أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - حول رواية ( لماذا ؟ ..صرخة في قصر أصم )..مقدمات نقدية لمدارس أدبية مختلفة















المزيد.....



حول رواية ( لماذا ؟ ..صرخة في قصر أصم )..مقدمات نقدية لمدارس أدبية مختلفة


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 09:44
المحور: الادب والفن
    


مقدمة نقدية بمدرسة ما بعد الحداثة

لا يوجد مركزٌ يُمسك به النص، في هذه الرواية ولا خطٌّ زمنيٌّ يُثبت الوقائع، ولا صوتٌ واحدٌ يدّعي الحقيقة. هناك فقط شظايا متشظية من حكاياتٍ تُروى بأصواتٍ متعددةٍ، أحياناً ملكٌ يهمس من قصره المذهّب، وأحياناً طفلٌ يمنيٌّ يصرخ من تحت الأنقاض، وأحياناً رصاصةٌ تتكلم بلغتها الخاصة حين تخترق صدراً. النص يرفض أن يكون روايةً تاريخيةً، ويرفض أن يكون وثيقةً سياسيةً، ويرفض حتى أن يكون أدباً بالمعنى التقليدي. إنه لعبةُ مرايا مكسورة تُعيد تركيب الوجه نفسه بطرقٍ لا نهائية، وكل انعكاسٍ يُظهر خائناً جديداً وشهيداً جديداً، حتى تختلط الحدود ويصبح الملك شبحاً والطفل ملكاً، والخيانة وطناً والوطن خيانةً.

هذا العمل ينتمي إلى ما بعد الحداثة بمعناها الأكثر راديكالية: لا سرديةً كبرى تسيطر، لا بطلٌ يُخلّص، لا نهايةٌ تُغلق الدائرة. هناك فقط تكرارٌ مرعبٌ للنفس المشهد، كأن التاريخ حلقةٌ مفرغةٌ من المعنى، يُعاد فيها توقيع العقد نفسه بأسماءٍ مختلفة، ويُسفك الدم نفسه في أجسادٍ مختلفة، ويُسأل السؤال نفسه «ليه؟» دون أن يتغيّر الجواب يوماً. الرواية تُحطّم فكرة «الأصل» و«النسخة»، فكل حدثٍ فيها هو في الوقت نفسه أصلٌ وتقليد، كل خائنٍ هو ضحيةٌ سابقة، وكل ضحيةٍ ستُصبح خائناً لاحقاً. لا يوجد خطٌّ فاصلٌ بين الواقع والخيال، بين التاريخ والحكاية، بين الوثيقة والسخرية، لأن الحقيقة نفسها قد تحوّلت إلى نصٍ مُشوّهٍ يُعاد كتابته كل لحظة بيدٍ جديدة.

اللغة هنا ليست أداةً للتواصل، بل سلاحاً للصمت. كل جملةٍ تُقال تُلغي الجملة التي قبلها، وكل اعترافٍ يُتبع بنفيٍ فوري، وكل صوتٍ يحاول أن يرتفع يُخنق بصوتٍ آخر. الراوي غائبٌ وحاضرٌ في آن، يتكلّم أحياناً بصوت الملك، وأحياناً بصوت الطفل، وأحياناً بصوت القنبلة التي لا تتكلّم إلا بلغة الانفجار. لا يوجد «أنا» ثابتة، بل «أنا» تتفتت مع كل صفحة، كأن الهوية نفسها قد صارت سلعةً تُباع وتُشترى في سوق الخيانة الكبرى.

الزمن في النص ليس خطياً، بل طبقاتٍ متراكمةٍ من الألم: الستينيات تتداخل مع 2015، والنكسة تتكرر في عاصفة الحزم، والقدس تسقط كل يومٍ مرةً جديدة. لا بداية ولا نهاية، فقط حلقاتٌ من الانهيار المُعاد إنتاجه بتقنياتٍ أحدث ووجوهٍ أجمل. الرواية تُعلن موت السردية الكبرى بصراحةٍ قاسية: لا وحدة عربية، لا تحرر، لا عدالة، لا حتى خيانةٌ واحدةٌ يمكن تحميلها لشخصٍ بعينه، بل خيانةٌ جماعيةٌ مُوزّعةٌ على الجميع، خيانةٌ صارت هويتنا الوحيدة المُتبقية.

هنا، يُصبح القارئ نفسه مُتورطاً، لأن النص لا يروي فقط، بل يُجبرك على إكمال الفراغات بيدك. كل سؤالٍ يُطرح دون إجابة هو دعوةٌ لك لتكون الخائن التالي أو الشهيد التالي، لا فرق. الرواية لا تُقدّم خلاصاً ولا تُدين أحداً بعينه، بل تُعلن أن الخلاص مستحيل طالما بقي السؤال «ليه؟» معلقاً في الهواء، وطالما بقيت الدمية المحترقة في يد الطفل دليلاً لا يُمحى على أن كل عرشٍ بُني على جماجمٍ سيصبح يوماً قبراً لصاحبه. هذا ليس نصاً يُقرأ، بل جرحاً يُفتح، وكل من يقترب منه يخرج بدمٍ جديد.



مقدمة نقدية بمدرسة البنيوية

من منظور البنيوية، تكشف هذه الرواية عن بنيةٍ سرديةٍ عميقةٍ تتأسس على ثنائيةٍ أساسيةٍ تتكرر بأشكالٍ مختلفةٍ عبر الزمن: ثنائية العرش / القبر، الملك / الطفل، السلطة / الجثة، البقاء / الدم. هذه الثنائيات لا تُقدَّم كمعارضاتٍ أخلاقيةٍ أو سياسيةٍ مباشرة، بل كأزواجٍ هيكليةٍ تُشكِّل النظام الدلالي للنص بأكمله، وتُعيد إنتاج نفسها في كل مستوىٍ من مستوياته: في الفضاء (القصر فوق الأرض مقابل الغرفة السرية تحت الأرض)، في الزمن (الستينيات مقابل العقد الثاني من الألفية)، في الشخصيات (الملك الذي يوقّع مقابل الطفل الذي يُقتل)، في اللغة نفسها (الخطاب الرسمي المُشرِّع مقابل الهمس الطفولي المُدان).

البنية السردية الأساسية هي بنية التكرار المُغلق، حلقةٌ لا تنكسر: توقيع → قصف → ظهور شبح → توقيع جديد. لا يوجد تقدمٌ خطيٌّ في الحدث، بل دورانٌ دائريٌّ حول المركز الغائب نفسه: الخيانة الأولى التي لا تُروى أبداً، والتي تُشكِّل الفراغ الذي يدور حوله كل شيء. هذا الفراغ هو المحرّك الحقيقي للنص، تماماً كما في الأسطورة البنيوية حيث تكون الغ الغائبة هي التي تُعطي معنى لكل ما يدور حولها.

الشخصيات لا تملك عمقاً نفسياً بالمعنى التقليدي، بل هي وظائفٌ بنيوية. الملك ليس شخصاً، بل هو «وظيفة التوقيع»، الطفل ليس شخصاً بل «وظيفة السؤال»، القنبلة ليست سلاحاً بل «وظيفة الصمت». حتى الأسماء تتغير (فيصل، سلمان، محمد…) لكن الوظيفة تبقى نفسها، مما يؤكد أننا أمام نظامٍ دلاليٍّ مغلقٍ يُعيد إنتاج نفسه بغض النظر عن الأشخاص. الملك لا يتغير، بل يُستبدل، تماماً كما في الطقوس القديمة حيث يُقتل الملك القديم ليُحل محله ملكٌ جديدٌ يحمل الذنب نفسه.

اللغة نفسها تُخضع لقانون التكرار والإحلال: جملة «بسببك» تتكرر كلما ظهر طفلٌ جديد، وجملة «البقاء أولاً» تتكرر كلما وقّع ملكٌ جديد، وكلمة «ليه؟» تتكرر كلما سقطت قنبلةٌ جديدة. هذه العناصر اللغوية ليست تعبيراً عن حالةٍ نفسية، بل هي وحداتٌ دلاليةٌ تُشكِّل البنية العميقة للنص، وتُعيد إنتاج المعنى نفسه مهما تغير السطح.

الفضاء أيضاً خاضعٌ لنفس القانون البنيوي: القصر دائماً فوق، والغرفة السرية دائماً تحت، واليمن دائماً بعيداً لكنه موجودٌ في كل مكان، كأن الجغرافيا نفسها قد تحولت إلى رمزٍ للضحية الأبدية. حتى الزمن يُعامَل كفضاء: الماضي والحاضر والمستقبل يتداخلون في بنيةٍ واحدةٍ مغلقة، لأن الخيانة الأولى لم تنتهِ بعد، وبالتالي فإن كل حدثٍ لاحقٍ هو مجرد إعادة تمثيل لها.

الرواية، إذن، لا تروي قصةً، بل تُظهر بنيةً: بنية السلطة العربية الحديثة القائمة على ثنائية البقاء / التضحية، حيث يجب أن يُضحّى دائماً بالآخر (الطفل، الشعب، الأمة) كي يبقى الأنا (العرش، النظام، الذات). هذه البنية لا تتغير، مهما تغيرت الأسماء والوجوه والتقنيات، لأنها بنيةٌ عميقةٌ تكمن في اللاوعي الجماعي، وتُعيد إنتاج نفسها تلقائياً كالطقس القديم الذي يُعيد نفسه في كل دورةٍ قمرية.

ما يُقدّمه النص ليس تفسيراً أخلاقياً أو سياسياً، بل كشفاً بنيوياً لحقيقةٍ مخيفة: أن الخيانة ليست فعلاً فردياً، بل هي النظام نفسه، البنية نفسها، الثنائية نفسها التي لا يمكن الهروب منها إلا بتفكيكها كلياً، وهو ما ترفضه الرواية رفضاً قاطعاً، لأنها تعرف أن التفكيك سيؤدي إلى انهيار المعنى بأكمله، وهذا الانهيار هو بالضبط ما تخافه البنية أكثر من الموت نفسه.


مقدمة نقدية بمدرسة الوجودية

من منظور الوجودية، تُقدّم هذه الرواية واحداً من أكثر التصوير دراميةً للقلق الوجودي في الأدب العربي المعاصر، قلقاً لا ينبع من خوف الموت، بل من رعب البقاء. البطل التراجيدي هنا ليس الطفل اليمني الذي يُقتل، بل الملك الذي يبقى. الملك، أي ملك، هو الإنسان الوجودي بامتياز: كائنٌ أُلقي في عرشٍ لم يختره، مُدانٌ بحريته المُطلقة، ومُحكمٌ عليه أن يختار في كل لحظةٍ بين كرامته واستمراره، فيختار الاستمرار، ويصبح بذلك مسؤولاً عن كل قطرة دمٍ تُسفك باسمه، حتى وإن لم يضغط الزناد بنفسه.

