. في إحدى المرات، اقترب منه طفل صغير يحمل كرة، وسأله: "لماذا أنت حزين؟" فلم يستطع الإجابة. بقي فاه مفتوحاً، وعيناه ممتلئتان بدموع لم تسقط، والطفل ذهب يلعب، تاركاً الكرة بجانبه كأنها قنبلة موقوتة.
مع اقتراب الذكرى السنوية للسابع من أكتوبر، صارت الحديقة سجنه الوحيد والأخير. كان يأتي من الفجر ويبقى حتى تغلق الأبواب. كان يمشي في الممرات كأنه يبحث عن شيء فقده، لكنه كان يعرف أن ما فقده لا يُوجد في هذا العالم. كان يجلس تحت شجرة التوت الكبيرة، ويضع رأسه بين يديه، ويهمس: "كفى. كفى. كفى". لكن الكفى لم يكن يأتي. كان الإثم يزداد وزناً كل يوم، كأن كل نفس يأخذه يضيف إليه حجراً جديداً.
في إحدى الليالي، جاء المطر. مطر غزير، بارد، كأنه دموع السماء على ما لا يمكن إصلاحه. بقي جالساً تحت المطر، يتركه يبلل ملابسه، يبلل شعره، يبلل وجهه، يخلط دموعه بالماء حتى لم يعد يعرف أيهما أيهما. كان يقول للسماء: "اغسلني. إن كنتُ لا أستحق الغفران، فاغسلني على الأقل". لكن المطر لم يغسله. كان يغسل الأرض، يغسل الأشجار، يغسل المقاعد، لكنه لم يستطع أن يمس الظلام الذي استقر في صدره.
ثم جاءت الليلة التي قرر فيها أن يواجههم جميعاً. جلس في وسط الحديقة، تحت ضوء مصباح وحيد، وأخرج من جيبه سكيناً صغيرة كان يستخدمها لتقطيع الخبز. وضعها أمامه على الأرض، ونظر إلى الدائرة التي لا تزال تحيط به. قال بصوت عالٍ لأول مرة: "إن كنتم تريدون حياتي، فخذوها. أنا لا أملكها بعد الآن. أنا أعطيكم إياها طوعاً". لم يردّوا. بقوا ينظرون، ونظراتهم كانت أثقل من أي حكم.
في تلك اللحظة، فهم. لم يكن الموت هو الحل. الموت كان راحة، والراحة لم تكن له. ما كان مطلوباً منه لم يكن الموت، بل أن يعيش. أن يعيش معهم. أن يحمل وجوههم كل يوم، كل ساعة، كل نفس. أن يحمل الإثم كما يحمل المحكوم مدى الحياة زنزانته داخل رأسه. أن يبقى شاهداً على ما فعله، لأن الموت كان سيجعلهم يختفون، وسيجعل العالم ينسى، وسيجعل الآلة تستمر في طحن آخرين.
أغلق السكين، ووضعها في جيبه، وبكى بصمت. لأول مرة، لم يكن البكاء طلباً للراحة، بل قبولاً للعقاب. قبل أن يترك الحديقة في نهاية تلك الليلة، وقف في الظلام، ونظر إلى الدائرة التي بدأت تتلاشى مع أول ضوء للفجر، وقال بصوت هادئ جداً: "سأحملكم. سأحملكم حتى أنكسر. لن أهرب بعد الآن".
ثم مشى إلى البيت، يحمل في صدره مدينة كاملة من الأموات، ويعرف أن هذه المدينة لن تتركه أبداً، ولن يتركها هو أيضاً.
………
الفصل الرابع
الاعتراف الذي لا يُغفر
كانت الشجرة في وسط الحديقة قديمة، جذورها متشابكة تحت الأرض كأيدٍ متشبثة بالحياة رغم كل شيء، وأغصانها تمتد إلى السماء كأنها تتوسل إلى شيء لا يجيب. جلس تحتها في تلك الليلة الأخيرة، ظهره إلى الجذع، وركبتاه مطويتان إلى صدره كطفل يحتمي من عاصفة لا تنتهي. كان القمر غائباً، والمصباح الوحيد في الحديقة يرمي ضوءاً أصفر باهتاً يجعل وجهه يبدو كقناع من شمع ذائب. لم يعد يرتجف. كان البرد قد توغل في عظامه منذ زمن، فصار جزءاً منه، كما صار الإثم جزءاً منه، كما صار الصمت جزءاً منه.
