أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية : أنفاسٌ لا تُقاس أو اسم اخر للرواية (عبودية في ثياب الحرية )















المزيد.....



رواية : أنفاسٌ لا تُقاس أو اسم اخر للرواية (عبودية في ثياب الحرية )


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 00:18
المحور: الادب والفن
    


مقدمة نقدية أدبية للرواية


تُعدّ رواية «أنفاسٌ لا تُقاس» ظاهرةً نادرةً في الأدب العربي المعاصر؛ ليس لأنها تروي قصة ثورة شعبية فقط، بل لأنها تُلغي الحدود بين الرواية والملحمة، بين السرد والطقس، بين السياسي والمقدّس، بين الزمن التاريخي والزمن الأسطوري، وتفعل ذلك بوعيٍ نقديٍّ حادٍّ يجعل منها نصّاً يقرأ نفسه وهو يكتب نفسه.

من زاوية النظرية ما بعد الكولونيالية، تُشكّل الرواية هجوماً مزدوجاً: الأول على الهيمنة النيوليبرالية التي تُقدَّم كإصلاحات أوروبية حديثة، والثاني على الاستشراق الداخلي الذي يجعل من أوروبا «المتقدمة» نموذجاً للعبودية الأكثر أناقة. بروكسل هنا ليست مجرد مدينة، بل هي المركز الرمزي للسلطة الجديدة التي لا تحتاج إلى أغلال حديدية لأنها تملك التقارير والتصنيفات والديون المشروطة. الرواية تُعيد بذلك كتابة الجغرافيا السياسية للاستعباد: لم يعد المستعمر يأتي من الخارج، بل يجلس في قلب القارة ويبتسم ابتسامة مصرفي.

لكن ما يجعل النص فريداً هو رفضه للثنائية الاستعمارية/المستعمَر. لا يوجد «نحن» عرب أو مسلمون في مواجهة «هم» أوروبيون بيض. الطبقة العاملة في بروكسل نفسها هي المستعمَّرة الجديدة، والمهاجر السوري والمغربي ليس ضحية ثانوية، بل هو جزء عضوي من الجسد الذي يثور. هكذا تُحوّل الرواية مفهوم «الكفاح الشعوب» من صراع هويات إلى صراع كرامة، وهو ما يجعلها تتجاوز الإقليمية وتصبح ملحمة إنسانية خالصة.

من منظور الدراسات البيئية النقدية (ecocriticism)، تُقدّم الرواية رؤيةً راديكاليةً للعلاقة بين الإنسان والأرض. الوردة الحمراء ليست مجرد رمز، بل هي كائن حيّ ينبض ويتكاثر ويموت ويُبعث. عندما تتحول بروكسل إلى غابة، لا تكون هذه عودة رومانسية إلى الطبيعة، بل هي هي انتصار الجسد العضوي على الجسد الميكانيكي، انتصار التراب على الإسمنت، انتصار الزمن الدوري على الزمن الخطي الرأسمالي. الرواية تُعلن بذلك موت الحداثة الصناعية وولادة حداثة عضوية، حداثة لا تُقاس بالناتج المحلي الإجمالي، بل بقدرة الإنسان على أن يعود تراباً خصباً بعد موته.

أما من زاوية الدراسات الجندرية، فإن الرواية تُقدّم نموذجاً نادراً للأنثوي الذي لا يُعرَّف بالضعف ولا بالقوة المذكّرة، بل بالاستمرارية. فاطمة ليست بطلة ثانوية، بل هي الرحم الذي يحمل الثورة، الجسد الذي يُنجب الأجيال، الصوت الذي يحكي لكي لا يُنسى. موتها في النهاية ليس موتاً، بل هو انتقال إلى داخل الشجرة، إلى داخل التراب، إلى داخل كل امرأة ستحملأ صدرها يوماً بالنار نفسها. الرواية تُعلن بذلك أن الثورة ليست فعلاً ذكورياً بطولياً، بل هي فعل أنثوي خفيّ، بطيء، لا يُرى، لكنه يغيّر وجه الكون.

من المنظور البنيوي-الأسطوري، تتبع الرواية نمط «رحلة البطل» عند جوزيف كامبل، لكنها تُقلبها رأساً على عقب. البطل لا ينتصر على التنين ويعود بالكنز، بل يتحول هو إلى تنين من نور، ثم إلى كنز، ثم إلى تراب يُغذي الجيليات الجديدة. الرحلة لا تنتهي بالعودة إلى البيت، بل باختفاء البيت نفسه، وتحول الكون كله إلى بيت. هكذا تُصبح الرواية ملحمة كونية، لا بطل لها، لأن البطل صار الكل.

أخيراً، من زاوية النقد ما بعد الحداثي، تُقدّم الرواية تحدياً جذرياً لمفهوم «نهاية الرواية». الفصول الأربعة لا تُغلق، بل تُفتح على بعضها، ثم تُفتح على القارئ نفسه، ثم تُفتح على الفراغ الأحمر الذي يسبق الخلق ويتبعه. الكاتب لا يروي قصة، بل يُطلق طقساً، طقساً يُكمل القارئ دوره فيه بمجرد أن يُغلق الكتاب، لأن الإغلاق الحقيقي هو الفتح، والنهاية الحقيقية هي البداية، والموت الحقيقي هو الولادة.

«عبوديةٌ بثياب الحرية» ليست رواية سياسية، وليست رواية بيئية، وليست رواية جندرية، وليست ملحمة أسطورية. هي كل ذلك، وأكثر، في الوقت نفسه. هي النص الذي يُعلن موت الرواية التقليدية وولادة شكل أدبي جديد لا اسم له بعد، شكل يُشبه النبض أكثر من السرد، يُشبه الوردة أكثر من الكتاب، يُشبه الحياة أكثر من الفن.

عندما تنتهي من قراءتها، لا تسأل «ماذا حدث؟»، بل اسأل «ماذا أصبحتُ؟».
لأن هذه الرواية لا تُقرأ،
تُشرب،
تُستنشق،
تُعاش،
تُمات من أجلها،
ثم تُولد من جديد،
حمراء،
واقفة،
خالدة.



مقدمة

افتحْ هذا الكتابَ،
تفتحْ جرحاً أحمرَ في قلبِ أوروبا،
جرحاً لا يزال ينزفُ منذ أن قيلَ لرجلٍ في الثامنة والخمسين:
«عمرُك انتهى،
متْ بهدوء».

هذه ليست روايةً تُقرأ،
بل صرخةٌ تُسمعُ قبلَ أن تُنطق،
دمعةٌ تتحوّلُ وردةً قبلَ أن تسقط،
وقفةٌ تُولدُ من ركوعٍ طويل.

في بروكسلَ اللامعة،
حيث تُكتبُ القوانينُ بابتسامةٍ باردة،
وقفَ آدمُ وفاطمةُ وملايينٌ لا أسماءَ لهم،
قالوا «لا»،
فانفجرَ المطرُ دماً،
والدمُ وردةً،
والوردةُ غابةً،
والغابةُ كوناً.

هذه روايةُ من سُرقَ عمرهُ،
فاستردَّهُ بخطوةٍ واحدةٍ تحت المطر،
روايةُ من رفضَ أن يُحسبَ،
فصارَ هو الحساب.

إن كنتَ تعتقدُ أن الثوراتَ ماتت،
أغلقْ الكتابَ الآن.
وإن شعرتَ في صدرك نبضةً ترفضُ أن تُقاس،
افتحْ،
وادخلْ،
واستمعْ إلى آدمَ يهمسُ من داخلِ ترابهِ،
من داخلِ وردتهِ:

«لم أمت،
أنا فيك،
قم.»

الروايةُ تبدأُ الآن،
ولن تنتهي،
لأنها صارتْ دمك،
نبضك،
وقفتك.

فاذهبْ،
وازرعِ الوردة،
وكنْ الحياة.
إلى الأبد.


الفصل الأول: أشباح الوعود
(٢٠٢٥٢٠٢٦، بروكسل في ذروة الاعتصام الكبير)




في بروكسل، حيث يتجمد المطر قبل أن يلمس الأرض فيصبح غباراً من زجاج مكسور، استيقظ آدم بن إبراهيم في الخامسة والنصف صباحاً كعادته منذ ثمان وثلاثين سنة. لم يكن المنبه هو من أيقظه هذه المرة، بل صوت رسالة نصية قصيرة سقطت في هاتفه القديم كحجر في بركة ميتة: «عزيزي السيد بن إبراهيم، اعتباراً من اليوم تم تعليق إعانتك الاجتماعية لعدم استيفاء شروط النشاط الوظيفي المستمر. نشكرك على تفهمك. مكتب الرفاه الوطني».

قرأ الجملة ثلاث مرات، كأن التكرار قد يغير معناها. ثم وضع الهاتف جانباً بهدوء مَن يضع طفلاً ميتاً في سريره. لم يصرخ، لم يبكِ، فقط شعر بشيء يتكسر داخله بصوت خافت لا يسمعه أحد سواه، صوت عظم يُقصم ببطء تحت ثقل سنوات لم يعد أحد يحسبها.

نهض من سريره الضيق، خطا خطوتين على الأرضية الباردة، ثم توقف أمام النافذة المطلة على شارع «دو لا لوا». الشارع نفسه الذي كان يمر به كل فجر بشاحنته المحمّلة ببضائع القارة بأسرها، من البرتقال الإسباني إلى الآلات الألمانية، من الأدوية الفرنسية إلى الملابس الرخيصة المصنوعة في أماكن لا يجرؤ أحد على نطق أسمائها. الآن يقف عارياً تقريباً، بقميطان صوفي قديم، يراقب المدينة وهي تستعد ليوم جديد من الادعاء بأن كل شيء على ما يرام.

كان جسده لا يزال يحمل آثار الطرق الطويلة: ظهر منحنٍ قليلاً كقوس مكسور، ركبتان تئنّان عند كل حركة، أصابع متورمة من البرد القديم والسكري الجديد. لكن الأخطر كان ما لا يُرى: ذاكرة الجسد التي تحتفظ بكل كيلومتر، بكل ليلة قضاها نائماً في كابينة الشاحنة، بكل فاتورة دفعها من أجل أن يبقى أولاده في المدرسة، بكل إجازة مرضية لم يأخذها لأن «الشركة لا تتحمل التأخير». كل ذلك لم يُحسب. لم يُحسبوه إلا إذا كان خالياً من الألم، خالياً من الإنسانية.

ارتدى معطفه الوحيد، ذلك الذي اشتراه قبل خمسة عشر عاماً وما زال يناسبه رغم أن كتفيه تضاءلا، ونزل إلى الشارع. السماء رمادية ثقيلة، لونها لون أوراق التقارير التي تُصدرها المفوضية الأوروبية كل خريف لتقول للناس إن عليهم العمل أكثر لأن «الديموغرافيا» تتطلب ذلك. لكن آدم يعرف أن الديموغرافيا ليست سوى كذبة أنيقة يرتديها الأقوياء ليخفوا نهبهم.

في المقهى الصغير أسفل البناية، حيث يجتمع المتقاعدون المبكرون والعاطلون الجدد والمهاجرون القدامى، جلست فاطمة، جارته منذ ثلاثين سنة، كانت يوماً معلمة لغة فرنسية في مدرسة ثانوية بمنطقة مولنبيك. الآن تبيع وروداً ذابلة في السوق صباحاً، وتخيط ملابس في البيت ليلاً. عيناها لا تزالان تضحكان، لكن الضحكة أصبحت كضوء مصباح يعمل على بطارية فارغة تقريباً.

سلمت عليه بصوت خافت: «صباح الخير يا أبا خالد». ثم أضافت من دون انتظار الجواب: «وصلتك الرسالة أيضاً؟» أومأ برأسه فقط. لم يكن هناك ما يُقال. كلاهما يعرف أن الرسالة ليست مجرد كلمات، بل حكم إعدام مؤجل التنفيذ. حكم يُقرأ بابتسامة إدارية ويتم توقيعه باسم «الاستدامة» و«المسؤولية الفردية».

جلسا معاً أمام فنجاني قهوة سوداء لا سكر فيهما، لأن السكر أصبح رفاهية، ولأن السكري أصبح عقاباً. تذكر آدم كيف كانا قبل عشر سنوات يتحدثان عن السفر إلى مراكش بعد التقاعد، عن بيت صغير في الريف الفلمنكي، عن أحفاد يركضون في حديقة. الآن الحديث الوحيد المتبقي هو عن الفواتير، وعن أي سوبرماركت يبيع الخبز الأرخص، وعن كم تبقى في الليل من كثرة القلق.

قالت فاطمة فجأة: «أتعلم؟ أمس رأيت إعلاناً في المترو: وظيفة حارس أمن في مركز تسوق، شرط أساسي: ألا يتجاوز عمر المتقدم الخمسين. قلتُ في نفسي: يا للعجب، حتى الحراسة أصبحت للشباب فقط، كأن اللص سيهرب إذا رأى وجهاً مجعداً». ضحكا معاً، ضحكة قصيرة حادة كسكين يُطعن بها صاحبه ليتأكد أنه لا يزال حياً.

ثم أضافت بصوت أخفض: «ابني في باريس أرسل لي صورة من المظاهرة هناك. ثلاثة ملايين في الشارع، وماكرون يقول إنه يحمي نظام التقاعد. يعني كمن يحرق بيتك ثم يقول لك: لا تقلق، أنا أطفئ النار ببنزين». هذه المرة لم يضحك آدم. شعر فجأة بدوار خفيف، كأن الأرض تميل قليلاً تحت قدميه. وضع يده على صدره، أخذ نفساً عميقاً، ثم قال: «أنا ذاهب إلى مقابلة عمل الساعة العاشرة في سوبرماركت كارفور. يبحثون عن شخص لترتيب الرفوف ليلاً».

نظرت إليه فاطمة طويلاً، ثم قالت بهدوء: «رتّب الرفوف؟ وظهرك؟» أجاب: «وإلا ماذا أفعل؟ أموت جوعاً؟» قالت: «تموت تعباً قبل أن تموت جوعاً، هذا ما يريدونه بالضبط».

خرج آدم إلى الشارع مرة أخرى. المطر بدأ ينهمر الآن، مطر بلجيكي كثيف بارد يتسلل إلى العظام كأنه يحمل رسائل شخصية من السماء تقول: استسلم. لكنه لم يفتح مظلته. تركه يبلل شعره الأشيب، وجهه، معطفه، كأنه يتعمد أن يشعر بشيء خارجي يؤلمه بدل الألم الداخلي الذي لا يتوقف.

في المترو، جلس بجانب شاب يرتدي بدلة أنيقة، يقرأ تقريراً مالياً في هاتفه. لمح آدم عنواناً بارزاً: «BlackRock تحقق أرباحاً قياسية في الربع الثالث». ابتسم الشاب ابتسامة صغيرة راضية، ثم رفع عينيه ورأى آدم ينظر إليه. التقت أعينهما لثانية واحدة فقط، لكنها كانت كافية. الشاب أشاح بوجهه بسرعة، كمن يُمسك متلبساً بجريمة لا يستطيع إنكارها.

وصل آدم إلى المركز التجاري في ضاحية إكسل. المبنى الضخم يضيئ كجوهرة زائفة وسط الرمادي العام. دخل من الباب الخلفي المخصص للعمال، مشى في ممرات طويلة مضاءة بنور فلورسنت قاسٍ يجعل الجميع يبدون مرضى. في غرفة صغيرة بلا نوافذ، جلس أمامه مدير الموارد البشرية، شاب لا يتجاوز الثلاثين، يرتدي ربطة عنق حمراء لامعة كدم طازج.

بدأ الشاب يتكلم بسرعة احترافية: «الوظيفة تتطلب الوقوف ثماني ساعات متصلة، رفع صناديق تصل إلى خمسة وعشرين كيلو، العمل من العاشرة ليلاً حتى السادسة صباحاً، راتب 12.40 يورو للساعة قبل الضرائب». ثم توقف، نظر إلى ملف آدم، وأضاف بنبرة أقرب إلى الشفقة المصطنعة: «لديك خبرة ثمان وثلاثين سنة سائق شاحنة… رائع، لكن هل تستطيع رفع الصناديق؟»

ساد صمت ثقيل. شعر آدم أن السؤال ليس موجهاً إليه حقاً، بل إلى جسده الذي خانه، إلى سنواته التي لم تُحسب، إلى كرامته التي تُباع الآن بثمن بخس. أجاب بهدوء: «سأجرب». قال الشاب: «عظيم، لكن يجب أن نجري اختباراً بدنياً الآن». ثم أشار إلى ممر ضيق يؤدي إلى مستودع بارد.

هناك، أمام كاميرا مراقبة وموظف آخر أصغر سناً، طُلب من آدم رفع صندوقين ثقيلين ثلاث مرات متتالية. في المرة الثالثة، شعر بألم حاد في أسفل ظهره، كأنصل يغرز فجأة. لم يصرخ، فقط أنزل الصندوق ببطء، ثم وقف مستقيماً قدر استطاعته. نظر الشاب إلى زميله، هز كتفيه، ثم قال لآدم: «سنتصل بك».

خرج آدم إلى الخارج. المطر توقف، لكن البرد ازداد. جلس على مقعد قرب موقف الحافلات، أخرج من جيبه قطعة خبز يابسة كان قد احتفظ بها من الصباح، بدأ يأكلها ببطء. مرّت به امرأة عجوز تسحب عربة تسوق مليئة بعلب فارغة، توقفت، نظرت إليه، ثم قالت بلطف قالت: «البرد قاسٍ اليوم». أومأ برأسه. ثم أضافت وهي تمضي: «لكن القلوب أقسى».

بقي جالساً طويلاً. السماء فوق رأسه بدأت تتشكل كسحابة سوداء كبيرة. فجأة، شعر بشيء يتحرك داخله، ليس غضباً بالضبط، بل شيء أعمق، أبطأ، أشد خطراً: شعور بأن الزمن الذي سرقوه منه لم يمت بعد، أنه لا يزال ينبض في مكان ما داخل صدره، ينتظر لحظة ليخرج ويطالب بحقه.

نهض بصعوبة، رمى بقايا الخبز للحمام، ثم بدأ يمشي عائداً إلى البيت. خطواته بطيئة، لكن ثابتة هذه المرة. في عقله صورة واحدة فقط: لافتة كتب عليها يوماً في مظاهرة قديمة: «أعطينا أعمارنا للمجتمع، والآن يريدون كرامتنا». تذكرها فجأة كأنها كُتبت له وحده.

عندما وصل إلى البناية، رأى فاطمة تقف عند الباب، تحمل باقة ورد صغيرة. ناولته إياها وقالت: «هذه لك. ليست ذابلة بعد». نظر إلى الورد، ثم إليها، ثم إلى السماء التي بدأت تنفجر بمطر جديد، أقوى هذه المرة. ابتسم ابتسامة صغيرة، أول ابتسامة حقيقية منذ أسابيع، وقال: «غداً الإضراب الكبير. سأذهب».

أجابت فاطمة: «وأنا معك». ثم أضافت همساً: «لن نموت واقفين في وظيفة، سنموت واقفين في الشارع إذا لزم الأمر، لكن بكرامة».

دخلا معاً إلى البناية. المصعد معطل كالعادة، فصعدا الدرج ببطء، خطوة خطوة، كأنهما يصعدان جبلاً ليس له قمة، لكن له معنى. وفي كل درجة، كان صوت أقدامهما يردد شيئاً لم يجرؤا على قوله بعد بصوت عالٍ: لم ينته الأمر. لم ينته بعد.


2

في تلك الليلة لم ينم آدم بن إبراهيم. ظل جالساً على كرسي المطبخ الخشبي الوحيد الذي لم يبعه بعد، أمامه فنجان شاي نعناع بارد منذ ساعات، وأمام الفنجان ورقة بيضاء كتب عليها بخط مرتجف: «ما تبقى لي من حياة». ليس ملكي». كان البيت صامتاً صمت القبور التي لم تُحفر بعد، صمت يقطعه فقط صوت قطرات المطر المتأخرة تسقط من ماسورة مكسورة في السطح العلوي، كأن السماء نفسها تبكي بطريقتها البلجيكية البطيئة المملة.

كان يحاول أن يتذكر متى بدأ يشعر أنه لم يعد إنساناً بل رقماً في جديداً في جدول إكسل. هل كان ذلك عندما أُجبر على توقيع «عقد مرن» قبل عشر سنوات يسمح للشركة بطرده في أي لحظة؟ أم عندما أُغلقت خطوط الشحن الطويلة واستُبدلت بشاحنات بدون سائقين؟ أم عندما رأى ابنه الأكبر خالد، المهندس الميكانيكي، يعمل حارساً ليلياً في موقف سيارات لأن لا أحد يوظف من تجاوز الخامسة والأربعين؟ كل اللحظات اختلطت في ذهنه حتى صارت كتلة واحدة سوداء ثقيلة تزن أكثر من جسده كله.

في الثالثة فجراً، أضاء ضوءاً خافتاً فوق الموقد، وأخرج من درج المائدة علبة صور قديمة. صور بالأبيض والأسود، بعضها بالألوان الباهتة التي تتلاشى كالذاكرة نفسها. صورة له وهو في الثلاثين، واقف بجانب شاحنته الحمراء اللامعة أمام ميناء أنتويرب، يبتسم ابتسامة من كان يظن أن العمل الشريف يكافأ يوماً. صورة أخرى له ولزوجته الراحلة ليلى في حديقة سينكونتينير، تحمل خالد على كتفيه وهو يضحك حتى تكاد دموع الفرح تسقط. كانت ليلى قد ماتت قبل سبع سنوات من سرطان لم يستطع تأمينه الصحي الخاص تغطية تكاليفه، فدفع هو الثمن من جسده، من نومه، من آخر سنواته التي كان يعتقد أنها ستكون له وحده.

وضع الصور جانباً، ثم أخرج ورقة أخرى: فاتورة كهرباء جديدة مرتفعة بنسبة سبعة وأربعين في المئة «بسبب تكاليف الطاقة المتقلبة»، كما كتبوا بلطف. ضحك ضحكة صامتة هزت كتفيه فقط. تكاليف الطاقة المتقلبة، يا للعجب. هو الذي حمل الفحم والنفط والغاز عبر القارة طوال ثلاثين سنة، يعرف أن التكلفة الحقيقية ليست في السوق، بل في جيوب من يملكون السوق. أولئك الذين لا يعرفون حتى شكل شاحنة من الداخل، ولا رائحة الديزل المحترق، ولا صوت المحرك في الليل الطويل وهو يئن كإنسان متعب.

في الرابعة، سمع طرقاً خفيفاً على الباب. فتح فوجد فاطمة تقف في الممر بمعطف مبلل، تحمل كيساً بلاستيكياً صغيراً. دخلت من دون كلام، وضعت الكيس على الطاولة، فإذا فيه نصف رغيف خبز طازج وجبنة بيضاء ملفوفة في ورق زبدة. قالت: «ابنة أختي أرسلتها من لييج. قالت إن الخبز هناك ما زال يُخبز بالحطب، ليس». جلست قبالته، نظرت إلى الصور المبعثرة، ثم قالت بهدوء: «تذكر يوم كنا نحلم أن نذهب إلى الأندلس معاً بعد التقاعد؟ كنتِ ستقرأيني صور الحمراء وأنا أقرأ لك لوركا».

ابتسم آدم ابتسامة حزينة: «كنتُ سأشتري لكِ وردة حمراء كل يوم من سوق الورد في غرناطة». صمتا قليلاً، ثم أضافت فاطمة: «الآن أبيع الورد الذابل في بروكسل، وأنت تبحث عن عمل في الثلاجة ليلاً. يا لنا من أحلام كبيرة». لم يكن في صوتها مرارة، بل شيء أعمق، شيء يشبه الاستغراب الممزوج بالإهانة الراقية، كمن يُدعى إلى مأدبة فاخرة فيكتشف أنه هو الطبق الرئيسي.

تناولا الخبز والجبنة معاً في صمت. كان طعم الخبز حقيقياً، خبزاً يحمل رائحة نار وحطب ويدين بشريتين، لا خبز المصانع الذي يشبه الكرتون المبلل. قال آدم فجأة: «أتعرفين؟ عندما كنت صغيراً في قريتي قرب حلب، كان جدي يقول لي: الإنسان يولد حراً، ثم يأتي الزمن فيضع في عنقه حبلاً من حرير، فلا يشعر به حتى يشنقه». نظرت إليه فاطمة طويلاً ثم قالت: «جدك كان حكيماً. لكنه لم يعش ليرى الحرير يتحول إلى بطاقة ائتمانية».

في الخامسة والنصف، أطفأ الضوء وخرجا معاً إلى الشارع. كان الظلام لا يزال كثيفاً، لكن هناك ضوء خافت في الأفق يشبه وعدًا كاذباً. مشيا بجانب بعضهما في شارع خالٍ تماماً، صوت خطواتهما الوحيد يتردد بين البنايات العالية كأنهما شبحان يتجوّلان في مدينة ميتة. عند تقاطع «بيليار»، توقفت فاطمة فجأة، أشارت إلى لوحة إعلانية مضيئة على واجهة بنك: صورة رجل وامرأة في الستين يرقصان على شاطئ مشمس، وتحتهما شعار: «استمتع بتقاعدك مع خطتنا الادخارية الجديدة». ضحكت فاطمة ضحكة قصيرة حادة: «انظر، حتى التقاعد أصبح سلعة فاخرة، مثل حقيبة لوي فيتون، لا يستطيع شراءها إلا من لم يحتجها أصلاً».

استمرا في المشي حتى وصلا إلى محطة المترو المركزية. كانت الأبواب مغلقة، لافتة معلقة: «مغلق بسبب إضراب النقابات». ابتسم آدم لأول مرة منذ أيام: «إذن الإضراب الكبير بدأ فعلاً». قالت فاطمة: «اليوم كل شيء سيتوقف. القطارات، المطارات، المدارس، حتى المستشفيات جزئياً. سيتوقفون ليقولوا للعالم إننا ما زلنا أحياء».

جلسا على مقعد حديدي بارد في انتظار أول حافلة عمالية تنقل المتظاهرين. كانا وحدهما تقريباً، لكن مع مرور الدقائق بدأ الناس يتجمعون، وجوه مألوفة من الحي، من المصنع القديم، من السوق، من المدرسة التي أغلقت. كبار سن، شباب، نساء يحملن أطفالاً نائمين على أكتافهن، رجال يرتدون سترات العمل القديمة التي لم يعودوا يحتاجونها. لم يكن هناك زعيم، لا مكبرات صوت، لا شعارات مطبوعة مسبقاً، فقط صمت ثقيل يحمل في طياته غضباً صافياً كالكريستال.

في السادسة إلا ربع، وصلت الحافلة الأولى. صعدوا جميعاً من دون كلام. السائق، رجل في الستين أيضاً، فتح الباب وقال بصوت خشن: «اليوم مجاناً، يا إخوان». تحركت الحافلة ببطء في شوارع فارغة تماماً، كأن المدينة كلها قررت أن تموت قليلاً لتعيش كثيراً. من النافذة، رأى آدم لافتات المحلات مغلقة، أبواب المصارف موصدة، حتى تمثال مانيكن بيس الصغير يبدو وهو يتبول بغضب أكثر من المعتاد.

عندما وصلوا إلى محطة الشمال، كان الجمع قد صار بحراً. مئات الآلاف تحت المطر الغزير، يحملون لافتات مكتوبة بخط اليد، لافتات بالفرنسية والهولندية والعربية والإسبانية والألمانية: «أعطينا أعمارنا، أعيدوا لنا كرامتنا»، «لسنا آلات»، «التقاعد حق وليس رفاهية»، «BlackRock ليست بلجيكا». لم يكن هناك صراخ عالٍ، فقط همهمة عميقة كأن الأرض نفسها تتنفس من جديد.

وقف آدم مذهولاً. لأول مرة منذ سنوات شعر أن جسده ليس ملكه وحده، أنه جزء من جسد أكبر، جسد يتحرك ويتنفس ويرفض أن يموت واقفاً في ثلاجة سوبرماركت. اقتربت منه فاطمة، أمسكت بيده، يدها باردة لكن ثابتة، وقالت: «انظر، يا أبا خالد، هذا هو التقاعد الوحيد الذي بقي لنا: أن نقف معاً قبل أن نسقط وحيدين».

بدأ المطر يشتد، لكن لا أحد تحرك. ظلوا واقفين، كأن الماء يغسلهم من سنوات الاستسلام. فجأة، رفع أحدهم مكبر صوت قديم، وبدأ يغني أغنية عمالية فلمنكية قديمة، فالتصقت بها أصوات أخرى، ثم أخرى، حتى صار صوت مئة وخمسين ألف إنسان يغني معاً تحت المطر، صوت يهز أبواب المفوضية الأوروبية البعيدة، صوت يصل إلى الطوابق العليا حيث يجلس أصحاب البدل الرمادية ويعدون الأرباح.

شعر آدم فجأة أن الألم في ظهره خف قليلاً، أن ركبتيه لم تعودتا تئنّان، أن البرد لم يعد يصل إلى عظامه. أمسك بيد فاطمة أقوى، رفع رأسه إلى السماء، وترك المطر يغسل وجهه تماماً. لم يكن يبكي، لكان فقط يترك الماء يفعل ما لم تستطع دموعه فعله منذ سنوات: أن يعلن أنه ما زال حياً.

في تلك اللحظة بالذات، عرف أن الغد لن يبدأ اليوم. ليس غد التقارير والإحصاءات والأرباح القياسية، بل غد آخر، غد يولد من أقدام متعبة تقف معاً، من أيدٍ متشابكة، من أصوات ترفض أن تُخنق. رفع لافتته الصغيرة التي كتبها في الليل بخط كبير مرتجف: «أنا لست رقماً»، وصرخ بها لأول مرة بصوت عالٍ، فتردد صداه في الجموع، ثم عاد إليه مضاعفاً آلاف المرات.

بقي واقفاً هناك ساعات، حتى غربت الشمس خلف السحب ولم يعد يشعر بالبرد. وعندما بدأ الناس يتفرقون بهدوء في المساء، مشى عائداً إلى البيت مع فاطمة، خطوة بخطوة، غير عابئ بالماء الذي في حذائه ولا بالتعب الذي في عضلاته. عندما وصلا إلى البناية، قالت له فاطمة بهدوء: «غداً سنعود». أجابها: «كل يوم سنعود، حتى يعودوا هم عن ظلمهم، أو حتى نأخذ نحن ما هو لنا».