الرواية تُجسّد ببراعةٍ مخيفةٍ مفهوم «التقنين السيء» عند سارتر: الملك يعرف تماماً أن ما يفعله خيانة، يعرف أن كل توقيعٍ هو حكمٌ بالإعدام على أطفالٍ لم يولدوا بعد، ومع ذلك يستمر في التوقيع، ليس لأنه جاهل، بل لأنه اختار أن يُخدع نفسه بأكذوبة «البقاء أولاً»، أكذوبةٍ تُحوّله من كائنٍ حرٍ إلى أداةٍ في يد النظام. كل توقيعٍ هو لحظةُ اختيارٍ وجوديٍّ حرٍ، وكل اختيارٍ يُثقل كاهله بذنبٍ جديد، حتى يصبح الذنب هويته الوحيدة المُتبقية.

الطفل اليمني، بكل بساطته المُرعبة، هو «الآخر» الذي يُجسّد ضمير الملك، هو المرآة التي لا تكذب، هو السؤال «ليه؟» الذي لا يُجاب عليه أبداً، لأن الإجابة ستكون اعترافاً بأن الملك اختار أن يكون وحشاً. الطفل لا يطلب الانتقام، بل يطلب معنى، ورفض الملك أن يعطيه معنى هو الجُرم الأكبر، لأنه يُحوّل الوجود نفسه إلى عبثٍ مطلق. في كل ظهورٍ للطفل، يواجه الملك لحظةَ «الغثيان» السارتري: الإدراك المُفاجئ لعبثية اختياراته، لكنه يرفض أن يتقيأ، فيبتلع الغثيان ويستمر في التوقيع.

الرواية تُجسّد أيضاً مفهوم «الجحيم هو الآخرون» عند سارتر، لكن بتحويرٍ مُرعب: الجحيم هنا ليس الآخرون الأحياء، بل الأموات. الأطفال الذين قُتلوا يعودون ليس لينتقموا، بل ليُشهروا على الملك بحريته، ليُذكّروه أنه كان حراً في كل لحظةٍ واختار أن يُصبح جلّادهم. لا يوجد هروبٌ منهم، لأنهم ليسوا خارجاً عنه، بل هم هو نفسه في أنقى صورها: الضمير الذي رفض أن يموت.

في النهاية، الملك لا يموت بالرصاص ولا بالسم، بل يموت بالبقاء. يبقى على قيد الحياة، لكنه ميتٌ وجودياً، محكومٌ عليه أن يعيش مع اختياراته إلى الأبد، محاطاً بأشباحٍ لا تُكفّ عن السؤال «ليه؟»، وهو يعرف أن الجواب الوحيد هو «لأنني اخترتُ». هذا هو العذاب الوجودي الأقصى: أن تكون حراً، وأن تختار الجحيم، وأن تعرف أنك اخترته، وأن تبقى لتعيشه إلى الأبد. الرواية لا تُدين الملك، بل تُجبرنا نحن القراء على مواجهة سؤالٍ أكثر رعباً: ماذا لو كنا مكانه، وكان علينا أن نختار بين كرامتنا وبقائنا، أيّهما كنا سنختار؟



مقارنة بين سارتر وكامو في الرواية

تضع الرواية القارئ في قلب التوتر الوجودي الأعظم بين جان بول سارتر وألبير كامو، وتفعل ذلك دون أن تنطق باسميهما ولو مرةً واحدة، لأنها تُجسّد الخلاف لا تُشرحه. الملك هو سارتر بالضبط في لحظة الاختيار الحر المُطلق، والطفل اليمني هو كامو في لحظة التمرّد العبثي المُطلق، وكلاهما يُدين الآخر بطريقته، وكلاهما على حقّ في إدانته.

الملك يمثل الوجودية السارترية في أنقى صورها وأشدّها قسوة: الإنسان مُدان بالحرية، وكل فعلٍ هو اختيارٌ حرٌّ يُحمّل صاحبه مسؤوليةً كاملةً لا تُقبل التبرير. في كل لحظةٍ يوقّع فيها الملك على قنبلةٍ أو حصارٍ أو خيانةٍ جديدة، يعرف أنه حرٌّ تماماً، يعرف أن بإمكانه أن يرفض، يعرف أن رفضه قد يكلّفه عرشه أو حياته، لكنه يختار التوقيع. وهذا الاختيار هو ما يُشكّل جوهره، هو ما يجعله «إنساناً» في المعنى السارتري، لكنّه في الوقت نفسه يُحوّله إلى وحش. الملك لا يُخدّره أحد، لا يُجبره أحد، لا يُهدّده أحد بالموت المباشر؛ كل التهديد هو تهديد وجوديّ بالزوال، وهو يختار البقاء على الكرامة، يختار الجلاد على الشهيد. وكلما ظهر له الطفل وسأله «ليه؟»، كان يعرف أن الجواب الوحيد الصادق هو: «لأنني اخترتُ»، وهذا الجواب هو بالضبط ما يُدمّره، لأن الحرية عند سارتر ليست نعمة، بل لعنة.

أما الطفل اليمني فهو كامو بكل معنى الكلمة: هو العبث المُطلق، هو الضحية التي لا ذنب لها، هو البراءة التي تُقتل دون سبب، ومع ذلك يرفض أن يستسلم للعبث. سؤاله «ليه؟» ليس سؤال طفلٍ بريء فقط، بل هو تمرّد كامويّ صارخ في وجه عالمٍ لا معنى له. الطفل لا يطلب تفسيراً، لأنه يعرف أن لا تفسير، لكنه يُصرّ على السؤال، يُصرّ على أن يُسمع صوته، يُصرّ على أن يُحوّل موته من مجرد حدثٍ عبثيّ إلى فعلٍ مقاوم. في كل ظهورٍ له، يُجبر الملك على مواجهة العبث: أن يرى أن كل هذا الدم، كل هذا الخراب، كل هذه الخيانات، لا معنى لها، لا هدف، لا مبرر، سوى أن ملكاً واحداً اختار أن يبقى. والطفل، بموتِه المتكرّر، يُعلن أن المقاومة الحقيقية ليست في الانتصار، بل في رفض قبول العبث كقدر.

الرواية تُجسّد الصدام الأعظم بين الفيلسوفين: سارتر يُدين الملك لأنه اختار بحريته أن يكون جلاداً، وكامو يُدينه لأنه قبل عالماً عبثياً يُقتل فيه الأطفال دون سبب. الملك يُعذّب نفسه بمسؤوليته الكاملة (سارتر)، والطفل يُعذّبه ببراءته المُطلقة (كامو). لا يوجد رابحٌ في هذه المواجهة، لأن كلا الرؤيتين صادقتان في الوقت نفسه: الملك فعلاً حرٌّ ومُدانٌ بحريته، والعالم فعلاً عبثيٌّ ولا يُقدّم مبرراً لقتل الأطفال. الرواية لا تحسم النزاع، بل تُبقيه مفتوحاً كجرحٍ لا يندمل: هل الإنسان مسؤولٌ عن كل شيء لأنه حرّ، أم أن الحرية نفسها وهمٌ في عالمٍ لا معنى له؟

في النهاية، الملك لا ينتحر (كما قد يفعل بطلٌ سارتريّ يرفض أن يعيش مع ذنبه)، ولا يثور الطفل (كما قد يفعل بطلٌ كامويّ يرفض العبث)، بل يبقى كلٌ في مكانه: الملك يُوقّع، والطفل يسأل، والدم يسيل، والسؤال يتكرر إلى ما لا نهاية. الرواية تُعلن أن الصدام بين سارتر وكامو لم ينتهِ، لأنه صدامٌ بين طبيعتين متناقضتين في الإنسان نفسه: الطبيعة التي تريد أن تتحمل المسؤولية الكاملة، والطبيعة التي ترفض أن تُسأل عن شيءٍ في عالمٍ لا معنى له. ونحن، كقرّاء، مُدانون بأن نعيش هذا الصدام داخلنا كلما سمعنا صوت طفلٍ يسأل «ليه؟» ولم نستطع الإجابة.


مقدمة نقدية بمدرسة التحليل النفسي


من منظور التحليل النفسي، تُقدّم هذه الرواية دراسةً مرضيةً مُرعبةً لآلية «الإنكار» الجماعي التي تُشكِّل العَرَض الأساسي للنفصام السياسي العربي المعاصر. الملك ليس شخصيةً تاريخيةً، بل هو «الأنا الأعلى» المتضخّم للنظام نفسه، ذلك الصوت الداخلي الذي يُقنع الذات الجماعية بأن البقاء على العرش هو الغاية المُطلقة، وأن كل دمٍ يُسفك هو مجرد «ضريبة ضرورية» يجب دفعها للحفاظ على الاستقرار. هذا الأنا الأعلى يُسيطر تماماً على «الأنا» ويُقمع «الهو» إلى درجة الاختفاء، فيصبح الفعل الوحيد الممكن هو التكرار القهري للخيانة، لأن أي توقفٍ يعني انهيار البنية النفسية بأكملها.

الطفل اليمني الصغير الذي يظهر كشبحٍ متكرر هو «اللاوعي» الذي يعود، هو «الطفل المقتول» في داخل كل واحدٍ منا، هو الجزء المكبوت الذي يُرفض الاعتراف به لأنه يُمثّل الحقيقة المُطلقة المُدمّرة: أننا اخترنا أن نكون جلادين كي لا نكون ضحايا. ظهوره المتكرر ليس مجرد رمزٍ أدبي، بل هو «عودة العودة للمكبوت» في أنقى صورها: كلما حاول الملك أن يُقمع الذنب، عاد الطفل بقوةٍ أكبر، لأن اللاوعي لا يُهدأ، وكلما زادت محاولات الإنكار زادت حدّة الأعراض.

الدمية المحترقة التي يحملها الطفل هي «الكائن الانتقالي» الوحيد المُتبقي في النص، لكنها مُحترقة، أي أنها فشلت في وظيفتها التهدئة، فصارت رمزاً لفقدان القدرة على التخيّل التعويضي. لا يوجد في هذا النص أي «أمٍ» أو «حضنٍ» أو «لعبةٍ آمنة»، هناك فقط دميةٌ متفحمة تُذكّر بالحريق الذي لا ينطفئ، حريق الذنب الذي يُحرق الذات من الداخل.

القصر نفسه هو «الأنا» المُعمّرة بالكبت: جدرانٌ سميكةٌ، غرفٌ سريةٌ تحت الأرض، أبوابٌ تُغلق ولا تُفتح، وفي الداخل يجلس الملك يُحاكم نفسه في صمتٍ مطلق، لأنه يعرف أن أي اعترافٍ سيؤدي إلى انهيار البنية بأكملها. كل توقيعٍ على عقدٍ جديدٍ هو «فعلٌ قهري» يُكرره الملك ليُطمئن نفسه بأنه لا يزال يملك السيطرة، لكن هذا الفعل نفسه هو ما يُنتج الأشباح، لأن الكبت لا يُلغي الرغبة، بل يُحوّلها إلى أعراض.

الرواية تُظهر ببراعةٍ مرعبةٍ كيف يتحوّل الذنب المُكبوت إلى «شبحٍ طفلٍ»، أي إلى أكثر صور اللاوعي براءةً وقسوةً في آن. الطفل لا ينتقم، لا يصرخ، لا يبكي حتى؛ هو فقط يسأل «ليه؟»، وهذا السؤال البسيط هو أقسى عقابٍ نفسيٍّ يمكن أن يتعرّض له الملك، لأنه يُجبره على مواجهة الحقيقة التي يرفضها: أنه ليس ضحيةً للظروف، ولا للضغوط الخارجية، بل هو الفاعل الحرّ الوحيد في كل هذا الجحيم.