أخرج الهاتف من جيبه ببطء، كأنه يخرج سكيناً من غمده. الشاشة تضيء وجهه للحظة، ثم يطفئها، ثم يضيئها من جديد. كان يعرف أن ما سيكتبه الآن لن يُمحى، لن يُنسى، لن يُغفر. كان يعرف أن الكلمات التي ستخرج من أصابعه ستكون آخر صوته في هذا العالم، وأنها ستظل تدوي بعد أن يصمت هو إلى الأبد. لم يكن يكتب ليُفهم، لأنه كان قد تخلى عن أمل الفهم منذ زمن. كان يكتب ليشهد، ليترك وراءه وثيقة اتهام لا يستطيع أحد أن يحرقها أو يدفنها.
بدأ يكتب.
"في اليوم الذي دمر حياتي، لم أمت. هذا هو العذاب الأكبر. بقيتُ حياً، أتنفس، أمشي، آكل، أشرب، بينما الآخرون توقفوا في لحظة واحدة، لحظة اخترتُها أنا لهم. كنتُ أظن أنني أدافع عن شيء، عن بيت، عن شعب، عن فكرة. لكنني كنتُ أدافع عن كذبة كبيرة، كذبة بُنيت على دماء لا أستطيع أن أراها وأنا أغسل يدي كل صباح. فعلتُ أشياء لا تُغتفر. رأيتُ أطفالاً يركضون، فرأيتُ فيهم تهديداً. رأيتُ نساءً يبكين، فرأيتُ فيهن عدواً. أطلقتُ النار، وكنتُ أعرف أنني أطلقها على نفسي، لكنني لم أتوقف."
توقف للحظة، رفع عينيه إلى السماء السوداء، كأنه يبحث عن نجمة، عن أي شيء يضيء، لكنه لم يجد سوى الظلام. ثم عاد يكتب.
"هناك شيطان يطاردني منذ ذلك اليوم. ليس شيطاناً بقرون وذيل، بل وجوه. وجوه لا تتركني. وجوه تنام معي، تأكل معي، تصلي معي إن صليت، وتضحك إن ضحكتُ كذباً. أحمل مدينة كاملة من الأموات في صدري، وكلما حاولتُ أن أرميها، تشبثت بي أكثر. جربتُ الأقراص، جربتُ الكلام، جربتُ الصمت، جربتُ النسيان. لكن النسيان خيانة، والخيانة موت آخر، موت لا يُرحم."
كان يكتب والدموع تسيل على الشاشة، تُشوش الحروف، فيُمسحها بكم قميصه، ثم يتابع.
"أنا خراب ودمار. لم يعد فيّ شيء يستحق الحياة. كنتُ يوماً قائداً، كنتُ أُعطي الأوامر، كنتُ أُعتقد أنني أحمي شيئاً. الآن أعرف أنني كنتُ أحمي كذبة، وأن الكذبة ابتلعتني. لا أطلب الغفران، لأنني لا أستحقه. لا أطلب الفهم، لأن من يفهم يصبح شريكاً. أطلب فقط أن تُتركوا وحيدين مع ما فعلتم، كما تُركتُ أنا. أطلب أن يبقى هناك صوت واحد، صوتي هذا، يذكّركم أن الإنسان يمكن أن يصبح وحشاً باسم الدفاع، وأن الوحش يبقى إنساناً في مكان ما داخل القفص الذي بناه لنفسه."
توقف مجدداً. كان صدره يعلو ويهبط بسرعة، كأن كل كلمة كانت تُخرج منه نفساً لن يعود. نظر حوله. كانت الدائرة موجودة، كالعادة، لكنها الآن أقرب. كان الطفل يقف على بُعد خطوة، والشيخ بجانبه، والمرأة تحمل طفليها، والشاب ينزف من صدره دون أن يسقط. لم يعودوا ينظرون إليه بصمت. كانوا ينتظرون.
كتب السطر الأخير بأصابع لا تكاد تطيعانه.
"انسوا الرجل الذي يجلس الآن تحت الشجرة. تذكروا الرجل الذي كان يوماً يعتقد أنه يحمي بيته. ذلك الرجل مات في السابع من أكتوبر. ما تبقى مجرد قوقعة تبحث عن نهاية. إن سألتم عني يوماً، قولوا إنه مات هناك، بين الأنقاض، مع من قتلهم. قولوا إنه لم يعد بعد ذلك اليوم. قولوا إن ما عاد كان شبحاً يحمل اسمه فقط."