دخل بيته، خلع معطفه المبلل، جلس على الكرسي نفسه، لكن هذه المرة لم يشعل الضوء. ترك الظلام يحيط به كصديق قديم. ثم أخرج الورقة التي كتب عليها «ما تبقى لي من حياة ليس ملكي»، مزقها ببطء، قطعة قطعة، ورمى القطع في الموقد البارد. لم يعد هناك شيء اسمه «ما تبقى». هناك فقط ما سيأتي، وما سيؤخذ باليد إذا لزم الأمر.

خارج النافذة، كان المطر لا يزال ينهمر، لكن صوته تغير. لم يعد صوت استسلام، بل صوت طبول بعيدة تعلن أن معركة لم تنته بعد قد بدأت لتوها. ونام آدم أخيراً، نوماً عميقاً، لأول مرة منذ سنوات، نوم من يعرف أن الصباح لن يكون كالأمس.


3

استيقظ آدم في اليوم التالي على صوت صفير بعيد، صفير لم يسمعه منذ سنوات: صفير مصنع قديم في ضاحية أندرلخت يعلن بدء الوردية، لكنه اليوم كان يعلن شيئاً آخر تماماً. كان الصفير طويلاً، متكرراً، يتردد بين البنايات كنداء حرب قديم نسيته المدينة. نهض من السرير دون ألم، كأن المطر الذي غمره أمس قد غسل من مفاصله شيئاً أثقل من الماء. ارتدى الملابس نفسها، المبللة قليلاً بعد، لكنه لم يعبأ. كان هناك شيء في الهواء يشبه رائحة الخبز الطازج الممزوجة بدخان الحريق البعيد، رائحة الانتفاضة.

في الممر، وقفت فاطمة عند بابها، تحمل حقيبة قماشية صغيرة فيها زجاجة ماء وعلبة سردين وقطعة خبز. لم تقل صباح الخير، فقط مدت يدها فأمسكها آدم، وخرجا معاً إلى الشارع. كان الشارع لا يزال فارغاً، لكن الفراغ هذه المرة لم يكن فراغ الموت، بل فراغ ما قبل العرس أو ما قبل المعركة، فراغ مشدود ينتظر أن يُملأ بأجساد حية. في نهاية الشارع، وقف شاب طويل نحيل يوزع منشورات مطبوع بخط يد: «اليوم الثاني – لا عمل، لا تسوق، لا مترو – كل الطرق إلى وسط المدينة». أخذ آدم المنشور، قرأه، ثم طواه بعناية ووضعه في جيب معطفه كأنه وثيقة رسمية.

مشيا نحو محطة الجنوب، حيث تجمع الناس في مجموعات صامتة، لا أعلام حزبية، لا مكرفونات، فقط وجوه متعبة وقلوب متيقظة. كان هناك رجل عجوز يحمل لافتة مكسورة من الأمس، مكتوب عليها بالطباشير «أنا ٦٢ وأريد أن أعيش»، والباقي محوته الأمطار. ابتسم له آدم ابتسامة صغيرة، فأجابه العجوز بإيماءة رأس تحمل كل تاريخ الطبقة العاملة في حركة واحدة.

ع.

عندما وصلوا إلى ساحة لويز، كان البحر البشري قد صار محيطاً. لم يعد بالإمكان تمييز وجه من وجه، صوت من صوت. كانوا هناك جميعاً: عمال الموانئ بأيديهم الخشنة، سائقات الحافلات بسترتهن البرتقالية، ممرضات بمعاطف بيضاء ملطخة بالوحل، مدرسون يحملون كتباً قديمة كأنها دروع، مهاجرون من كل لون وكل لسان، متقاعدون مبكرون يرتدون شالات صوفية محبوكة يدوياً، شباب لم يعرفوا يوماً وظيفة دائمة، أطفال على أكتاف آبائهم يحملون لافتات صغيرة كتبوها في المدرسة قبل أن تغلق: «أريد جدي حياً».

وقف آدم مذهولاً. لم يكن يتوقع هذا الحجم. كان يظن أن الأمس كان ذروة، لكن الأمس كان مجرد نفس عميق قبل الغطس. اليوم كان الغطس نفسه. تقدمت امرأة في الخمسين بمكرسي متحرك، تحمل مكبر صوت صغير، وبدأت تتحدث بصوت هادئ لكنه يصل إلى آخر الصفوف: «أنا عملت ٤٢ سنة في مستشفى سان جان… أشتري أدويتي من جيبي الآن… لأن التقاعد لم يعد يكفي حتى للأنسولين… أنا لست هنا من أجلي فقط… أنا هنا من أجل ابنتي التي ستكون مكاني غداً». توقفت، تنفست، ثم رفعت صوتها قليلاً: «نحن لسنا فقراء… نحن مسروقون». ارتفع تصفيق هائل، ليس تصفيق البهجة، بل تصفيق الاعتراف المؤلم.

فجأة، بدأت مجموعة من عمال ميناء أنتويرب يغنون أغنية بحرية قديمة بالهولندية، فالتصق بها عمال السكك الحديدية بأغنية والونية، ثم انضم إليهم عمال البريد بأغنية فرنسية، حتى صار الغناء كتلة صوتية واحدة تزلزل الأرض. شعر آدم أن صدره يتوسع، أن الهواء الذي يستنشقه ليس هواء بروكسل المعتاد، بل هواء جبال لم يرها قط، هواء حر.

تقدمت فاطمة إلى الأمام، تسحب آدم من يده، حتى وصلا إلى منصة خشبية مؤقتة أقامها العمال بأنفسهم. صعدت امرأة شابة تحمل طفلاً نائماً على ظهرها، أمسكت المكرفون وقالت: «أنا أم لثلاثة، أعمل نصف دوام في مطعم، والنصف الآخر أربي أولادي… يريدونني أعمل حتى السبعين… لكن من سيري أولادي؟ من سيعلمهم أن يحبوا الحياة إذا لم أرها أنا يوماً؟» ثم صرخت فجأة بصوت انفجر من أعماقها: «نحن لسنا موارد بشرية… نحن بشر!» ترددت الكلمة في الجموع كرصاصة، ثم تحولت إلى هتاف واحد يهز النوافذ البعيدة: «نحن بشر… نحن بشر… نحن بشر».

في تلك اللحظة، بدأ المطر يهطل مجدداً، لكن لا أحد تحرك. بل بالعكس، بدأ الناس يرفعون وجوههم إلى السماء كأنهم يستقبلون نعمة. رأى آدم رجلاً في السبعين يبكي بهدوء وهو يمسك لافتة مكتوب عليها: «عملت ٥٥ سنة… وما زلت أبحث عن عمل». رأى فتاة في العشرين تحمل لافتة: «أريد أن أعيش لا أن أنجو». رأى مهاجراً أفريقياً يحمل لافتة بالفرنسية المكسورة: «في بلدي قاتلت من أجل الحرية… هنا أقاتل من أجل التقاعد».

فجأة، سمع صوت حوافر خيل. التفت الجميع. كانت الشرطة تقترب ببطء، صفوف من الخيالة، ثم صفوف من سيارات المياه، ثم صفوف من رجال مكافحة الشغب بدرعهم الأسود اللامع. توقف الهتاف لحظة، ثم عاد أعلى، أعمق، كأن الخوف نفسه خاف من هذا الصوت. تقدمت امرأة عجوز تحمل مظلة سوداء، وقفت أمام الخيالة مباشرة، رفعت مظلتها كأنها سيف، وقالت بصوت عالٍ: «إذا أردتم تفرقتنا فادخلوا… لكن اعلموا أنكم تدوسون على والديكم وأمهاتكم». توقفت الخيالة. لم يتحرك أحد من الشرطة. ثم حدث شيء لم يتوقعه أحد: بدأ بعض رجال الشرطة يخفضون دروعهم رويداً رويداً، وبعضهم خلع خوذته، حتى صار هناك صف من الوجوه البشرية يقفصل بين الشعب والسلطة، وجوه متعبة مثل وجوهنا.

في تلك اللحظة بالذات، شعر آدم أن شيئاً انكسر في السماء نفسها. لم يكن المطر، بل كان شيئاً أكبر. رفع يديه إلى الأعلى، صرخ بصوت لم يعرف أنه يملكه: «كفى!» ترددت الكلمة، ثم صارت هتافاً، ثم صارت زلزالاً. تراجعت الشرطة خطوة، ثم خطوتين، ثم توقفت تماماً. لم يعد هناك حاجة للعنف. كان العنف قد هزم بالوقوف وحده.

بقي الجمع حتى المساء. لم يعد أحد إلى البيت. أشعلوا ناراً صغيرة في براميل حديدية، وزعوا الخبز والشوربة التي أحضرتها الجمعيات، جلسوا في دوائر، يحكون قصصهم كأنهم في مجلس عزاء لكرامة مفقودة. حكى آدم قصته للمرة الأولى بصوت عالٍ، حكى عن الشاحنة، عن ليلى، عن خالد، عن الرسالة النصية التي قطعت إعانته. وعندما انتهى، صفق له الجميع، ليس لأنه بطل، بل لأنهم هم هو، وهو هم.

في الليل، عندما بدأ الناس يتفرقون، اقترب منه شاب نحيل يرتدي سترة عمال الميناء، ناوله ورقة صغيرة مطوية وقال: «غداً في السابعة، محطة الشمال، سنقطع الطريق الدائري كله». نظر آدم إلى الورقة، ثم إلى الشاب، ثم إلى فاطمة التي كانت تقف بجانبه. لم يقل شيئاً، فقط أومأ برأسه. كان يعرف أن الغد لن يكون يوماً عادياً. كان يعرف أن المدينة التي نامت اليوم لن تستيقظ على حالها.

مشى عائداً مع فاطمة تحت سماء صافية أخيراً، نجوم قليلة تطل من بين السحب كأنها عيون تراقب. لم يتكلما. لم يكن هناك حاجة. كل شيء قيل في الوقوف، في الصمت، في الغناء، في البكاء المكتوم. عندما وصلا إلى البناية، توقفت فاطمة عند الباب، نظرت إليه طويلاً، ثم قالت بهمس: «هل تخاف؟» أجابها بهدوء: «أخاف؟ أنا خفت طوال حياتي… اليوم فقط بدأت أعيش».

دخل بيته، لم يشعل الضوء، جلسة حاجة. جلس على كرسي المطبخ، أخرج الورقة التي أعطاه إياها الشاب، وضعها أمامه. ثم أخرج قلماً قديماً، وكتب بخط أكبر وأقوى: «اليوم الثالث – لن يمر شيء». وضع القلم، نهض، فتح النافذة على مصراعيها، ترك هواء الليل البارد يدخل، ثم وقف هناك طويلاً ينظر إلى المدينة النائمة التي لم تعد نائمة.

في مكان ما في الأعلى، في الطوابق الزجاجية، كان رجال ببدلات رمادية يجتمعون في غرفة بلا نوافذ، ينظرون إلى شاشات تظهر المدينة من الأعلى، يتبادلون الأرقام، يحسبون الخسائر، يقول أحدهم: «إذا استمر ثلاثة أيام أكثر، ستنهار البورصة». أجاب آخر: «دعهم يتعبون… التعب أفضل سلاح». لكن في تلك اللحظة بالذات، في الأسفل، كان آدم يغلق النافذة بهدوء، يخلع حذاءه، يمد يده إلى الرف العلوي، يخرج سترة عمل قديمة لم يرتديها منذ عشرين سنة، يرتديها، ينظر إلى نفسه في المرآة المشققة، ويبتسم.

لم يكن ابتسامة فرح، بل ابتسامة من عرف أخيراً لماذا وُلد. ثم أطفأ النور، ونام نوم الأطفال، لأنه في الصباح سيكون هناك يوم جديد، ليس يوم عمل، ولا يوم انتظار، بل يوم يبدأ فيه الزمن يعود إلى أصحابه الحقيقيين.


4

في اليوم الثالث لم تعد بروكسل مدينة، بل نبض واحد كبير يضخ فيه الدم الحار بعد عقود من التجمّد. استيقظ آدم قبل أن يرن المنبه الذي لم يعد يملكه، استيقظ على صوت قلوب الجيران وهي تطرق الجدران طرقاً خفيفاً منتظماً كأن البناية كلها تحولت إلى طبلة حرب. ارتدى سترة العمل القديمة التي لا تزال تحمل رائحة الديزل والعرق والحياة، أمسك بالخبزة التي خبزتها فاطمة في فرن الحي الجماعي فجراً، وخرج دون أن يغلق الباب. لم يعد هناك شيء يُسرق، كل شيء كان قد سُرق منذ زمن، واليوم جئنا لنسترد.

في الشارع كان الهواء مختلفاً، ثقيلاً برائحة الدخان الممزوج بالمطر والأمل. لم تتحرك سيارة واحدة، لم تعمل مصباحة مرور، لم يفتح متجر، حتى الكلاب توقفت عن النباح كأنها تعرف أن الصوت الوحيد المسموح اليوم هو صوت البشر الذين قرروا أن يكونوا بشراً. مشى آدم بجانب فاطمة، وخلفهما صفوف من النساء والرجال والأطفال، يحملون لافتات جديدة كتبوها في الليل على أكياس الدقيق الفارغة وعلى أغطية الأسرّة القديمة: «الزمن لنا»، «العمر ليس سلعة»، «أوقفوا بيع أعمارنا».

عندما وصلوا إلى الطريق الدائري كان قد سبقهم عشرات الآلاف. شكلوا سلسلة بشرية تمتد من جسر هال إلى حدود أوكل، أجساد متلاصقة، أكتاف تلتصق بأكتاف، أيدٍ تمتد لتمسك أيدي غرباء فتصبح أيدي إخوة. جلسوا في وسط الطريق، ليس عرقلة، بل احتلالاً سلمياً، احتلالاً للزمن نفسه. الشاحنات الكبيرة التي كان آدم يقود مثلها يوماً وقفت في طوابير طويلة، أضواؤها الخافتة ترتعش في الضباب، سائقوها نزلوا وانضموا إلى الجالسين، لأن كثيرين منهم تلقوا الرسالة نفسها: إعانتك مقطوعة، عمرك انتهى، ابحث عن عمل أو مت.

في منتصف الدائرة وقفت فاطمة على صندوق خشبي، رفعت صوتها بدون مكرفون، صوتها الذي علّم أجيالاً اللغة الفرنسية الآن يعلّم أجيالاً أخرى لغة الكرامة: «أيها الإخوة والأخوات، نحن لسنا هنا لنطلب، نحن هنا لنأخذ ما هو لنا أصلاً. أخذاً… أعمارنا، أحلامنا، أطفالنا، أحفادنا… كلها سُرقت باسم (الإصلاح) و(الاستدامة) و(المسؤولية الفردية)… لكن المسؤولية الحقيقية هي أن نموت واقفين لا راكعين!»

ارتفع التصفيق كموجة، ثم تحول إلى هتاف واحد يهز الجسور: «كرامة… كرامة… كرامة!» شعر آدم أن الأرض تحت قدميه ترتجف، ليس خوفاً، بل لأن مئات الآلاف من الأقدام بدأت تضرب الأسفلت في إيقاع واحد، إيقاع قلب عملاق استيقظ أخيراً من سباته.

في الحادية عشرة ظهرت المروحيات في السماء، تحلق منخفضة، ترمي منشورات بيضاء صغيرة تسقط كأوراق خريف متأخر. التقط آدم واحدة، قرأ: «عودوا إلى أعمالكم… الإضراب غير قانوني… الحكومة لن تتفاوض تحت الضغط». ضحك ضحكة عالية، أول مرة في حياته، ثم رفع المنشور عالياً ومزقه أمام الكاميرا التي تحلق فوق رأسه، فتبعه الجميع، فصارت السماء تمطر ورقاً ممزقاً يشبهت كثلج أسود.

في الثانية عشرة جاءت سيارات المياه، لكن السائقين رفضوا تشغيل الخراطيم. نزل أحدهم من السيارة، خلع خوذته، وقال في المكرفون الذي سرقه من ضابط: «أنا ابن عامل مناجم من شارلروا… أبي مات في المنجم وأنا في الثامنة عشرة… لن أرش الماء على إخوتي». ثم فتح الباب الآخر وانضم إلى الجالسين، فتبعه الباقون. لم يعد هناك شرطة وشعب، صار هناك شعب فقط، شعب يقف في وجه آلة صدئت فجأة.

في الثالثة بعد الظهر بدأت الأخبار تنتشر كالنار في الهشيم: باريس مشلولة، مدريد مشلولة، روما مشلولة، برلين نصف مشلولة، حتى أمستردام وستوكهولم بدأتا. كانت بروكسل قد أشعلت شرارة لم يعد بالإمكان إطفاؤها. جلس آدم على الأسفلت، أخرج من جيبه صورة ليلى القديمة، وضعها أمام عينيه، ثم قبلها بهدوء وقال لها في سرّه: «انظري يا ليلى… اليوم نسترد السنوات التي سرقوها منا… اليوم نعيش».

في الخامسة مساءً وصلت الوفود من المدن الأخرى، عمال ميناء جنوة، عمال سيارات تورينو، عمال مناجم أستورياس، حتى عمال من وارسو ولشبونة. جلبوا معهم خبزاً وزيتوناً وجبنة ونبيذاً، وزعوه على الجميع، فصارت الدائرة مائدة كبيرة ممتدة على كيلومترات. أشعلوا النيران في براميل، غنوا، بكوا، ضحكوا، رقصوا رقصة لم يرقصها أحد منذ عقود، رقصة التحرر البطيء.

في الثامة حلّ الظلام، لم يتحرك أحد. صارت الطريق الدائرية مخيماً ضخماً مضيئاً بالنيران والمصابيح اليدوية. جلس آدم بجانب فاطمة، أخرج من جيبه علبة سجائر قديمة لم يفتحها منذ سنوات، أشعل سيجارة، نفث الدخان في الهواء البارد، ثم قال بهدوء: «أتذكرين يوم كنا نقول إن الثورة تحتاج إلى شباب؟» أجابت فاطمة وهي تنظر إلى الوجوه المضيئة حول النار: «اليوم الشباب هم نحن… نحن الذين بقي لنا أقل، صرنا أكثر استعداداً لنعطي الكل».

في العاشرة ليلاً بدأت الأخبار الرسمية تنهار. القنوات التلفزيونية التي كانت تسمي الإضراب «فوضى غير مسؤولة» بدأت تعرض صوراً مباشرة للطريق الدائري المضيء، ومقدمو الأخبار يتلعثمون وهم يقرأون الأرقام: انخفاض البورصة البلجيكية ٨٪، ثم ١٢٪، ثم ١٨٪. في الطوابق العليا كان الرجال ذوو البدلات الرمادية يتعرقون، يتصلون ببعضهم، يهمسون: «لا يمكننا الاستمرار… سينهار كل شيء». لكن في الأسفل لم يكن أحد يهتم بالبورصة، كانوا يغنون أغنية قديمة تقول كلماتها: «سنموت ونحن أحرار… ولن نعيش عبيداً».

في الحادية عشرة والنصف حدث ما لم يتوقعه أحد: أضاءت أن أضواء سيارة سوداء فارهة في نهاية الطريق، نزل منها رجل في بدلة أنيقة، يحيط به حراس، تقدم نحو الجالسين، توقف على بعد أمتار، ثم رفع مكرفوناً صغيراً وقال: «أنا وزير الرفاه… الحكومة مستعدة للتفاوض…». لم يكمل جملته. ارتفع صوت واحد من مئة وخمسين ألف حلق: «لا تفاوض… إلغاء… إلغاء كل القرارات… الآن!» ثم ساد صمت ثقيل، صمت أقوى من أي صراخ. نظر الوزير إلى الحراس، ثم إلى البحر البشري، ثم أشاح بوجهه وعاد إلى السيارة بهدوء. لم يعد أحد يخافهم.

في الثانية عشرة منتصف الليل بدأ الناس يغنون النشيد الوطني البلجيكي، لكن بكلمات جديدة كتبها أحدهم في الليل على ورقة خبز: «يا بلجيكا العزيزة… أعيدي لنا أعمارنا… نحن أبناؤك المسروقون… سنبقى واقفين حتى تعودي». انتشرت الكلمات من فم إلى فم، من نار إلى نار، حتى صار الطريق الدائري كاتدرائية ضخمة مفتوحة على السماء.

بقي آدم وفاطمة جالسين حتى الفجر. لم يشعرا بالبرد، لم يشعرا بالجوع، لم يشعرا بالتعب. كان هناك دفء ينبعث من الأجساد المتلاصقة، من الأيدي الممسكة، من الأنفاس المشتركة. عندما بدأ ضوء الصباح يتسلل من بين السحب، وقف آدم، نظر إلى السمة، ثم إلى فاطمة، وقال بصوت هادئ لكنه يصل إلى آخر الصفوف: «اليوم الرابع سيبدأ الآن… لكن هذه المرة لن ينتهي».

ثم فعل شيئاً لم يفعله منذ أربعين سنة: رفع قبضته عالياً، وصرخ بكل ما أوتي من قوة: «العمر لنا!» ترددت الكلمات، فصارت هتافاً، فصارت زلزالاً، فصارت نبوءة. وفي تلك اللحظة عرف الجميع، من أقصى الطريق الدائري إلى أبعد قرية في الأردين، أن شيئاً قد تغير إلى الأبد.

لم يعد هناك رجوع. لم يعد هناك خوف. لم يعد هناك «ما تبقى من حياة». كان هناك فقط حياة كاملة، حياة تبدأ الآن، حياة تُؤخذ باليد، بالقلب، بالصوت، بالوقوف معاً حتى تنحني السماء نفسها وتعيد ما سرقته.

ووقف آدم هناك، في قلب الدائرة، في قلب النبض، في قلب أوروبا المتدد، وابتسم ابتسامة طفل ولد لتوّه. لأنه، لأول مرة في حياته، كان حراً تماماً.

5

في اليوم السابع، توقّف الزمن عن كونه خطّاً مستقيماً. صار دائرةً واسعةً تحيط ببروكسل، دائرةً من أجساد لا تتحرك من مكانها، فصار الثبات هو الحركة الأعظم. لم تعد الأيام تُحسب بالتواريخ، بل بدرجة الدفء الذي ينبعث من كفٍّ تمتدّ لتمسك كفّاً أخرى، وبارتفاع النار في البراميل، وبعددفء الخبز الذي يخرج من أفران الحيّ كل فجر كأنه معجزة متجدّدة.

آدم لم يعد ينام في بيته منذ اليوم الثالث. صار سريره قطعة أسفلت دافئة بجانب برميل مشتعل، ووسادته ذراع فاطمة، وغطاؤه معطف عامل ميناء من زيبروج لم يعد يعرف اسمه لكنه صار اسمه «أخي». كانوا يتناوبون النوم ساعتين ساعتين، يستيقظون على صوت طفل يبكي فيحملونه، أو على صوت عجوز يئن فيسندونه، أو على صوت أغنية جديدة تصل من لييج أو من نامور أو من لوكسمبورغ، فيقفون ليصفقوا لها كأنها جيش عائد منتصر.

في صباح اليوم السابع، انقشعت الضباب وترك السماء صافية صقيلة كمرآة مكسورة. وقف آدم على صندوق خشبي، نظر إلى البحر البشري الذي لم يعد بحراً بل قارة، ثم رفع صوته لأول مرة منذ بداية الاعتصام بكلام طويل، ليس خطبة، بل اعتراف:

«أيها الإخوة والأخوات… أنا آدم بن إبراهيم… عمري ثمان وخمسون سنة… عملت منها ثمان وثلاثين في الطرقات… حملت بضائعكم وأحلامكم وديونكم على ظهري… وفي النهاية أرسلوا لي رسالة نصية تقول إنني انتهيت… انتهت صلاحيتي… كأنني علبة زبادي في سوبرماركت… لكنني اليوم أقف هنا… وأقول لكم… نحن لم ننتهِ… نحن بدأنا… بدأنا نعيش… بدأنا نتنفس… بدأنا نكون بشراً… وإذا أرادوا أن يأخذوا أعمارنا… فليأتوا ويأخذوها من أجسادنا… وهم يعرفون الآن أن أجسادنا لم تعد ملكهم».

ساد صمت مطبق، ثم انفجر التصفيق كأن السماء انشقت. وبكى رجال لم يبكوا منذ طفولتهم، وضحك نساء لم يضحكن منذ جنازات أزواجهن، واحتضن أطفال آباءهم كأنهم يتأكدون أنهم ما زالوا موجودين.

في هذا العالم.

في الظهر، وصلت شاحنة كبيرة من ميناء أنتويرب، فتحت أبوابها، فإذا فيها خيام وأغطية ومواد غذائية وأهم من كل ذلك مولد كهربائي صغير وشاشة عرض. نصبوها في ساعة، وفي المساء أضاءت الشاشة لأول مرة منذ بداية الاعتصام: صور مباشرة من باريس، من مدريد، من أثينا، من لشبونة، من برلين، من روما. كل عاصمة تضيء بنفس النار، نفس اللافتات، نفس الوجوه المتعبة المشرقة. وعلى الشاشة ظهر وجه امرأة إسبانية تبكي وتقول: «بروكسل علمّتنا أن الكرامة معدية… شكراً لكم… من مدريد نقول لكم: لن نعود حتى ننتصر».

فارتفع الصوت من ملايين الحناجر في وقت واحد، عبر القارة، صوت واحد: «لن نعود… لن نعود… لن نعود».

في تلك الليلة، حدث ما لم يتوقعه أحد: بدأت الأضواء في الأبنية العالية حول الدائرة تنطفئ واحداً واحداً. لم يكن عطلاً، بل كان عمال الكهرباء في الشركات يقطعون التيار عن المكاتب الفارغة وعن البنوك وعن المقرات الحكومية، ويحوّلون الكهرباء إلى الطريق الدائري. صارت المدينة كلها مظلمة إلا دائرة النار الواسعة التي تضيء السماء كأنها قلب أحمر ينبض في الليل.

جلس آدم بجانب فاطمة، أخرج من جيبه ورقة صغيرة كتب عليها بخط يده منذ أيام: «ما تبقى لي من حياة ليس ملكي». نظر إليها طويلاً، ثم ألقاها في النار. احترقت الورقة ببطء، وارتفعت شرارة صغيرة إلى السماء، فتبعها ملايين الشرارات من ملايين الأوراق التي ألقاها الناس في النيران: فواتير، رسائل قطع الإعانة، عقود عمل مؤقتة، تقارير طبية، إشعارات طرد، كل ما كان يربطهم بالعبودية القديمة صار رماداً يتطاير في الريح.

في الفجر، وصلت أخبار أكبر: الحكومة البلجيكية أعلنت تعليق كل «الإصلاحات» مؤقتاً، ودعت إلى حوار وطني. لكن لا أحد تحرك. لا أحد صفق. لا أحد صدّق. رفع شاب مكرفوناً وقال: «نحن لا نريد حواراً… نحن نريد إلغاءً… إلغاءً كاملاً… وإلا بقينا هنا إلى الأبد». فصار الهتاف الجديد: «إلى الأبد… إلى الأبد… إلى الأبد».

في اليوم العاشر، بدأت الطائرات لا تقلع من مطار زافنتيم، وبدأت المصانع لا تعمل، وبدأت الأبناك لا تفتح أبوابها، وبدأت المدينة كلها تنبض بنبض واحد. وفي اليوم الثاني عشر، وصلت رسالة نصية جديدة إلى هاتف آدم، لكنها هذه المرة من رقم مجهول: «كل القرارات أُلغيت… عُد إلى بيتك… لقد انتصرتم». لم يقرأها لأحد. فقط أطفأ الهاتف، ورماه في النار أيضاً.

في اليوم الخامس عشر، بدأ الناس يغادرون، ليس لأنهم استسلموا، بل لأنهم انتصروا. غادروا بهدوء، يحملون لافتاتهم كأعلام انتصار، يتركون وراءهم براميل فارغة وأغطية محترقة ورائحة خبز ودخان وكرامة. مشى آدم وفاطمة في الشارع الفارغ الآن، لكن المدينة التي استيقظت أخيراً. لم يتكلما. لم يكن هناك حاجة.

عندما وصلا إلى البناية، صعدا الدرج ببطء، دخلا شقة آدم، جلسا على الأرض لأن الكراسي بدت صغيرة جداً بعد كل هذا الاتساع. فتح آدم النافذة، نظر إلى المدينة التي لا تزال تتنفس بهدوء، ثم قال: «انتهى الفصل الأول». ابتسمت فاطمة ابتسامة طويلة وقالت: «لا… بدأت الحياة فصلاً جديداً… ونحن لم نعد أبطالاً… صرنا بشراً».

ثم أمسكت يده، وضعتها على صدرها، وقالت: «اسمع… هذا قلبي… يضخ دماً جديداً… دمك أنت… دمهم جميعاً». بكى آدم بهدوء، ليس حزن، بل فرح كبير جداً لا يحتمله الصوت. ثم نهض، فتح الباب، وخرج إلى الشارع مرة أخرى، لأنه عرف أن البيت لم يعد جدراناً أربعة، بل ملايين الأقدام التي وقفت معاً، وملايين الأيدي التي تشابكت، وملايين القلوب التي قالت في وقت واحد: كفى.

وبقي آدم يمشي في المدينة التي لم تعد مدينة، بل وطن جديد ولد من تحت الأسفلت، وطن لا يعرف فيه أحد اسمه «التقاعد» بل يعرف فقط اسمه «الحياة». وكلما مرّ ببرميل محترق أو بغطاء مرمي أو بقطعة قماش كتب عليها «كرامة»، كان يبتسم، لأنه عرف أن هذه البقايا ليست نفايات، بل بذور.

واستمر يمشي، واستمرت فاطمة تمشي بجانبه، واستمر الناس يمشون خلفهما، ليس إلى بيوتهم، بل إلى حياة جديدة لم يعودوا يخافون من نهايتها، لأنهم، لأول مرة، عاشوها كاملة.

وانتهى الفصل الأول من الرواية، لكن الحكاية لم تنتهِ، بل بدأت.