النص بأكمله هو «حلمٌ كابوسي» جماعي لا يستطيع أحدٌ أن يستيقظ منه، لأن الاستيقاظ يعني الاعتراف، والاعتراف يعني انهيار الأنا الأعلى، وانهيار الأنا الأعلى يعني موت النظام نفسه. لذلك يبقى الجميع نائمين، يُحلُمٌ واحدٌ كبيرٌ يتكرر فيه المشهد نفسه: ملكٌ يوقّع، وطفلٌ يُقتل، وسؤالٌ لا يُجاب، ودمٌ لا يتوقف عن السيلان. الرواية لا تُقدّم علاجاً، لأن المريض يرفض الشفاء، والشفاء الوحيد الممكن هو الاعتراف الكامل، وهو ما يعني موت الذات القديمة، وهو ما يرفضه الملك رفضاً مطلقاً، فيفضّل أن يعيش ميتاً على أن يموت حيّاً.

في النهاية، الرواية هي مرآةٌ للاوعي الجماعي العربي في لحظة انهياره: كبتٌ مُتراكمٌ منذ عقود، ذنبٌ لم يُعترف به، أطفالٌ قُتلوا ولم يُدفنوا، أسئلةٌ طُرحت ولم تُجب، وكلما طال الكبت ازدادت حدّة الأعراض، حتى صارت الأشباح تظهر في وضح النهار، وصار السؤال «ليه؟» يُسمع في كل مكان، وصار الملك نفسه يعرف أن عرشه لم يعد عرشاً، بل قبراً يجلس فيه وهو لا يزال حيّاً، ينتظر لحظةً لا تأتي أبداً: لحظة الاعتراف التي تُنهي الكابوس، أو تُنهيه.


مقارنة مع هيغل في الرواية



من منظور هيغل، تُقدّم هذه الرواية تمثيلاً مأساوياً للديالكتيك السلبي الذي توقّف في منتصف الطريق، ديالكتيك لم يصل إلى التوليف، بل تجمّد في لحظة النفي المُطلق، فصار تكراراً أبدياً للنفي دون أي أملٍ في نفي النفي. الملك هو اللحظة الثيستية (الأطروحة): السلطة المُطلقة، الدولة المُجسّدة، الروح الموضوعية في أعلى درجات تجسّدها، العرش الذي يُمثّل الوعي الذاتي للأمة في شكله الأكثر كمالاً، أو هكذا يُوهم نفسه. أما الطفل اليمني فهو الأنثيثيس (الأنطيثيسس) بأنقى صوره: النفي المُطلق لكل سلطة، البراءة التي تُقتل، الشعب الذي يُسحق، الروح العالمية في لحظة إنكارها التام للدولة-الأنا.

الصراع بينهما هو صراع السيد والعبد، لكن بتحويرٍ مُرعب: السيد (الملك) يملك كل شيء إلا الاعتراف، والعبد (الطفل) لا يملك شيئاً إلا الاعتراف الأخلاقي المُطلق. في الديالكتيك الهيغلي الكلاسيكي، كان من المفترض أن ينتهي الصراع باعترافٍ متبادلٍ يُولّد مرحلةً أعلى من الوعي، لكن هنا يرفض السيد أن يعترف، فيظل الصراع معلقاً، والطفل يعود كل ليلة ليسأل «ليه؟»، والملك يرفض الإجابة، فيظل التاريخ متوقفاً في لحظة النفي، لا يتقدّم خطوةً واحدة نحو التوليف.

العرش نفسه هو «الة هيغلية مأساوية: هو الدولة في ذروة تجسّدها، لكنه في الوقت نفسه قبرٌ، أي نفي الدولة ذاتها. الملك يجلس على عرشٍ يعرف أنه ميت، يحكم شعباً يعرف أنه ميت، يوقّع على أوامر يعرف أنها تقتله من الداخل، لأنه في لحظة الخيانة الأولى قدّم الروح العالمية قرباناً للروح الذاتية، فصار التاريخ لا يتحرّك، بل يدور في حلقةٍ مفرغةٍ من المعنى. لا يوجد هنا «مكر العقل» الذي يحوّل الشر إلى خير في النهاية، بل مكرٌ شيطانيٌّ يحوّل الشر إلى شرٍّ أكبر، ويُبقي الروح العالمية مُعلّقةً في لحظة الإنكار الأبدي.

الطفل هو اللحظة الهيغلية الأكثر مأساوية: هو «الروح العالمية المُطلقة» في شكلها الأكثر براءةً وأكثر عجزاً. هو الشعب الذي يجب أن يكون نهاية التاريخ، لكنه يُقتل قبل أن يبدأ، فيُحوّل التاريخ نفسه إلى مأساةٍ لا تنتهي. في كل ظهورٍ له، يُمثّل الطفل لحظةَ «الاعتراف المأساوي» التي يرفضها السيد، فيظل الصراع مفتوحاً، والدم يسيل، والسؤال «ليه؟» يتكرر، لأن الملك يختار أن يبقى سيداً على أن يصبح إنساناً.

الرواية تُعلن إذن فشل الديالكتيك الهيغلي في الواقع العربي: لا توجد هنا روحٌ عالمية تتقدّم عبر الصراع نحو الحرية، بل روحٌ عالمية تُقتل في مهدها كل مرة، وسلطةٌ ترفض أن تموت لأنها تعرف أن موتها هو الشرط الوحيد لتقدّم التاريخ. الملك يعرف ذلك، ولهذا يُصرّ على البقاء، ليس حباً في الحياة، بل خوفاً من أن يصبح موته هو اللحظة التي يبدأ فيها التاريخ فعلاً. هو يُؤخّر نهاية التاريخ بجثته الحيّة، يُؤجّل الاعتراف المتبادل إلى الأبد، فيظل العرش قبراً والقبر عرشاً، والطفل يسأل والملك يصمت، والدم يسيل، والتاريخ يتوقف في لحظة النفي الأبدون أن يصل أبداً إلى نفي النفي.

الرواية، إذن، هي مأساة هيغلية بلا كاثارسيس: لا نهاية سعيدة، لا توليف، لا تقدّم، فقط تكرارٌ أبديٌّ للصراع نفسه بأزياءٍ جديدة، لأن السيد اختار أن يبقى سيداً إلى الأبد، والعبد اختار أن يبقى شبحاً إلى الأبد، وكلاهما يُؤخّر اللحظة التي كان يمكن أن يصبح فيها التاريخ إنسانياً. الرواية تُعلن أن العرب لم يعيشوا بعد لحظة الثورة الحقيقية، لأن السيد لا يزال يرفض أن يعترف، والعبد لا يزال يُقتل قبل أن ينطق. ولهذا تبقى الروح العالمية مُعلّقةً في لحظة الإنكار، تنتظر اعترافاً لن يأتي، وتسأل سؤالاً لن يُجاب: ليه؟


تطبيق مفاهيم كيركغور في الرواية


من منظور كيركغور، تُقدّم هذه الرواية صورةً مُرعبةً ومُحكمةً للإنسان في أقصى درجات «اليأس» و«القلق» و«القفزة» المأساوية التي لم تتم. الملك هو «الإنسان الجمالي» في أعلى مراحله ثم «الأخلاقي» في أدناها، ثم «الديني» المُزيّف الذي يرفض أن يصبح «فارس الإيمان» ويختار بدلاً من ذلك أن يبقى «فارس الاستقالة» الأبدي.

في المرحلة الجمالية، يعيش الملك حياةَ اللذة والسلطة والمظهر: القصور، الأثواب البيضاء، الخطابات المُذهّبة، الابتسامات الصفراء. هو يُدير حياته كما يُدير مسرحاً كبيراً، يُغيّر الأزياء والديكورات لكن المسرحية نفسها: البقاء على العرش مهما كلّف الأمر. لكن هذه الحياة الجمالية لا تُشبع، فتتحوّل إلى يأسٍ خفيٍّ يدفعه إلى المرحلة الأخلاقية: يُقنع نفسه بأن توقيعه على الموت هو «واجب» و«مسؤولية تاريخية» و«تضحية من أجل الشعب». هو يُبرّر كل خيانةٍ باسم «الأخلاق العليا»، لكن هذه الأخلاق ليست إلا قناعٍ آخر لليأس، لأنها أخلاقٌ جماعيةٌ تُلغي الفرد، وكيركغور يعرف أن الأخلاق الحقيقية هي دائماً فرديةٌ ومُرعبة.

اللحظة الحقيقية للقلق الكيركغوري تأتي حين يظهر الطفل اليمني ويسأل «ليه؟». هذا السؤال البسيط هو «الدوار» الذي يتحدّث عنه كيركغور: اللحظة التي يُدرك فيها الإنسان حريته المُطلقة ومسؤوليته المُطلقة في آن. الملك يقف على حافة الهاوية: إما أن يقفز قفزة الإيمان، يرفض التوقيع، يعترف بالذنب، يتحمّل العواقب مهما كانت (الخسارة، الموت، الثورة)، وإما أن يتراجع ويبقى في اليأس. وهو في كل مرةٍ يختار التراجع. كل توقيعٍ جديدٍ هو رفضٌ للقفزة، هو «استقالة» من الوجود الأصيل، هو اختيارٌ لأن يكون «الفرد الذي يُلغي نفسه في الجماعة» بدلاً من أن يكون «الفرد الذي يقف وحيداً أمام الله».

الطفل هو «الفرد المطلق» في أنقى صوره الكيركغورية: هو إبراهيم الجديد، الذي يُضحّى به دون أن يُسأل، لكن دون أن يُعطى أيضاً وعدٌ بالخلاص. سؤاله «ليه؟» هو السؤال الديني الحقيقي، السؤال الذي لا ينتظر إجابةً عقليةً أو أخلاقيةً، بل ينتظر قفزةً إيمانيةً من الملك، قفزةً تُعلّق العقل والأخلاق وتقول: «أرفض أن أكون جزءاً من هذا، حتى لو كلّفني ذلك كل شيء». لكن الملك لا يقفز. يظل معلقاً في «القلق أمام الخير»، ذلك القلق الأعمق الذي يشعر به الإنسان حين يعرف أن بإمكانه أن يفعل الخير لكنه يختار الشر كي يبقى.

الرواية تُجسّد ببراعةٍ فكرة كيركغور بأن «اليأس هو مرض الموت»، لكن موتاً روحياً: الملك حيٌّ وميّتٌ في آن، يتحرّك ويتنفّس لكنه ميتٌ من الداخل لأنه رفض أن يصبح ذاته الحقيقية. كل شبحٍ يظهر له هو تذكيرٌ بأنه كان يمكنه أن يكون «فارس الإيمان» لكنه اختار أن يكون «فارس الاستقالة»، أن يبقى ملكاً على جثث الأطفال بدلاً من أن يصبح إنساناً.