وضع إصبعاً على زر النشر، تردد للحظة طويلة، كأن هذه اللحظة هي الوحيدة التي لا يزال فيها يملك اختياراً. ثم ضغط.
في اللحظة التي ظهر فيها المنشور، شعر بشيء ينفصل عنه، كأن روحه خرجت من جسده ووقفت بجانبه تنظر إليه بلا عطف. لم يعد يشعر بالبرد، ولا بالثقل، ولا بالخوف. كان هناك فراغ هادئ، فراغ أبيض، كأن كل ما كان يحمله قد سُكب أخيراً في كلمات لا يستطيع أحد أن يسحبها.
نظر إلى الدائرة مجدداً. كانوا لا يزالون هناك، لكن شيئاً تغير. لم يعودوا يطالبون. كانوا ينتظرون فقط. رفع يده ببطء، كأنه يحييهم، أو يودعهم. ثم أغمض عينيه، وترك رأسه يستند إلى الجذع. لم يكن يفكر في الموت. كان يفكر في السلام، ذلك الشيء البعيد الذي لم يعرفه يوماً، لكنه كان يشعر الآن أنه قريب، قريب جداً، كأن يد خفيفة تمتد إليه من مكان لا يوجد فيه لا ظالم ولا مظلوم، لا قاتل ولا مقتول، فقط صمت أخيراً.
لم يعد يسمع صوت البحر البعيد، ولا حفيف الأوراق، ولا نبض قلبه. كان هناك صمت كامل، صمت يشبه الرحمة، صمت يشبه النهاية التي طالما هرب منها وطالما بحث عنها. وفي هذا الصمت، سمع صوتاً واحداً فقط، صوت الطفل الذي كان يبتسم له منذ البداية، يقول كلمة واحدة، كلمة خفيفة كريشة، كلمة لم يسمعها من قبل، لكنها كانت كافية:
"كفى."
ثم غاب كل شيء.
……..
الفصل الخامس
الشجرة التي احتضنتْ جثتي وصوتكم
.وجدوه عند الفجر، ملقى تحت الشجرة القديمة كأن الأرض نفسها قد احتضنته أخيراً بعد أن رفضته السماء طويلاً. كان جسده منحنياً بلطف، كطفل نائم في حضن أم غابت عنه سنين، ورأسه مستند إلى الجذع كأنه يستمع إلى نبض الأرض الأخير. لم تكن هناك دماء، ولا جروح ظاهرة، ولا صراخ مكتوم. كان الموت قد جاءه هادئاً، خفيفاً، كأنه صديق قديم تأخر قليلاً ثم طرق الباب بهدوء ففتح له دون تردد. كان وجهه، للمرة الأولى منذ عامين، خالياً من التجعد الذي رسمته الألم، وكأن الزمن تراجع خطوة ليمنحه لحظة سلام لم يعرفها وهو حي.
كان أول من رآه عامل النظافة، رجل مسن يأتي كل صباح قبل أن تستيق المدينة. توقف، نظر طويلاً، ثم ألقى مكنسته جانباً وجلس على الأرض المبللة بالندى، لا يبكي، لا يصرخ، فقط ينظر إلى الجسد الذي كان يمرّ به كل يوم تقريباً ويحييه بإيماءة خجولة. اليوم لم يحيّه الرجل. اليوم كان الرجل هو من يحيي العالم كله، بصمته الأخير.
وصلت الشرطة، ثم الإسعاف، ثم الصحافة. دارت كاميرات، دارت أسئلة، دارت أقلام في دفاتر رسمية. كتبوا اسمه، عمره، رتبته السابقة، سبب الوفاة المحتمل. لم يكتبوا شيئاً عن المدينة التي كان يحملها في صدره، ولا عن الوجوه التي كانت تحيط به في كل ليلة، ولا عن الكلمات التي تركها على الشاشة كأنها وصية مكتوبة بدم خفي. قرأ أحدهم المنشور بصوت مرتجف، ثم صمت، ثم أغلق الهاتف وكأنه يغلق باباً لا يريد أن يدخل منه أحد.