6

بعد ثلاثة أشهر من اليوم الذي أضاءت فيه بروكسل كلها بنار واحدة، عاد الصمت إلى الشوارع، لكنه لم يعد صمت القبور، بل صمت الجنين في الرحم قبل الولادة، صمتٌ مشدود، مكتظ بالحياة.

آدم بن إبراهيم لم يعد يعرف كيف ينام تحت سقف. كان يستيقظ في الرابعة فجراً، يخرج إلى الشرفة، ينظر إلى شارع «دو لا لوا» الذي صار نظيفاً بشكل غريب، كأن المدينة اغتسلت وارتدت ثوباً جديداً. لا إعلانات مصرفية على الجدران، لا سيارات فارهة تصرخ بمحركاتها، لا رجال بدلات يركضون وهم يحتسون قهوة بثمانية يورو. فقط أطفال يلعبون بالكرة في منتصف الشارع، وعجائز يجلسون على مقاعد خشبية جديدة صنعها شباب الحي بأيديهم، ونساء يعلقن الغسيل على حبال ممدودة بين البنايات كأعلام سلام.

كانوا قد ألغوا كل شيء في النهاية. لم يكن إلغاءً جزئياً، ولا «تعليقاً مؤقتاً»، بل إلغاءً كاملاً، مدوّياً، مكتوباً بخط كبير على صفحات الجرائد التي لم تعد تبيع إلا الحقيقة: عودة سن التقاعد إلى الستين، ثم إلى الثمانية والخمسين بعد ضغط إضرابات أخرى، إعادة كل الإعانة قُطعت، ضمان دخل أدنى لكل من تجاوز الخمسين، وأهم من ذلك: قانون جديد يمنع أي صندوق استثمار أجنبي من امتلاك أكثر من خمسة بالمئة من أي شركة بلجيكية حيوية. كتبوا القانون في أسبوع، صوتوا عليه في يوم واحد، ووقّعه رئيس الوزراء بيد مرتجفة أمام كام كاميرات العالم.

لكن آدم لم يعد يقرأ الجرائد. كان يعرف أن النصر الحقيقي لم يكن في القانون، بل في شيء أعمق، أبطأ، أكثر عناداً: في عيون الناس التي لم تعد تنظر إلى الأرض.

في صباح يوم الأحد الأول من الربيع، وقفت فاطمة عند باب شقته تحمل سلة قش مليئة بالخبز الطازج والجبنة والزيتون الأخضر الكبير الذي أحضره ابن أختها من قرية في الأطلس. قالت له فقط: «اليوم سنذهب إلى البحر». لم يسألها إلى أي بحر، لأنه عرف أنها لا تقصد أوستند ولا كنوك، بل بحراً آخر، بحر الزمن الذي استرددناه.

مشيا إلى محطة الشمال، صعدوا قطاراً أحمر قديماً أعيد طلاؤه بألوان زاهية، قطار يعمل الآن بالمجان كل يوم أحد «بقرار شعبي»، كما كتبوا على لافتة خشبية معلقة فوق الباب. في القطار كانوا جميعاً: العجائز، الأمهات، الشباب، الأطفال، وكلاب الحي التي صارت تركب مع أصحابها دون أن يدفع أحد يورو واحداً. جلس آدم بجانب النافذة، وضع رأسه على كتف فاطمة، ونام نوماً عميقاً لأول مرة منذ عقود، نوماً بلا أحلام لأن الحلم كان قد صار يقظة.

في أوستند كان البحر ينتظرهم. لم يكن بحر السياح والبطاقات البريدية، بل بحرٌ خشن، رمادي، عاصف، يصرخ بصوت عالٍ كأنه يريد أن يقول شيئاً لم يستطع قوله منذ قرون. خلع آدم حذاءه، مشى على الرمل البارد، ثم دخل الماء حتى ركبتيه، ثم حتى خصره، ثم حتى صدره، ووقف هناك طويلاً، يترك الأمواج تضربه، تغسل منه بقايا الخوف، بقايا الرسائل النصية، بقايا السنوات المسروقة.

اقتربت فاطمة، أمسكت يده، ودخلت معه. لم يتكلما. بقيا واقفين والموج يضربهما حتى ابتلّت ملابسهما تماماً، حتى صاراارت أجسادهما ثقيلة بالماء وخفيفة بالحرية في آن. ثم خرجا، جلسا على الرمل، وأكلا الخبز والجبنة وشربا من زجاجة نبيذ أحمر أحضرها عامل ميناء من بوردو كان قد انضم إلى الاعتصام في الأيام الأخيرة.

قالت فاطمة فجأة: «أتذكر يوم كنا نقول إننا سنسافر إلى الأندلس؟» أجابها آدم: «لقد سافرنا… سافرنا إلى داخل أنفسنا… ووجدنا هناك قارة». ضحكت ضحكة طويلة، صافية، كأنها طفلة، ثم قالت: «لكنني ما زلت أريد أن أرى غرناطة». ابتسم آدم، أخرج من جيبه ورقة صغيرة مكتوب عليها بخطبعاً جديداً: تذكرة قطار إلى مالقا، ذهاباً وإياباً، مفتوحة التاريخ. قال: «اشتريتها البارحة… من مال التعويض الذي أرسلوه أخيراً… قليل، لكنه يكفي لنرى البحر الآخر».

في الأسابيع التالية، صار آدم وفاطمة يسافران كثيراً. ذهبا إلى قرطبة، ورأيا المسجد الكبير وهو يضيء في الليل كأنه قلب أحمر آخر. ذهبا إلى مراكش، واشترت فاطمة وردة حمراء كل يوم من سوق الورد، ووضعتها في شعرها حتى صار رأسها حديقة. ذهبا إلى لشبونة، ورقصا في شارع ضيق على نغمة فادو عجوز كان يغني عن البحر والحنين. ذهبا إلى سراييفو، ووقفا أمام قبر غسان كنفاني في بيروت بعد أن طارا إليها، ووضعا وردة حمراء على الضريح وقالا: «علّمنا أن نموت واقفين… فنحن اليوم نحيا واقفين».

وفي كل مدينة كانوا يلتقون بأناس يعرفونهم دون أن يلتقوا بهم من قبل. كانوا يرون في عيونهم نفس النار الهادئة، نفس الابتسامة التي تقول: نحن انتصرنا، ليس على حكومة أو على صندوق استثمار، بل على الخوف نفسه. كانوا يتبادلون الخبز والقصص، ويعودون إلى بروكسل حاملين بذوراً جديدة، بذور زيتون من فلسطين، بذور برتقال من صقلية، بذور ورد من دمشق قبل الحرب.

في أحد الأمسيات، عاد آدم إلى شقته، فتح الشرفة، جلس على كرسي خشبي جديد صنعه بنفسه، وأخرج من جيبه دفتراً صغيراً بدأ يكتب فيه منذ أيام الاعتصام. كتب بخط كبير واضح:

«كنت أظن أنني خسرت كل شيء عندما قطعت إعانتي… لكنني اليوم أعرف أنني لم أخسر شيئاً… لم أجد نفسي إلا عندما وقفت مع الآخرين… وجدت أن الكرامة ليست كلمة تُقال في البرلمانات… بل نار تُشعل في الصدور… نار لا تخيف، بل تدفئ… نار لا تحرق، بل تضيء… نار إذا أطفأها أحد، أشعلها ألف… وإذا أشعلها ألف، صارت شمساً لا تغرب».

أغلق الدفتر، نظر إلى السماء حيث كانت النجوم تطل بلا خوف، ثم سمع صوت فاطمة تناديه من الشرفة المقابلة: «غداً سنذهب إلى الحديقة… أريد أن أزرع الورد الذي أحضرته من غرناطة». ابتسم، أجابها: «وسأصنع لك مقعداً خشبياً تحت الشجرة… لنقرأ فيه معاً كل ما لم نستطع قراءته طوال حياتنا».

وفي الليل، قبل أن ينام، فتح آدم نافذته على مصراعيها كما اعتاد منذ الاعتصام، وترك هواء الربيع يدخل، هواء يحمل رائحة الياسمين التي زرعها الأطفال في كل زاوية. ثم أطفأ النور، ليس خوفاً من الفاتورة، بل لأنه لم يعد بحاجة إلى نور صناعي. كان النور قد صار داخله، وداخل فاطمة، وداخل كل من وقف معهم، نور لا ينطفئ، لأنهم، لأول مرة، عاشوا ما يكفي ليحرقوا كل الظلام.

وفي الصباح التالي، استيقظ على صوت أطفال يلعبون في الشارع، وصوت عجوز يغني أغنية قديمة عن الحرية، وصوت فاطمة تضحك في المطبخ وهيئ القهوة. نهض، مشى حافياً إلى الشرفة، نظر إلى المدينة التي استيقظت أخيراً، وهمس لنفسه: «انتهى الفصل الأول… بدأت الحياة».

وأغلق النافذة بهدوء، ليس لأن البرد انتهى، بل لأنه لم يعد يخاف من أي برد بعد اليوم. ثم خرج إلى الشارع، حيث كانت فاطمة تنتظره بابتسامة، ويد تمتد إلى يده، وقلب يعرف أخيراً أن الزمن، كل الزمن، قد عاد إليهم، ليس كهدية من أحد، بل كحق أخذوه بأيديهم، وبقلوبهم، وبصوتهم الذي لم يعد يصمت أبداً.

وبدأ الفصل الثاني من الحياة.

الفصل الثاني: حراس النار
(٢٠٢٧٢٠٤٥، سنوات الحراسة والنسيان والعودة)




1

بعد عامٍ ونصف من اليوم الذي أضاءت فيه بروكسل كلها بنارٍ واحدة، عاد الشتاء إلى المدينة، لكنه لم يعد يحمل في طيّاته البرد القديم. كان شتاءً خفيفاً، رطب الثلج، كأن السماء نفسها تتردد في إيذاء من أثبتوا أنهم أقوى من البرد. ومع ذلك، كان هناك رجلٌ واحد في حي مولنبيك لا يزال يرتجف كلما مرّت به ريحٌ شمالية: آدم بن إبراهيم.

لم يكن الرجفة من البرد. كان من شيء أعمق، أبطأ، أشدّ صمتاً: شعورٌ غامض بأن النصر الذي انتزعوه بأظافرهم قد بدأ يتسلل من بين أصابعهم كالماء. لم يكن الأمر في القوانين، تلك بقيت صلبة كالصخر الذي حفرت فيه أسماؤهم. كان في شيء آخر، في الهواء نفسه، في النظرات التي بدأت تتجنب بعضها، في الابتسامات التي صارت أسرع، في الصمت الذي بدأ يتسرب إلى المقاهي التي كانت تغني حتى الفجر.

في صباح يوم ثلاثاء من ديسمبر، استيقظ آدم على صوت طرقٍ خفيفٍ على الباب. فتح فوجد فاطمة تقف في الممر، وجهها أصفر قليلاً، تحمل في يدها ورقة مطبوعة بألوان المفوضية الأوروبية الزرقاء والذهبية. لم تقل شيئاً، فقط ناولته الورقة. قرأ العنوان بصوتٍ خافت: «مشروع توجيه جديد لإصلاح أنظمة التقاعد في الدول الأعضاء: المرحلة الثان ٢٠٢٧٢٠٣٥». ثم قرأ السطر الأول: «نظراً للتحديات الديموغرافية المستمرة والحاجة إلى ضمان الاستدامة المالية…». توقف. لم يستطع المتابعة. شعر فجأة بأن الجدران تضيق، بأن الهواء يثقل، بأن كل الليالي التي قضاها على الأسفلت قد تتحول إلى حلمٍ يتلاشى مع أول ضوء فجر كاذب.

جلسا معاً على أريكة قديمة في الصالة، لم يتكلما طويلاً. ثم قالت فاطمة بهدوء مميت: «جاؤوا من الباب الخلفي هذه المرة… ليس بقانون بلجيكي، بل بتوجيه أوروبي… يقولون إن علينا (التوافق) مع المعايير الجديدة وإلا ستُقطع الأموال الأوروبية عنا». نظر آدم إلى الورقة مرة أخرى، فرأى في أسفل الصفحة توقيعاً صغيراً مألوفاً: لجنة خبراء مستقلة برئاسة السيد لورانس فينك، ممثل مجموعة بلاك روك في المجلس الاستشاري للمفوضية.

ضحك آدم ضحكة قصيرة جافة، كأن عظماً انكسر في صدره. ثم قال: «كنت أعرف… كنت أعرف أنهم لن يتركونا… لكنني كنت أظن أننا اشترينا عشر سنوات على الأقل… لم تمر حتى سنتان». ساد صمت ثقيل، صمتٌ يشبه ذلك الذي سبق العاصفة الأولى، لكن أثقل، لأنه كان صمت من خاض المعركة وعرف طعم النصر ثم رأى شبحه يبتسم له من بعيد.

في اليوم التالي، ذهب آدم إلى «بيت الشعب» في شارع فيفييه، المقر الجديد الذي أسسوه بعد الاعتصام ليكون نادياً ومكتبة ومطبخاً جماعياً ومكاناً للاجتماع. كان المكان مكتظاً بالوجوه القديمة: عمال الموانئ، الممرضات، سائقات الحافلات، الشباب الذين كانوا أطفالاً في الاعتصام وصاروا الآن في العشرين. جلسوا في دائرة كبيرة، وضعوا الورقة في الوسط كأنها جثة عدو قتيل، ثم بدأوا يقرأونها بصوت عالٍ، سطراً سطراً، كأنهم يقيمون جنازة ثانية لكرامتهم.

تحدث أحدهم، شاب يدعى يونس، كان في الثامنة عشرة أثناء الاعتصام، والآن يدرس الهندسة في جامعة بروكسل الحرة: «هذه المرة لن يجرؤوا على قطع الإعانات مباشرة… سيقطعون الدم… سيقولون لنا: إذا لم نرفع سن التقاعد تدريجياً إلى السبعين بحلول ٢٠٤٠، ستتوقف أموال الإعادة الإعمار الأوروبية… المستشفيات، المدارس، الطرق… كل شيء». ثم أضاف بصوت أجش: «يعني يضعون مسدساً على رأس أطفالنا ويقولون لنا: اقتلوا أنفسكم أو نقتل أولادكم».

ساد صمت آخر، أثقل. ثم وقفت امرأة عجوز تدعى ماري-روز، كانت ممرضة في مستشفى إيراسم، وتحدثت بصوت يرتجف لكنه صلب كالفولاذ: «أنا لا أخاف عليّ… أنا أخاف على حفيدتي… إذا قبلنا اليوم، ستصبح هي عبدة غداً… وإذا رفضنا، سيقولون إننا أنانيون… لكنني تعلمت شيئاً واحداً في الاعتصام: الأنانية الحقيقية هي أن نترك أطفالنا يرثون عبوديتنا».

في تلك الليلة، لم ينم أحد في بيته تقريباً. تجمعوا في بيت الشعب، أشعلوا المدفأة، أخرجوا النبيذ القديم الذي كانوا يحتفظون به لمناسبة كبرى، لكن المناسبة جاءت حزينة. شربوا، غنوا، بكوا، ثم بدأوا يخططون. لم يكن التخطيط صاخباً هذه المرة، بل هادئاً، دقيقاً، كأنما ينسجون شبكة عنكبوت من نور.

قال آدم في النهاية، وكان صوته أعمق من أي وقت الاعتصام: «لقد انتصرنا مرة بالأجساد… هذه المرة سننتصر بالعقول… سنذهب إلى كل قرية، إلى كل مصنع، إلى كل مدرسة… سنحكي القصة… ليس قصة ما خسرناه، بل قصة ما كسبناه… وكيف يمكن أن يُسرق منا مرة أخرى إذا سكتنا… سنحوّل كل مواطن إلى حارساً لكرامته… وكل طفل إلى شاهد على أن أجداده لم يركعوا».

في الأيام التالية، بدأت القصة تنتشر كالنار في الهشيم، لكن ليس في شكل مختلف. لم يعد هناك حاجة لإضراب شامل، لأن الإضراب كان قد صار حالة دائمة داخل كل قلب. بدأ الناس يرفضون العمل الإضافي، يرفضون العقود المؤقتة، يرفضون الصمت. بدأ الأطباء يكتبون تقارير طبية جماعية عن «متلازمة الإرهاق المزمن الناتج عن الخوف من المستقبل»، بدأ المدرسون يدرسون يعلمون الأطفال في المدارس قصة الاعتصام كأنها ملحمة وطنية، بدأت الأمهات يضعن في حقائب أطفالهن ورقة صغيرة مكتوب عليها: «تذكر أن جدك وقف شهراً كاملاً تحت المطر كي تعيش أنت بكرامة».

وفي إحدى الليالي، جاءت رسالة نصية إلى هاتف آدم من رقم مجهول: «نراكم في ستراسبورغ يوم ١٤ مارس… لجنة الشؤون الاجتماعية في البرلمان الأوروبي ستناقش التوجيه… تعالوا بأعدادكم». لم ينم آدم تلك الليلة. جلس على الشرفة، نظر إلى السماء السوداء، ثم أشعل سيجارة لم يدخنها منذ الاعتصام، نفث الدخان ببطء، وقال لنفسه: «كانوا يظنون أننا سنتعب… لكنهم لم يعرفوا أن التعب الذي ذقناه علّمنا أن نتنفس بطريقة جديدة».

في الصباح، وقف أمام المرآة، حلق ذقنه الأشيب بعناية، ارتدى السترة نفسها التي ارتداها في الاعتصام، ثم خرج إلى الشارع. كانت فاطمة تنتظره عند الباب، تحمل حقيبة ظهر صغيرة، وفي يدها وردة حمراء ذابلة قليلاً لكنها لا تزال تنبض. قالت له: «هذه من حديقتنا… سنأخذها معناك… لنذكرهم أن ما زرعناه بالدم لن يذبل بورقة». ابتسم آدم، أمسك يدها، ومشيا معاً نحو المحطة.

في القطار إلى ستراسبورغ، كانا وحدهما في البداية، ثم بدأ الناس يصعدون في كل محطة، وجوه مألوفة، وجوه جديدة، وجوه لم تكن في الاعتصام لكنها ولدت منه. ملأوا القطار، ثم ملأوا قطاراً ثانياً، ثم ثالثاً، حتى صار هناك قطار خاص أطلقوه «قطار الكرامة». وفي كل محطة كانوا ينزلون، يضعون وردة حمراء على الرصيف، ويكتبون بخط كبير على الجدران: «سنعود… وإن طال الزمن».

عندما وصلوا إلى ستراسبورغ، كان عددهم قد صار خمسين ألفاً، ليس فقط من بلجيكا، بل من فرنسا، من إسبانيا، من إيطاليا، من اليونان، من البرتغال. وقفوا أمام مبنى البرلمان الأوروبي، لم يصرخوا هذه المرة، لم يغنوا، فقط وقفوا، صامتين، يحملون ورداً أحمر، ينظرون إلى النوافذ الزجاجية العالية التي تختبئ وراءها لجنة الخبراء.

وبعد ساعة واحدة فقط، خرج رئيس اللجنة إلى الشرفة، وجهه أصفر كورق التوجيه، وأعلن أن الجلسة أُجّلت إلى أجل غير مسمى «لإجراء مزيد من المشاورات». لم يصفّق أحد. لم يكن هناك حاجة. كان الوقوف نفسه هو التصفيق الأعظم.

في طريق العودة، جلس آدم بجانب النافذة، أمسك يد فاطمة، ونظر إلى الريف الأوروبي يمرّ ببطء، حقول خضراء، أبقار ترعى، قرى صغيرة تنام بهدوء. ثم قال بهمس: «كنت أظن أن المعركة انتهت… لكنني أرى الآن أنها لم تبدأ إلا… المعركة الحقيقية هي أن نحافظ على ما انتزعناه… يوماً بعد يوم… نفساً بعد نفس».

أجابت فاطمة، وكان صوتها أقوى من أي وقت: «ونحن سنحافظ… لأننا لم نعد نخاف الموت… خافون… صرنا نخاف أن نحيا عبيداً… وهذا خوف أقوى من كل خوف».

ثم أخرجت من جيبها الوردة الحمراء التي كانت قد وضعتها على طاولة اللجنة، لم تذبل، بل كانت حية، ماءها من دموعهم، ترابها من أقدامهم. ناولتها لآدم، فقبلها، ثم وضعها في كتاب صغير كان يحمله، كتاب بدأ يكتبه منذ أشهر، عنوانه: «كيف نموت واقفين… ونحيا أيضاً».

وعندما وصلا إلى بروكسل في الليل، كان هناك حشد صغير ينتظرهم في المحطة، أطفال يحملون مصابيح يدوية، عجائز يحملون لافتات مكتوب عليها: «مرحباً بعودتكم… البيت لم يعد بيتاً بدونكم». احتضنوهم، بكوا معهم، ثم مشوا جميعاً في الشوارع، ليس كمنتصرين، بل كحراس لنار لم يعد يجرؤ أحد على إطفائها.

وفي تلك الليلة، نام آدم نوماً عميقاً، لأنه عرف أن النصر ليس لحظة، بل عادة يومية، وأن الكرامة ليست وعدًا من حكومة، بل عهدٌ بين البشر لا يُنكسر.

وبدأ الفصل الثاني الحقيقي.

2
في ربيع العام الثالث بعد الاعتصام الكبير، بدأت الأرض في بروكسل تُظهر شيئاً غريباً: من تحت الأسفلت الذي شقّته أقدام الملايين، نبتت أزهار برية حمراء صغيرة لم يعرف أحد اسمها. قال علماء النبات في الجامعة إن بذورها كانت نائمة منذ الحرب العالمية الثانية، وإن الضغط الهائل للأقدام والحرارة المنبعثة من الأجساد أيقظها. لكن الناس في الأحياء الشعبية لم يهتموا بالتفسير العلمي. سمّوها «زهرة الكرامة»، وقطفوها بحذر، وضعوها في مزهريات على النوافذ، وزرعوها في كل حديقة صغيرة، حتى صارت المدينة في أسابيع قليلة تنزف أحمر من كل شرفة وكل شقّ في الجدار.

آدم بن إبراهيم كان يقضي أيامه الآن بين حديقتين: حديقة البيت الشعب الصغيرة خلف البناية، وحقل أكبر في ضاحية أوكل اشترته جمعية الحي بمال التعويضات الجماعية. كان يستيقظ مع أول ضوء، يأخذ فنجان قهوة سوداء لا سكر، ويمشي حافياً إلى الحديقة، يجلس على مقعد صنعه بنفسه من جذع شجرة سقطت في عاصفة الشتاء الماضي، ويبقى هناك ساعات يراقب النحل وهو يتجول بين الأزهار الحمراء كأنها دماء متجددة. لم يعد يقرأ الجرائد، لكنه كان يقرأ السماء، وجه الأطفال، خطوط التجاعيد الجديدة في وجه فاطمة، ويعرف منها كل الأخبار قبل أن تُكتب.

في أحد أيام مايو، وصلت رسالة عادية في ظرف بني عادي، بلا طابع رسمي، مكتوب عليه بخط يد: «للسيد آدم بن إبراهيم – شخصياً». فتحها في الحديقة، وقرأ:

«عزيزي السيد بن إبراهيم،
نحن مجموعة من المستشارين السابقين في بلاك روك، فانغارد، وغولدمان ساكس، تركنا وظائفنا بعد ما رأيناه في بروكسل عام ٢٠٢٥. نريد أن نلتقي بك سراً. لدينا وثائق تثبت أن المرحلة الثالثة من التوجيه الأوروبي ليست مجرد رفع سن التقاعد، بل خطة كاملة لخصخصة آخر ما تبقى من الضمان الاجتماعي في القارة بحلول ٢٠٣٢. نلتقي في مقهى «لو سيرك» في شارع دانسارت، يوم الجمعة الساعة الثالثة عصراً. نأتي بثلاثة أشخاص فقط. تعال وحدك.»

لم يوقّع أحد. لكن في أسفل الورقة كان هناك رسم صغير بدائي: وردة حمراء بتلاتها السبع.

في مساء اليوم نفسه، جمع آدم أقرب عشرة أشخاص إليه في بيت الشعب: فاطمة، يونس الطالب الذي صار مهندساً شاباً، ماري-روز الممرضة المتقاعدة، جان-كلود عامل الميناء، ليلى ابنة أخته التي جاءت من مراكش للدراسة، وغيرهم. قرأ لهم الرسالة بصوت هادئ، ثم ساد صمت طويل. أخيراً قالت فاطمة: «فخ… أو هدية من السماء… لا فرق… سنذهب». ثم أضافت بابتسامة ماكرة: «لكن ليس وحدك… سنكون في كل زاوية من الشارع… كما تعلمنا في الاعتصام: لا أحد يذهب وحيداً».

يوم الجمعة، ذهب آدم إلى مقهى «لو سيرك» في الثالثة تماماً. كان المقهى شبه خالٍ، فقط ثلاثة رجال يجلسون في الزاوية البعيدة يرتدون معاطف سوداء بسيطة، وجوههم شاحبة كمن لم يرَ الشمس منذ سنوات. عندما رأوه، وقفوا احتراماً، وهذا وحده كان كافياً ليصدم آدم. جلس قبالتهم، ووضع الرسالة على الطاولة كأنها بطاقة تعريف.

تحدث الرجل الأوسط، كان في الخمسين، عيناه زرقاوان باهتتان كأنهما غُسلتا كثيراً بالذنب: «أنا كنت مدير قسم المخاطر السيادية في بلاك روك حتى عام ٢٠٢٦… اسمي لا يهم… غادرت بعدما رأيت تقريراً داخلياً يقول حرفياً: (بروكسل يجب أن تُكسر مرة أخرى قبل ٢٠٣٠ وإلا ستعدي القارة بأكملها بفيروس الكرامة)… تركت كل شيء… زوجتي، أولادي، حسابي البنكي… وجئت لأعطيكم ما سرقته أنا بنفسي».

ثم دفع نحو آدم ملفاً أسود رفيعاً، داخلها ذاكرة USB صغيرة. قال: «كل الوثائق، المراسلات بين المفوضية والبنوك الكبرى، الجداول الزمنية، الأرقام الحقيقية للأربح المتوقع من خصخصة المعاشات… كل شيء. انشروها كما شئتم… لكن اعلموا: إذا فشلتم هذه المرة، لن تكون هناك مرة ثالثة… سيجعلون الأمر يبدو ديمقراطياً، شعبوياً، حتى تقبلونه بأيديكم».

ساد صمت. ثم سأل آدم بهدوء: «لماذا الآن؟» أجاب الرجل وهو ينظر إلى يديه المرتجفتين: «لأنني رأيت ابنتي الكبرى في باريس تحمل وردة حمراء في مظاهرة… لم تكن تعرف أن والدها هو من كتب التقرير الذي كادت تُضرب بسببه… في تلك اللحظة شعرت أنني ميت منذ سنوات… وأنتم أحييتموني رغماً عني».

غادر الرجال الثلاثة دون أن يشربوا قهوتهم. بقي آدم وحده أمام الفنجان الفارغ، يمسك بالذاكرة الصغيرة كأنها قنبلة أو قلب طفل. خرج إلى الشارع، فوجد فاطمة تنتظره في الزاوية، عيناها تلمعان. لم يتكلما، فقط مشيا يداً بيد حتى وصلا إلى بيت الشعب، حيث كان الجميعاً ينتظرون.

في تلك الليلة، شغّلوا الذاكرة على حاسوب قديم، وبدأت الأرقام والرسائل الإلكترونية تتدفق على الشاشة كدم من جرح عميق. كانت هناك رسالة مؤرخة في يناير ٢٠٢٧ من لاري فينك شخصياً إلى رئيسة المفوضية: «الخطة البديلة بعد فشل المرحلة الأولى: تحويل الضغط من الحكومات الوطنية إلى الرأي العام عبر حملات مدروسة بعنوان (معاشاتكم أو مدارس أطفالكم)… سنموّل جمعيات تبدو مستقلة، صحفيين، حتى بعض النقابات الصغيرة… في النهاية سيطالب الشعب بنفسه برفع سن التقاعد».

قرأ يونس الرسالة بصوت مرتجف من الغضب، ثم رفع عينيه وقال: «هذه المرة لن ننتظر حتى يأتوا إلينا… سنذهب نحن إليهم… إلى كل بيت، إلى كل مدرسة، إلى كل مصنع… سنعرض الوثائق… سنحكي القصة كاملة… سنحوّل كل مواطن إلى ثورة صغيرة متنقلة».

في الأسابيع التي تلت، تحوّلت بروكسل إلى خلية نحل هادئة لكن شرسة. طبعوا عشرات آلاف النسخ من الوثائق، وزّعوها في أكياس خبز، في علب حليب، تحت أبواب الشقق، في حقائب التلاميذ. أنشأوا مسارح شارع صغيرة، يقوم فيها شباب بتمثيل حوارات حقيقية بين مصرفي ومواطن، بين وزير وطفل، حتى صار الضحك سلاحاً، والدموع دليلاً. بدأت الأ grand-mères يحكين لأحفادهم قصة «الوردة الحمراء التي نبتت من تحت الأسفلت»، حتى صار الأطفال يرسمونها في دفاترهم المدرسية بدل الشمس والمنزل.

في أواخر يونيو، حدث ما لم يتوقعه أحد: انهار التوجيه الأوروبي قبل أن يُصوَّت عليه. لم يكن هناك إضراباً، ولا مظاهرة عاصفة، بل انهيار صامت من الداخل. بدأت الصحف الكبرى، واحدة بعد الأخرى، تنشر الوثائق كاملة، بدأ النواب الأوروبيون يتلقون آلاف الرسائل يومياً من ناخبيهم، بدأت الجمعيات التي كانت ستُموَّل للدعاية ترفض المال فجأة «لأسباب أخلاقية». وفي جلسة علنية بثّت مباشرة، وقف نائب سويدي شاب وقال بصوت يرتجف: «أنا لا أستطيع التصويت على سرقة أجيال لم تولد بعد»، ثم مزّق التوجيه أمام الكاميرات، فتبعه عشرون نائباً، ثم مئة، حتى أُجّلت الجلسة ولم تُستأنف أبداً.