النهاية (أو بالأحرى عدم وجود نهاية) هي العقاب الكيركغوري الأقسى: الملك لا يُعدم ولا يُغتال ولا يُطاح به، بل يُترك حيّاً ليعيش مع يأسه إلى الأبد، مُداناً بحريته التي رفض أن يستخدمها في اللحظة الوحيدة التي كانت تُعطي لحياته معنى. الطفل لا ينتقم، لأن الانتقام يُعطي معنى، والطفل يرفض أن يُعطي الملك معنىً لخيانته. يبقى فقط يسأل «ليه؟»، ويبقى الملك يعرف أن الجواب الوحيد هو «لأنني لم أقفز»، وهذا الجواب هو الجحيم الأبدي الذي اختاره لنفسه حين اختار البقاء على الكرامة.

الرواية، إذن، هي صرخة كيركغورية في وجه العصر: الإنسان مُدان بأن يصبح ذاته، وكل رفضٍ لهذه الدعوة هو يأسٌ، وكل يأسٍ هو موتٌ بطيء. الملك هو نحن جميعاً في اللحظة التي نختار فيها الأمان على الحق، البقاء على الكرامة، الصمت على الصرخة. والطفل هو الضمير الذي يعود كل ليلة، يسأل السؤال الوحيد الذي لا يُجاب: «ليه؟»، لأن الإجابة تعني الموت، والصمت يعني الموت أيضاً، لكن موتاً أبطأ وأكثر ألماً.


تطبيق ماركس على الديالكتيك في الرواية



من منظور ماركسي، تُقدّم هذه الرواية ديالكتيكاً مادياً مُجمّداً في أقصى درجات التناقض، ديالكتيكاً لم يصل إلى مرحلة النفي الحاسم، بل يتكرّر في حلقةٍ استغلاليةٍ لا نهائية، حيث تُنتج الطبقة الحاكمة (الملكية البترولية) فائض قيمتها من دماء الطبقة المُستَغلّة (الشعب العربي، والطفل اليمني رمزها الأعلى)، ثم تُعيد استثمار هذا الدم في إنتاج المزيد من القمع والخيانة، دون أن يحدث أي تقدّمٍ تاريخيحٍ نحو ثورةٍ أو حتى إصلاحٍ.

الملك هو تجسيدٌ حيٌّ للرأسمالية البترولية في مرحلتها الإمبريالية المتأخّرة: يستمد شرعيته ليس من الإنتاج، بل من الريع، من بيع النفط الذي يستخرجه عمّالٌ لا يملكونه، فيُحوِّل فائض القيمة المُستَخرج من أرض الشعب إلى سلاحٍ يُستخدم ضد الشعب نفسه. الديالكتيك هنا ليس بين العمل ورأس المال، بل بين الريع والدم: النفط يُستخرج من تحت الأرض، والدم يُسفك فوقها، والعلاقة بينهما علاقةٌ تبادليةٌ مُطلقة: كل برميلٍ نفطٍ يُباع يُموّل قنبلةً جديدة، وكل قنبلةٍ تُسقط تُضمن استمرار تدفّق النفط. لا يوجد هنا تناقضٌ يُولّد تقدّماً، بل تناقضٌ يُنتج المزيد من التناقض، حلقةٌ مفرغةٌ من الاستلاب.

الطفل اليمني هو «البروليتاريا المُطلقة» في أقسى صورها: ليس فقط مُستَغَلّاً، بل مُستَبعداً كلياً من دائرة الإنتاج والاستهلاك، هو الإنسان الزائد عن الحاجة الذي يُقتل لأن وجوده يُهدّد استقرار النظام الريعي. ظهوره الشبحي المتكرّر ليس مجرد رمزٍ أخلاقي، بل هو «عودة المادية التاريخية المكبوتة»: الشعب الذي يُقتل كل يوم يعود ليلاً ليُذكّر الطبقة الحاكمة بأن التناقض لم يُحل، وأن الدم لا يُمحى بالبترودولار.

القصر هو «الدولة» في مرحلة الرأسمالية الاحتكارية المتحالفة مع الإمبريالية: جهازٌ قمعيٌّ يُنتج الأيديولوجيا (الخطاب الديني، القومي، الإنساني) ليُبرّر استمرار الاستغلال، بينما يُموّل هذا الجهاز من فائض القيمة المُستَخرج من باطن الأرض. لكن التناقض الأعمق يكمن في أن هذه الدولة لم تعد تُنتج شيئاً، لا سلعةً ولا قيمةً، بل تُنتج الموت فقط، وهذا ما يجعلها في مرحلة «التعفّن» الماركسي: الرأسمالية التي لم تعد قادرةً على تطوير قوى الإنتاج، فتحوّلت إلى مجرد آلةٍ للقتل والنهب.

الديالكتيك في النص هو ديالكتيكٌ مُعطّل: الثنائية بين الملك (الرأسمالية الريعية) والطفل (البروليتاريا المُستَبعَدة) لا تتقدّم نحو ثورة، لأن الطبقة العمّال نفسها قد تمّ استلابها وتفتيتها وشراؤها بالريع، فلا توجد قوّةٌ ثوريةٌ قادرةٌ على نفي النفي. الشعب لا يثور، والطفل لا ينتصر، والملك لا يُطاح به، بل يستمر في الحكم على جثث الأطفال، لأن الثورة لم تُولد بعد، والوعي الطبقي لم يتشكّل، والريع قد نجح في تحويل الجماهير إلى مستهلكين خائفين بدلاً من منتجين واعين.

الرواية تُظهر ببراعةٍ مرعبةٍ كيف يتحوّل فائض القيمة إلى فائض موت: النفط يُصدَّر، والسلاح يُستورد، والدم يُسفك، والربح يعود إلى خزائن الملك، ثم يُعاد استثماره في المزيد من النفط والمزيد من السلاح والمزيد من الدم. لا يوجد هنا أي إمكانيةٍ للخلاص داخل البنية، لأن الطبقة الحاكمة قد نجحت في تحويل الديالكتيك نفسه إلى آليةٍ لتكريس الاستغلال، وليس لتجاوزه. الطفل يسأل «ليه؟» لأنه اللحظة الوحيدة التي يظهر فيها التناقض عارياً، لكن السؤال يبقى بلا إجابة لأن الإجابة ستكون: «لأن هذا هو قانون الرأسمالية الريعية في مرحلتها الإمبريالية».

الرواية، إذن، هي تشخيصٌ ماركسيٌّ قاسٍ للواقع العربي: نحن نعيش في مرحلةٍ لم يصل فيها التناقض الطبقي بعد إلى درجة الانفجار، بل إلى درجة التكلّس. الملك لا يُهزم لأن البروليتاريا لم تُولد بعد كقوّةٍ تاريخيةٍ واعية، والطفل يبقى شبحاً لأن الشعب لم يتحوّل بعد إلى طبقةٍ ثورية. الدم يسيل، والنفط يتدفّق، والتاريخ يتوقف في لحظة الاستغلال الأبدي، لأن لا أحدٌ قد تجرّأ بعد على أن يُحوّل السؤال «ليه؟» إلى فعلٍ ثوريٍّ يُنهي الحلقة. الرواية لا تُقدّم أملاً، بل تُعلن أن الأمل الوحيد يكمن خارجها: في اللحظة التي يتحوّل فيها الطفل من ضحيةٍ صامتةٍ إلى ثائرٍ يحمل السلاحقةً بدلاً من الدمية المحترقة. حتى ذلك اليوم، سيبقى الملك جالساً على عرشه، يوقّع، ويبقى الطفل يسأل، ويبقى الدم يسيل، ويبقى التاريخ مُجمّداً في لحظة الاستغلال التي لا تنتهي.


مقارنة هيغل مع نيتشه في السياق العربي


في هذه الرواية يتصادم هيغل ونيتشه تصادماً عنيفاً على أرضٍ عربيةٍ مُحترقة، وكلاهما يُدينان الواقع نفسه، لكن من زاويتين متعاكستين تماماً، فيُنتجان حكماً متناقضاً وصادقاً في آن.

هيغل يرى في الملك اللحظة الثيستية المُطلقة: الدولة في ذروة تجسّدها، الروح الموضوعية التي بلغت الوعي الذاتي، العقل التاريخي الذي يُجسّد نفسه في عرشٍ يبدو أبدياً. لكن هذه الدولة لم تكتمل، توقّفت في منتصف الطريق، رفضت أن تموت لتُولّد شكلاً أعلى من الحرية، فصارت دولةً ميتةً حيّةً، دولةً تُنتج الموت بدلاً من الحرية. الطفل اليمني هو الأنثيثيس المُطلق، الشعب في لحظة إنكاره التام للدولة، لكن هذا الإنكار لا يصل إلى التوليف، لأن الملك يرفض أن يعترف، فيظل التاريخ معلقاً في لحظة النفي، لا يتقدّم، بل يدورانٌ أبديٌّ حول الفراغ نفسه. هيغل يُدين الملك لأنه أوقف مسيرة الروح العالمية، خاف من الموت الضروري للدولة كي تُولد الحرية، فصار التاريخ العربي مأساةً بلا كاثارسيس، حلقةً مفرغةً من الخيانة والدم.

نيتشه، على العكس، يرى في الملك تجسيداً كاملاً لـ«إرادة القوّة» في أكثر صورها مرضاً وانحطاطاً: إرادةُ البقاء على حساب كل شيء، إرادةُ الضعيف الذي يتنكّر بقناع الأقوى. الملك ليس سيداً، بل عبداً كبيراً، عبدٌ للخوف، عبدٌ للريع، عبدٌ للغرب، يُمثّل «أخلاق العبيد» في أقصى درجاتها: يُضحّي بالأطفال كي يبقى، يُموّل القتلة كي يُحمى، يُبيع الكرامة كي يشتري الأمان. هو «الإنسان الأخير» الذي يرفُّ عينيه ويقول «كل شيءٍ على ما يرام»، بينما الأرض تحترق تحته. نيتشه يُدينه ليس لأنه أوقف التاريخ، بل لأنه قتَل كل إمكانيةٍ للعظمة، قتَل «الإنسان الأعلى» قبل أن يولد، حوّل الأمة إلى قطيعٍ خائفٍ يُقبّل من قيمته كي يبقى.

أما الطفل اليمني فهو عند نيتشه «الديونيسي» المُطلق في أقسى صوره: البراءة التي تُقتل، الحياة في مواجهة الموت، الجسد في مواجهة الدولة، الضحكة المكسورة في وجه السلطة. هو ليس ضحيةً بريئةً فقط، بل هو اللحظة التي يُمكن أن تُولد منها قيمٌ جديدة، لكنه يُقتل قبل أن ينطق، فيظل الديونيسي مكبوتاً، والأبولوني (النظام، القصر، الخطاب الرسمي) ينتصر انتصاراً زائفاً. نيتشه يُدين الملك لأنه قتَل الإمكانية الوحيدة لتجاوز الإنسان، قتَل الطفل الذي كان يُمكن أن يصبح «الإنسان الأعلى»، فحكم على الأمة أن تبقى في مرحلة «القردة العليا» إلى الأبد.