في المدينة، استيقظ الناس على الخبر كما يستيقظون على أي خبر آخر: بسرعة، بسطحية، بتعليق سريع ثم نسيان أسرع. كان هناك من كتب "رحمه الله"، وكان هناك من كتب "كان بطلاً ثم انهار"، وكان هناك من لم يكتب شيئاً لأن الكتابة كانت ستجبره على التفكير، والتفكير كان ثقيلاً جداً في ذلك الصباح. لكن في مكان ما، في بيت صغير، في غرفة مغلقة، في قلب لم يعد يعرف إن كان لا يزال ينبض، بقيت الكلمات حية، تتحرك كأرواح لا تجد قبراً.
في وزارة الدفاع، اجتمعوا في غرفة بلا نوافذ. قرأوا التقارير، نظروا إلى الصور، ناقشوا "الحالة". قال أحدهم: "لم يكن في الخدمة الفعلية، لا يمكن اعتباره قتيلاً للجيش". أومأ الآخرون برؤوسهم، وقعوا الأوراق، أغلقوا الملف. كان القرار سريعاً، نظيفاً، بارداً كالسكين الذي يقطع خبزاً لا ينزف. لم يسأل أحد: ماذا لو كان قد مات هناك فعلاً، في السابع من أكتوبر، وما عاد إلا شبحاً يحمل اسمه؟ لم يكن هذا السؤال في جدول الأعمال.
في الحديقة، بقيت الشجرة صامتة. بقيت الأرض تحتها رطبة، كأنها لا تزال تحتفظ بدمع لم يسقط من عينيه. بقي المقعد فارغاً، لكن الهواء كان يحمل شيئاً ثقيلاً، شيئاً يشبه الشهادة. مرّ الأطفال يلعبون، ضحكوا، ركضوا، رموا الكرة، وفي كل مرة تسقط الكرة قرب الشجرة كان أحدهم يتوقف للحظة، ينظر إلى المكان الذي كان يجلس فيه الرجل، ثم يتابع اللعب بسرعة، كأن شيئاً ما لسعه في القلب لكنه لم يعرف اسمه.
في المساء، عادت الدائرة. لم يعد هناك من يراها سوى الريح. وقف الطفل في المقدمة، يبتسم ابتسامة لم يعد فيها ألم. بجانبه الشيخ، يحمل المصحف مغلقاً الآن. وبجانبهما المرأة، تضم طفليها، وكأنها وجدت لهما حضناً أخيراً. لم يعودوا يطالبون. لم يعودوا ينتظرون. كانوا فقط موجودين، كشاهدين صامتين على أن شيئاً ما انتهى، وشيئاً آخر بدأ، شيئاً لا يمكن تسميته، لكنه كان يتحرك في الهواء كأنين خفيض لا يسمعه أحد سوى الأشجار.
في الأيام التي تلت، بدأت الكلمات تتحرك وحدها. انتقلت من هاتف إلى هاتف، من شاشة إلى شاشة، من قلب إلى قلب. لم يعد أحد يستطيع أن يقول إنه لم يقرأ، لم يعرف، لم يسمع. كانت الكلمات تقرع الأبواب في الليل، تدخل تحت الأغطية، تجلس على صدور النائمين، تهمس في آذانهم: "أنا كنتُ هناك. أنا فعلتُ. أنا شهدتُ. والآن أنتم تعرفون". لم يعد بالإمكان دفنها مع الجثة. كانت حية، أكثر حياة من كثيرين لا يزالون يتنفسون.
في إحدى الليالي، جاء شاب إلى الحديقة، جلس تحت الشجرة، وبكى. لم يكن يعرف الرجل شخصياً، لكنه كان قد قرأ الكلمات، وكانت الكلمات قد فعلت به شيئاً لم يستطع تفسيره. بكى لأنه فجأة أدرك أن الإنسان يمكن أن يصبح وحشاً دون أن يفقد إنسانيته، وأن الوحش يمكن أن يبقى يعاني بعد أن يتوقف عن القتل. بكى لأنه أدرك أن الرجل لم يمت تحت الشجرة، بل مات منذ زمن، وأن ما حدث كان فقط لحظة اعتراف متأخرة بأن الموت الحقيقي كان قد سبق الحياة بسنتين.
ثم جاء آخر، ثم آخر، ثم آخر. لم يكن ضريحاً، لم يكن قبراً، لم يكن نصب تذكاري. كانت مجرد شجرة، لكنها صارت مكاناً لا يستطيع أحد أن يمرّ به دون أن يشعر بشيء يتحرك في صدره، شيء يشبه الخوف، شيء يشبه الخجل، شيء يشبه الرحمة المتأخرة.