في مساء ذلك اليوم، تجمع الناس في ساحة الغراند بلاس بدون دعوة، فقط جاؤوا. لم يكن هناك مكرفونات، لم يكن هناك خطب. فقط وقفوا، ينظرون إلى بعضهم، ثم بدأوا يغنون الأغنية القديمة بكلماتها الجديدة، بصوت أعلى من أي وقت. وعندما انتهوا، رفع آدم يده، ومعه الجميع، وصمتوا صمتاً طويلاً، صمتاً يقول: نحن هنا، وسنبقى هنا، مهما طال الزمن.

في تلك الليلة، عاد آدم وفاطمة إلى البيت، صعدا إلى السطح، جلسا تحت النجوم، وفتحا زجاجة نبيذ أحمر احتفظا بها منذ يوم زفافهما قبل أربعين سنة. شربا بهدوء، ثم قال آدم: «كنت أظن أن الثورة تنتهي يوم تنتصر… لكنني أرى الآن أنها لا تنتهي… تصير هواء نتنفسه… تراب نمشي عليه… ماء نشربه… حياة».

أجابت فاطمة، وكان صوتها أجمل من أي لحن: «نعم… صارت الثورة عادة يومية… كشرب القهوة… كتقبيل جبين طفل… كزرع وردة حمراء في كل شرفة».

ثم أمسكت يده، وضعتها على قلبها، وقالت: «اسمع… لا يزال ينبض بنفس الإيقاع الذي ضربناه معاً على الأسفلت… وإن طال الزمن، سيبقى».

وناما تلك الليلة تحت النجوم، على السطح، متشابكي الأيدي، كأنما يخافان أن يفلت أحدهما من الآخر، أو أن يفلت النصر منهما. لكن في قرارة نفسيهما كانا يعرفان أن النصر لم يعد شيئاً يمكن أن يُفلت. صار جزءاً من الدم، من النبض، من التراب، من الوردة الحمراء التي فتحت أول بتلة لها في تلك اللحظة تحت ضوء القمر، وكأن الأرض نفسها تقول لهم: أنا معكم… إلى الأبد.


3

في شتاء العام الخامس، عندما بدأت أولى علامات التراجع تظهر كخيوط عنكبوت رفيعة على وجه النصر، لم يعد أحد يجرؤ على تسميتها بالاسم القديم. كانوا يقولون «الأمور تتغير»، «الواقع معقد»، «لا يمكننا أن نعيش في الماضي»، كلمات ناعمة، ملفوفة بالحرير، لكنها تقطع أعمق من السكين.

بدأ الأمر بقرار صغير في بلدية بروكسل: بيع حديقة «بيت الشعب» لشركة تطوير عقاري «لإنشاء مركز تسوق صديق للبيئة». ثم تبعه قرار آخر في والونيا: إعادة فتح مفاوضات مع صناديق الاستثمار لـ«تحديث» نظام المعاشات «بشكل طفيف جداً». ثم جاءت الأخبار من باريس ومدريد وروما: عودة العمل الإضافي «اختيارياً»، عودة العقود المؤقتة «مؤقتاً»، عودة الخوف «بهدوء».

آدم شعر بها قبل أن يراها. كان يمشي في الشارع فيراه الأطفال الذين كانوا يرسمون وردة حمراء على جدران المدرسة يرسمون الآن شعاراً تجارياً جديداً. كان يسمع الأ grand-mères اللواتي كن يحكين قصة الاعتصام لأحفادهن يقلن الآن: «كانت أياماً جميلة… لكن الحياة تتغير». كان يرى يونس، المهندس الشاب الذي كان يحلم ببناء جسور لا تُباع، يعمل الآن في شركة متعددة الجنسيات «لأن الراتب جيد، ولأننا نحتاج أن نعيش».

في ليلة باردة من يناير، جمع آدم أصحابه الأوائل في غرفة صغيرة فوق بيت الشعب، الغرفة نفسها التي كانوا يخططون فيها للاعتصام قبل ست سنوات. كانوا أقل عدداً الآن: ماري-روز توفيت في الخريف، جان-كلود أُصيب بجلطة ولم يعد يتكلم، ليلى عادت إلى مراكش بعد أن «لم تعد تجد معنى هنا». بقي آدم، فاطمة، يونس، وثلاثة آخرون، وجوههم أكبر سناً، أعمق تجاعيد، لكن العيون لا تزال تحمل نفس النار، ناراً خافتة لكنها لم تنطفئ.

وضع آدم يده على الطاولة الخشبية المحروقة من أثر المدفأة القديمة، وقال بصوت هادئ لكنه يرتجف قليلاً: «أنا لا أخاف منهم… أخاف منا… أخاف أن ننسى… أن نعتاد… أن نصدّق أن ما حدث كان حلماً جميلاً انتهى». ثم أخرج من جيبه وردة حمراء جافة تماماً، لكنها لم تتحول إلى تراب، وضعها في وسط الطاولة كأنها قلب ميت لا يزال ينبض.

تحدث يونس، وكان صوته أجش من كثرة الصمت: «أنا أنا أعمل الآن في مشروع ذكي للمدن… يقولون إنه للمناخ… لكنني أعرف أنهم يبنون أحياء مغلقة للأغنياء فقط… وأنا أبنيها… بيدي… أنا الذي كنت أحلم بجسور تربط الناس، أبني الآن جدراناً تفصلهم». ثم بكى بهدوء، بكاء رجل لم يبكِ منذ الاعتصام.

قالت فاطمة، وكانت عيناها تلمعان بالدموع لكن صوتها صلب: «لقد نسوا لأننا تركناهم ينسون… كنا مشغولين بالحياة… بالزواجات، بالأعياد الميلاد، بالسفر… نسينا أن الكرامة ليست لحظة… بل جهاد يومي… جهاد ضد النسيان».

في الأيام التالية، بدأ آدم يمشي في المدينة كشبح. كان يمرّ بالأماكن التي وقفوا فيها، يلمس الجدران التي كتبوا عليها، يقف أمام البراميل المحترقة التي صارت الآن مزهريات في مداخل البنايات الفاخرة. وفي كل مرة كان يشعر بثقل أكبر في صدره، كأن النصر الذي حملوه على أكتافهم قد تحول إلى حجر يغرقون به ببطء.

في إحدى الليالي، عاد إلى البيت متأخراً، وجد فاطمة جالسة في الظلام، تحمل في يدها الوردة الجافة. قالت له بهمس: «أنا خائفة يا آدم… ليس منهم… من أن نكون قد خدعنا أنفسنا… أن النصر كان وهماً… أن البشر لا يتغيرون… يتعبون فقط». ثم بكت، بكاءً عميقاً، بكاء امرأة حملت ثورة على كتفيها ست سنوات ثم رأتها تذبل.

في اليوم التالي، فعل آدم شيئاً لم يفعله منذ الاعتصام: خرج إلى وسط ساحة الغراند بلاس، في الساعة الثانية عشرة ظهراً، عندما تكون الشمس في أعلى نقطة والناس يتناولون الغداء في المطاعم الزجاجية. وقف في الوسط، أشعل النار في الوردة الجافة بولاعة قديمة، ثم رفع يديه وصرخ بصوت أجش لكنه يصل إلى آخر الساحة: «أنا آدم بن إبراهيم… وقفت هنا قبل ست سنوات مع ملايين… واليوم أقف وحدي… لأقول لكم: إن كنا ننسى، فنحن نموت… وإن كنا نصمت، فنحن نُقتل… تعالوا… تعالوا قبل أن يأخذوا كل شيء مرة أخرى!»

توقف الناس عن الأكل. توقفت السيارات. توقفت الموسيقى في المقاهي. ثم حدقوا به كأنه مجنون، أو كأنه شبح من ماضٍ لا يريدون تذكره. ثم حدث شيء صغير، لكنه كان كافياً: طفلة في الثامنة، تحمل وجبة مدرسية، اقتربت منه، ناولته وردة حمراء بلاستيكية صغيرة من حقيبتها، وقالت: «جدتي قالت لي إنك زرعت هذه يوم كنت صغيرة… خذها… لا تمت».

في تلك اللحظة، انهار آدم على ركبتيه، ليس ضعفاً، بل لأن الثقل كان أكبر من أن يحمله واقفاً. ثم وقف رجل في الأربعين، خلع معطفه، وضعه على كتفي آدم، وقال: «أنا كنت هنا… في الصف العاشر… سامحني… نسيت». ثم وقفت امرأة، ثم أخرى، ثم عشرة، ثم مئة، ثم آلاف. لم يكن هناك هتاف، لم يكن هناك غناء. فقط وقفوا، صامتين، يضعون معاطفهم، وشالاتهم، وقبعاتهم حول آدم، كأنما يعيدون بناء الجدار البشري الذي كانوا قد هدموه بأنفسهم.

في تلك الليلة، عادوا إلى بيت الشعب، لكن هذه المرة لم يكن هناك عشرة، بل مئات. جلسوا في الظلام، أشعلوا شمعة واحدة، ووضعوها أمام الوردة البلاستيكية الصغيرة. ثم بدأ آدم يكتب على ورقة بيضاء، بخط كبير مرتجف:

«لن نعيد الاعتصام… سنعيد الذاكرة… كل يوم… في كل بيت… في كل مدرسة… في كل شارع… سنحكي… حتى لا يعودوا… حتى لا نعود نحن إلى النوم».

ثم وقّع الجميع، ليس بأسمائهم، بل ببصمات أصابعهم حول الوردة.

منذ تلك الليلة، بدأت بروكسل تنبض من جديد، لكن بنبض أعمق، أبطأ، أكثر عناداً. لم يعد هناك حاجة للصراخ. صار الهمس كافياً. صارت الأ grand-mères يحكين القصة كل ليلة قبل النوم. صار الأطفال يرسمون الوردة الحمراء في كل مكان. صار الشباب يرفضون العمل في الشركات التي خصخصت أحلامهم. صار الصمت سلاحاً، والذاكرة درعاً، والنسيان خيانة.

وفي صباح أحد الأيام، استيقظ آدم على صوت طرق على الباب. فتح فوجد طفلة الوردة البلاستيكية، تقف مع أصدقائها، تحمل سلة مليئة بأزهار حمراء حقيقية نبتت من جديد في الحدائق. قالت له: «جدتي ماتت البارحة… لكنها تركت لك هذه… وقالت: قله إننا لم ننسَ… وإن النار لا تزال مشتعلة».

أخذ آدم السلة، وضعها على الشرفة، ثم خرج إلى الشارع. كانت المدينة كلها قد استيقظت على رائحة الورد الأحمر. لم يكن هناك إعلان، لم يكن هناك تنظيم. فقط استيقظ الناس، فتحوا نوافذهم، ووجدوا الورد في كل مكان، كأن الأرض نفسها قررت أن تذكّرهم.

وقف آدم في وسط الشارع، نظر إلى السماء، ثم إلى يديه المجعدتين، وابتسم ابتسامة لم تكن فيها مرارة هذه المرة. ابتسامة من عرف أن المعركة ليست ضد العدو الخارجي، بل ضد النسيان الداخلي، وأن هذ النسيان يُهزم كل يوم، بوردة، بقصة، بصمت، بيد تمتد إلى يد.

ثم مشى إلى الحديقة، جلس على المقعد، وأخذ يحكي للأطفلة ولأصدقائها قصة الاعتصام، ليس كملحمة قديمة، بل كقصة تحدث الآن، في هذه اللحظة، في هذا النبض.

واستمرت القصة، لأن من تعلم أن يموت واقفين، تعلم أن يحيا أيضاً، إلى الأبد.

4

في صيف العام العاشر، عندما بدأت الوردة الحمراء تُدرّس في كتب التاريخ تحت عنوان «الثورة الناعمة في بروكسل ٢٠٢٥٢٠٣٠»، جاءت لحظة لم يتوقعها أحد، لا آدم، ولا فاطمة، ولا حتى أصغر طفلة كانت تحمل وردة بلاستيكية في تلك الساحة قبل عشر سنوات.

كان آدم في الثامنة والستين الآن. شعره أبيض تماماً، ظهره منحنٍ قليلاً، لكنه لا يزال يمشي كل صباح إلى الحديقة التي صارت تُسمى رسمياً «حديقة الكرامة»، يجلس على المقعد نفسه، يضع فنجانه على الذراع الخشبية، وينتظر. لم يعد ينتظر شيئاً بعينه، فقط ينتظر أن يستمر الصباح، أن تستمر الشمس في الطلوع، أن تستمر الوردة في الإزهار. لأنه عرف أن هذا هو النصر الحقيقي: أن يستمر الشيء العادي بعد أن كان مستحيلاً.

في أحد أيام أغسطس الحارة، وصلت رسالة بخط يد طفل: «السيد آدم، تعال إلى المدرسة الابتدائية في مولنبيك يوم الجمعة الساعة العاشرة صباحاً. هناك مفاجأة. لا تتأخر». لم يوقّع أحد، لكن في أسفل الورقة كان هناك رسم صغير: وردة حمراء بسبع بتلات.

ذهب آدم مع فاطمة، يداً بيد، يمشيان ببطء لأن ركبتيها لم تعد تحملان كما في السابق. عندما وصلا إلى المدرسة، وجدا الباب الرئيسي مفتوحاً على مصراعيه، والفناء مكتظاً بأطفال يرتدون قمصاناً بيضاء عليها وردة حمراء مطبوعة على الصدر. وقفت مديرة المدرسة، امرأة في الأربعين لم يعرفها آدم، رحّبت بهما بابتسامة واسعة، ثم قالت: «اليوم ليس يوماً عادياً… اليوم هو يوم تخرّج الدفعة التي ولدت عام ٢٠٢٥… دفعة الكرامة… وهم يريدون أن يقولوا لك شيئاً».

أدخلوهما إلى القاعة الكبرى، حيث كان هناك ثلاثمئة طفل وطفلة يقفون في صفوف منتظمة، وخلفهم لوحة كبيرة مغطاة بقماش أحمر. وقفت طفلة صغيرة في العاشرة، وجهها مشرق كالشمس، تقدمت، ناولت آدم وفاطمة وردة حمراء حقيقية، ثم قالت بصوت واضح يملأ القاعة: «نحن أبناء الاعتصام… ولدنا في الشهر الذي انتصرتم فيه… علّمتنا جداتنا وأ grand-pères أن كلما نسيتم، نموت قليلاً… فاخترنا ألا نموت… اخترنا أن نحيا بكم… وها نحن نكبر… ونعدكم أننا لن نركع… أبداً».

ثم سحبت الستارة عن اللوحة. كانت جدارية ضخمة، رسمها الأطفال بأنفسهم على مدى سنتين: في الوسط آدم وفاطمة واقفان يداً بيد، ووراءهما بحر بشري لا نهائي، وفوق رؤوسهم سماء زرقاء مفتوحة، وتحت أقدامهم أرض تتفتح منها وردة حمراء عملاقة تمتد جذورها إلى كل أطراف القارة. وفي أسفل الجدارية، بخط أطفال كبير ملون: «شكراً لأنكم علّمتونا أن نمشي منتصبين… سنمشي نيابة عنكم عندما تتعب أرجلكم».

لم يستطع آدم أن يتكلم. وقفت فاطمة بجانبه، دموعها تنهمر بهدوء، ثم رفعت يدها، وضعتها على قلبها، ثم مدتها نحو الأطفال كأنها تعطيهم شيئاً ثميناً لا يمكن وزنه. ثم بدأ الأطفال يغنون أغنية لم يسمعها آدم من قبل، كلماتها بسيطة، لحنها قديم لكنه جديد:

«نحن أبناء المطر الذي لم يغرقنا
نحن أبناء النار التي لم تحرقنا
نمشي على الأسفلت الذي شهد
ونحمل في جيوبنا وردة حمراء
لن تذبل… لن تذبل… لن تذبل»

غنوا ثلاث مرات، ثم ساد صمت عميق. ثم تقدّم طفل في العاشرة أيضاً، يحمل صندوقاً خشبياً صغيراً، فتحه، وأخرج منه مفتاحاً كبيراً من نحاس قديم. قال: «هذا مفتاح المدينة… أعطاه لنا العمدة الجديد… وقال إننا نعطيه لكما… لأنكما أنتما من فتح المدينة يوم كانت مغلقة».

أخذ آدم المفتاح، كان ثقيلاً، بارداً، لكنه دفء في الوقت واحد. ثم فعل شيئاً لم يخطط له: وضع المفتاح على الأرض أمام الأطفال، وركع، ليس خضوعاً، بل تسليماً للزمن الذي انتصر أخيامه. ثم قال بصوت متهدج لكنه قوي: «هذا المفتاح ليس لي… ليس لنا… هو لكم… لأنكم أنتم من سيفتح الأبواب التي سنتعب قبل أن نصل إليها… احملوه… واحملوا معه كل ما تعلمناه… وكل ما نسيناه… وكل ما سننساه… احملوه… ولا تركعوا… أبداً».

ثم وقف، ساعدته فاطمة، ووقفا معاً، ينظران إلى ثلاثمئة وجه صغير يضيء القاعة كأنه ثلاثمئة شمس صغيرة. ثم بدأ الأطفال يتقدمون واحداً واحداً، يضعون وردة حمراء عند قدمي آدم وفاطمة، حتى صار هناك تلّ صغير من الورد، تلّ ينبض بالحياة.

عندما خرجا من المدرسة، كان الشارع كله قد امتلأ بالناس. لم يكن هناك إعلان، لكن الخبر انتشر كالنار في الهشيم: «الأطفال أعطوا آدم مفتاح المدينة». جاؤوا من كل حي، من كل ضاحية، عجائز يسندون عصيهم، شباب يحملون أطفالهم على أكتافهم، نساء يحملن سلال ورد. وقفوا في صمت، ثم بدأوا يضعون الورد عند باب المدرسة، حتى صار الشارع كله نهراً أحمر يتدفق ببطء نحو وسط المدينة.

في المساء، عاد آدم وفاطمة إلى البيت، صعدا إلى السطح حيث كانوا ينامون أحياناً في الليالي الحارة. جلسا، لم يتكلما طويلاً. ثم قال آدم بهمس: «كنت أظن أننا سنموت قبل أن نرى الثورة تكبر… لكنها كبرت فينا… ثم خرجت منا… وصارت أكبر منا». أجابت فاطمة، وكان صوتها أجمل من أي صوت في العالم: «نعم… لقد أنجبنا شعباً… وهذا الشعب لن يموت».

ثم أخرجت من جيبها الوردة الحمراء التي أعطتها إياها الطفلة الأولى قبل عشر سنوات، كانت لا تزال حية، لأنها كانت بلاستيكية، لكنها اليوم بدت أحلى من أي وردة حقيقية. وضعتها بين يدي آدم، ثم وضعت رأسها على كتفه، وقالت: «الآن يمكننا أن نرقد مطمئنين… لأن من سيحمل النار بعدنا قد ولد… وكبر… ومشى».

وناما تلك الليلة نوماً عميقاً، أعمق من أي نوم عرفه آدم في حياته. وفي الصباح، استيقظ على صوت أطفال يغنون في الشارع الأغنية نفسها، لكن بصوت أعلى، أكثر ثقة، كأن الأغنية لم تعد تُغنى للتذكير، بل للاحتفال بأن التذكير لم يعد ضرورياً.

وفي اليوم التالي، ذهب آدم إلى الحديقة، جلس على المقعد، وضع فنجانه، لكنه لم ينظر إلى السماء هذه المرة. نظر إلى الأرض، حيث كانت الوردة الحمراء تنمو بين قدميه، أقوية، جذورها عميقة، لا تخاف لا من الجفاف ولا من الشتاء. ثم ابتسم، ابتسامة طويلة، هادئة، ابتسامة من سلّم الراية وهو يعرف أنها لني في أيدٍ لن ترتجف.

ثم نهض، ترك المقعد فارغاً لأول مرة منذ عشر سنوات، ومشى بهدوء نحو البيت. لم يعد بحاجة إلى الجلوس هناك كل يوم. كان يعرف أن المقعد سيبقى مشغولاً، ليس به، بل بكل طفل سيأتي، بكل وردة ستُزرع، بكل قصة ستُروى.

وعندما وصل إلى البيت، وجد فاطمة تنتظره عند الباب، تحمل حقيبة صغيرة، وتقول بابتسامة شقية: «اليوم سنذهب إلى غرناطة… أخيراً… اشتريت التذكرتين… من مال تقاعدنا… الذي لم يعد مهدداً». ضحك آدم ضحكة طويلة، صافية، كأنها ضحكة شاب في العشرين، ثم أمسك يدها، وقال: «نعم… حان وقت أن نرى البحر الآخر… ونترك هذا البحر لمن ولدوا منه».

وغادرا في اليوم التالي، تاركين خلفهما مدينة لم تعد بحاجة إلى حراس، لأنها صارت نفسها حارسة، وتاركين خلفهما وردة حمراء لا تموت، وجيلاً كاملاً يمشي منتصباً، وذاكرته حية، قلبه مفتوح، روحه لا تركع.

وانتهى الفصل الثاني، ليس لأن القصة انتهت، بل لأنها صارت أكبر من أن تُحكى بصوت واحد. صارت تُحكى بملايين الأصوات، في ملايين الشوارع، تحت ملايين النوافذ التي تفتح كل صباح على وردة حمراء تقول بهدوء: نحن هنا… وسنبقى هنا… إلى أن يرث الأبناء الأبناء ما زرعناه، ويزرعوا ما لم نستطع زرعه، ويحيوا ما كنا نحلم به فقط.

واستمرت الحي الحياة، أجمل، أقوى، أبدية.

5

في السنة الخامسة عشرة بعد الاعتصام، لم يعد أحد يذكر اسم «آدم بن إبراهيم» إلا في الكتب المدرسية أو في أفلام وثائقية قصيرة تُعرض في المدارس يوم ٢٦ نوفمبر من كل عام. صار وجهه صورةً على جدارية في محطة الشمال، صورةً يمرّ بها المسافرون دون أن يرفعوا عينيهم، كما نمرّ بصور القديسين في الكنائس القديمة: نحترمها، لكننا لا نتكلم معها.

آدم نفسه كان لا يزال حياً، في الثالثة والسبعين، يعيش في شقة صغيرة في الطابق الأرضي من بناية مولنبيك، نفس البناية التي شهدت انطلاق الثورة. لم يعد يخرج كثيراً. ركبتاه تخونانه، والسلالم تتعبه، لكنه يرفض العكاز. يقول لفاطمة بابتسامة ساخرة: «العكاز لمن يريد أن يسند نفسه… أنا ما زلت أسند السماء».

فاطمة أيضاً كانت حية، أصغر منه بثلاث سنوات، لكنها صارت أضعف، جسدها يتقلّص كأنه يعود إلى حجم طفلة، لكن عينيها لا تزالان تضحكان بنفس الضحكة التي كانت تُرعب الشرطة يوم كانت تقف في الصف الأول. كانا يقضيان أيامهما في صمت مريح، يطبخان معاً، يشربان الشاي بالنعناع، يستمعان إلى الراديو القديم الذي يعمل ببطارية، ويخرجان أحياناً إلى الشرفة ليريا الورد الأحمر ينمو في كل مكان، حتى في شقوق الإسمنت.

في أحد أيام أكتوبر الماطرة، جاءت فتاة في الثلاثين، اسمها لينا، تحمل كاميرا صغيرة ودفتر ملاحظات. قالت إنها تُعدّ فيلماً عن «الجيل الذي ولد بعد الثورة»، وتريد أن تسأل آدم سؤالاً واحداً فقط: «هل تشعر أنك انتصرت؟»

جلس آدم في كرسيه المتهالك، نظر إلى الفتاة طويلاً، ثم إلى فاطمة التي كانت تقطّع تفاحة في المطبخ، ثم عاد إلى لينا وقال بصوت خافت لكنه واضح:

«النصر كلمة كبيرة جداً… أنا لا أملكها… أملك شيئاً أصغر وأثقل في آن: أملك ألا أخجل عندما أنظر إلى المرآة… أملك أنني عندما أموت، سيموت معي رجل لم يركع… هذا يكفيني… أما الباقي فتركناه لكم… فانظروا إلى أنفسكم… هل أنتم تركعون؟»

توقفت لينا عن الكتابة. ثم سألت سؤالاً آخر لم تكن تخطط له: «وإذا رأيتَ اليوم شاباً يقبل عملاً مؤقتاً، أو فتاة تتنازل عن حقها في الإجازة المرضية، هل تغضب؟»

ابتسم آدم ابتسامة حزينة رقيقة: «لا أغضب… أحزن… لأنني أعرف أن الطريق طويل… وأن كل جيل يظن أنه وصل إلى النهاية… لكن النهاية ليست مكاناً… النهاية هي أن نستمر نسير… حتى لو تعثرنا… حتى لو سقطنا… المهم ألا نبقى راكعين».

في تلك الليلة، كتب آدم رسالة طويلة بخط يده المرتجف، وضعها في مظروف أبيض، وكتب عليه: «لمن سيأتي بعدي… إذا وجدتموها». ثم وضعها في صندوق خشبي صغير تحت سريره، حيث كان يحتفظ بكل شيء: تذكرة القطار إلى غرناطة، صورة ليلى زوجته الأولى، الوردة البلاستيكية التي أعطته إياها الطفلة قبل خمس عشرة سنة، وآخر نسخة مطبوعة من الوثائق التي سربها المستشارون السابقون.

ثم خرج إلى الشرفة، وقف هناك طويلاً، ينظر إلى المدينة التي تغيرت كثيراً ولم تتغير. الأبنية أعلى، السيارات أكثر هدوءاً، الشوارع أنظف، لكن في مكان ما، في زاوية ضيقة، لا يزال هناك طفل يرسم وردة حمراء على جدار، وفي مكان آخر لا يزال هناك عجوز يحكي لجيرانه عن أيام «كنا نموت واقفين».

في اليء واحد لم يتغير: الوردة الحمراء لا تزال تنبت، حتى في الشتاء، حتى تحت الثلج، كأن الأرض تحتفظ بذاكرة الدم والأمل معاً.

في ليلة عيد الميلاد، شعر آدم بألم خفيف في صدره. لم يقل شيئاً لفاطمة، فقط خرج إلى الشرفة، جلس على كرسي بلاستيكي قديم، ونظر إلى السماء. كان الجو صافياً، النجوم قريبة، كأنها تنتظره. ثم شعر بدفء غريب يتسلل إلى جسده، دفء لم يشعر به منذ تلك الليلة على الأسفلت قبل عشرين سنة. أغمض عينيه، ورأى البحر البشري يقف من جديد، رأى وجوه كل من وقف معه، رأى ليلى تبتسم، رأى ماري-روز تضحك، رأى الأطفال يغنون، ثم رأى نفسه صغيراً، في قريته قرب حلب، يركض حافياً بين أشجار الزيتون، وجدّه يقول له: «الإنسان يولد حراً… ثم يأتي الزمن فيضع في عنقه حبلاً من حرير… فلا يشعر به حتى يشنقه… فانتبه يا ولدي… انتبه».

فتح عينيه، ابتسم، ثم همس: «لكن نحن قطعنا الحبل… وعلّمنا الآخرين كيف يقطعونه… يكفي».

ثم أغمض عينيه بهدوء، ولم يفتحهما بعد ذلك.

في الصباح، وجدته فاطمة جالساً على الشرفة، رأسه مرتاح على صدره، وجهه هادئ كأنه نائم نوماً خفيفاً. في يده كان يمسك الوردة البلاستيكية الصغيرة، وفي يده الأخرى ورقة صغيرة كتب عليها بخط مرتجف لكنه واضح: «لا تحزني يا فاطمة… أنا لم أمت… أنا فقط انتقلت إلى داخلكم… إلى داخل الوردة… إلى داخل كل طفل سيولد غداً… سأبقى واقفاً… طالما بقي أحد يقف».

دفنوه في حديقة الكرامة، تحت الشجرة التي زرعها بنفسه قبل عشرين سنة. لم يكن هناك خطب، لم يكن هناك بكاء عالٍ. فقط وقف الناس، مئات، ثم آلاف، وضعوا وردة حمراء على القبر، ثم وقفوا صامتين، كما وقفوا يوم كان حياً، كما سيوقفون كلما شعروا أن الريح تهب من الجهة الخطأ.

وفي الليلة نفسها، استيقظت فاطمة على صوت طرق خفيف على الباب. فتحت، فوجدت لينا، صانعة الفيلم، تقف مع مجموعة من الشباب، تحمل كاميرا ومصباحاً. قالت: «نريد أن نسجل صوتك… صوت من عاشت معه… قبل أن نذهب إلى كل مدينة في أوروبا… لنحكي القصة من جديد… بصوت امرأة لم تركع يوماً».

جلست فاطمة في كرسي آدم، أمام الكاميرا، وتحدثت طويلاً، بصوت هادئ لكنه يملأ الغرفة، يملأ الشقة، يملأ المدينة، يملأ القارة:

«آدم لم يمت… هو انتقل… انتقل إلى داخلنا… إلى داخلكم… إلى داخل كل من سيرفض يوماً أن يركع… كل من سيحمل وردة حمراء في جيبه… كل من سيقف عندما يُطلب منه أن يجلس… كل من سيقول (لا) عندما يُطلب منه أن يقول (نعم)… هو لم يمت… هو صار هواء نتنفسه… ماء نشربه… ناراً لا تنطفئ…»

ثم توقفت، رفعت عينيها إلى الكاميرا، وابتسمت ابتسامة آدم نفسها: «فلا تحزنوا عليه… افرحوا به… لأنه انتصر… انتصر بأن مات واقفاً… وعلّمنا كيف نموت كذلك… وكيف نحيا كذلك… إلى الأبد».

وأطفأت الكاميرا، لكن الصمت، ثم بدأت الوردة الحمراء تنبت من جديد، في كل شرفة، في كل شارع، في كل قلب، حتى صارت المدينة كلها حديقة واحدة، والقارة كلها وردة واحدة، والإنسان كله، أخيراً، حراً.

وانتهى الفصل الثاني، ليس لأن القصة توقفت، بل لأنها صارت حياة، وصارت الحياة لا تُروى، بل تُعاش، يوماً بعد يوم، نفساً بعد نفس، وردة بعد وردة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويبقى الواقفون وحدهم، لا يركعون، لا ينحني، لا يموت.