هيغل يرى مأساةً تاريخيةً: الروح العالمية مُعلّقة لأن السيد رفض أن يموت. نيتشه يرى مهزلةً أزليةً: الإنسان الأخير يحكم لأن الإنسان الأعلى قُتل في مهده. هيغل ينتظر الثورة التي ستُكمل الديالكتيك، نيتشه يعرف أن لا ثورةَ ستأتي لأن القطيع اختار الأمان على العظمة. الملك هيغل يُدينه التاريخ، ملك نيتشه يُدينه الحياة نفسها. الطفل عند هيغل هو لحظةُ الإنكار التي يجب أن تُولّد الحرية، عند نيتشه هو لحظةُ البراءة التي قُتلت فقتلت معها كل إمكانيةٍ للقيم الجديدة.

الرواية لا تختار بينهما، بل تُجسّد الصدام: ملكٌ يخاف من موت الدولة لأنه يعرف أنه مع موتها سيموت هو (هيغل)، وملكٌ يعرف أن موته الوحيد الممكن هو أن يعيش حياةً لا تستحق أن تُعاش (نيتشه). الطفل يسأل «ليه؟» وهيغل ينتظر أن يتحوّل السؤال إلى ثورةٍ تُكمل الديالكتيك، ونيتشه يعرف أن السؤال سيبقى معلقاً لأن لا أحدٌ يجرؤ على أن يعيش الجواب. الرواية تُعلن إذن أن العرب لم يعيشوا بعد لحظة هيغل (الثورة التي تُكمل التاريخ) ولم يجرؤوا على لحظة نيتشه (تجاوز الإنسان نفسه)، فبقوا في المنتصف: لا دولةٌ تاريخيةٌ مكتملة، ولا عظمةٌ فرديةٌ مُحقّقة، فقط ملكٌ يبقى على قيد الحياة بقتل الأطفال، وطفلٌ يبقى ميتاً بصمت الملك.

هيغل يُريد من الملك أن يموت كي يولد التاريخ، نيتشه يُريد من الملك أن يعيش حياةً تستحق أن تُعاش ولو كلّفته الموت. الملك يرفض كلا الطلبين، فيختار أسوأ ما في كليهما: يبقى حيّاً بلا تاريخ، ويموت كل يومٍ بلا عظمة. الرواية هي إذن المأساة المُزدوجة: مأساة هيغل بلا نهاية، ومهزلة نيتشه بلا فجر. والطفل لا يزال يسأل، والملك لا يزال يصمت، والدم لا يزال يسيل، لأن لا هيغل انتصر ولا نيتشه، انتصر فقط الخوف، وهو أقدم وأقوى من كليهما.

تطبيق هيغل على الديالكتيك في الرواية




من منظور هيغل، تُقدّم الرواية ديالكتيكاً تاريخياً مُجمّداً في أقصى لحظاته سلبيةً، ديالكتيكاً وصل إلى ذروة التناقض ورفض أن يتجاوزه، فصار تكراراً أبدياً للنفي دون أي أملٍ في نفي النفي. الملك هو الثيسيس (الأطروحة) في أعلى درجات تجسّدها: الدولة المُطلقة، الروح الموضوعية التي بلغت الوعي الذاتي في شخصٍ واحدٍ، العرش الذي يُمثّل اللحظة التي يصبح فيها التاريخ وعياً بنفسه، أو هكذا يُوهم نفسه. أما الطفل اليمني فهو الأنثيثيسيس (الأنطيثيسس) في أنقى صوره: الشعب المُنكَر، الضحية المُطلقة، الروح العالمية في لحظة إنكارها التام للدولة-الأنا.

الصراع بينهما هو صراع السيد والعبد في أشدّه مأساويةً: السيد (الملك) يملك كل شيء إلا الاعتراف الحقيقي، والعبد (الطفل) لا يملك شيئاً إلا الاعتراف الأخلاقي المُطلق. في الديالكتيك الهيغلي الكلاسيكي، كان من المفترض أن ينتهي الصراع باعترافٍ متبادلٍ يُولّد شكلاً أعلى من الحرية: السيد يعترف بالعبد كإنسان، والعبد يعترف بالسيد كجزءٍ من تاريخه، فيتجاوز كلاهما نفسه ويُولّد الدولة الأخلاقية. لكن هنا يرفض السيد أن يعترف، فيظل الصراع معلقاً، والطفل يعود كل ليلة ليسأل «ليه؟»، والملك يرفض الإجابة، فيظل التاريخ متوقفاً في لحظة النفي، لا يتقدّم خطوةً واحدة نحو التوليف.

العرش نفسه هو «الة هيغلية مأساوية»: هو الدولة في ذروة تجسّدها، لكنه في الوقت نفسه قبرٌ، أي نفي الدولة ذاتها. الملك يجلس على عرشٍ يعرف أنه ميت، يحكم شعباً يعرف أنه ميت، يوقّع على أوامر يعرف أنها تقتله من الداخل، لأنه في لحظة الخيانة الأولى قدّم الروح العالمية قرباناً للروح الذاتية، فصار التاريخ لا يتحرّك، بل يدور في حلقةٍ مفرغةٍ من المعنى. لا يوجد هنا «مكر العقل» الذي يحوّل الشر إلى خير في النهاية، بل مكرٌ شيطانيٌّ يحوّل الشر إلى شرٍّ أكبر، ويُبقي الروح العالمية مُعلّقةً في لحظة الإنكار الأبدي.

الطفل هو اللحظة الهيغلية الأكثر مأساوية: هو «الروح العالمية المُطلقة» في شكلها الأكثر براءةً وأكثر عجزاً. هو الشعب الذي يجب أن يكون نهاية التاريخ، لكنه يُقتل قبل أن يبدأ، فيُحوّل التاريخ نفسه إلى مأساةٍ لا تنتهي. في كل ظهورٍ له، يُمثّل الطفل لحظةَ «الاعتراف المأساوي» التي يرفضها السيد، فيظل الصراع مفتوحاً، والدم يسيل، والسؤال «ليه؟» يتكرر، لأن الملك يختار أن يبقى سيداً على أن يصبح إنساناً.

الرواية تُعلن إذن فشل الديالكتيك الهيغلي في الواقع العربي: لا توجد هنا روحٌ عالمية تتقدّم عبر الصراع نحو الحرية، بل روحٌ عالمية تُقتل في مهدها كل مرة، وسلطةٌ ترفض أن تموت لأنها تعرف أن موتها هو الشرط الوحيد لتقدّم التاريخ. الملك يعرف ذلك، ولهذا يُصرّ على البقاء، ليس حباً في الحياة، بل خوفاً من أن يصبح موته هو اللحظة التي يبدأ فيها التاريخ فعلاً. هو يُؤخّر نهاية التاريخ بجثته الحيّة، يُؤجّل الاعتراف المتبادل إلى الأبد، فيظل العرش قبراً والقبر عرشاً، والطفل يسأل والملك يصمت، والدم يسيل، والتاريخ يتوقف في لحظة النفي الأبدي دون أن يصل أبداً إلى نفي النفي.

الرواية، إذن، هي مأساة هيغلية بلا كاثارسيس: لا نهاية سعيدة، لا توليف، لا تقدّم، فقط تكرارٌ أبديٌّ للصراع نفسه بأزياءٍ جديدة، لأن السيد اختار أن يبقى سيداً إلى الأبد، والعبد اختار أن يبقى شبحاً إلى الأبد، وكلاهما يُؤخّر اللحظة التي كان يمكن أن يصبح فيها التاريخ إنسانياً. الرواية تُعلن أن العرب لم يعيشوا بعد لحظة الثورة الحقيقية، لأن السيد لا يزال يرفض أن يعترف، والعبد لا يزال يُقتل قبل أن ينطق. ولهذا تبقى الروح العالمية مُعلّقةً في لحظة الإنكار، تنتظر اعترافاً لن يأتي، وتسأل سؤالاً لن يُجاب: ليه؟

فوكو والسلطة في الرواية



من منظور فوكو، هذه الرواية ليست روايةً عن الملك والطفل، بل عن السلطة نفسها كعلاقةٍ مُنتشرةٍ في كل مكان، لا مركز لها ولا رأس، سلطةٌ لا تُمارس من فوق فقط، بل تُنتج وتُعاد إنتاجها في كل لحظةٍ من لحظات الخضوع والمقاومة والصمت والسؤال.

الملك ليس مصدر السلطة، بل هو أحد مواقعها الأكثر وضوحاً. هو «الجسد الملكي» الذي يُجسّد السلطة في لحظةٍ تاريخيةٍ معيّنة، لكنه في الوقت نفسه أسيرها الأكبر. السلطة لا تملكه، بل تمرّ من خلاله كما تمرّ الكهرباء في سلكٍ، تُضيئه وتُحرقه في آن. كل توقيعٍ على ورقةٍ سريةٍ هو لحظةُ إنتاجٍ للسلطة، ليس لأن الملك يُقرّر، بل لأن الشبكة كلها (الأمراء، المستشارون الأجانب، الإعلام، الجيش، الشركات، البترودولار) تُفعّل نفسها من خلاله. الملك ليس سيداً، بل هو «نقطة تقاطع» لخطوط قوى لا يملكها أحدٌ بالكامل.

الطفل اليمني هو المقاومة في أنقى صورها، لكنه مقاومةٌ غير مُنظّمةٍ وغير واعيةٍ بنفسها، مقاومةٌ تُنتجها السلطة نفسها كشرطٍ لوجودها. فوكو يقول إن «حيثما توجد سلطة توجد مقاومة»، والطفل هو هذه المقاومة: سؤاله «ليه؟» هو الفعل المقاوم الوحيد، لكنه فعلٌ لا يُغيّر البنية، بل يُعيد تأكيدها، لأن السلطة تحتاج إلى من تُمارَس عليه، وتحتاج إلى من يسأل كي تُبرّر نفسها بالصمت أو الكذب.

القصر هو «الجهاز» بمعنى فوكو: ليس مكاناً، بل شبكةً من العلاقات تُنتج الحقيقة (الخطاب الرسمي، الإعلام، الوثائق السرية) وتُنتج الموت في الوقت نفسه. الغرفة السرية تحت الأرض هي «الهيتروتوبيا» الفوكوية: مكانٌ لا مكان، يُنتج فيه السلطة معرفتها الأكثر خطورة (الخيانة، القمع، القتل) ويُخفيها في الوقت نفسه. كل توقيعٍ في هذه الغرفة هو «فعلٌ كلاميٌّ» يُنتج واقعاً جديداً: مدينةٌ تُحرق، طفلٌ يُقتل، أمةٌ تُخدَّر.

السلطة هنا ليست قمعيةً فقط، بل تأديبيةً بامتياز: تُنتج أجساداً مطيعةً (الشعب الذي يقبل الصمت)، وأجساداً مُستَبعَدةً (الطفل الذي يُقتل)، وأجساداً مُراقبةً (الملك نفسه الذي يُراقب من الغرب والشرق). لا يوجد «خارج» للسلطة، لا ملكٌ فوقها ولا طفلٌ خارجها. حتى الموت لا يُحرّر الطفل، بل يُدخله في دائرة السلطة من جديد كشبحٍ يُعيد إنتاج الذنب والصمت.