وبقي الرجل، ليس في الأرض، بل في الكلمات التي تركها، في الصمت الذي ملأه، في الفراغ الذي خلّفه. بقي كسؤال لا يُجاب، كجرح لا يندمل، كشاهد لا يمكن إسكاته. بقي ليذكّر العالم أن هناك دماء لا تجف، وأن هناك أصواتاً لا تموت، وأن هناك رجلاً اختار أن يموت لكي يحيا الحقيقة، واختار أن يترك وراءه مرآة لا يستطيع أحد أن يكسرها.
وفي كل فجر، عندما تشرق الشمس على أسدود خجلة كعادتها، كان هناك لحظة صمت قصيرة، لحظة لا يلاحظها أحد إلا الأشجار، لحظة يتوقف فيها كل شيء، كأن العالم كله يتنفس نفساً عميقاً، ثم يتابع. وفي تلك اللحظة، كان الرجل موجوداً، ليس كجثة تحت الأرض، بل كصوت يهمس في الريح: "أنا كنتُ هنا. لا تنسوا".
ولم ينسَ أحد. ليس لأنهم أرادوا أن يتذكروا، بل لأنه لم يعد ممكناً أن ينسوا.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
استثمارات بلاك روك في قطاع السلاح: رؤية معمقة نحو الثراء الذ
...
-
بلاك روك للمبتدئين: كيف تكون ناشطاً بيئياً وتاجر سلاح في نفس
...
-
لماذا يجب على العالم أن يسترد سيادته من الاحتكارات الخمس
-
من أنبوب كولن باول إلى أنابيب غاز ترامب: نفس النكتة،
-
سوريا تحت ظلال الفصل السابع رحلة نحو نهاية مكتوبة بأيدي من ظ
...
-
عندما تصبح الدراسات الجامعية برنامجاً حكومياً: رؤية حزب العم
...
-
عندما التقت الدبّة بالتنين: سقوط الهيمنة الغربية بهدوء
-
عبوديةٌ بثياب الحرية.. تحقيقٌ في استلاب الكرامة الإنسانية تح
...
-
من بغدادَ العلم إلى رياضِ و دوحة الخيانة: سقوطُ الضمير العرب
...
-
عندما يصبح الربحٌ إلهاً: سيرة الإبادة الرأسمالية:من بوتوسي إ
...
-
مجرمو السيليكون: من وادي الكاليفورنيا إلى قبور غزة
-
القرم إلى الأبد والغاز بالروبل
-
الاغتيالات : كيف تكشف ضربات إسرائيل الأخيرة عجزها الاستراتيج
...
-
الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك ( كتيب )..مقارنات بين امين وبري
...
-
الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك(كتيب )..مقارنات سمير امين مع بر
...
-
«الفراغ العظيم: انهيار النظام الإمبريالي وإمكانية العالم الج
...
-
من أوشفيتز إلى غزة: دراسة نقدية أدبية في شهادات بريمو ليفي و
...
-
«قمرٌ على سريرٍ وميلٌ في قامة» كتيب حول مداخلة في الشعر العر
...
-
-من أوشفيتز إلى غزة: ذاكرة الناجين وصرخة الأحياء- ..بين شهاد
...
-
«دمٌ تحت الشمس ودمعٌ تحت القمر» مقارنة بين رواية رجال تحت ال
...
المزيد.....
-
احتفاء وإعجاب مغربي بفيلم -الست- في مهرجان الفيلم الدولي بمر
...
-
عيد البربارة: من هي القديسة التي -هربت مع بنات الحارة-؟
-
افتتاح معرض فن الخط العربي بالقاهرة بتعاون مصري تركي
-
عام فني استثنائي.. 5 أفلام عربية هزت المهرجانات العالمية في
...
-
صناع فيلم -الست- يشاركون رد فعل الجمهور بعد عرضه الأول بالمغ
...
-
تونس.. كنيسة -صقلية الصغيرة- تمزج الدين والحنين والهجرة
-
مصطفى محمد غريب: تجليات الحلم في الملامة
-
سكان غزة يسابقون الزمن للحفاظ على تراثهم الثقافي بعد الدمار
...
-
مهرجان الكويت المسرحي يحتفل بيوبيله الفضي
-
معرض العراق الدولي للكتاب يحتفي بالنساء في دورته السادسة
المزيد.....
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|