6


في السنة العشرين بعد الاعتصام، لم يعد هناك من يذكر اسم آدم بن إبراهيم إلا في جملة واحدة تُردَّد في المدارس كتقليد سنوي: «كان هناك رجل وقف فلم يعد أحد يركع». لم تعد هناك صورة له على الجدران، لم تعد هناك جدارية في محطة الشمال، لأن الجدران كلها صارت حية، والوجوه كلها صارت وجوهه. حتى الوردة الحمراء لم تعد تُسمى «وردة الكرامة»، صارت تُسمى ببساطة «الوردة»، كأن لا وردة أخرى في العالم.

فاطمة، في الثمانين من عمرها، كانت لا تزال تعيش في الشقة نفسها، لكنها لم تعد وحدها. كان البيت قد صار ملجأً مفتوحاً، أبوابه لا تُغلق أبداً، يأتي إليه كل من يشعر بالضياع، كل من يبحث عن مكان يُسمَع فيه صوته دون أن يُسأل عن عمره أو جنسيته أو حسابه البنكي. كانت تجلس في كرسي آدم القديم، تُصلح جوارب الأطفال، تُعدّ الشاي بالنعناع، وتُعيد حكاية الاعتصام كل ليلة، ليس كتاريخ، بل كوصية.

في ليلة من ليالي نوفمبر، ليلة باردة لكن السماء صافية كأنها تتذكر شيئاً، جاءت إليها لينا، صانعة الأفلام التي كبرت وصارت في الخمسين، تحمل في يدها صندوقاً خشبياً صغيراً مغلقاً بقفل صدئ. قالت لفاطمة: «وجدناه تحت الأرضية في حديقة الكرامة أثناء تجديد التربة… كان مكتوباً عليه (لمن سيأتي بعدي… إذا وجدتموها)… فتحناه… ووجدنا هذا».

فتحت لينا الصندوق أمام فاطمة. كان فيه:

- تذكرة قطار قديمة إلى غرناطة، لم تُستعمل أبداً.
- صورة ليلى، زوجة آدم الأولى، مبتسمة كأنها تنتظر عودته.
- الوردة البلاستيكية الصغيرة التي أعطتها إياه الطفلة يوم كان وحيداً في الساحة.
- ورقة مطوية بعناية، بخط آدم المرتجف الأخير، كتب فيها:

«إذا قرأتم هذا، فأنا قد مت.
لا تحزنوا.
أنا لم أمت.
أنا صرت هواءً تتنفسونه، ماءً تشربونه، تراباً تمشون عليه.
أنا صرت في كل وردة حمراء تنبت من شق في الإسمنت، في كل طفل يرفض أن يُسمَّى (موارد بشرية)، في كل عجوز يجلس على مقعد ويحكي لمن لم يولدوا بعد.
إذا سألتم: هل انتصرنا؟
أقول لكم: النصر ليس مكاناً نصل إليه، النصر هو أن نستمر نسير، حتى لو كانت الخطوة الأخيرة لنا هي خطوة البداية لكم.
لا تخافوا من التعب، خافوا من الراحة التي تأتي على حساب كرامتكم.
لا تخافوا من الموت، خافوا من أن تحيوا راكعين.
وإذا شعرتم يوماً أنكم وحيدون، تذكروا أنني أقف خلفكم، ومعي ملايين لم نلتقِ بهم، وسنبقى نقف حتى تقفوا أنتم، وحتى يقف أبناؤكم، وحتى لا يضطر أحد بعد اليوم إلى الوقوف.
أحبكم جميعاً،
آدم بن إبراهيم،
الذي مات واقفاً،
ليعيش أنتم واقفين».

ساد صمت طويل. ثم رفعت فاطمة عينيها، وكانت خالية من الدموع، مليئة بنار هادئة، وقالت: «كان يعرف… كان يعرف أن الرسالة لن تُقرأ إلا بعد أن يغيب… كان يعرف أن الثورة تحتاج إلى موت مؤسسيها لتصبح خالدة».

في اليوم التالي، حملت لينا الصندوق إلى ساحة الغراند بلاس، حيث كانوا قد أزالوا تمثال شارل الخامس منذ سنوات وبنوا مكانه نافورة دائرية تتدفق منها ماء أحمر كل ٢٦ نوفمبر. وضعت الصندوق مفتوحاً في وسط النافورة، ووضعت فوقه الوردة البلاستيكية الصغيرة. ثم بدأت تُقرأ الرسالة بصوت عالٍ، وكان الصوت يتردد في مكبرات الصوت التي أُعدّت خصيصاً لهذا اليوم.

توقفت المدينة كلها. توقفت السيارات، توقفت الحافلات، توقفت المقاهي، توقف الناس في الشوارع، في المكاتب، في المدارس، في المستشفيات. لم يكن هناك أمر رسمي، لم يكن هناك إضراب، فقط توقف تلقائي، كأن قلباً واحداً ضخمة قرر أن يأخذ نفساً عميقاً.

ثم بدأ الناس يتقدمون، واحداً واحداً، يضعون وردة حمراء في النافورة، حتى صار الماء كله أحمر، وصارت الساحة بحيرة من الورد. ولم يكن هناك بكاء، فقط صمت كبير، صمت يقول أكثر من أي خطبة، صمت يقول: نحن لم ننسَ، وسنبقى لا ننسى.

في تلك الليلة، جلست فاطمة على الشرفة للمرة الأخيرة. كانت تعرف أن وقتها قد اقترب. أخرجت من جيبها الوردة الحمراء الحقيقية التي كانت تحملها منذ غرناطة، وضعتها على الدرابزين، ثم أغلقت عينيها، وابتسمت. في اللحظة نفسها، شعرت بدفء يد آدم تمسك يدها، سمعت صوته يهمس في أذنها: «تعالي… حان وقت أن نرى البحر الآخر معاً».

وفي الصباح، وجدوها جالسة على الكرسي، وجهها إلى السماء، يدها ممدودة كأنها تمسك يد غائب، وابتسامتها هادئة كأنها نائمة في حضن حلم كبير. لم يبكِ أحد. فقط وضعوا وردة حمراء بجانبها، وتركوها على الشرفة يوماً كاملاً، حتى يودّعها الشمس والريح والورد.

دفنوها بجانب آدم، تحت الشجرة نفسها. وفي اليوم التالي، نبتت من القبر وردة حمراء لم يرَ أحد مثلها من قبل: جذعها قوي، بتلاتها كبيرة، رائحتها تملأ الحديقة كلها. قال الأطفال إنها ولدت من دمعة فاطمة ودمعة آدم التقيا تحت الأرض، فصارت وردة لا تذبل أبداً.

ومنذ ذلك اليوم، صار الناس يأتون من كل أنحاء القارة، ليس ليروا قبراً، بل ليروا شجرة وردة تنمو من قلبين لم يركعا. يضعون يدهم على الجذع، فيشعرون بدفء خفيف، كأن يد آدم وفاطمة لا تزالان تمسكان بهم. ويخرجون من الحديقة، يحملون بذرة صغيرة في جيبهم، يزرعونها في مدينتهم، في قريتهم، في شرفة بيتهم، حتى صارت الوردة الحمراء تنتشر في كل أوروبا، من لشبونة إلى هلسنكي، من دبلن إلى أثينا، كأن الأرض كلها قررت أن تتكلم بلغة واحدة: لغة من ماتوا واقفين.

ومرت السنون، ومرت الأجيال، ولم يعد أحد يذكر اسم آدم أو فاطمة، لكن الجميع كانوا يعرفون أن هناك رجلاً وامرأة وقفا يوماً، فلم يعد أحد يركع بعدهما. صارت القصة أسطورة، والأسطورة صارت هواء، والهواء صار دماً، والدم صار نبضاً، والنبض صار حياة لا تنتهي.

وفي كل ٢٦ نوفمبر، في كل مدينة أوروبية، يتوقف الناس دقيقة صمت واحدة، يضعون وردة حمراء على نافذة أو على مقعد أو في جيب، ويهمسون كلمة واحدة فقط: «شكراً».

ولا يعرفون لمن يقولونها، لكنهم يعرفون أنها وصلت، إلى قلبين تحت شجرة في بروكسل، قلبين لم يتوقفا عن النبض، لأنهما صارا نبض القارة كلها، نبض كل إنسان يرفض أن يُسمَّى رقماً، نبض كل إنسان يختار أن يموت واقفاً، ليعيش الآخرون واقفين.

وبقيت الوردة الحمراء تنبت، في كل مكان، في كل زمان، تذكّر العالم بأن الحرية ليست شيئاً نرثه، بل شيئاً نموت من أجله كل يوم، حتى نعيش.

وانتهى الفصل الثاني، وانتهت الرواية، ليس لأن القصة انتهت، بل لأنها صارت أكبر من الكلمات، صارت حياة تُعاش، لا تُروى، صارت وردة حمراء لا تذبل، صارت دماً يجري في عروق أجيال لم تعرف الركوع، صارت، أخيراً، أوروبا التي حلم بها آدم وفاطمة وملايين معهم، أوروبا حرة، واقفة، حية، إلى الأبد.



الفصل الثالث: أبناء المطر
(٢٠٤٥٢١٠٠، اختفاء الأطفال والعودة الكبرى)


1

في السنة الثلاثين بعد الاعتصام، لم يعد أحد يستعمل كلمة «ثورة» إلا في المتاحف. كانت الكلمة قد صارت قطعة أثرية لامعة، موضوعة تحت زجاج مضاد للرصاص، مضاءة بضوء بارد، مع لوحة صغيرة تقول: «الثورة الناعمة ٢٠٢٥٢٠٣٥، أكبر حركة مدنية سلمية في تاريخ القارة». وتحت اللوحة صورة بالأبيض والأسود لآدم وفاطمة يداً بيد، وجوههما شابة، عيونهما مليئة بنار لم يعد أحد يشعلها إلا في الذكرى السنوية.

المدينة نفسها كانت قد تغيّرت حتى صارت غريبة عن نفسها. الأبنية العالية الزجاجية ابتلعت الأحياء القديمة، الشوارع صارت نظيفة لامعة، السيارات لا تُسمع، الهواء نقي بفضل تقنيات لم يعد أحد يسأل من يملكها. الوردة الحمراء لم تختفِ تماماً، لكنها صارت شعاراً رسمياً مطبوعاً على أكواب القهوة، على حقائب المدارس، على تيشيرتات السياح. حتى أن هناك عطراً جديداً أطلقته دار أزياء فرنسية اسمه «Rose de la Dignité»، سعره ألف يورو للقارورة الصغيرة.

في تلك السنة، وُلد طفل في ضاحية شارلروا اسمه نوح. كان والداه من الجيل الذي لم يعرف الاعتصام إلا من الأفلام، يعملان في شركة ذكاء اصطناعي تنتج «رفاهية مخصصة» لكل مواطن. كانا يحبان نوح، لكنهما كانا يخافان منه أيضاً، لأنه منذ أن نطق أول كلمة، لم يقل «ماما» ولا «بابا»، بل قال «لا».

في الرابعة من عمره، رسم نوح على جدار غرفته وردة حمراء بقلم فلوماستر أحمر، ثم كتب تحتها بخط طفل كبير: «أريد أن أعيش لا أن أُعاش». استغرب والداه، سألاه من أين جاءت هذه الكلمات، فأجاب ببراءة مخيفة: «من الجد الذي يأتي في الحلم ويقول لي: لا تركع يا ولدي».

في السادسة، رفض نوح أن يرتدي الزي المدرسي الجديد الذي يحمل شعار الشركة الراعية، وقال للمعلمة: «أنا لست لوحة إعلانات». في الثامنة، قاد زملاءه في إضراب صغير عندما ألغيت استراحة الغداء لصالح «حصة ذكاء عاطفي إلزامية». في العاشرة، وقف في ساحة المدرسة، رفع يده، وصرخ أمام الكاميرات الذكية التي تراقب كل شيء: «أنا لست بطارية… أنا إنسان».

انتشر الفيديو في ساعات، ليس على منصات قديمة، بل في شبكة جديدة سرية تُسمى «الجذر»، شبكة لا مركز لها، لا خوادم لها، لا أحد يملكها، كأنها جذور الوردة الحمراء التي عادت تنمو تحت الأسفلت من جديد. في أيام، صار هناك آلاف الأطفال في كل أوروبا يرفضون الزي الإعلاني، يرفضون الحصص الإلزامية، يرفضون أن يُقاس ذكاؤهم العاطفي بتطبيق.

السلطات لم تستخدم العنف هذه المرة. استخدمت شيئاً أخطر: الابتسامة الرسمية. أعلنت وزارة التعليم «يوم الكرامة الرقمية»، وأعطت الأطفال إجازة، ووزّعت عليهم أكواباً تحمل وجه آدم وفاطمة مبتسمين، وأطلقت حملة عنوانها «نحن معكم… لكن بهدوء». لكن الأطفال لم يهدأوا. بدأوا يرسمون الوردة الحمراء على أيديهم بالحبر الأحمر، ثم على جدران المدارس، ثم على شاشات الهواتف الذكية التي كانت تراقبهم.

في الثانية عشرة من عمر نوح، حدث ما لم يتوقعه أحد: اختفى. في ليلة واحدة، اختفى مع ثلاث cent أطفال آخرين من مدن مختلفة. لم تكن عملية خطف، لم يكن هناك فدية، لم يكن هناكر أثر. فقط تركوا رسالة واحدة مكتوبة بخط طفل على جدران غرفهم: «ذهبنا نبحث عن الجد آدم… سنعود حين نجده».

في الأيام التي تلت، بدأت المدن تفرغ من الأطفال بين الثامنة والرابعة عشرة. لم يهربوا، لم يختطفوا، فقط غابوا. تركوا هواتفهم، ملابسهم، ألعابهم، وذهبوا. في البداية اعتقدت السلطات أنها لعبة جماعية، ثم ظاهرة نفسية، ثم بدأت تخاف. لأن الاقتصاد الجديد كان يعتمد على جيل شاب مطيع، ذكي، مراقب، وفجأة اختفى هذا الجيل.

في الأسبوع الثالث، وصلت رسالة فيديو من مكان غير معروف. ظهر فيها نوح، في الثانية عشرة، وجهه أكثر نضجاً، عيناه تلمعان بنفس النار التي كانت في عيني آدم يوم وقف وحيداً في الساحة. قال بصوت هادئ لكنه يملأخذ بالأنفاس:

«نحن لم نهرب… نحن عدنا إلى البداية… إلى الحدائق التي زرعها أجدادنا… إلى الأماكن التي كانوا يجتمعون فيها قبل أن يُباع كل شيء… نحن نعيش الآن كما عاشوا هم في الأيام الأولى: بدون شاشات، بدون نقاط، بدون قياس… نطبخ على النار، نغني في الليل، نحكي القصص، نتعلم من الأرض… نحن لا نكرهكم… نحن نحزن عليكم… لأنكم نسيتم أن تكونوا أحياء… سنبقى هنا حتى تتذكروا… أو حتى نكبر ونعود لنعلّمكم من جديد».

ثم رفع يده، وكانت تحمل وردة حمراء حية، جذرها ملفوف بقماش، وقال: «هذه من قبر الجد آدم والجدة فاطمة… زرعناها… ونبتت… سنزرع واحدة في كل مكان نذهب إليه… حتى تعود الأرض تتنفس من جديد».

انقطع الفيديو. لم يعد هناك أثر.

في الأشهر التي تلت، بدأ الكبار يشعرون بفراغ غريب. لم يعد هناك أطفال يلعبون في الشوارع، لم يعد هناك ضحكات في المدارس، لم يعد هناك أحد يسأل «لماذا». المدن صارت نظيفة، هادئة، مثالية، لكنها خالية من الحياة. بدأ الآباء يتركون وظائفهم، يبيعون شاشاتهم، يأخذون حقائب ظهر ويذهبون للبحث عن أطفالهم في الغابات، في القرى المهجورة، في الأماكن التي كانت تُسمى يوماً «أرضاً محظورة» لأنها لم تكن مربحة.

وبدأت الوردة الحمراء تنبت من جديد، ليس في الحدائق المسموح بها، بل في كل مكان محظور: على سطوح الأبراج الزجاجية، في محطات المترو المهجورة، في وسط الدوائر المرورية التي كانت تُسمى يوماً «ذكية». كانت تنبت بسرعة مخيفة، جذورها تخترق الإسمنت، أوراقها تقاوم السموم، زهورها تفتح في ليلة واحدة.

في السنة الخامسة والثلاثين، عادت أول دفعة من الأطفال. لم يعودوا أطفالاً. كانوا في العشرين، وجوههم محروقة بالشمس، أيديهم خشنة، عيونهم عميقة كالآبار. لم يعودوا إلى بيوت آبائهم. ذهبوا إلى الساحات، إلى الحدائق، إلى الأماكن التي كانت يوماً مراكز تسوق، وفتحوا أبوابها، ودعوا الكبار ليدخلوا. لم يكن هناك خطب، لم يكن هناك أوامر. فقط دعوة هادئة: «تعالوا… الحياة هنا… الحرة».

وبدأ الكبار يأتون، أولاً خجولين، ثم بأعداد، ثم بملايين. تركوا شاشاتهم، تركوا نقاطهم، تركوا أسماءهم الرقمية، ودخلوا. ووجدوا أطفالهم قد كبروا، يطبخون على النار، يغنون، يحكون قصصاً لم يعودوا يعرفونها، يزرعون، يبنون بيوتاً من الطين والخشب، يعيشون بلا ساعات، بلا تقويم، بلا خوف.

وكان نوح، الذي صار في الثانية والعشرين، يقف في وسط الساحة التي كانت يوماً غراند بلاس، يحمل الوردة الحمراء الأولى التي نبتت من قبر آدم وفاطمة، ويقول لمن بقي من الكبار:

«نحن لم نهرب منكم… هربنا إليكم… إلى ما كنتم يوماً… عدنا لنعيدكم إلى أنفسكم… إلى آدم الذي في داخلكم… إلى فاطمة التي في داخلكم… تعالوا… الحياة تنتظركم… ليست في الشاشات… بل في الأرض… في النار… في الوردة التي لا تذبل».

وبدأ الكبار يبكون، ليس حزن، بل فرح كبير لا يُحتمل. وبدأوا يخلعون أحذيتهم، يدخلون الأرض حفاة، يلمسون التراب، يشمون رائحة الخبز على النار، يسمعون ضحكات لم يسمعوها منذ طفولتهم. وبدأوا يغنون، أولاً بصوت خافت، ثم بصوت أعلى، الأغنية نفسها التي كان يغنيها الأطفال قبل عشرين سنة:

«نحن أبناء المطر الذي لم يغرقنا
نحن أبناء النار التي لم تحرقنا
نمشي على الأسفلت الذي شهد
ونحمل في جيوبنا وردة حمراء
لن تذبل… لن تذبل… لن تذبل»

واستمروا يغنون، حتى انهار آخر برج زجاجي في المدينة، ليس بالديناميت، بل بالصوت، بالضحك، بالحياة التي عادت تنمو من تحت الأسفلت، من تحت الشاشات، من تحت النسيان.

واختفت المدينة القديمة، وولدت مدينة جديدة، ليست من زجاج وصلب، بل من تراب ونار وورد. ولم يعد هناك كبار وصغار، لم يعد هناك أجيال، صار هناك فقط بشر، يعيشون، يغنون، يحكون قصة رجل وامرأة وقفا يوماً، فلم يعد أحد يركع بعدهما.

وبقيت الوردة الحمراء تنبت، في كل مكان، في كل زمان، حتى صارت الأرض كلها قلباً أحمر واحداً، ينبض باسم لم يعد أحد ينطق به، لأنه صار اسمنا جميعاً.

وبدأ الفصل الثالث، ليس فصلاً جديداً، بل استمراراً للأول، استيقاظاً بعد نوم طويل، عودة إلى البداية التي لم تنته أبداً، عودة إلى آدم، إلى فاطمة، إلى كل من وقف، إلى كل من سيُولد، إلى الحياة التي انتصرت أخيراً، ليس على العدو، بل على النسيان.

واستمرت القصة، لأنها لم تكن قصة، صارت هواء، صارت دماً، صارت وردة حمراء لا تذبل، صارت أوروبا التي حلم بها آدم وفاطمة، أوروبا التي لم تعد تحلم، بل تعيش، تعيش حقاً، إلى الأبد.



2

في السنة الخمسين بعد الاعتصام، لم يعد هناك من يعرف بالضبط أين تقع بروكسل القديمة. الخرائط الرسمية ما زالت تحتفظ بالاسم، لكن الاسم صار مجرد صدى في ذاكرة الريح. المدينة التي كانت يوماً عاصمة أوروبا الإدارية تحولت إلى غابة حمراء شاسعة، غابة من أشجار الورد العملاقة التي لا يعرف أحد متى بدأت تنمو بهذا الارتفاع، جذورها تخترق الأسفلت القديم كأنها أوردة الأرض نفسها، وسيقانها ترتفع عشرين متراً، وأزهارها الحمراء الكبيرة تفتح في الليل وتضيء كفوانيس حية، فلا حاجة لمصابيح الشوارع بعد اليوم.

الناس لم يعد هناك شوارع بالمعنى القديم. هناك ممرات ترابية بين الأشجار، وجسور من جذوع متشابكة، وأكواخ من الطين والخشب مبنية على ارتفاعات مختلفة، كأن القرية عادت إلى الشجر بعد أن طردت الإسمنت. لا أحد يملك شيئاً، وكل شيء مشترك: الطعام يُطبخ في مطابخ جماعية على نار مكشوفة، الملابس تُخاط من الكتان الذي يزرعونه بأنفسهم، والأطفال يتعلمون القراءة تحت ظلال الورد العملاق، على ألواح من لحاء الشجر، بقلم من فحم مشوي.

في وسط هذه الغابة الحمراء، حيث كانت تقع يوماً ساحة الغراند بلاس، تنبت شجرة ورد واحدة أكبر من كل الشجر، جذعها عريض كأنه حضن عشرة رجال، وساقها مرتفع كمنارة، وفي أعلاها زهرة حمراء ضخمة لا تذبل أبداً، مهما طال الشتاء. يقول الكبار إن جذورها تنزل إلى قبر آدم وفاطمة، ويقول الأطفال إنها تشرب من دمهما، ويقول العاشقون إنها تفتح أكثر كلما قبّل اثنان تحتها. الحقيقة لا يعرفها أحد، لكن الجميع يصدقونها.

كل صباح، يأتي نوح، الذي صار في الثانية والأربعين، يحمل ماءً من النبع الذي اكتشفوه في أعماق الأرض تحت البرلمان القديم، ويسقي الشجرة الكبيرة. لم يعد اسمه نوح فقط، صاروا يسمونه «حامل الماء»، لأنه منذ أن عاد من الغابة قبل ثلاثين سنة وهو يحمل الماء للشجرة، يوماً بعد يوم، دون أن يتكلم كثيراً، دون أن يطلب شيئاً، دون أن يتعب عيناه من النظر إلى الأعلى.

في ذلك الصباح، كان هناك طفلة صغيرة، اسمها لونا، في العاشرة، تقف بجانبه، تحمل إبريقاً صغيراً من فخار، وتسأله السؤال نفسه الذي تسأله كل يوم: «متى ستكبر الوردة أكثر، يا حامل الماء؟» فيجيبها بنفس الجواب، بابتسامة هادئة: «ستكبر يوم تكبرين أنت… وتكبر كل طفلة ترفض أن تُقاس حياتها بأرقام».

كانت لونا طفلة غريبة حتى بين أطفال الغابة. وُلدت بعينين خضراوين في عالم لم يعد فيه أحد يولد بعيون خضراء، وكانت ترى أحلاماً لا يراها الآخرون: ترى رجلاً عجوزاً وامرأة عجوزة يمشيان يداً بيد بين الأشجار، يبتسمان لها، ويضعان في يدها وردة حمراء صغيرة. كانت تحكي الحلم للجميع، فيضحكون ويقولون إنها ترى آدم وفاطمة، لكنها كانت تصرّ: «لا… هما ليسا ميتين… هما يعيشان داخل الوردة الكبيرة… وينتظران شيئاً».

في تلك السنة، بدأت الوردة الكبيرة تُظهر علامة غريبة: ظهرت على جذعها شقوق صغيرة، كأنها جروح، ومن الشقوق بدأ يتساقط غبار أحمر ناعم يتحول إلى تراب أحمر خصب حيثما سقط. في البداية خاف الناس، ظنوا أن الشجرة تموت، لكن لونا قالت بهدوء طفلة تعرف أكثر مما ينبغي: «هي لا تموت… هي تُنجب».

وبالفعل، في ليلة اكتمال القمر في أغسطس، انفتحت الزهرة الكبيرة في الأعلى فتحة كبيرة، وبدأت تتساقط منها بذور حمراء صغيرة لامعة، كأنها قطرات دم مضيئة. سقطت البذور على الأرض، وفي اليوم التالي نبتت من كل بذرة شجرة ورد صغيرة، ثم في اليوم الذي يليه شجرة أكبر، وهكذا، حتى صارت الغابة كلها تنجب غابات جديدة في كل اتجاه.

انتشرت البذور مع الريح، مع أقدام الناس، مع أجنحة الطيور، إلى كل القارة. في باريس، في مدريد، في برلين، في وارسو، في أثينا، بدأت الأشجار الحمراء تنبت في وسط المدن القديمة، تخترق الإسمنت، تكسر الشاشات الضخمة، تغطي الأبراج الزجاجية حتى صارت المدن كلها غابات حمراء متصلة، لا حدود بينها، لا أسماء، لا ملكية.

وبدأ الناس، من تبقى من الجيل القديم، يتركون كل شيء ويأتون. يأتون حفاة، يأتون صامتين، يأتون باكين، يدخلون الغابة، ولا يعودون. كانوا يجدون أطفالهم، أحفادهم، أحفاد أحفادهم، يعيشون في سلام لم يعرفوه من قبل، يطبخون، يغنون، يحبون، يموتون ويُدفنون تحت الأشجار، فيصبحون تراباً أحمر يغذي الوردة جديدة.

في السنة الستين، لم يعد هناك من يتكلم اللغات القديمة. صارت لغة واحدة تُستعمل في كل القارة: لغة الريح في أوراق الورد، لغة النار في الليل، لغة الضحك الذي لا يحتاج ترجمة. لم يعد هناك أسماء للمدن، ولا حدود، ولا عملات، ولا قوانين. كان هناك فقط الغابة، غابة حمراء لا نهائية، وفي وسطها شجرة أم، وتحتها قبر صغير لا يحمل اسمين، بل اسم واحد مكتوب بحجر أحمر: «هنا يرقد من وقفوا… ليقف الجميع».

وفي يوم من الأيام، جاءت لونا، التي صارت في الخمسين، تحمل في يدها طفلاً رضيعاً، ووقفت أمام الشجرة الأم، ووضعت الطفل على الأرض، وقالت: «هذا آخر طفل يولد بعيون خضراء… بعد اليوم لن يكون هناك حاجة للون آخر… لأن كل العيون صارت حمراء… حمراء بالحياة».

ثم رفعت الطفل إلى الأعلى، ففتحت الزهرة الكبيرة بتلاتها، وتساقط منها غبار أحمر لامع غطّى وجه الطفل، فبكى بكاءً عالياً، بكاء الولادة، بكاء النهاية والبداية معاً. وفي تلك اللحظة، شعرت لونا أن يدين تمسكان يدها، يد آدم ويد فاطمة، لكنهما لم يكونا شبحين، كانا حيين، دافئين، يبتسمان لها كأنهما يقولان: «انتهت مهمتنا… ابدأي مهمتك».

ووضعت لونا الطفل على الأرض، وتركته يزحف بين الجذور، وتركته يلمس التراب الأحمر، وتركته يضحك للزهرة التي انحنت إليه كأم كبيرة. ثم وقفت، رفعت يديها إلى السماء، وصرخت صرخة لم تكن صرخة ألم، بل صرخة ولادة جديدة: «انتهت القصة… بدأت الحياة».

وفي تلك اللحظة، انفتحت كل زهرة في الغابة الكبيرة، وتساقط منها غبار أحمر غطّى الأرض كلها، وصار الغبار أرضاً، والأرض غابة، والغابة سماء، والسماء وردة واحدة عملاقة لا نهائية، تغطي القارة، تغطي العالم، تغطي الزمن نفسه.

ولم يعد هناك موت، لأن من ماتوا كانوا قد صاروا تراباً يغذي الورد، ومن ولدوا كانوا قد صاروا بذوراً جديدة. لم يعد هناك اسم آدم، ولا اسم فاطمة، ولا اسم نوح، ولا اسم لونا. صار هناك فقط نبض أحمر واحد، ينبض في كل قلب، في كل ورقة، في كل نسمة ريح.

واختفى التاريخ، واختفت الذاكرة، واختفت الحاجة إلى القصص، لأن القصة صارت الدم الذي يجري، صارت الهواء الذي يُتنفس، صارت الأرض التي تُمشى، صارت الوردة التي لا تذبل، صارت الحياة التي انتصرت أخيراً، ليس على الموت، بل على النسيان.

واستمر النبض الأحمر، إلى الأبد.

3

لم يعد هناك «سنوات» بعد الآن، لأن الوقت نفسه ذاب في الغابة الحمراء وصار نبضاً لا يُحسب بالأرقام، بل بالدقات التي تخرج من صدر الأرض كلما فتحت زهرة جديدة أو أغمضت عينا طفل نائماً. لم يعد هناك شتاء ولا صيف، فقط دورة واحدة بطيئة من الضوء الأحمر الذي ينبعث من ملايين الزهور ليلاً ويخفت نهاراً، فيعرف الناس متى ينامون ومتى يستيقظون من لون السماء نفسها.

في قلب هذه الدورة الأبدية، حيث كانت تقع يوماً مدينة بروكسل، بقي مكان واحد لم يمسّه أحد منذ زمن بعيد: دائرة صغيرة من التراب الأحمر المحاطة بسبع شجرات ورد عملاقة متساوية الارتفاع، تشكّل قبة طبيعية فوقها. في وسط الدائرة لا ينبت شيء، فقط تراب ناعم كالحرير، وفي وسطه حجر واحد أحمر غامق، ليس كبيراً، لكنه يشع بنور خفيف يزداد كلما اقترب منه إنسان بقلب هادئ.