الرواية تُظهر ببراعةٍ فوكوية كيف تُنتج السلطة «الحقيقة» الخاصة بها: الحقيقة الرسمية تقول إن القصف «إنساني»، والحصار «دفاعي»، والخيانة «ضرورة تاريخية»، بينما الحقيقة المضادة (صوت الطفل) تُقمع وتُحوّل إلى شبح. لكن الشبح نفسه هو دليلٌ على أن السلطة ليست كاملة، أن هناك دائماً فجوة، ثغرة، مقاومة، حتى لو كانت مقاومةً غير واعيةٍ بنفسها.

النهاية (أو عدم وجود نهاية) هي الدرس الفوكوي الأقسى: السلطة لا تُهزم بثورةٍ كبرى، بل تُحوّل نفسها، تُنتج أشكالاً جديدةً من القمع والمراقبة والخطاب. الملك قد يموت، لكن الشبكة تبقى، والطفل سيُقتل من جديد باسمٍ جديد، وسيظهر شبحٌ جديد، لأن السلطة ليست شخصاً، بل علاقةً، وطالما بقيت العلاقة بقيت السلطة. الرواية لا تُقدّم أملاً في الخلاص، بل تُعلن أن الخلاص الوحيد هو في رفض اللعبة كلها، رفضٌ لا يظهر في النص، لأن السلطة قد نجحت في جعل الرفض نفسه مستحيلاً… حتى الآن.


تطبيق ماركس مع هيغل ونيتشه



الرواية تُقدّم ساحةً مفتوحةً لصدامٍ ثلاثيٍّ عنيفٍ بين ماركس وهيغل ونيتشه على أرضٍ عربيةٍ مُحترقة، وكلٌّ منهم يرى الواقع نفسه، لكنه يُدينه من زاويةٍ مختلفةٍ تماماً، فيُنتجون ثلاثة أحكامٍ متناقضةٍ وصادقةٍ في آن.

ماركس يرى في الملك تجسيداً كاملاً للرأسمالية الريعية الإمبريالية في مرحلتها المتعفّنة: ليس سيداً تاريخياً، بل طفيليّاً يعيش على فائض القيمة المُستخرج من باطن الأرض ومن دماء الشعب. الملك لا يُنتج شيئاً، بل يستولي على النفط (قوة عمل الطبيعة والعمال المُستَغَلّين) ويُحوّله إلى سلاحٍ يُستَخدم ضد البروليتاريا العربية واليمنية. الطفل اليمني هو البروليتاريا المُطلقة في أقسى صورها: مُستَبعَدٌ كلياً من الإنتاج والاستهلاك، يُقتل لأن وجوده يُهدّد دورة الرأس المال. الديالكتيك هنا مُجمَّد لأن الطبقة العاملة قد تمّ تفتيتها وشراؤها بالريع، فلا توجد قوّةٌ ثوريةٌ قادرةٌ على نفي النفي. ماركس يُدين الملك لأنه أوقف التاريخ المادي، حوّل التناقض الطبقي إلى استغلالٍ أبديٍّ لا ينتهي، ويُدين الشعب لأنه لم يتحوّل بعد إلى طبقةٍ واعيةٍ لنفسها.

هيغل يرى في الملك الروح الموضوعية في لحظة تجسّدها الأعلى، لكنه رفض أن يموت كي تُولد الحرية، فصار دولةً ميتةً حيّةً، عرشاً هو في الوقت نفسه قبر. الطفل هو الشعب في لحظة إنكاره التام للدولة، لكن هذا الإنكار لا يصل إلى التوليف لأن السيد يرفض الاعتراف. هيغل يُدين الملك لأنه أوقف مسيرة الروح العالمية، خاف من موت الدولة الضروري لتقدّم التاريخيل، فصار التاريخ العربي حلقةً مفرغةً من الخيانة والدم، مأساةً بلا كاثارسيس.

نيتشه يرى في الملك «الإنسان الأخير» في أقصى درجاته انحطاطاً: ليس سيداً، بل عبداً كبيراً يتنكّر بقناع الأقوى، إرادةُ البقاء على حساب كل شيء، إرادةُ الضعيف الذي يقتل العظمة كي يبقى. الطفل هو «الديونيسي» المُطلق في أقسى صوره: البراءة التي تُقتل، الحياة في مواجهة الموت، الإمكانية الوحيدة لتجاوز الإنسان، لكنه يُقتل قبل أن ينطق، فيبقى الإنسان الأعلى ميتاً في مهده. نيتشه يُدين الملك لأنه قتل كل إمكانيةٍ للقيم الجديدة، حوّل الأمة إلى قطيعٍ خائفٍ يُقبّل يد جلاده كي يبقى.

الثلاثة يتفقون على نقطةٍ واحدةٍ فقط: الوضع الحالي مرضيٌّ ومُدمّر. لكن العلاج مختلفٌ تماماً:

ماركس ينتظر الثورة البروليتارية التي ستُحوّل الطفل من ضحيةٍ إلى ثائرٍ يحمل السلاحقة بدلاً من الدمية المحترقة.

هيغل ينتظر لحظةَ الاعتراف المتبادل التي ستُكمل الديالكتيك وتُولّد دولةً حرّة.

نيتشه يعرف أن لا ثورةَ ستأتي ولا اعترافَ سيحدث، لأن القطيع اختار الأمان على العظمة، ويُدعو إلى ظهور «الإنسان الأعلى» الذي سيُحطّم الطاولة كلها، لا ليُصلحها، بل ليُحرقها.

الرواية لا تختار بين الثلاثة، بل تُجسّد الصدام كله: ملكٌ يخاف من موت الدولة (هيغل)، يخاف من موت الرأسمالية (ماركس)، يخاف من موت الإنسان الأخير (نيتشه)، فيختار أن يبقى حيّاً بقتل الطفل كل يوم. والطفل يبقى ميتاً، لكنه يعود كل ليلة، لأنه البروليتاريا التي لم تُولد بعد (ماركس)، والشعب الذي لم يُعترف به بعد (هيغل)، والإنسان الأعلى الذي قُتل في مهده (نيتشه).

النتيجة هيُجمع الثلاثة على أن الوضع لا يُحتمل، لكن لا أحدٌ منهم يرى الخلاص نفسه. ماركس يقول: الثورة قادمة حتمًا. هيغل يقول: الاعتراف قادم حتمًا. نيتشه يقول: لا شيء قادم، لأنكم اخترتم أن تكونوا عبيداً إلى الأبد. والرواية تتركنا مع السؤال المُرعب: إذا كان ماركس وهيغل ونيتشه جميعهم على حقّ في إدانتهم، فمن سيكون على حقّ في الخلاص؟ والجواب، حتى الآن، هو الصمت. صمت الملك، وصمت الشعب، وصمت الطفل الذي لا يزال يسأل «ليه؟» ولا يزال لا يجد إجابة.



تطبيق سارتر على الرواية




من منظور جان بول سارتر، تُعدّ هذه الرواية تجسيداً مرعباً ومُطلقاً لمفهوم «الحرية المُدانة» و«التقنين السيء» في أقسى صوره الوجودية. الملك هو الإنسان الوجودي الكامل، ليس لأنه يملك السلطة، بل لأنه حرٌّ تماماً، حرٌّ حتى الرعب، حرٌّ إلى درجة أن كل توقيعٍ على ورقةٍ سريةٍ هو اختيارٌ حرٌّ لا يُجبره عليه أحد، وكل اختيارٌ يُحمّله مسؤوليةً كاملةً عن كل قطرة دمٍ تُسفك، عن كل طفلٍ يُقتل، عن كل أمةٍ تُخان.

في كل لحظةٍ يُقدَّم له فيها تقريرٌ جديدٌ أو صورةٌ جديدةٌ أو شبحٌ جديدٌ، يواجه الملك «القلق الوجودي» في أنقى صوره: يعرف أنه يستطيع أن يرفض، يستطيع أن يقول «لا»، يستطيع أن يُعلّق القلم ويُعلن الحقيقة ويتحمّل العواقب مهما كانت (الخسارة، العزلة، الموت). لكنه في كل مرةٍ يختار «نعم»، يختار البقاء، يختار الخيانة، يختار أن يكون جلاداً كي لا يكون ضحية. وهذا الاختيار الحرّ هو ما يُحوّله إلى وحش، لأن الحرية عند سارتر ليست نعمةً، بل لعنةً: أنت حرٌّ تماماً، وبالتالي مُدانٌ تماماً.

الطفل اليمني هو «الآخر» الذي يُجسّد ضمير الملك، هو المرآة التي لا تكذب، هو السؤال «ليه؟» الذي يُجبر الملك على مواجهة حريته المُطلقة. كل ظهورٍ للطفل هو لحظةُ «الغثيان» السارتري: الإدراك المُفاجئ لعبثية الاختيارات، لأن كل هذا الدم لا معنى له سوى أن ملكاً واحداً اختار أن يبقى. لكن الملك يرفض أن يتقيأ، يرفض أن يعترف، يرفض أن يُغيّر اختياره، فيُدين نفسه بنفسه إلى الأبد.

الرواية تُجسّد أيضاً مفهوم «الجحيم هو الآخرون» بتحويرٍ مُرعب: الجحيم هنا ليس الآخرون الأحياء، بل الأموات. الأطفال الذين قُتلوا يعودون ليس لينتقموا، بل ليُشهروا على الملك بحريته، ليُذكّروه أنه كان حراً في كل لحظةٍ واختار أن يكون جلادهم. لا يوجد هروبٌ منهم، لأنهم ليسوا خارجاً عنه، بل هم هو نفسه في أنقى صورها: الضمير الذي رفض أن يموت.

الملك لا يُقتل في النهاية، ولا يُطاح به، ولا ينتحر، بل يُترك حيّاً ليعيش مع اختياراته إلى الأبد، وهذا هو العقاب السارتري الأقسى: أن تكون حراً، وأن تختار الجحيم، وأن تعرف أنك اخترته، وأن تبقى لتعيشه كل يوم. الطفل لا ينتقم، لأن الانتقام يُعطي معنى، والطفل يرفض أن يُعطي الملك معنىً لخيانته، فيبقى فقط يسأل «ليه؟»، ويبقى الملك يعرف أن الجواب الوحيد هو «لأنني اخترتُ»، وهذا الجواب هو الجحيم الأبدي الذي اختاره لنفسه حين اختار البقاء على الكرامة.

الرواية، إذن، هي صرخة سارترية في وجه العصر: الإنسان مُدان بالحرية، وكل اختيارٍ هو حكمٌ على نفسه، وكل رفضٍ للاختيار هو اختيارٌ أيضاً. الملك هو نحن جميعاً في اللحظة التي نختار فيها الأمان على الحق، البقاء على الكرامة، الصمت على الصرخة. والطفل هو الضمير الذي يعود كل ليلة، يسأل السؤال الوحيد الذي لا يُجاب: «ليه؟»، لأن الإجابة تعني الموت، والصمت يعني الموت أيضاً، لكن موتاً أبطأ وأكثر ألماً. الرواية لا تُقدّم خلاصاً، بل تُعلن أن الخلاص الوحيد هو في رفض اللعبة كلها، رفضٌ لم يحدث بعد، لأن الملك لا يزال يختار أن يبقى، والطفل لا يزال يُقتل، والدم لا يزال يسيل، والحرية لا تزال مُدانةً بأن تكون حرّةً.