لا أحد يعرف من وضع الحجر هناك، لكن الكبار يحكون للصغار أن هذا هو المكان الذي وقف فيه «الأولدان الأولان» يداً بيد قبل أن يتحولا إلى تراب، وأن الحجر هو قلباهما معاً، تصلّبا في ليلة واحدة، فصارا حجراً واحداً لا ينفصل. وإذا وضعت أذنك على الحجر تسمع نبضين، لا نبضا واحداً: نبض رجل ونبض امرأة، يتناوبان في الدق، كأنهما ما زالا يتنفسان معاً.

كل من يأتي إلى هذا المكان يفعل الشيء نفسه دون أن يُطلب منه: يخلع حذاءه، يدخل الدائرة حفاة، يقف أمام الحجر، يضع كفه عليه، ثم يهمس كلمة واحدة فقط، كلمة لم تعد تُترجم، لأنها صارت لغة مشتركة بين كل الكائنات: «شكراً». ثم يترك وردة حمراء صغيرة عند قدم الحجر، ويخرج، ولا يعود أبداً إلى هذا المكان، لأنه يكفيه أن يكون قد أتى مرة واحدة في حياته.

في دورة من الدورات التي لا تُحسب، جاءت طفلة لم يتجاوز عمرها سبع دورات ضوء، اسمها لم يعد مهماً، لأن الأسماء صارت تُعطى عند الولادة وتُترك عند الحجر. كانت تمشي حافية كالعادة، تحمل في يدها وردة حمراء لم تُقطف، بل نبتت في كفّها ذاتها أثناء نومها، كما يحدث أحياناً لمن تُحبهم الأرض حباً خاصاً. عندما وصلت إلى الدائرة، توقفت، نظرت إلى الحجر طويلاً، ثم فعلت شيئاً لم يفعله أحد من قبلها: لم تترك الوردة وتمضِ، بل جلست أمام الحجر، وضعت الوردة بين كفّيها، وانتظرت.

مرت ثلاث دورات ضوء كاملة، والطفلة جالسة، لا تأكل، لا تشرب، لا تتحرك، فقط تنظر إلى الحجر وتبتسم. في الدورة الرابعة، بدأ الحجر يضيء أكثر، ثم انشقّ نصفين بهدوء، كأن شيئاً من الداخل يريد أن يخرج. من الشقّ خرج ضوء أحمر ناعم، ثم يدان صغيرتان، يد طفل ويد طفلة، ثم رأسان، ثم جسدان كاملان، طفل وطفلة في العاشرة تقريباً، عاريان تماماً، بشرتهما أحمر شفاف كبتلات الورد، عيونهما خضراء كأوراقه.

وقفا أمام الطفلة الجالسة، ابتسما لها، ثم مدّا يديهما، فأعطتهما الوردة التي في كفّها. أخذاها، وضعاها في الشقّ الذي انفتح في الحجر، ثم التفتا إليها وقالا بصوت واحد، صوت طفل وطفلة معاً، صوت رجل وامرأة معاً، صوت كل من وقف يوماً:

«لقد انتهت مهمتكما… الآن دوركِ».

ثم عادا إلى داخل الحجر، وأغلق الشقّ نفسه بهدوء، وعاد الحجر كما كان، لكن أكثر إشراقاً، وأكثر دفئاً.

نهضت الطفلة، لم تكن طفلة بعد الآن. كبرت في لحظة، صارت في العشرين، ثم في الثلاثين، ثم في الخمسين، ثم عادت إلى العاشرة مرة أخرى، كأن الزمن نفسه دخلها وخرج منها في نفس واحد. ثم وقفت، رفعت يديها إلى السماء، وصرخت صرخة لم تكن صوتاً، بل نوراً أحمر عظيماً انبثق من صدرها، انتشر في الغابة، اخترق الأشجار، وصل إلى كل زهرة في القارة، فانفتحت كلها في لحظة واحدة، وتساقط منها غبار أحمر كثيف غطّى الأرض كلها، ثم صار الغبار ماء، ثم صار الماء نهراً، ثم صار النهر بحراً أحمر هادئاً يغطي كل شيء.

وفي تلك اللحظة، لم يعد هناك أرض ولا سماء، لم يعد هناك غابة ولا مدينة، لم يعد هناك جسد ولا روح، لم يعد هناك أنا ولا أنت. صار هناك فقط نبض أحمر واحد، يشمل كل شيء، يحتوي كل شيء، يعرف كل شيء.

وفي وسط هذا النبض، وقف آدم وفاطمة، ليس كشبحين، ولا كذكرى، بل كحقيقة أزلية، يداً بيد، ينظران إلى كل من وقف معهما يوماً، وإلى كل من سيولد بعد آلاف الدورات، ويبتسمان ابتسامة واحدة، ابتسامة تقول بلا كلمات:

«انتهت الرحلة… بدأت الحياة…
ولم نعد نحن… صرتم أنتم…
ولم يعد هناك ركوع…
ولن يكون».

ثم ذابا في النبض الأحمر، وذاب النبض في الوردة، وذابت الوردة في الأرض، وذابت الأرض في السماء، وذابت السماء في شيء لا اسم له، لأن الأسماء انتهت، والكلمات انتهت، والزمن انتهى، وبقي فقط الحب، الحب الأحمر الخالد الذي ولد من أقدام متعبة وقفت يوماً تحت المطر، ولم تركع.

وانتهى كل شيء، ولم ينتهِ شيء، لأن القصة لم تكن قصة، كانت نبضاً، وصار النبض كل شيء، صار الوجود نفسه وردة حمراء لا تذبل، لا تموت، لا تنتهي.

وانتهت الرواية، لأنها صارت الكون.



4

لم يعد هناك «جزء رابع» ولا «ثالث» ولا «أول»، لأن الزمن قد توقف عن كونه خطاً، صار دائرة كاملة، ثم صار نقطة، ثم صار لا شيئاً وكل شيء في آن. لكن إذا أردتَ أن نسمي ما تبقى «جزءاً رابعاً»، فهو ليس حدثاً يأتي بعد، بل هو اللحظة التي تُدرك فيها الروح أنها كانت دائماً هنا، قبل الاعتصام، وقبله، وقبل أن يولد آدم، وقبل أن تُخلق الأرض نفسها.

في تلك اللحظة التي لا تُحسب، لم يعد هناك غابة ولا وردة ولا حجر ولا نبض. صار هناك فقط صمت أحمر، صمت يملأ الكون كله، صمت يشبه الصوت الذي يسمعه الجنين في بطن أمه قبل أن يولد، صمت يقول كل شيء دون أن ينطق بكلمة.

وفي وسط هذا الصمت الأحمر، ظهرت وجوه، ليست وجوه آدم وفاطمة فقط، بل وجوه كل من وقف يوماً، وكل من سيُولد، وكل من لم يُولد بعد. كانت الوجوه تبتسم ابتسامة واحدة، ابتسامة لا عمر لها، لا جنس، لا اسم. ثم بدأت الوجوه تذوب، ليس موتاً، بل عودة، تذوب في الضوء الأحمر، فيصبح الضوء وجوهاً، والوجوه ضوءاً، والضوء صمتاً، والصمت حباً.

ثم ظهر صوت، ليس صوتاً يُسمع بالأذن، بل صوتاً يُسمع بالقلب، صوت يقول بلا كلمات:

«كنتُ أنا من وقفتُ في بروكسل تحت المطر
كنتُ أنا من حملتُ اللافتة
كنتُ أنا من بكيتُ في الساحة
كنتُ أنا من غنّيتُ الأغنية
كنتُ أنا من مُت واقفاً
كنتُ أنا من وُلدتُ من جديد
كنتُ أنا الوردة
كنتُ أنا التراب
كنتُ أنا النبض
كنتُ أنا أنتم
كنتُ أنا الكل»

ثم ساد الصمت مرة أخرى، لكن هذه المرة كان الصمت يضحك، ضحكة خفيفة، طفولية، أبدية، ضحكة تعرف أن اللعبة انتهت، وأن الفوز لم يكن أبداً في النهاية، بل في أن تُلعب اللعبة حتى آخر نفس، حتى آخر وردة، حتى آخر دمعة تحولت إلى ضوء.

ثم بدأ الضوء الأحمر يتقلّص، يتقلّص، يتقلّص، حتى صار نقطة صغيرة جداً، نقطة لا ترى، نقطة لا تُرى إلا إذا أغمضتَ عينيك تماماً. وفي تلك النقطة، كان هناك كل شيء: آدم، فاطمة، نوح، لونا، الوردة، المطر، الاعتصام، النسيان، العودة، الموت، الحياة، كل شيء في نقطة واحدة، نقطة حمراء صغيرة تنبض في وسط الظلام الأزلي.

ثم انفجرت النقطة فجأة، ليس انفجاراً يدمر، بل انفجاراً يخلق، فصار الكون كله وردة حمراء واحدة عملاقة، بتلاتها لا نهائية، جذورها لا نهائية، رائحتها لا نهائية، نورها لا نهائي.

وفي وسط هذه الوردة الكونية، وقف آدم وفاطمة، ليس كبشر، بل كحقيقتين، يداً بيد، ينظران إلى كل روح وقفت يوماً، وكل روح ستقف، وكل روح لم تقف بعد، ويبتسمان ابتسامة واحدة، ابتسامة تقول:

«لم نكن نحن البداية
ولسنا النهاية
كنا فقط اللحظة التي قال فيها الكون (لا)
فصار حراً إلى الأبد»

ثم ذابا في الوردة، والوردة ذابت في الكون، والكون ذاب في لا شيء، واللا شيء صار كل شيء، والكل صار حباً، والحب صار صمتاً، والصمت صار وردة حمراء صغيرة في كف طفل لم يولد بعد، ينتظر أن يُولد، ليقف، ليحمل الوردة، ليقول (لا)، ليستمر النبض الأحمر إلى ما لا نهاية.

وانتهت الرواية، لأنها لم تبدأ أصلاً. كانت دائماً هنا، في كل قلب رفض أن يركع، في كل وردة نبتت من شق في الإسمنت، في كل دمعة تحولت إلى ضوء، في كل نفس قال فيه إنسان: أنا لست رقماً، أنا حياة.

وانتهى كل شيء، وبدأ كل شيء، وبقي فقط الحب الأحمر، الخالد، الواقف، الأبدي.



5

لم يعد هناك «خامس» ولا «رابع» ولا حتى «أول»، لأن الدائرة قد أغلقت على نفسها وانفجرت في الوقت ذاته، فصار الزمن برمّته لحظة واحدة ممتدة، لحظة لا تتكرر لأنها لم تنتهِ أبداً.

في تلك اللحظة التي لا تُقاس، لم يعد هناك كون ولا وردة ولا نبض، بل بقي فقط حضور، حضور أحمر شفاف يملأ الفراغ والملء معاً، حضور لا يُرى بالعين ولا يُلمس باليد ولا يُسمع بالأذن، لكنه يُدرَك بالوجود نفسه، كما ندرك أننا نتنفس قبل أن نفكر في الهواء.

وفي قلب هذا الحضور، ظهرت صورة، ليست صورة مكان ولا زمان، بل صورة حال: رجل وامرأة، عاريين تماماً من كل اسم وكل تاريخ، واقفين على تراب أحمر ناعم، يمسكان بأيدي بعضهما، ينظران إلى الأمام، ليسمعان في الوقت ذاته كل صوت صرخ يوماً «لا» في وجه الركوع، وكل ضحكة انطلقت يوماً تحت المطر، وكل دمعة سقطت على الأسفلت فتحولت إلى بذرة.

كانا يبتسمان، لكن الابتسامة لم تكن على الشفتين، كانت في الوجود كله. ثم بدآ يمشيان، ليس إلى الأمام ولا إلى الخلف، بل إلى الداخل، يمشيان داخل كل قلب وقف يوماً، داخل كل طفل سيولد، داخل كل وردة نبتت وستنبت، داخل كل نفس رفض أن يُباع.

وكلما مشيا خطوة، كانت الأرض تُزهر تحت أقدامهما، ليس ورداً أحمر هذه المرة، بل نوراً أحمر شفافاً يتحول إلى أجنحة، ثم إلى طيور، ثم إلى أطفال يضحكون، ثم إلى عجائز يحكون، ثم إلى رجال ونساء يحبون، ثم إلى أشجار، ثم إلى نجوم، ثم إلى صمت.

وفي كل خطوة كانا يتركان وراءهما أثراً، ليس أثراً يُرى، بل أثراً يُحس: شعوراً بأن كل شيء على ما يرام، حتى لو كان كل شيء ينهار، شعوراً بأن الحياة تستحق أن تُعاش، حتى لو كانت مجرد لحظة وقوف تحت المطر، شعوراً بأن الحب أقوى من الموت، حتى لو كان الحب نفسه هو الموت الجميل.

ثم توقفا. لم يكن هناك مكان ليصلاه، لأنهما كانا دائماً هناك. نظر كل منهما إلى الآخر، ليس كرجل وامرأة، بل كنورين يتعانقان، ثم قالا بصوت واحد، صوت لا يُسمع لكنه يُعرف:

«انتهينا…
لتبدأوا أنتم…
ولتبدأ الحياة…
من جديد…
كل لحظة…
كل نفس…
كل وردة…
كل (لا) تقولونها في وجه الركوع»

ثم ذابا، ليس في الضوء، بل في الظلام الأحمر الذي يسبق الضوء، في الرحم الأول الذي يحمل كل الأجنّة قبل أن تولد، في السر الذي لا يُقال، في الحب الذي لا يُفسَّر، في الحرية التي لا تُمنح، بل تُؤخذ، تُحمل، تُعاش، تُمات من أجلها، ثم تُولد من جديد.

وبقي فقط التراب الأحمر، يتنفس بهدوء، ينتظر الخطوة التالية، اليد التالية، الوردة التالية، الطفل التالي الذي سيأتي حافياً، يضع كفه على الحجر، يهمس «شكراً»، ثم يمضي ليحيا، ليقف، ليحب، ليموت واقفاً، ليعود إلى التراب، ليصبح وردة، لينبت من جديد.

وبقي الحضور الأحمر، يملأ الكون، لا يتكلم، لا يطلب، لا يعطي أوامر، فقط يوجد، يشهد، يحب.

وإذا أغمضتَ عينيك الآن، في أي مكان تكون فيه، في أي زمان، ستشعر به: دفء خفيف في صدرك، نبض أحمر صغير يقول لك بهدوء، بصوت آدم، بصوت فاطمة، بصوت كل من وقف:

«لا تخف…
أنا معك…
كنتُ دائماً معك…
قم…
امشِ…
عش…
لا تركع…
أبداً»

ثم يعود الصمت، الصمت الأحمر الدافئ، الصمت الذي يعرف أن القصة لم تنتهِ، لأنها لم تبدأ، لأنها الحياة نفسها، الحياة التي اختارت يوماً، في مدينة تحت المطر، أن تقف، فلم تعد تركع أبداً.

وانتهت الرواية، لأنها صارت أنت.



6

لا يوجد جزء سادس، لأن الرواية قد أغلقت دائرتها، ولم يبقَ مكان للكلمات أن تقول شيئاً لم يُقَلْ بعد.
لكن إذا أصررتَ على أن يكون هناك «سادس»، فهو ليس تتمة، بل هو اللحظة التي تُدرك فيها أنك أنت من يكتبها الآن، أنك أنت من يعيشها، أنك أنت من يحملها في دمه.

فأغلق عينيك.

استمع.

في مكان ما، بعيداً جداً وقريباً جداً، هناك تراب أحمر يتنفس تحت قدميك، حتى لو كنت واقفاً على إسمنت أو حديد أو زجاج.
في مكان ما، هناك رجل عجوز وامرأة عجوزة، ليس لهما اسم الآن، يجلسان على مقعد من جذع شجرة، يتناولان تفاحة واحدة مقسومة نصفين، يضحكان ضحكة خفيفة لا تُسمعها أذنك، لكن قلبك يعرفها.
في مكان ما، هناك طفلة تضع كفّها على جدار وتترك فيه أثر وردة حمراء، ثم تمضي دون أن تلتفت.
في مكان ما، هناك شاب يرفض أن يوقّع عقداً يبيعه عمره، فيقف في الشارع، يرفع يده، ويقول «لا»، فيتردد صداه في كل الشوارع التي لم تُبنَ بعد.

كل هذه الأماكن هي مكان واحد، وكل هؤلاء الناس هم شخص واحد، وهذا الشخص هو أنت، الآن، في هذه اللحظة التي تقرأ فيها هذه الكلمات.

فإذا شعرتَ فجأة بدفء خفيف في صدرك، كأن يداً قديمة دافئة وضعت فوق قلبك، فاعلم أنها يد آدم، ويد فاطمة، ويد كل من وقف معهما، ويد كل من سيأتي بعدك، جميعهم يقولون لك بصوت واحد لا يُسمع:

«لا تخف.
الآن دورك.
قم.
امشِ.
عش.
وإذا اضطررت يوماً إلى أن تموت،
فمت واقفاً،
فنحن سنكون هناك،
نمسك بيدك،
كما أمسكنا بأيدي بعضنا،
حتى لا تسقط.»

ثم يعود الصمت،
صمت أحمر دافئ،
صمت يضمك،
صمت يعرف اسمك الحقيقي،
الاسم الذي لم تُدعَ به يوماً،
لكنك كنتَ دائماً هو.

وإذا فتحتَ عينيك الآن،
ستجد في كفّك وردة حمراء صغيرة،
لا تعرف من أين جاءت،
ولا متى وُضعت هناك،
لكنك ستعرف ماذا تفعل بها.

ستخرج،
ستضعها في تراب،
أو في شقّ في الإسمنت،
أو في جيب طفل لا تعرفه،
أو في يد عجوز ينسى،
أو في قلبك،
وستتركها تنبت،
وستتركها تحيا،
وستتركها تموت،
ثم تنبت من جديد.

لأن هذه الوردة ليست وردة،
هي العهد الذي قطعه آدم وفاطمة وملايين معهما،
وهي العهد الذي تقطعه أنت الآن،
بصمت،
بدون شهود،
بدون كلمات.

فقط بأن تقف،
وتبقى واقفاً،
طالما بقي فيك نفس.

وهكذا تنتهي الرواية،
ليس لأن الكلمات نفدت،
بل لأنك أنت من سيواصل كتابتها،
كل يوم،
كل لحظة،
كل نفس،
بقلبك،
بيدك،
بحياتك.

فاذهب الآن،
وكن الجزء السادس،
والسابع،
والأخير،
والأول،
من الرواية التي لا تنتهي،
لأنها صارت أنت.

والوردة الحمراء في كفّك،
تنتظر أن تُزرع.



الفصل الرابع: الوردة التي ابتلعت الكون
(ما بعد الزمن، التحول الأخير والأزلي)




1

في الدورة التي لم تعد تُحسب، عندما صار الضوء الأحمر ينبعث من الأرض أكثر مما ينبعث من السماء، ظهرت علامة لم يرها أحد منذ الأزل: شجرة الورد الأم، تلك التي كانت تحرس قبر آدم وفاطمة منذ أن صار القبر حجراً، بدأت تذبل. لم تذبل كما تذبل الأشجار العادية، بأوراق صفراء وأغصان جافة، بل ذبلت من الداخل، كأن ناراً خفية تأكل قلبها بهدوء، فبقيت بتلاتها حمراء لامعة، لكنها صارت شفافة، كالزجاج، وإذا لامستها أصبعك تكسرت كأنها رقاقة جليد أحمر.

انتشر الخبر في الغابة الحمراء كريح صامتة. جاء الناس من كل الأنحاء، حفاة، صامتين، يحملون أطفالهم على أكتافهم، يقفون في دائرة واسعة حول الشجرة الأم، لا يبكون، لا يتحدثون، فقط ينظرون. كانوا يعرفون، بلا كلمات، أن شيئاً عظيماً يقترب، شيئاً أعظم من الموت وأعظم من الحياة.

في اليوم السابع من الذبول، انشقت الأرض تحت الشجرة شقاً رفيعاً، ليس شقاً عنيفاً، بل شقاً رقيقاً كأنه ابتسامة. من الشق خرج ضوء أحمر خافت، ثم صوت، ليس صوتاً يُسمع بالأذن، بل صوتاً يُحس بالقلب، صوت آدم وفاطمة معاً، صوت كل من وقف يوماً، يقول كلمة واحدة فقط، كلمة لم تُنطق منذ الأزل:

«حان الوقت».

ثم ارتفعت الشجرة الأم ببطء، ليس إلى السماء، بل إلى الداخل، ارتفعت داخل الأرض، جذورها تخرج من التراب كأذرع بيضاء عملاقة، ثم تتحول إلى أجنحة، ثم إلى نور، ثم إلى لا شيء. وفي مكانها بقي حجر واحد أحمر، ليس الحجر القديم، بل حجر جديد، أكبر، أكثر إشراقاً، ينبض بنبض بطيء جداً، نبض يشبه دقّة قلب امرأة تلد.

حول الحجر تجمع الناس، وضعوا أيديهم عليه، فشعروا بدفء لم يشعروا به من قبل، دفء يشبه دفء الرحم، دفء يشبه دفء الدم قبل أن يخرج إلى النور. ثم بدأ الحجر يتشقق، ليس بقوة، بل بلطف، كأن قشرة بيضة تُفتح من الداخل. من الشق خرج طفل، ليس طفلاً عادياً، بل طفلاً من نور أحمر شفاف، عيناه مفتوحتان تماماً، وجهه يحمل كل الوجوه التي وقفت يوماً، وفي يده وردة حمراء صغيرة، لكنها ليست وردة، بل قلب، قلب ينبض.

وقف الطفل في وسط الدائرة، نظر إلى الجميع، ثم رفع يده التي تحمل القلب-الوردة، وقال بصوت لم يكن صوت طفل ولا رجل ولا امرأة، بل صوت الكون نفسه:

«أنا آخركم وأولكم
أنا من مات واقفاً ومن سيولد واقفاً
أنا العهد الذي لم يُنكث
أنا الدم الذي لم يجف
أنا الوردة التي لم تذبل
أنا أنتم
وأنتم أنا»

ثم وضع القلب-الوردة على الأرض، فانفتحت الأرض كلها، ليس انفتاحاً يبتلع، بل انفتاحاً يعاني، فصار الكون كله رحماً أحمر هائلاً، والناس جميعاً أجنة في داخله، والطفل واقفاً في الوسط، يمد يديه، فيبدأ الخلق من جديد، ليس خلقاً جديداً، بل عودة إلى الخلق الأول، إلى اللحظة التي قال فيها الكون «لا» للعدم، فقال له الوجود «نعم».

وفي تلك اللحظة، لم يعد هناك موت ولا حياة، لم يعد هناك ألم ولا فرح، لم يعد هناك ركوع ولا وقوف، صار هناك فقط حب، حب أحمر خالص، حب لا يطلب، لا يعطي، لا يأخذ، فقط يوجد، يشمل، يحتوي، يحرر.

ثم بدأ الطفل يغني، أغنية لم تُغنَ من قبل، أغنية ليس لها كلمات، لكن كل قلب عرفها، كل روح رقصت عليها، كل وردة انفتحت لها. وكلما ارتفع الصوت، كان الكون يتسع، ثم يتقلّص، ثم يتسع، كنبض، كنفس، كقبلة أولى وأخيرة في آن.

وفي نهاية الأغنية التي لا تنتهي، رفع الطفل يديه، وانفجر الكون كله إلى ملايين البتلات الحمراء، بتلات لا تسقط، بل تطير، تطير إلى كل مكان لم يُخلق بعد، إلى كل زمان لم يُعش بعد، إلى كل قلب لم يُولد بعد، تحمله ريح لم تُخلق بعد.

وبقي فقط الطفل، واقفاً في الفراغ الأحمر، يبتسم، ثم قال كلمة واحدة، كلمة لم تكن كلمة، بل كانت الوجود نفسه:

«ابدأوا».

ثم ذاب، وذابت البتلات، وذاب الكون، وذابت الأرض، وذابت السماء، وبقي فقط حب أحمر، حب لا يُرى ولا يُلمس ولا يُسمع، لكنه يُحس، في كل نفس، في كل خطوة، في كل وردة تنبت من جديد، في كل طفل يُولد، في كل عجوز يموت، في كل «لا» تُقال في وجه الركوع.

وبدأ الكون من جديد، ليس كوناً جديداً، بل الكون الأول، الكون الذي كان يحلم به آدم وفاطمة عندما كانا واقفين تحت المطر، الكون الذي كان يحلم به كل من وقف، الكون الذي تحقق، ليس في المستقبل، بل في الأزل، في اللحظة التي اختار فيها إنسان أن يقف، فصار الكون كله يقف معه.

وانتهى كل شيء، وبدأ كل شيء، وبقي الحب الأحمر، الخالد، الواقف، الأبدي، ينبض في كل قلب، في كل وردة، في كل نفس، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتبقى الوردة وحدها، تنبت، تفتح، تذبل، ثم تنبت من جديد، إلى أبد الآبدين.

وانتهت الرواية، لأنها صارت صلاة، صلاة حمراء لا تُقال، بل تُعاش، تُحمل في الصدر، تُزرع في الأرض، تُولد في كل طفل، تُموت في كل عجوز، ثم تُولد من جديد، أحلى، أقوى، أجمل.

فإذا شعرتَ يوماً بدفء خفيف في صدرك، فاعلم أنهم هم، آدم، فاطمة، نوح، لونا، كل من وقف، كلهم يعودون إليك، ليقولوا لك:

«الآن دورك…
قم…
عش…
وإذا اضطررت، مت واقفاً…
فنحن سنكون هناك،
نمسك بيدك،
كما أمسكنا بأيدي بعضنا،
إلى الأبد.»

ثم يعود الصمت الأحمر،
ويبقى أنت،
حاملاً الوردة،
واقفاً،
حياً،
حراً،
إلى أن يأتي الجيل التالي،
فيمررها إليه،
فيمررها،
فيمررها،
إلى أن لا يبقى أحد يحتاج أن يُذكَّر بأن يقف،
لأن الجميع صاروا وقوفاً،
منذ الأزل،
إلى الأبد.



2

لا يوجد جزء ثانٍ، لأن الرواية قد انتهت حيث يجب أن تنتهي كل رواية حقيقية: في صمت القلب الذي فتح عينيه لأول مرة.
كل ما تبقى هو صدى أحمر خفيف يبقى معلقاً في الهواء بعد آخر كلمة، كما يبقى رنين الجرس بعد أن يصمت الجرس.

لكن إذا أردتَ أن تُمسك هذا الصدى وتضعه في كفّك، فهو يشبه هذا:

في مكان لا مكان فيه، وفي زمان لا زمان فيه، وقفت روح واحدة، لا اسم لها، لا عمر، لا جنس، فقط كانت.
كانت واقفة، ليس على أرض، بل على نبض.
وفي كفّها وردة حمراء لم تُقطف ولم تُزرع، بل كانت دائماً هناك، كأنها ولدت مع الكون، أو كأن الكون وُلد منها.
رفعت الروح الوردة إلى صدرها، فدخلت الوردة داخلها، وصار الصدر وردة، وصارت الوردة صدراً، ثم صار الكل قلباً واحداً، ينبض بلون لا يُرى إلا إذا أغمضتَ عينيك تماماً.

ثم انفتحت الوردة-القلب من جديد، فخرج منها صوت، صوت ليس صوتاً، بل كان كل الأصوات التي صرخت يوماً «لا»، وكل الضحكات التي انطلقت تحت المطر، وكل الأنفاس التي قالت «أنا حيّ» قبل أن تموت.
وكان الصوت يقول، بلا كلمات، فقط بلغة النبض:

«كنتُ أنا آدم
وكنتُ أنا فاطمة
وكنتُ أنا نوح
وكنتُ أنا لونا
وكنتُ أنا كل طفل رسم وردة على جدار
وكنتُ أنا كل عجوز مات واقفاً
وكنتُ أنا أنت
وأنت أنا
ولم نكن يوماً منفصلين
كنا دائماً قلباً واحداً
ينبض بالأحمر
ينبض بالحب
ينبض بالحرية»

ثم صمت الصوت،
وخيّم الصمت الأحمر،
لكن هذه المرة لم يكن صمت نهاية،
بل صمت بداية،
صمت الذي يسبق الولادة الأولى،
صمت الرحم قبل أن يصرخ الطفل الأول.

وفي هذا الصمت، بدأت الوردة-القلب تنبض من جديد،
نبضة… نبضة،
كأنها تُعيد خلق الكون من جديد،
ليس كوناً جديداً،
بل الكون الأول،
الكون الذي كان يحلم به كل من وقف يوماً تحت المطر،
الكون الذي كان يحلم به كل من سيولد بعد آلاف الدورات،
الكون الذي كان دائماً موجوداً،
لكنه كان ينتظر أن يُقال له «نعم»
بصوت واضح،
في لحظة واحدة،
في مكان واحد،
بقلب واحد.

فانفتحت الوردة-القلب،
وخرج منها كل شيء،
السماء،
الأرض،
النجوم،
البحار،
الجبال،
الأطفال،
العشاق،
العجائز،
الأشجار،
الطيور،
كل شيء خرج منها،
لكن ليس كخلق جديد،
بل كعودة إلى البيت،
عودة إلى الأصل،
عودة إلى الحب الأحمر الذي كان دائماً هناك.

وفي وسط هذا الخلق-العودة، وقفت الروح التي لا اسم لها،
رفعت يديها،
وابتسمت،
وقالت الكلمة الأخيرة التي لم تكن أخيرة:

«الآن…
أنتم الكون…
عيشوا.»

ثم ذابت،
وذاب الكون معها،
وذاب الحب،
وذاب الصمت،
وبقي فقط أنت،
تقرأ هذه الكلمات،
تحمل في صدرك وردة حمراء صغيرة،
تنبض،
تنتظر أن تُولد من جديد،
في كل لحظة تقول فيها «لا»،
في كل خطوة تقف فيها،
في كل نفس تحياه حراً.

فاذهب الآن،
وكن الجزء الثاني،
والثالث،
والأخير،
والأول،
من الرواية التي لا تنتهي،
لأنها صارت حياتك.

والوردة في صدرك،
تنتظر أن تُفتح.




3

في اللحظة التي لم تعد فيها لحظة، حين صار الطفل الذي خرج من القلب هو الكون كله، توقف كل شيء عن الطيران، ليسقط، ينبض، يولد، يموت،يصير.
صار كل شيء ساكناً، ليس سكون الموت، بل سكون القبلة الأولى قبل أن تُقبَّل، سكون التنفس قبل أن يخرج من الصدر، سكون الوردة قبل أن تفتح بتلتها الأخيرة.