مقارنة مفصلة بين ماركس وفوكو



في أعماق الفكر البشري، حيث تتصادم الأفكار كالجيوش في معاركٍ لا تنتهي، يقف كارل ماركس كعملاقٍ يحمل مطرقة التاريخ، يسحق الأوهام الرأسمالية ويبني من رمادها عالماً جديداً، بينما يتسلل ميشيل فوكو كظلٍ خفيٍّ يتسلق جدران السجون والمستشفيات والمدارس، يفكك السلطة لا ليحاربها في معركةٍ كبرى، بل ليكشف أنها منتشرةٌ في كل خليةٍ من خلايا الجسد الاجتماعي، غير مرئيةٍ وغير قابلةٍ للإسقاط بثورةٍ واحدة. ماركس، ابن القرن التاسع عشر، يرى العالم كصراعٍ طبقيٍّ هائجٍ يدور حول الإنتاج والملكية، صراعٌ يتقدّم عبر ديالكتيكٍ تاريخيٍّ ينتهي بانتصار البروليتاريا وإلغاء الطبقات، حيث يصبح التاريخ نفسه ثورةً مستمرةً نحو الشيوعية. أما فوكو، ابن القرن العشرين، فيرفض هذا الديالكتيك الكبير، ويرى السلطة ليست هرماً يُسيطر من أعلاه، بل شبكةً من العلاقات الدقيقة تغلغل في الجسد والعقل، تُنتج المعرفة والحقيقة كأدواتٍ للسيطرة، ولا تنتهي بثورةٍ بل تتحوّل وتتكيّف في كل عصر.

يبدأ الفرق الأساسي في الرؤية للتاريخ نفسه. ماركس يرى التاريخ كمسيرةٍ ديالكتيكيةٍ ماديةٍ، حيث يتقدّم المجتمع عبر تناقضاتٍ اقتصاديةٍ: العبودية تنفي نفسها لتولد الإقطاع، والإقطاع ينفي نفسه ليولد الرأسمالية، والرأسمالية ستُولّد الشيوعية عبر ثورةٍ حتمية. هذا الديالكتيك ليس فلسفياً مجرّداً، بل مادياً: الطبقة المُستَغَلّة (البروليتاريا) ستُدرك وعيها الطبقي وتنفي الرأسمالية، لأن التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج يصبح غير قابلٍ للاحتمال. في هذا العالم، الملك في الرواية هو ممثلٌ للرأسمالية الريعية، يستمد قوّته من استغلال الموارد (النفط) ويُعاد إنتاج الطبقات من خلال الخيانة السياسية، بينما الطفل هو البروليتاريا المُسحوقة التي ستُولّد الثورة إذا ما أدركت وعيها. أما فوكو فيرفض هذا الديالكتيك الكبير، ويرى التاريخ ليس خطاً تقدّمياً بل انقطاعاتٍ وتحوّلاتٍ في أنظمة المعرفة والسلطة. لا يوجد تقدّمٌ حتميٌّ، بل «أركيولوجيا» للمعارف التي تُنتج الحقيقة في كل عصر، و«جينيالوجيا» للسلطة التي لا تنتهي بل تتحوّل. في الرواية، الملك ليس ممثلاً لطبقةٍ اقتصاديةٍ، بل نقطةً في شبكةٍ من السلطة تغلغل في كل شيء، والطفل ليس ضحيةً اقتصاديةً بل جسداً يُتأدّب ويُراقب ويُقمع عبر آلياتٍ دقيقةٍ لا تنتهي بثورةٍ كبرى.

أما السلطة فهي النقطة الأكثر تناقضاً بينهما. عند ماركس، السلطة هي أداةٌ في يد الطبقة الحاكمة للحفاظ على علاقات الإنتاج: الدولة هي «لجنةٌ تنفيذيةٌ للبرجوازية»، وكل قمعٍ اقتصاديٌّ في أساسه. في الرواية، الملك يمثل هذه الدولة الرأسمالية، يحافظ على عرشه باستغلال الشعب وتحالفه مع الإمبريالية الغربية، ويُحوّل الثروة (النفط) إلى أداةٍ للسيطرة، بينما الطفل هو الضحية المباشرة لهذا الاستغلال. أما فوكو فيوسّع مفهوم السلطة إلى ما هو أبعد: السلطة ليست ملكاً لطبقةٍ أو دولةٍ، بل علاقةٌ منتشرةٌ في كل المجتمع، تُنتج المعرفة والجسد والحقيقة. في الرواية، الملك نفسه أسيرٌ للسلطة، يُراقب من خلال شبكةٍ من المستشارين والأجهزة والأيديولوجيا، والطفل ليس مجرد ضحيةٍ اقتصاديةٍ بل جسدٌ يُتأدّب عبر القصف والحصار، جسدٌ يُنتج معرفةً جديدةً عن «الإرهاب» أو «الشرعية». فوكو يرى أن الثورة الماركسية غير كافية، لأن السلطة تتحوّل ولا تُسقط، بينما ماركس يرى أن السلطة ستُسقط عبر تغيير علاقات الإنتاج.

في الاقتصاد والمجتمع، يركز ماركس على الرأسمالية كمنظومةٍ اقتصاديةٍ تُنتج التناقضات الداخلية، وفي الرواية يمثل الملك هذه الرأسمالية الريعية التي تعتمد على النفط لا على الإنتاج الصناعي، مما يجعل التناقض أكثر حدّةً لأنه يعتمد على النهب لا على الاستغلال المنتظم. الطفل هو الضحية المباشرة لهذا النهب، يُقتل لأن وجوده يُهدّد تدفّق الريع. أما فوكو فيوسّع النظر إلى «الاقتصاد السياسي للسلطة»، حيث يصبح الجسد نفسه موضوعاً للاستثمار والمراقبة، وفي الرواية يصبح الطفل جسداً يُراقب ويُقصف لإنتاج «معرفة» عن السيطرة، ويصبح الملك نفسه جسداً ملكياً يُراقب من الخارج والداخل. فوكو يرى أن الرأسمالية ليست السبب الوحيد، بل جزءٌ من منظومةٍ أوسع من السلطة/المعرفة، بينما ماركس يرى أن الاقتصاد هو الأساس الذي يُحدّد كل الباقي.

الخلاف الأعمق يكمن في الثورة والتغيير. ماركس يؤمن بثورةٍ حتميةٍ تُغيّر علاقات الإنتاج وتُنهي الطبقات، وفي الرواية ينتظر أن يتحوّل الطفل من ضحيةٍ إلى ثائرٍ يُسقط الملك. أما فوكو فيرفض هذه الثورة الكبرى، ويرى التغيير في المقاومات الدقيقة والمحلية، في رفض الجسد للتأديب، وفي الرواية يصبح سؤال الطفل «ليه؟» مقاومةً دقيقةً لا تُسقط الملك بل تُعذّبه من الداخل، لكنها لا تُنهي السلطة لأنها تتحوّل دائماً. فوكو يُدين ماركس لأنه يُركز على الاقتصاد ويُهمل السلطة كشبكةٍ منتشرة، بينما ماركس يُدين فوكو (لو كان حياً) لأنه يُحوّل الصراع الطبقي إلى مقاوماتٍ فرديةٍ غير قادرةٍ على التغيير الجذري.

في النهاية، تكشف الرواية عن وجهٍ مشتركٍ بينهما: كلا الفيلسوفين يرى العالم كصراعٍ لا ينتهي، لكن ماركس يؤمن بأن الصراع يتقدّم نحو عالمٍ أفضل، بينما فوكو يرى أنه يتحوّل دون أن ينتهي. في الرواية، يبقى الملك يوقّع والطفل يُقتل، والدم يسيل دون توقف، لأن الثورة الماركسية لم تأتِ بعد، والمقاومة الفوكوية لا تكفي، فيظل العالم عالقاً في تناقضٍ لا يُحلّ، تناقضٍ يُنتج المزيد من الدم كي يبقى.


مقارنة مع دريدا



من منظور جاك دريدا، هذه الرواية ليست نصّاً يُروى، بل هي حدثٌ من «الاختلاف» (différance) المُطلق، حيث يتأجّل المعنى إلى ما لا نهاية، ويُمحى في اللحظة نفسها التي يُكتب فيها. لا يوجد مركزٌ يُمسك بالنص، لا ملكٌ ولا طفلٌ ولا دمٌ ولا عرشٌ يُمكن أن يُقدَّم كأصلٍ أو حضورٍ كامل، بل كلٌّ منها هو أثرٌ لأثرٍ، علامةٌ تُحيل إلى علامةٍ أخرى في سلسلةٍ لا نهائية من التأجيل والمحو.

الملك هو «اللوغوسنترية» في أقبح صورها: هو الصوت الذي يدّعي أن له مركزاً، أن له أصلاً، أن له سلطةً أوليةً تُنتج الحقيقة. كل توقيعٍ من توقيعاته هو محاولةٌ لتثبيت المعنى، لتثبيت «الشرعية»، لتثبيت «البقاء أولاً»، لكن كل توقيعٍ يُنتج في الوقت نفسه محواً: يمحو الطفل، يمحو الشعب، يمحو حتى معنى التوقيع نفسه. الملك يُريد أن يكون الحضور المُطلق، لكن دريدا يكشف أنه مجرد أثرٌ مُؤجّل، أثرٌ لسلطةٍ سابقةٍ لم نرها، وأثرٌ سيُمحى بسلطةٍ لاحقةٍ لم تأتِ بعد.

الطفل اليمني هو «الكتابة» في أنقى صورها الدريدية: هو ما لا يُقال، هو الهامش الذي يُمحى، هو السؤال «ليه؟» الذي لا يجد إجابةً لأن كل إجابةٍ هي تأجيلٌ آخر. ظهوره الشبحي المتكرّر هو «الأثر» (trace) الذي لا يُمحى، هو ما يبقى بعد المحو، هو الفرق الذي يُؤجّل المعنى إلى الأبد. الطفل لا ينتقم، لأن الانتقام سيُعطي معنى، والطفل هو ما يرفض أن يُعطي معنى، هو الاختلاف نفسه، هو الشبح الذي يُثبت أن كل حضورٍ هو في الوقت نفسه غياب.

الدمية المحترقة هي النصّ الأعظم في الرواية: هي «الكتابة تحت المحو» (sous rature)، هي ما كان يُمكن أن يكون لعبةً، أي معنىً، أي طفولةً، لكنها مُحترقة، أي مُمحاة، ومع ذلك تُقدَّم كما هي، مُحترقةً وموجودةً في آن. هي الشيء الذي يُكتب ويُمحى في اللحظة نفسها، تماماً كما يُكتب «الشرعية» ويُمحى في اللحظة نفسها التي يُقتل فيها الطفل.