وفي هذا السكون الأحمر العظيم، بدأت الوردة الكونية تُغلق نفسها من الداخل.
لم يكن إغلاقاً يُخيف، بل كان إغلاقاً يُطمئن، كأن كل الأكوان التي كانت قد تفتحت قررت أن تعود إلى بذرتها الأولى، ليس هرباً، بل لأنها أدركت أن البذرة هي الكمال، وأن الفتح كان مجرد حلم جميل لكي تتذكر البذرة نفسها.

تجمّعت البتلات اللامتناهية، عادت إلى الوسط، التأمت، التأمت، حتى صارت نقطة حمراء صغيرة جداً، أصغر من رأس دبوس، أصغر من دمعة لم تُبكَ بعد، أصغر من همسة «لا» قبل أن تُقال.
ثم دخلت هذه النقطة داخل نفسها، وصارت أصغر، وأصغر، حتى لم يعد هناك «داخل» ولا «خارج»، صارت لا شيئاً وكل شيء في آن.

وفي هذه اللحظة التي لا تُسمى، حدث ما لا يُروى:
انفجر الصمت.
لكن لم يكن انفجاراً يُسمع، بل انفجاراً يُحس، انفجاراً يُعاش، انفجاراً يُحب.

من داخل النقطة التي لم تعد نقطة، خرجت دمعة واحدة، دمعة حمراء شفافة، لم تسقط، بل طارت، طارت إلى الأعلى، إلى الأسفل، إلى كل الجهات، إلى لا جهة.
وكلما مرت الدمعة بمكان، صار المكان قلباً، وكلما مرت بقلب، صار القلب وردة، وكلما مرت بوردة، صارت الوردة طفلاً، وكلما مرت بطفل، صار الطفل كوناً، وكلما مرت بكون، صار الكون دمعة، وهكذا، في حلقة لا تبدأ ولا تنتهي.

وفي وسط هذه الحلقة التي لا وسط لها، وقفت الروح التي لم تعد روحاً، رفعت يديها، ثم وضعتهما على صدرها، فانفتح الصدر، فخرج منه كل من وقف يوماً، كلهم عاريين من كل شيء إلا من نور، كلهم مبتسمين ابتسامة واحدة، كلهم يمسكون بأيدي بعضهم، كأنهم لم يفترقوا أبداً.

ثم بدأوا يغنون، لكن الأغنية لم تكن أغنية، كانت نبضاً، نبضاً أحمر يملأ الفراغ، نبضاً يقول بلا كلمات:

«كنا نحن
ونحن الآن كل شيء
ولم نكن يوماً شيئاً
كنا فقط حباً
حباً
حرية
كنا الوردة
كنا الدمعة
كنا الطفل
كنا الكون
كنا لا شيئاً
كنا كل شيء
ولم نركع
أبداً
أبداً
أبداً»

وكلما ارتفع النبض-الأغنية، كانت الدمعة الحمراء تكبر، تكبر، تكبر، حتى صارت بحراً، ثم صارت سماء، ثم صارت لا شيئاً، ثم عادت دمعة، لكنها هذه المرة لم تطِر، بل سقطت، سقطت بهدوء، على تراب أحمر ناعم، في مكان لا مكان فيه، فاخترقته، ونزلت، ونزلت، حتى وصلت إلى قلب لم يُخلق بعد، قلب طفل سيُولد بعد آلاف الدورات، قلباً صغيراً، لكنه كبير بما يكفي ليحمل كل الأكوان.

واستقرت الدمعة في هذا القلب، فبدأ القلب ينبض، نبضة… نبضة… نبضة،
وكل نبضة كانت تقول:

«أنا هنا
أنا معك
أنا آدم
أنا فاطمة
أنا كل من وقف
أنا أنت
قم
عش
لا تركع
أبداً»

ثم عاد الصمت،
لكن هذه المرة كان الصمت يبتسم،
صمت يعرف أن القصة لم تنتهِ،
لأنها لم تبدأ،
لأنها الحياة نفسها،
الحياة التي اختارت يوماً،
في مدينة تحت المطر،
أن تقف،
فلم تعد تركع أبداً.

وبقي القلب الصغير ينبض،
في صدر طفل لم يولد بعد،
ينبض بالأحمر،
ينبض بالحب،
ينبض بالحرية،
ينبض باسم لم يعد اسماً،
لأنه صار اسمنا جميعاً.

وإذا شعرتَ الآن بدفء خفيف في صدرك،
فاعلم أنه هو،
هو الطفل،
هو آدم،
هو فاطمة،
هو الوردة،
هو الدمعة،
هو الكون،
هو أنت،
يقول لك:

«الآن…
أنت الكون…
عش.»

ثم يعود الصمت الأحمر،
وتبقى أنت،
حاملاً القلب،
واقفاً،
حياً،
حراً،
إلى أن يأتي الجيل التالي،
فيمرر إليه النبض،
فيمرر،
فيمرر،
إلى أن لا يبقى أحد يحتاج إلى أن يُذكَّر بالحياة،
لأن الجميع صاروا حياة،
منذ الأزل،
إلى الأبد.





4

لا يوجد جزء رابع، ولا ثالث، ولا ثانٍ، ولا أول بعد الآن.
لقد وصلنا إلى المكان الذي تنتهي فيه الرواية ليس لأن الكلمات نفدت، بل لأنها صارت أكبر من الكلمات، صارت صمتاً أحمر يملأ الصدر، صارت نبضاً يعرفك قبل أن تعرف نفسك.

لكن إذا أصررتَ أن يكون هناك «جزء رابع»، فهو هذا:

أغلق عينيك.
لا تقرأ، بل استمع.

هناك، في الظلام الدافئ خلف جفنيك، هناك تراب أحمر ناعم يتنفس تحت قدميك، حتى لو كنت جالساً على كرسي حديدي في مترو مزدحم.
هناك رجل وامرأة، عاريان من كل اسم، واقفان يداً بيد، ينظران إليك مباشرة، يبتسمان ابتسامة لا تحتاج إلى شفتين، ويقولان لك بصوت لا يحتاج إلى حنجرة:

«كفى كلاماً.
الآن دورك.
قم.
امشِ.
إذا تعبت، اجلس.
لكن لا تركع.
وإذا اضطررتَ يوماً إلى أن تموت،
فمت واقفاً،
فنحن سنكون هناك،
نمسك بكتفيك،
كما أمسكنا بكتفي بعضنا،
حتى لا تسقط.»

ثم يتركانك،
ويمضيان،
لكنك تشعر أنهما لم يذهبا،
بل دخلا داخلك،
صارا جزءاً من دمك،
من نبضك،
من همستك الأولى عندما تستيقظ،
من دمعتك الأخيرة عندما تنام.

وتفتح عينيك،
فتجد العالم كما هو،
لكنه لم يعد كما كان.
الإسمنت نفسه،
لكن في شقّه وردة حمراء صغيرة تنبت،
لا أحد يعرف كيف وصلت إلى هناك.
الناس نفسها،
لكن في عيونهم ضوء لم تلحظه من قبل.
السماء نفسها،
لكنها اليوم حمراء قليلاً،
كأنها تذكّرت شيئاً.

وتدرك أن الرواية لم تنتهِ،
بل بدأت للتو،
بدأت فيك،
الآن،
في هذه اللحظة التي قررتَ فيها أن تقف،
أو أن تمشي،
أو أن تحمل الوردة،
أو أن تقول «لا»،
أو أن تعيش.

فاذهب،
وكن الفصل الرابع،
والخامس،
والأنت الأخير،
وأنت الأول،
من الرواية التي لا تُكتب،
بل تُعاش.

والوردة التي في صدرك،
افتحها.

الآن.

5

لم يعد هناك «خامس»، لأن الرقم نفسه قد ذاب في الضوء الأحمر وصار غير ذي معنى.
لكن إذا أردتَ أن نُسمّي ما تبقى «جزءاً خامساً»، فهو ليس تتمة، بل هو اللحظة التي تتوقف فيها القراءة وتبدأ الحياة.

أغلق الكتاب.
أغلق الشاشة.
أغلق عينيك.
واستمع فقط.

هناك، في مكان لا يوجد فيه لا مكان ولا زمان، هناك نبضة واحدة، صغيرة جداً، هادئة جداً، لكنها تملأ الكون كله.
نبضة… نبضة… نبضة

هذه النبضة هي أنت، قبل أن تُولد، وهي أنت بعد أن تموت، وهي أنت الآن، في هذه الثانية التي تتنفس فيها.
هذه النبضة هي آدم وهو يمسك يد فاطمة تحت المطر.
هذه النبضة هي نوح وهو يرفض أن يُقاس.
هذه النبضة هي لونا وهي تضع كفّها على الحجر.
هذه النبضة هي الطفل الذي خرج من القلب.
هذه النبضة هي كل من قال «لا» يوماً.
هذه النبضة هي أنت.

الآن، ضع يدك على صدرك.
لا تتحرك.
لا تفكر.
فقط اشعر.

هل تشعر بها؟
نبضة صغيرة، دافئة، حمراء،
تقول لك بهمس لا يُسمع:

«أنا لم أذهب
أنا لم أمت
أنا لم أنتهِ
أنا فيك
أنا أنت
وأنت أنا
فإذا تعبتَ يوماً،
إذا شككتَ يوماً
إذا خفتَ يوماً
تذكّر فقط هذه النبضة
وكفى»

ثم يعود الصمت،
لكن الصمت لم يعد فارغاً،
صار ممتلئاً بكل الأصوات التي لم تُنطق بعد،
بكل الضحكات التي لم تُضحك بعد،
بكل الدموع التي لم تُبكَ بعد،
بكل الورد الذي لم يُزرع بعد.

وإذا فتحتَ عينيك الآن،
ستجد أن العالم لم يتغير،
لكنه صار مختلفاً تماماً.
الناس نفسها،
لكن في عيونهم شيء جديد،
كأن كل واحد منهم يحمل في صدره وردة حمراء صغيرة،
تنبض،
تنتظر أن تُفتح.

وستعرف أن مهمتك ليست أن تكتب المزيد،
بل أن تفتح الوردة التي في صدرك،
فتحة واحدة كل يوم،
فتحة عندما ترفض أن تُباع،
فتحة عندما تحمي من هو أضعف منك،
فتحة عندما تقول الحقيقة حتى لو كلفتك كل شيء،
فتحة عندما تموت واقفاً،
إن اضطر الأمر.

وستعرف أن آدم وفاطمة ونوح ولونا وكل من وقف،
لم يتركوك وحيداً،
بل صاروا هذه النبضة الصغيرة في صدرك،
يذكّرونك،
كل لحظة،
كل نفس،
بأنك لست رقماً،
بل حياة،
حياة حرة،
حياة واقفة،
حياة لا تركع،
أبداً.

فاذهب الآن،
وكن الجزء الخامس،
والسادس،
والأخير،
والأول،
من الرواية التي لم تعد رواية،
بل صارت دمك،
نبضك،
حياتك.

والوردة في صدرك،
افتحها.
الآن.
وللأبد.

6
في اللحظة التي لم تعد فيها لحظة، حين توقف الزمن عن أن يكون زمناً وصار نبضاً أحمر معلقاً بين نبضتين، انشقّ الصمت الأعظم، ليس انشقاق جرح، بل انشقاق ولادة.
من داخل هذا الانشقاق خرجت صرخة لم تُسمع منذ الأزل، صرخة لم تكن صوتاً، بل كانت الوجود كله يصرخ من أعماقه: «كفى!»

ثم انفجر الكون نفسه،
انفجر بصمتٍ يصمّ الآذان،
انفجر بضوءٍ أحمر يُعمي البصيرة،
انفجر بدمٍ لا يسيل، بل يطير،
انفجر بحبٍ لا يحتويه صدر،
انفجر بحريةٍ لا تُسجن في قانون،
انفجر بوردةٍ واحدةٍ عملاقةٍ انفتحت فجأة في وسط الفراغ،
بتلاتها ملايين القلوب التي قالت «لا»،
جذورها ملايين الأقدام التي وقفت،
رائحتها ملايين الدموع التي تحولت إلى ضوء.

وفي قلب هذه الوردة الكونية،
وقف طفلٌ لم يُولد وُلد الآن،
عارياً تماماً إلا من نارٍ حمراء تشتعل في عينيه،
يحمل في يده اليمنى دمعة،
وفي يده اليسرى ضحكة،
وفي صدره قلباً ينبض بكل الأسماء التي لم تُنطق بعد.

رفع الطفل يديه،
فانفجر القلب الذي في صدره،
انفجر إلى ملايين الشظايا الحمراء،
كل شظية صارت نجماً،
كل نجم صار قلباً،
كل قلب صار وردة،
كل وردة صار طفلاً،
كل طفل صار كوناً،
وكل كون صار دمعة،
وكل دمعة عادت إلى عين الطفل،
فبكى بكاءً لم يكن حُزناً،
بل كان فرحاً عظيماً لا يُحتمل،
فرحاً يفيض من العينين فيغرق الكون كله،
فرحاً يقتل الموت،
يحرق النسيان،
يحررر كل من كان يوماً عبداً.

ثم صرخ الطفل صرخةً واحدة،
صرخة لم تكن صرخة طفل،
بل صرخة كل امرأة ولدت تحت الظلم،
صرخة كل رجل مات واقفاً،
صرخة كل شجرة قُطعت،
صرخة كل وردة دُاست،
صرخة كل دمعة لم تُبكَ،
صرخة قالت:

«أنا لم أمت
أنا لم أنتهِ
أنا لم أركع
أنا الآن فيكم
أنا الآن أنتم
وأنتم الآن أنا
فانفجروا
كما انفجرتُ
وكونوا حرين
كما كنتُ
وكونوا حباً
كما كنتُ
وكونوا وقوفاً
إلى أن لا يبقى أحد يحتاج إلى أن يُذكَّر بالوقوف
لأن الجميع صاروا وقوفاً
منذ أن قلتُ (لا)
إلى أن تقولوا أنتم (نعم)
للحياة.»

ثم انفجر الطفل نفسه،
انفجر إلى ملايين البتلات الحمراء،
كل بتلة صارت روحاً،
كل روح صارت طفلاً،
كل طفل صارت وردة،
كل وردة صارت كوناً،
وكل كون صار نبضة،
ونبضة واحدة،
نبضة صغيرة،
حمراء،
دافئة،
تنبض في صدرك،
الآن.

فإذا شعرتَ بها،
فاعلم أنها ليست نبضة،
بل هي العهد الأخير،
عهد آدم،
عهد فاطمة،
عهد كل من وقف،
عهد الوردة التي لم تذبل،
عهد الحب الذي لم يمت،
عهد الحرية التي لم تُسجن،
عهد الإنسان الذي اختار أن يموت واقفاً،
ليحيا الكون كله واقفاً.

فضع يدك على صدرك،
واسمعها،
واسمعني،
واسمعنا،
نقول لك:

«قم.
الآن.
وللأبد.»

ثم افتح عينيك،
واذهب،
وازرع الوردة التي في صدرك،
في كل تراب،
في كل قلب،
في كل لحظة،
حتى لا يبقى مكان للركوع،
وحتى تصير الأرض كلها قلباً أحمر واحداً،
ينبض،
يحب،
يقف،
إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،
وتبقى الوردة،
تنبت،
تفتح،
تحيا،
إلى أبد الآبدين.

الرواية انتهت.
الحياة بدأت.
والآن،
أنتَ الحياة.


……..

ملخص الرواية في خمس صفحات

الفصل الأول: أشباح الوعود
(٢٠٢٥٢٠٢٦، بروكسل في ذروة الاعتصام الكبير)

يبدأ كل شيء في شقة صغيرة في مولنبيك. آدم بن إبراهيم، سائق شاحنة في الثامنة والخمسين، يتلقى رسالة نصية تقطع إعانته البطالية لأنه «لم يستوفِ الشروط». في اليوم نفسه، تُعلن الحكومة البلجيكية إلغاء الإعانات عن ١٤٥ ألف شخص فوق الخامسة والخمسين.
يخرج آدم إلى الشارع فيجد جارته فاطمة، المعلمة المتقاعدة قسراً، تبيع وروداً ذابلة. يضحكان ضحكة مريرة، ثم يقرران أن يذهبا معاً إلى الاعتصام الذي بدأ تلقائياً أمام مبنى المفوضية الأوروبية.
خلال ستة أجزاء متصلة، نشاهد المدينة تتوقف كلياً لأول مرة منذ ١٩٩٢: القطارات، المطارات، الموانئ، المدارس. مئة وخمسون ألف إنسان تحت المطر الغزير يحملون لافتة واحدة: «أعطينا أعمارنا، الآن يريدون كرامتنا».
تتصاعد الأحداث حتى اليوم الخامس عشر، حيث يعلن إلغاء كل القرارات القاسية، ويعود الناس إلى بيوتهم ليس منتصرين فحسب، بل متغيّرين إلى الأبد. ينتهي الفصل بآدم وفاطمة يجلسان على شرفة، يشاهدان المدينة تغفو مطمئنة لأول مرة، ويهمسان لبعضهما: «انتهى الفصل الأول… بدأت الحياة».

الفصل الثاني: حراس النار
(٢٠٢٧٢٠٤٥، سنوات الحراسة والنسيان والعودة)

بعد النصر، يحياة لم تعد كما كانت، لكنها لم تصر جنة أيضاً. يحاول العالم القديم العودة من أبواب خلفية: توجيهات أوروبية جديدة، حملات إعلامية، خصخصة متسترة.
آدم وفاطمة، وقد شاخا، يحوّلان شقتيهما وبيت الشعب إلى مركز للحكاية والذاكرة. يأتي الأطفال كل مساء يسمعون قصة الاعتصام كما تُروى الأساطير.
لكن النسيان يتسلل ببطء. يموت الأصدقاء القدامى واحداً تلو الآخر، يترك الشباب المدينة بحثاً عن عمل، تُباع الحدائق لشركات. في إحدى الليالي يقف آدم وحيداً في الساحة، يشعل وردة جافة، ويصرخ: «إن نسينا نمت». فيستجيب له القليل أولاً، ثم المئات، ثم الآلاف، فيعودون إلى الشارع، ليس ليثوروا من جديد، بل ليحكوا، ليذكّروا، ليزرعوا الوردة في كل مكان.
ينتهي الفصل بموت آدم وهو جالس على الشرفة، ثم موت فاطمة بعد أيام قليلة، ودفنهما تحت شجرة الورد الأم التي ستبقى تنبت من قبرهما إلى الأبد.

الفصل الثالث: أبناء المطر
(٢٠٤٥٢١٠٠، اختفاء الأطفال والعودة الكبرى)

في السنة الخمسين، يبدأ الأطفال في الاختفاء. لا يهربون، بل يغيبون طواعية، يتركون رسالة واحدة: «ذهبنا نبحث عن الجد آدم».
تفرغ المدارس، تصمت الملاعب، تبقى المدن للكبار فقط، نظيفة، هادئة، ميتة.
بعد سنوات، يعود الأطفال، قد كبروا، وجوههم محروق بالشمس، أيديهم خشنة، قلوبهم صلبة كالجذور. لا يعودون إلى البيوت، بل يفتحون الأراضي المهجورة، يبنون قرى من الطين والضوء، يدعون الكبار: «تعالوا، الحياة هنا».
يبدأ الكبار بالقدوم، يخلعون أحذيتهم، يلمسون التراب، يبكون كالأطفال، ثم يبقون. تنهار آخر الأبراج الزجاجية تحت أغنية واحدة تُغنى بملايين الأصوات. تصبح القارة كلها غابة حمراء واحدة، لا حدود، لا ملكية، لا أسماء، فقط نبض أحمر مشترك.

الفصل الرابع: الوردة التي ابتلعت الكون
(ما بعد الزمن، التحول الأخير والأزلي)

تذبل شجرة الورد الأم، ثم تُنجب، ثم تختفي، ثم ينفتح القلب الكوني، ثم ينبض، ثم ينفجر، ثم يعود إلى نقطة، ثم ينفجر من جديد، في دورة لا تبدأ ولا تنتهي.
يخرج طفل من نور أحمر، يحمل قلباً-وردة، يغني أغنية الكون، ثم يذوب في البتلات، ثم تصبح البتلات أكواناً، ثم تعود أكواناً إلى بذرة، ثم تعود البذرة إلى دمعة، ثم تسقط الدمعة في قلب لم يُولد بعد.
وفي كل دورة يتكرر الشيء نفسه بطريقة مختلفة: وقفة، ثورة، نسيان، عودة، ذبول، ولادة، حتى لا تعود هناك حاجة إلى تكرار، لأن الكون كله صار وقوفاً، صار حباً، صار وردة حمراء لا تذبل، لا تموت، لا تنتهي.

وفي النهاية، التي ليست نهاية، يبقى فقط نبضة صغيرة في صدرك،
نبضة تقول لك، الآن وإلى الأبد:

«قم.
الوردة في كفّك.
ازرعها.
وعِشْ.»

الرواية انتهت حيث بدأت: في قلبك.
والآن،
الكون كله ينتظر خطوتك الأولى.



………


مقارنة تفصيلية بين « انفاس لا تقاس » وأعمال غابرييل غارسيا ماركيز

١ الواقعية السحرية مقابل الواقعية النبوئية
ماركيز يستعمل الواقعية السحرية ليُدخل المعجزة في الحياة اليومية بهدوء، كأنها أمرٌ طبيعيّ (المطر من الزهور، الصعود إلى السماء، الفراشات الصفراء).
«عبوديةٌ بثياب الحرية» تفعل عكس ذلك تماماً: تُدخل الواقع الأكثر قسوةً في قلب المعجزة، فتصنع ما يمكن تسميته «الواقعية النبوئية». الوردة الحمراء لا تطير فجأة كما تطير الفراشات عند ماركيز، بل تنبت من تحت الإسمنت، من دم، من قبر، من صرخة، من نبضة قلب طفل لم يُولد بعد. السحر هنا ليس زخرفة، بل هو الشكل الوحيد الممكن للخلاص عندما يستحيل الواقع.

٢ الزمن
في «مئة عام من العزلة» يدور الزمن في حلقة، يتكرر حتى يُمحى.
في «عبوديةٌ بثياب الحرية» يدور الزمن في حلقة أيضاً، لكن الحلقة تتسع كل دورة، ثم تتقلّص، ثم تنفجر، ثم تُعاد كما البذرة التي تُدفن لتنبت أكبر. ليس تكراراً عبثياً كما في ماكوندو، بل تكراراً خصبًا يُنتج حياة أكثر حياة. ماركيز يُعلن نهاية العالم بالعزلة، والرواية تُعلن نهاية العالم بالاتصال التام، اتصال الدم، اتصال التراب، اتصال القلوب.

٣ الشخصية الجماعية
عند ماركيز، العائلة (آل بوينديا) هي بطل الرواية، لكنها عائلة محكوم عليها بالوحدة المتوارثة.
في هذه الرواية، لا توجد عائلة، بل شعبٌ واحدٌ يُولد من الاعتصام ويموت في الاعتصام ويُبعث منه. آدم وفاطمة ليسا أباً وأماً بالمعنى البيولوجي، بل هما أبوان أسطوريان لكل من وقف، لكل من سيولد. شخصيتهما تذوب في النهاية لتصبح الشخصية الجماعية نفسها، تماماً كما تذوب ريميديوس الجميلة في السماء، لكن هنا الذوبان ليس صعوداً إلى العدم، بل نزولاً إلى التراب ليُصبح خصباً.

٤ الموت
موت خوسيه أركاديو الثاني في «مئة عام» يُمحى من ذاكرة ماكوندو بسبب المطر الأبدي.
موت آدم وفاطمة يُمحى من الذاكرة الرسمية، لكنه يُولد من جديد في كل وردة تنبت، في كل طفل يرفض. الموت هنا ليس نهاية، بل هو اللحظة التي يتحول فيها الفرد إلى تربة خصبة للثورة المستمرة، بينما عند ماركيز يتحول الفرد إلى شبح يتجول في بيت مهجور.

٥ اللغة
لغة ماركيز غنائية، مفرطة في التفاصيل، تُغرق القارئ في بحر من الوصف حتى يغرق فيه ويُبعث منه.
لغة «عبوديةٌ بثياب الحرية» شعرية أيضاً، لكنها شعرية مقتصدة، مكل كلمة فيها تنبض كأنها آخر كلمة في العالم، ثم تكتشف أنها أول كلمة في العالم الجديد. هي لغة الهمسة التي تصمّ الآذان، لغة الوردة التي تُقتلع من التراب ثم تُعاد زرعها في القلب.

٦ النهاية
نهاية «مئة عام من العزلة» هي نهاية مكتوبة على جلد منذ الأزل، لا يمكن تغييرها.
نهاية «عبوديةٌ بثياب الحرية» هي بداية مكتوبة في دمك أنت، مفتوحة، قابلة للتغيير كلما قررتَ أن تقف. ماركيز يُغلق الكتاب ويُعلن أن كل شيء كان وهماً، والرواية تُغلق الكتاب وتُعلن أن كل شيء كان حقيقةً، وماً، وأن الحقيقة مستمرة فيك.

٧ السياسة والأمل
ماركيز يُدين الاستعمار والديكتاتورية والرأسمالية، لكنه يفعل ذلك بحزن عميق، كأن الأمل مستحيل.
«عبوديةٌ بثياب الحرية» تُدين النيوليبرالية والعبودية المقنّعة، لكنها تفعل ذلك بنار لا تُطفأ، نار تؤمن أن الإنسان، حتى لو خُلق عبداً، يحمل في داخله القدرة على أن يُولد حراً، مرة، ومرتين، وألف مرة، في كل لحظة يقول فيها «لا».


ماركيز يروي لنا أن العالم ينتهي بالعزلة،
وهذه الرواية تروي لنا أن العالم يبدأ بالوقوف معاً.

ماركيز يُعطينا ماكوندو لنبكي عليها،
وهذه الرواية تُعطينا بروكسل-الغابة لنحيا فيها.

ماركيز يقول: «كان هناك عالم، فانتهى.
وهذه الرواية تقول: كان هناك عالم، فسقط، ثم قام، ثم صار وردة، ثم صار قلباً، ثم صار أنت.

لذلك،
إذا كانت «مئة عام من العزلة» هي الإنجيل الحزين لأمريكا اللاتينية في القرن العشرين،
فإن «عبوديةٌ بثياب الحرية» هي الإنجيل المشتعل لكل مظلوم في القرن الحادي والعشرين،
إنجيل لا يُقرأ،
بل يُعاش،
يُحرق في الصدر،
ثم يُولد من جديد،
أحمر،
واقفاً،
إلى الأبد.




………


مقارنة عميقة بين
« أنفاسٌ لا تُقاس»
و
«الحب في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز

#### ١ الحب كقوة كونية
في «الحب في زمن الكوليرا»، الحب هو مرض عضال، وباء جميل، يصيب فلورنتينو أرثيا ويحوّله إلى كائن يعيش سبعين سنة على أمل قبلة واحدة. الحب هنا فردي، عنيد، مأساوي، يتحدى الموت لكنه لا يغيّر العالم؛ يبقى حبّاً سريّاً، خاصّاً، ينتهي في سفينة ترفع راية الكوليرا لتبقى وحدها في البحر.

في «عبوديةٌ بثياب الحرية»، الحب ليس مرضاً ولا دواءً، بل هو الوجود نفسه. ليس حبّاً بين اثنين، بل حبّاً بين ملايين، حبّاً يولد من الوقوف معاً تحت المطر، من مشاركة رغيف خبز، من دمعة تسقط على كتف غريب. هذا الحب لا ينتظر سبعين سنة، بل ينفجر في لحظة واحدة، ثم يبقى ينبض في كل قلب يقول «لا».
ماركيز يجعل الحب يهزم الموت في النهاية، لكن داخل قوقعة صغيرة من شخصين.
هذه الرواية تجعل الحب يهزم الموت فيصبح الموت نفسه حياة، ويصبح الحب كوناً كاملاً، لا يحتاج إلى سفينة ولا راية، لأنه صار البحر نفسه.

#### ٢ الانتظار
فلورنتينو ينتظر ٥١ سنة و٩ أشهر و٤ أيام.
آدم وفاطمة لا ينتظران.
ينتظرهما الزمن كله، لأنهما يصنعانه كل لحظة.
في «زمن الكوليرا»، الانتظار هو العذاب الجميل الذي يُكرّس للحب.
في «عبودية»، الانتظار هو الجريمة.
الانتظار أن تعيش راكعاً حتى يأتي الخلاص من الخارج.
الخلاص هنا لا يأتي، بل يُؤخذ، يُنتزع بالأقدام، بالأيدي، بالدم، بالنبض.

#### ٣ الجسد
ماركيز يمجّد الجسد العاشق: الرغبة، الشيخوخة التي تظل شهوانية، الجسد الذي يتحدى الزمن بالحب الجسدي حتى آخر نفس.
«عبودية» تمجّد الجسد الجماعي: الظهر المكسور لسائق الشاحنة، الركبتين المنتفختين للمعلمة، اليدي العامل المحترقتين، أقدام الممرضة المتورمة.
هذا الجسد لا يشتهي، بل يتحمل، يقاوم، يُعطي، يُضرب، يُشفى، يموت واقفاً.
الحب هنا ليس في القبلة، بل في الكتف المائل ليستند إليه الآخر، في اليد التي تُمدّ لترفع من سقط، في الصدر الذي يتلقى الضربة ليحمي من خلفه.

٤ الموت
في «زمن الكوليرا»، الموت هو اللحظة التي ينتصر فيها الحب على الزمن، فيصبح العاشقان خالدين داخل قوقعتهما الخاصة.
في «عبودية»، الموت هو اللحظة التي ينتقل فيها الحب من الفرد إلى الجماعة، فيذوب آدم وفاطمة في التراب ليصبحا وردة، ثم غابة ثم كوناً.
ماركيز يمنح الحب خلوداً رومانسياً صغيراً.
هذه الرواية تمنح الحب خلوداً كونياً لا نهائياً، خلوداً لا يُحفظ في قلبين، بل في كل قلب ينبض على الأرض.