القصر هو «النصّ» نفسه: جدرانٌ سميكةٌ تُخفي، غرفٌ سريةٌ تُنتج المعنى (الخيانة، القمع، القتل) ثم تُمحوه في الوقت نفسه. كل وثيقةٍ سريةٍ هي «تفكيك» (déconstruction) لنفسها: تُقال «من أجل الشعب» وتُمحى في اللحظة نفسها بقتل الشعب. لا يوجد خارجٌ للنص، لا ملكٌ خارج السلطة، لا طفلٌ خارج الموت، لا معنى خارج التأجيل.

الرواية تُجسّد «الاختلاف» في أقسى صوره: لا يوجد أصلٌ ولا نهاية، لا ملكٌ أولٌ ولا طفلٌ أخير، بل تكرارٌ أبديٌّ للنفي والمحو. السؤال «ليه؟» هو السؤال الدريدي بامتياز: سؤالٌ لا يطلب إجابةً، بل يُثبت أن كل إجابةٍ هي تأجيلٌ آخر، أن المعنى دائماً مؤجّل، أن الحقيقة دائماً غائبة. الملك يُوقّع ليُثبت وجوده، لكن كل توقيعٍ يُثبت غيابه، والطفل يسأل ليُثبت وجوده، لكن كل سؤالٍ يُثبت موته.

الرواية لا تُروى، بل تُمحى وتُكتب في اللحظة نفسها، هي نصٌّ لا يُقرأ، بل يُفكّك، نصٌّ يُثبت أن كل عرشٍ هو قبرٌ، وكل قبرٍ هو عرشٌ، وكل معنى هو غيابٌ، وكل حضور هو أثرٌ لأثرٍ لأثرٍ… إلى ما لا نهاية. دريدا لا يُدين الملك ولا يرثي للطفل، بل يكشف أن كلاهما محكومان بالتأجيل الأبدي، بالاختلاف الذي لا يتوقف، بالمعنى الذي لا يصل أبداً. الرواية ليست نهايةً، بل هي الدليل الأكبر على أنه لا نهاية، لا خلاص، لا معنى، فقط دميةٌ محترقة تُحمل من يدٍ ميتةٍ إلى يدٍ ميتةٍ،





وسؤالٌ واحدٌ يتكرر إلى الأبد: ليه؟ لأن المعنى مؤجّل، دائماً، إلى الأبد.



مقارنة مع ليوتار


من منظور جان فرانسوا ليوتار، هذه الرواية هي إعلانٌ صارخٌ عن موت السرديات الكبرى في أبشع لحظاته العربية، وفي الوقت نفسه شهادةٌ على استمرارها المُرَوِّع كأشباحٍ ترفض أن تموت. الملك هو آخر مُمثِّلٍ للسردية التحرير القومي والشرعية التاريخية، يُكرّر خطاب «البقاء أولاً» و«الدفاع عن الأمة» و«الاستقرار»، خطاباتٍ كبرى كانت في الخمسينيات والستينيات تُبرّر كل شيء، لكنها اليوم صارت فارغةً، أطلالاً تُردَّد كتعويذةٍ في مواجهة العبث. هو يحاول أن يُنقذ السردية الكبرى (القومية، الدولة، السيادة) لكن كل توقيعٍ من توقيعاته يكشف أنها قد ماتت فعلاً، وأن ما يبقى هو مجرد أداءٍ (performativity) فارغ، أداءٍ يُنتج الموت لكي يُبقي على الوهم.

الطفل اليمني هو «الحدث» (l’événement) في معناه الليوتاري الأقصيل: هو ما يقتحم النظام، ما لا يُحتوى، ما يرفض أن يُترجم إلى خطابٍ رسمي، ما يُفجّر السردية الكبرى من الداخل بسؤالٍ صغيرٍ لا يُجاب: «ليه؟». هذا السؤال هو السردية الصغيرة بامتياز، السردية التي لا تطلب الإجماع ولا الشرعية، بل تطلب فقط أن تُسمع، أن تُشهد على الظلم. ظهوره الشبحي المتكرّر هو عودة «الاختلاف» (le différend) الليوتاري: الظلم الذي لا يملك لغةً ليُعبّر عنه داخل النظام، فيضطر إلى أن يعود كشبح، كصمتٍ مُرعب، كسؤالٍ لا يجد إجابةً داخل السردية الكبرى، فتظل الضحية بلا صوتٍ حقيقي.

القصر والغرفة السرية هما «الأداء» (performativity) في أقصى درجاته: نظامٌ لم يعد يهدف إلى تحريرٍ أو تقدّمٍ أو حتى ربحٍ، بل إلى استمرار النظام نفسه، إلى «أداء» السلطة كغايةٍ في ذاتها. كل قرارٍ بقصفٍ أو حصارٍ ليس له هدفٌ أيديولوجيٌ حقيقي، بل هو أداءٌ يُثبت أن النظام لا يزال قادراً على العمل، حتى لو كان عمله هو إنتاج الموت فقط. ليوتار يقول إن المجتمعات الحديثة انتقلت من السرديات الكبرى (التحرير، التقدّم، الأمة) إلى الأداء كمعيارٍ وحيد، وهنا نرى هذا الانتقال في أقسوته العربية: الملك لا يحكم من أجل أمةٍ أو شعبٍ أو تاريخ، بل من أجل أن يبقى النظام يعمل، حتى لو كان عمله هو حرق الأطفال.

الدمية المحترقة هي الرمز الأكثر قسوةً لموت السرديات الكبرى: كانت يوماً لعبةً، أي سرديةً صغيرةً عن الطفولة والبراءة، لكنها الآن محترقة، أي لم يعد هناك حتى سرديةٌ صغيرةٌ تُعطي معنى للألم. ما تبقّى هو مجرد أداءٍ للحرق، أداءٍ للموت، أداءٍ للسلطة التي لم يعد لها هدفٌ سوى أن تستمرّ في الأداء.

الرواية تُعلن إذن حالة «ما بعد الحداثة» العربية بامتياز: السرديات الكبرى (القومية، الاشتراكية، الإسلام السياسي، الاستقرار) قد ماتت، لكنها لم تُدفن، بل تُعاد تمثيلها كأشباح، كطقوسٍ فارغة، كخطاباتٍ لا يصدّقها حتى من يردّدها. الملك هو آخر ممثّلٍ لهذه السرديات الميّتة، يحاول أن يُحييها بالدم، لكن كل قطرة دمٍ تُسفك تُثبت أنها ميّتة، وأن ما يحكم الآن هو الأداء الفارغ، السلطة من أجل السلطة، القتل من أجل البقاء.

الطفل هو السردية الصغيرة التي لا تُسمع، الاختلاف الذي لا يُترجم، الشهادة التي لا تجد مكاناً في المحكمة الكبرى، فيبقى يسأل «ليه؟» ليس لأنه ينتظر إجابةً، بل لأنه يُثبت أن السؤال نفسه لم يعد له مكانٌ في عالمٍ تحول فيه كل شيء إلى أداء. ليوتار يقول إن العدل في ما بعد الحداثة هو أن نُعطي صوتاً للاختلاف، لكن هنا لا يوجد حتى محكمةٌ تستمع، فقط ملكٌ يوقّع وطفلٌ يُقتل، وسؤالٌ يتكرّر في الفراغ.

الرواية، إذن، هي شهادةٌ على نهاية السرديات الكبرى العربية، ليس لأنها انتصرت أو هُزمت، بل لأنها تحولت إلى أداءٍ فارغٍ يُنتج الموت فقط. لا ثورةٌ قادمة، ولا تحريرٌ، ولا تقدّم، فقط تكرارٌ أبديٌّ للأداء نفسه: ملكٌ يوقّع، طفلٌ يُقتل، دميةٌ تحترق، وسؤالٌ لا يجد إجابة. ليوتار لا يُقدّم أملاً، بل يُعلن أن الأمل نفسه قد صار سرديةً كبرى أخرى ماتت، وأن ما تبقّى هو أن نُسمع صوت الطفل، حتى لو لم يُسمع أحد، حتى لو بقي السؤال معلقاً في الهواء إلى الأبد. لأن في عالمٍ ماتت فيه السرديات الكبرى، يصبح فعل السؤال نفسه هو آخر شكلٍ من أشكال المقاومة.



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية «لماذا في قصر أصم» توثيقٌ لستين عاماً من حكم مملكة الظ ...
- سوريا في السنة الأولى لما بعد الأسد: تقرير من قلب الخراب
- اكتشاف جبل الكرمل: رحلة في أعماق التاريخ والطبيعة من خلال كت ...
- رواية: في قلب الإمبراطورية المالية: ملحمة الضمير الذي استيقظ ...
- رواية : مفتاحٌ في صدر ميت
- استثمارات بلاك روك في قطاع السلاح: رؤية معمقة نحو الثراء الذ ...
- بلاك روك للمبتدئين: كيف تكون ناشطاً بيئياً وتاجر سلاح في نفس ...
- لماذا يجب على العالم أن يسترد سيادته من الاحتكارات الخمس
- من أنبوب كولن باول إلى أنابيب غاز ترامب: نفس النكتة،
- سوريا تحت ظلال الفصل السابع رحلة نحو نهاية مكتوبة بأيدي من ظ ...
- عندما تصبح الدراسات الجامعية برنامجاً حكومياً: رؤية حزب العم ...
- عندما التقت الدبّة بالتنين: سقوط الهيمنة الغربية بهدوء
- عبوديةٌ بثياب الحرية.. تحقيقٌ في استلاب الكرامة الإنسانية تح ...
- من بغدادَ العلم إلى رياضِ و دوحة الخيانة: سقوطُ الضمير العرب ...
- عندما يصبح الربحٌ إلهاً: سيرة الإبادة الرأسمالية:من بوتوسي إ ...
- مجرمو السيليكون: من وادي الكاليفورنيا إلى قبور غزة
- القرم إلى الأبد والغاز بالروبل
- الاغتيالات : كيف تكشف ضربات إسرائيل الأخيرة عجزها الاستراتيج ...
- الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك ( كتيب )..مقارنات بين امين وبري ...
- الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك(كتيب )..مقارنات سمير امين مع بر ...


المزيد.....




- فنان من غزة يوثق معاناة النازحين بريشته داخل الخيام
- إلغاء حفلات مالك جندلي في ذكرى الثورة السورية: تساؤلات حول د ...
- أصوات من غزة.. يوميات الحرب وتجارب النار بأقلام كتابها
- ناج من الإبادة.. فنان فلسطيني يحكي بلوحاته مكابدة الألم في غ ...
- سليم النفّار.. الشاعر الذي رحل وما زال ينشد للوطن
- التحديات التي تواجه التعليم والثقافة في القدس تحت الاحتلال
- كيف تحمي مؤسسات المجتمع المدني قطاعَي التعليم والثقافة بالقد ...
- فيلم -أوسكار: عودة الماموث-.. قفزة نوعية بالسينما المصرية أم ...
- أنغام في حضن الأهرامات والعرض الأول لفيلم -الست- يحظى بأصداء ...
- لعبة التماثيل


المزيد.....

- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - حول رواية ( لماذا ؟ ..صرخة في قصر أصم )..مقدمات نقدية لمدارس أدبية مختلفة