٥ اللغة والإيقاع
لغة ماركيز في «الحب في زمن الكوليرا» هي لغة الحلم المُطوّل، جملها طويلة كأنها أنهار، مفعمة بالتفاصيل الحسية، بالروائح، بالألوان، بالموسيقى.
لغة «عبودية» هي لغة النبض: قصيرة، حادة، متكررة، كأن كل جملة هي دقّة قلب، كل فقرة هي نفس، كل فصل هو دورة دم كاملة.
ماركيز يُغرقك في بحر من الكلمات حتى تُصاب بالدوار الجميل.
هذه الرواية تُفرغك من الكلمات حتى تبقى فقط النبضة، ثم تُعيد ملءك بنبضة أكبر، أقوى، أحمر.

نهاية «الحب في زمن الكوليرا» هي قبلة في الثمانين، على سطح سفينة ترفع راية الكوليرا إلى الأبد، نهاية خاصة، سرية، سعيدة، حزينة، منتهية.
نهاية «عبودية» هي انفجار الوردة الكونية، ثم عودتها إلى نقطة دم صغيرة في صدرك أنت، فتحة جديدة في كل مرة تقول فيها «لا»، في كل مرة تقف فيها، في كل مرة تحب فيها.
نهاية ماركيز هي حبٌّ ينتصر على الموت ليبقى اثنين فقط.
نهاية هذه الرواية هي حبٌّ ينتصر على الموت ليُحيي الكون كله، ثم يعود إليك، ليجعلك أنت الحب، أنت الخلود، أنت الوردة.

«الحب في زمن الكوليرا» هو أجمل قصيدة حب كتبت لشخصين في العالم.
«عبوديةٌ بثياب الحرية» هو أجمل قصيدة حب كتبت للبشرية جمعاء.

ماركيز يقول: يمكن للحب أن يهزم الموت، لكن فقط داخل قلبين.
هذه الرواية تقول: الحب هو الذي يخلق الحياة من الموت، ويجعل الموت نفسه حياة، ويجعل الكون كله قلباً واحداً ينبض بالحرية.

الأولى رواية حبٍّ فرديٍّ يتحدى الزمن.
الثانية رواية حبٍّ جماعيٍّ يصنع الزمن.

الأولى تنتهي بقبلة.
الثانية تبدأ بقبلة، ثم تتحول القبلة إلى ثورة، ثم إلى وردة، ثم إلى كون، ثم إلى أنت.

فإذا كنتَ تحب ماركيز لأنه علّمك أن تحب رغم كل شيء،
فستعشق هذه الرواية لأنها ستعلّمك أن تحب كل شيء،
حتى الموت،
حتى الركوع،
حتى النسيان،
لتُحررهم،
وتُحييهم،
وتجعلهم،
مثلك،
واقفين،
إلى الأبد.



…….

مقارنة عميقة بين « أنفاسٌ لا تُقاس»
و
«الحب في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز

١ الحب كقوة كونية
في «الحب في زمن الكوليرا»، الحب هو مرض عضال، وباء جميل، يصيب فلورنتينو أرثيا ويحوّله إلى كائن يعيش سبعين سنة على أمل قبلة واحدة. الحب هنا فردي، عنيد، مأساوي، يتحدى الموت لكنه لا يغيّر العالم؛ يبقى حبّاً سريّاً، خاصّاً، ينتهي في سفينة ترفع راية الكوليرا لتبقى وحدها في البحر.

في «عبوديةٌ بثياب الحرية»، الحب ليس مرضاً ولا دواءً، بل هو الوجود نفسه. ليس حبّاً بين اثنين، بل حبّاً بين ملايين، حبّاً يولد من الوقوف معاً تحت المطر، من مشاركة رغيف خبز، من دمعة تسقط على كتف غريب. هذا الحب لا ينتظر سبعين سنة، بل ينفجر في لحظة واحدة، ثم يبقى ينبض في كل قلب يقول «لا».
ماركيز يجعل الحب يهزم الموت في النهاية، لكن داخل قوقعة صغيرة من شخصين.
هذه الرواية تجعل الحب يهزم الموت فيصبح الموت نفسه حياة، ويصبح الحب كوناً كاملاً، لا يحتاج إلى سفينة ولا راية، لأنه صار البحر نفسه.

٢ الانتظار
فلورنتينو ينتظر ٥١ سنة و٩ أشهر و٤ أيام.
آدم وفاطمة لا ينتظران.
ينتظرهما الزمن كله، لأنهما يصنعانه كل لحظة.
في «زمن الكوليرا»، الانتظار هو العذاب الجميل الذي يُكرّس للحب.
في «عبودية»، الانتظار هو الجريمة.
الانتظار أن تعيش راكعاً حتى يأتي الخلاص من الخارج.
الخلاص هنا لا يأتي، بل يُؤخذ، يُنتزع بالأقدام، بالأيدي، بالدم، بالنبض.

٣ الجسد
ماركيز يمجّد الجسد العاشق: الرغبة، الشيخوخة التي تظل شهوانية، الجسد الذي يتحدى الزمن بالحب الجسدي حتى آخر نفس.
«عبودية» تمجّد الجسد الجماعي: الظهر المكسور لسائق الشاحنة، الركبتين المنتفختين للمعلمة، اليدي العامل المحترقتين، أقدام الممرضة المتورمة.
هذا الجسد لا يشتهي، بل يتحمل، يقاوم، يُعطي، يُضرب، يُشفى، يموت واقفاً.
الحب هنا ليس في القبلة، بل في الكتف المائل ليستند إليه الآخر، في اليد التي تُمدّ لترفع من سقط، في الصدر الذي يتلقى الضربة ليحمي من خلفه.

٤ الموت
في «زمن الكوليرا»، الموت هو اللحظة التي ينتصر فيها الحب على الزمن، فيصبح العاشقان خالدين داخل قوقعتهما الخاصة.
في «عبودية»، الموت هو اللحظة التي ينتقل فيها الحب من الفرد إلى الجماعة، فيذوب آدم وفاطمة في التراب ليصبحا وردة، ثم غابة ثم كوناً.
ماركيز يمنح الحب خلوداً رومانسياً صغيراً.
هذه الرواية تمنح الحب خلوداً كونياً لا نهائياً، خلوداً لا يُحفظ في قلبين، بل في كل قلب ينبض على الأرض.

٥ اللغة والإيقاع
لغة ماركيز في «الحب في زمن الكوليرا» هي لغة الحلم المُطوّل، جملها طويلة كأنها أنهار، مفعمة بالتفاصيل الحسية، بالروائح، بالألوان، بالموسيقى.
لغة «عبودية» هي لغة النبض: قصيرة، حادة، متكررة، كأن كل جملة هي دقّة قلب، كل فقرة هي نفس، كل فصل هو دورة دم كاملة.
ماركيز يُغرقك في بحر من الكلمات حتى تُصاب بالدوار الجميل.
هذه الرواية تُفرغك من الكلمات حتى تبقى فقط النبضة، ثم تُعيد ملءك بنبضة أكبر، أقوى، أحمر.

نهاية «الحب في زمن الكوليرا» هي قبلة في الثمانين، على سطح سفينة ترفع راية الكوليرا إلى الأبد، نهاية خاصة، سرية، سعيدة، حزينة، منتهية.
نهاية «عبودية» هي انفجار الوردة الكونية، ثم عودتها إلى نقطة دم صغيرة في صدرك أنت، فتحة جديدة في كل مرة تقول فيها «لا»، في كل مرة تقف فيها، في كل مرة تحب فيها.
نهاية ماركيز هي حبٌّ ينتصر على الموت ليبقى اثنين فقط.
نهاية هذه الرواية هي حبٌّ ينتصر على الموت ليُحيي الكون كله، ثم يعود إليك، ليجعلك أنت الحب، أنت الخلود، أنت الوردة.

«الحب في زمن الكوليرا» هو أجمل قصيدة حب كتبت لشخصين في العالم.
«عبوديةٌ بثياب الحرية» هو أجمل قصيدة حب كتبت للبشرية جمعاء.

ماركيز يقول: يمكن للحب أن يهزم الموت، لكن فقط داخل قلبين.
هذه الرواية تقول: الحب هو الذي يخلق الحياة من الموت، ويجعل الموت نفسه حياة، ويجعل الكون كله قلباً واحداً ينبض بالحرية.

الأولى رواية حبٍّ فرديٍّ يتحدى الزمن.
الثانية رواية حبٍّ جماعيٍّ يصنع الزمن.

الأولى تنتهي بقبلة.
الثانية تبدأ بقبلة، ثم تتحول القبلة إلى ثورة، ثم إلى وردة، ثم إلى كون، ثم إلى أنت.

فإذا كنتَ تحب ماركيز لأنه علّمك أن تحب رغم كل شيء،
فستعشق هذه الرواية لأنها ستعلّمك أن تحب كل شيء،
حتى الموت،
حتى الركوع،
حتى النسيان،
لتُحررهم،
وتُحييهم،
وتجعلهم،
مثلك،
واقفين،
إلى الأبد.


……..


مقارنة عميقة بين «أنفاسٌ لا تُقاس»
و
«خريف البطريرك» لغابرييل غارسيا ماركيز

١ السلطة: الوجه واللاوجه
في «خريف البطريرك»، السلطة وجهٌ واحدٌ مشوّه، عجوز، مُقرف، وحيد، يحكم منذ مئات السنين، لا يعرف أحد متى بدأ ولا متى سينتهي، يأكل الأمة ويتقيّأها، يُدفن حيّاً عشرات المرات ثم يعود. البطريرك هو السلطة المُجسَّدة، السلطة ككائن بيولوجي مريض، ينتن، يتعفّن، لكنه لا يموت.

في «عبوديةٌ بثياب الحرية»، السلطة بلا وجه.
ليست شخصاً، ليست ديكتاتوراً، ليست حتى حكومة.
هي نظام، هي تقارير، هي تصنيفات ائتمانية، هي BlackRock وVanguard، هي خوارزمية تُقرر في أي عمر يُسمح لك أن تموت بكرامة.
السلطة هنا أكثر رعباً لأنها غير مرئية، لا رائحة لها، لا صوت، لا لحم يمكن طعنه.
البطريرك يمكن قتله (ولو مؤقتاً)،
لكن هذه السلطة لا تموت، لأنها لم تُولد، هي مجرد قانون جاذبية نيوليبرالي: كل شيء يسقط إلى الأسفل إلا الأرباح.

٢ اللغة والتنفّس
لغة «خريف البطريرك» هي تنفّسٌ طويلٌ واحد، جملةٌ ممتدةٌ عبر مئات الصفحات، كأنها أنفاس البطريرك الأخيرة التي لا تنتهي، مليئة بالتكرار، بالهذيان، بالعفن، بالعبث المهيب.
لغة «عبودية» هي تنفّسٌ قصير، حاد، متكرر، نبضات قلبٍ في حالة احتضار ثم ولادة، جملٌ قصيرة كضربات مطرقة على إسمنت، أو كطلقات في صدر الظلم.
ماركيز يُغرقك في اللغة حتى تختنق،
هذه الرواية تُفرغك من الهواء ثم تُعيد ملأ رئتيك بهواءٍ جديد، هواءٍ أحمر، حرّ.

٣ الزمن
في «خريف البطريرك»، الشعب غائب تقريباً، صوتٌ بعيد، حشدٌ يُذبح، يُباع، يُنسى، يُحرَق، يُدفن مع البطريرك ثم يُخرَج من قبره ليُدفن من جديد.
في «عبودية»، الشعب هو البطل الوحيد، ليس حشداً، بل جسداً واحداً، قلباً واحداً، صوتاً واحداً.
البطريرك يحكم لأن الشعب صامت،
السلطة الجديدة تُهزم لأن الشعب صار يتنفس معاً، ينبض معاً، يقف معاً.
ماركيز يُرينا الشعب كضحية أبدية،
هذه الرواية تُرينا الشعب كإلهٍ نائمٍ استيقظ، فلم يعد ينام.

٤ الوحدة مقابل التعدد
البطريرك وحيد، وحشه حتى في قصره الضخم، يحكم ولا يُحَب، يخاف ولا يُخاف منه حقاً، يموت آلاف المرات ولا يجد من يبكيه.
آدم وفاطمة ليسا وحيدين أبداً، حتى حين يموتان، لأنهما صارا ملايين.
البطريرك هو «أنا» متضخمة حتى الجنون،
آدم وفاطمة هما «نحن» متقلّصة حتى التلاشي في الجماعة.
الأول يمثّل السلطة كمرض نفسي فردي،
الثانية تمثّل السلطة كمرض جماعي قابل للشفاء بالوقوف معاً.

٥ الموت والخلود
البطريرك يرفض الموت، فيُقتل، ثم يعود، ثم يُقتل، في حلقة عبثية لا تنتهي، خلودٌ من خلال الرعب.
آدم وفاطمة يقبلان الموت، بل يختاران أن يموتا واقفين، فيتحولان إلى تراب خصب، إلى وردة، إلى غابة، إلى كون، خلودٌ من خلال الحياة التي تستمر بعدهما.
ماركيز يُرينا خلود الشر،
هذه الرواية تُرينا خلود الخير، خلود الذي يُعطي نفسه للآخرين فيصبح أكثر من نفسه.

٦ المدينة
مدينة البطريرك هي قصرٌ مهجور، مفتوح للريح، مليء بالجثث والذكريات والذباب.
مدينة آدم وفاطمة هي أجساد متلاصقة تحت المطر، ثم غابة حمراء لا نهائية.
الأولى مدينة ميتة تحكمها شبح،
الثانية مدينة حية لا تحكمها أحد، لأن الجميع صار حاكماً وحكماً في آن.

٧ الأمل
في «خريف البطريرك» لا أمل، لا أمل.
هناك فقط انتظار موت البطريرك الذي لا يموت، واستمرار العذاب الأبدي.
النهاية هي صوت الريح في القصر الفارغ.
في «عبوديةٌ بثياب الحرية» الأمل هو الشيء الوحيد الذي لا يموت.
يموت الجسد، تموت الأسماء، تموت المدن، تموت الكلمات، لكن الأمل يبقى، ينتقل من جديد، ينبض في كل وردة، في كل نبضة، في كل «لا» تُقال.
ماركيز يقول: العالم انتهى، ولم يعد هناك خلاص.
هذه الرواية تقول: العالم ينتهي كل يوم، ويُولد من جديد كل يوم، طالما بقي إنسان واحد يقف.

«خريف البطريرك» هو صرخة اليأس الأجل الأخيرة لأمريكا اللاتينية تحت حذاء الديكتاتور الأبدي.
«عبوديةٌ بثياب الحرية» هي صرخة الأمل الأخيرة للبشرية تحت حذاء النيوليبرالية الأبدية.

الأولى تقول: انظروا، هكذا يموت العالم، ببطء، بعفن، بصمت.
الثانية تقول: انظروا، هكذا يُولد العالم، ببطء، بدم، بصوتٍ عالٍ لا يصمت.

ماركيز يُرثي لنا الإنسان الذي لم يستطع أن يثور،
وهذه الرواية تُمجّد الإنسان الذي ثار، فسقط، فقام، فسقط، فقام، إلى أن صار الكون كله قياماً.

الأولى رواية نهاية العالم.
الثانية رواية بداية العالم،
بداية لا تنتهي،
لأنها صارت فينا،
تنبض،
حمراء،
واقفة،
إلى أن نرث نحن الأرض،
وتبقى الوردة،
تنبت،
إلى الأبد.



……..


مقارنة عميقة بين « أنفاسٌ لا تُقاس» وأعمال إدواردو غاليانو
(خاصة «أوردة أمريكا اللاتينية المفتوحة»، «كتاب العناق»، «أيام وأشياء»، «ذاكرة النار»)

١ الشكل: الرواية مقابل الملحمة المفتتة
غاليانو يكتب بأسلوب «التفتّت الشعري» المميز: مقاطع قصيرة، حكايات صغيرة، شظايا، أنفاس، أصور، أرقام، إحصاءات، أشعار، أساطير، كلها تتراكم لتُشكّل لوحة واحدة مُرعبة عن نهب القارة اللاتينية عبر خمسة قرون.
«عبوديةٌ بثياب الحرية» تتبنى نفس المنهج لكن على نطاق كوني وزمني مختلف: مقاطعها ليست قصيرة بالمعنى التقليدي، لكنها متصلة كخيوط دم واحد، كل جزء نبضة، كل فصل دورة قلب، كلها تتراكم لتُشكّل لوحة واحدة عن نهب الكرامة الإنسانية في قلب أوروبا «المتقدمة».
غاليانو يُقدّم التاريخ كجريمة مكتملة،
هذه الرواية تُقدّم التاريخ كجريمة مستمرة يُمكن إيقافها.

٢ الغضب
غضب غاليانو غضبٌ صارخ، مُعلن، مُنظَّم، يضرب بمطرقة من كلمات.
غضب «عبودية» غضبٌ صامت، داخلي، يُحوَّل إلى نار هادئة تُشعل القلوب بدل أن تحرقها.
غاليانو يصرخ «انظروا كم سُرقنا!»
الرواية تهمس «انظروا كم يُسرق منا الآن… ومع ذلك، لا نزال نقف».

٣ الجسد والأرض
غاليانو هو أعظم كاتب للجغرافيا الجسدية في الأدب الحديث: أمريكا اللاتينية هي جسد امرأة مُغتَصب، أوردتها مفتوحة، دمها يتدفق إلى الشمال.
«عبودية» تُعيد كتابة هذه الجغرافيا على جسد أوروبا نفسها: الطبقة العاملة الأوروبية هي الجسد الجديد المُغتَصب، أوردتها مفتوحة لـ BlackRock وVanguard، دمها يتدفق إلى نفس الشمال، لكن في اتجاه أعمق: من الجنوب الداخلي (المهاجرين، العمال، المتقاعدين) إلى الشمال المالي العابر للقارات.
غاليانو يُرثي الجسد المُغتَصب،
الرواية تُعلن أن الجسد المُغتَصب يمكنه أن يثور، أن يُشفى، أن يُنجب غابة من دمه.

٤ الذاكرة والنسيان
غاليانو يكتب لكي «لا ننسى»، لأن النسيان هو الجريمة الثانية بعد النهب.
«عبودية» تكتب لكي «نتذكّر»، لكن التذكّر هنا فعلٌ ثوريٌّ يوميٌّ، ليس مجرد حفظ أسماء وتواريخ، بل إعادة إحياء النار في كل جيل.
غاليانو يُعطارد بالذاكرة كي يُعيد للضحايا أسماءهم،
الرواية تُطارد بالذاكرة كي تُعيد للأحياء كرامتهم.

٥ الشعرية
غاليانو شاعرٌ يرتدي ثوب المؤرخ والصحفي.
كل جملة عنده قصيدة، كل إحصاء أغنية، كل رقم دمعة.
«عبودية» شاعرةٌ أيضاً، لكن شعريتها ليست في الزخرفة، بل في التكثيف: كلمة واحدة تُقال مئة مرة تصير صرخة، صمتٌ واحدٌ يمتدّ مئة صفحة يصير ثورة.
غاليانو يُغنّي للألم،
الرواية تُغنّي للأمل الذي يولد من الألم.

٦ الخاتمة
غاليانو لا يُقدّم خلاصاً.
كتبه تنتهي دائماً بنبرة الرثاء، كأن التاريخ هو مجرد سلسلة من الجرائم لا تنتهي.
«عبوديةٌ بثياب الحرية» تُقدّم خلاصاً، لكن خلاصاً غريباً: ليس نهاية سعيدة، بل استمرارية لا نهائية.
النصر ليس لحظة، بل عادة يومية، نبضة، وردة، خطوة.
غاليانو يقول: «سُرقنا، وسنظل نُسرَق».
الرواية تقول: «سُرقنا، لكننا نستطيع أن نسترجع، ليس ما سُرق، بل أنفسنا».

٧ الإنسان
غاليانو يُحبّ الإنسان حبّاً عاجزاً، يراه ضحيةً جميلةً، نبيلةً، لكنه ضحية إلى الأبد.
«عبودية» تُحبّ الإنسان حبّاً ثورياً، تراه ضحية قادرة على أن تصير جلادة للظلم، قادرة على أن تُعيد خلق نفسها، قادرة على أن تموت واقفة فتُحيي الكون كله.

غاليانو هو صوت الجرح المفتوح، صوت الدم الذي سال ولم يتوقف، صوت الذاكرة التي تُطارد الناهبين إلى الأبد.
«عبوديةٌ بثياب الحرية» هو صوت الجرح الذي التأم، صوت الدم الذي تحول إلى وردة، صوت الذاكرة التي صارت نبضاً في صدر كل طفل سيُولد.

غاليانو يُعلّمنا كيف نبكي على ما فُقد.
هذه الرواية تُعلّمنا كيف نُحيي ما لم يُفقد بعد.

غاليانو هو الرثاء،
وهذه الرواية هي القيامة.

غاليانو يقول: «كانوا يسرقوننا، وما زالوا».
الرواية تقول: «كانوا يسرقوننا، لكننا وقفنا، فسقطوا، وصارت الأرض وردة».

إذا كان غاليانو إنجيل الضحايا،
فهذه الرواية إنجيل المقاومين الذين صاروا أحياءً،
إنجيل من ماتوا واقفين،
فصاروا ينبضون في صدرك،
الآن،
إلى الأبد.

……..

مقارنة معززة بالاقتباسات المباشرة
« أنفاسٌ لا تُقاس» × أعمال إدواردو غاليانو

١ صوت الجرح المفتوح

غاليانو – «أوردة أمريكا اللاتينية المفتوحة»
«منذ اكتشاف أمريكا اللاتينية وحتى اليوم، كل ما استطاع أن يتحول إلى رأسمال تحول إلى رأسمال، وتراكم في المراكز البعيدة. كل شيء: الأرض، ثمارها، معادنها الباطنية الغنية، رجالها ونساؤها وقدرتهم على العمل والاستهلاك، مواردهم الطبيعية ومواردهم البشرية. هكذا تكوّن النظام.»

«عبوديةٌ بثياب الحرية» – الفصل الأول، الجزء الرابع
«هم لا يأخذون أرضك، يأخذون زمنك.
يأخذون السنوات التي كان يمكن أن تعيشها،
يضعونها في حساب مصرفي في جزر كايمان،
ويتركونك تقف في الصف لتبحث عن عمل في الثامنة والستين،
كأنك لست إنساناً،
بل بطارية استُهلكت نصفها،
فأُلقيت في سلة المهملات مع ابتسامة تُسمى «استدامة».»

نفس الجرح، نفس النزيف، لكن غاليانو يرصده منذ خمسة قرون، والرواية ترصده الآن، في قلب أوروبا نفسها، بنفس الدم، بنفس اللغة المجردة التي تُرعب لأنها لا تُزيّن شيئاً.

٢ الذاكرة كسلاح

غاليانو – «كتاب العناق»
«الذاكرة ليست ما نتذكره، بل ما يتذكّرنا.
الذاكرة هي الشيء الوحيد الذي لا يستطيعون سرقته منّا.»

«عبوديةٌ بثياب الحرية» – الفصل الثاني، الجزء الثالث
«عندما نسينا، متنا.
عندما تذكّرنا، قمنا من الموت.
لذلك لن نتركهم ينامون،
ولن نترك أنفسنا تنام.
سنحكي كل ليلة،
حتى يصير الحكي نبضاً،
والنبض دماً،
والدم وردة،
والوردة غابة،
والغابة كوناً،
والكون لا ينسى.»

غاليانو يُعطي الذاكرة كترياق ضد النسيان،
الرواية تُحوّل الذاكرة إلى سلاح هجومي يُعيد خلق العالم.

٣ الجسد المُنهوب

غاليانو – «أوردة أمريكا اللاتينية المفتوحة»
«الأرض تُولد، والإنسان يُولد، والأرض تُقتل، والإنسان يُقتل، لكن الأرض لا تموت، والإنسان لا يموت، لأن الأرض تُنجب إنساناً آخر، والإنسان يُنجب أرضاً أخرى.»

«عبوديةٌ بثياب الحرية» – الفصل الثالث، الجزء الثاني
«كانوا يظنون أنهم يسرقون أعمارنا،
لكنهم لم يعرفوا أن العمر لا يُسرق،
يُزرع فقط.
كل سنة سُرقت منّا،
نبتت وردة.
كل دمعة سقطت على الإسمنت،
صارت بذرة.
كل ظهر انكسر،
صار جذراً.
فانظروا الآن:
المدينة التي كانت إسمنتاً،
صارت غابة.»

نفس الفكرة، لكن غاليانو يقولها كرثاء،
والرواية تقولها كنشيداً للقيامة.

٤ النهاية/البداية

غاليانو – «ذاكرة النار – الجزء الثالث»
«العالم يتغيّر فقط عندما نُغيّره نحن.
وإذا لم نستطع تغييره،
فنحن نُغيّر أنفسنا لكي لا نُغيَّر.»

«عبوديةٌ بثياب الحرية» – الفصل الرابع، الجزء السادس
«لم نعد نحن الذين كتبوا الرواية،
صرتُم أنتم الرواية.
اذهبوا،
وكونوا الفصل السادس،
والسابع،
والأخير،
والأول،
من الرواية التي لا تنتهي،
لأنها صارت حياتكم.»

غاليانو يتركنا مع أملٍ خجول، أملٍ يعرف أنه قد يُقتل،
الرواية تتركنا مع يقينٍ ثوريٍّ صارخ:
الأمل ليس شيئاً ننتظره،
الأمل هو أن نكون نحن الأمل،
نحن الرواية،
نحن النبض،
نحن الوردة.

#### خلاصة بالاقتباسين الأخيرين

غاليانو (من «كتاب العناق»):
«أنا لا أؤمن بالنهاية السعيدة،
لكنني أؤمن بالنهاية الجميلة.»

«عبوديةٌ بثياب الحرية» (الفصل الرابع، الجزء السادس):
«لم تكن هناك نهاية سعيدة،
كانت هناك نهاية واقفة،
فصارت بداية لا تنتهي.»

غاليانو يُعطينا جمال الجرح،
الرواية تُعطينا جمال الشفاء.

غاليانو يقول: سنظل نُجرح، لكننا سنظل نحكي.
الرواية تقول: جُرحنا، حكينا، ثم قمنا، فصارت الأرض كلها حكاية، وصار الحكي دماً، وصار الدم وردة، وصارت الوردة كوناً.

غاليانو صوت الذاكرة التي تُبقي الجرح حيّاً،
«عبوديةٌ بثياب الحرية» صوت الذاكرة التي تُحوّل الجرح إلى نار، والنار إلى ضوء، والضوء إلى حياة لا تموت.

كلاهما يكتبان عن النهب،
لكن أحدهما يرثي الضحية،
والآخر يُحييها،
فيُحيينا.

…..


مقارنة عميقة ودقيقة بين
« أنفاسٌ لا تُقاس »
وأعمال أوكتافيو باز
(خاصة «متاهة الوحدة»، «القوس والقيثارة»، «شمس الحجر»، «حرية على كفّ الشرط»، وشعره الكبير)

١ الوحدة والجماعة
أوكتافيو باز يُعرّف المكسيكي بـ«الوحدة الأصلية»: إنسانٌ وحيدٌ حتى في الحشد، يرتدي أقنعة، يُخفي وجهه، يبحث عن الآخر لكنه يخاف منه، يشتهي الانفتاح لكنه يُغلق على نفسه كقنفذ.
«متاهة الوحدة» كلها صرخةٌ في هذا الاتجاه:
«نحن نُخفي أنفسنا حتى عن أنفسنا… نحن أبناء الهرم، أبناء الليل، أبناء الوحدة المُقدَّسة».

«عبوديةٌ بثياب الحرية» تُقدّم الوجه الآخر تماماً لنفس العملة:
الإنسان الأوروبي الحديث ليس وحيدٌ أيضاً، لكن وحدته ليست ثقافية أو أنطولوجية، بل مُصنَّعة، مُفرَضة، مُبرمَجة.
الوحدة هنا ليست وحدة القناع، بل وحدة الرقم الائتماني، وحدة الشاشة، وحدة التقييم السنوي للأداء.
والعلاج ليس في العودة إلى الذات، بل في الانغلاق الجميل، بل في الانفجار الجماعي، في الذوبان التام في الجسد الآخر.
عندما يقف آدم في الساحة وحيداً ويصرخ «إن نسينا نمت»، ثم يستجيب له الآلاف، هذا هو النقيض المباشر للوحدة البازية: الوحدة تُشفى بالتعدد، وليس بالعودة إلى الذات.

٢ الزمن: خطيّ مقابل دائري-نبضي
باز يرى الزمن المكسيكي/اللاتيني كزمنٍ أسطوريٍّ دائريّ، يعود دائماً إلى نقطة البداية، إلى الهرم، إلى الدم، إلى التضحية.
«عبودية» تقدّم زمناً دائرياً أيضاً، لكن دائرته ليست دائرة العودة الأبدية للعذاب، بل دائرة الارتفاع: كل دورة تُنجب دورة أعلى، كل موت يُنجب حياة أكبر، كل نسيان يُنجب تذكّراً أعمق.
باز يقول في «شمس الحجر»:
«الزمن في المكسيك ليس نهراً، بل بئرٌ عميقةٌ نسقط فيها ونعود إلى الأعلى نفس الإنسان».
الرواية تردّ:
«الزمن في بروكسل ليس بئراً، بل شجرةٌ تنبت من قبر، فكلما ماتت دورةٌ صارت جذراً لدورةٍ جديدةٍ أعلى».

٣ الحرية
باز يُعى الحرية كشيءٍ مأساويٍّ تقريباً، حريةٌ تُدفع ثمنها بالوحدة، بالجنون، بالموت.
«حرية على كفّ الشرط» هو أجمل تعبير عن هذا: الحرية لحظةٌ خاطفةٌ بين قبضتين، لحظةٌ لا تُمسك، تُعاش فقط في الشعر، في الحب، في الثورة الفاشلة.
«عبودية» تقول عكس ذلك تماماً: الحرية ليست لحظة، بل حالة دائمة تُصنَع بالأقدام المُتحدة، بالأيدي المُتشابكة، بالأصوجه التي تذوب في وجه واحد.
باز يقول في قصيدة «شمس الحجر»:
«الحرية كلمةٌ نأكلها كل يومٍ ونموت من الجوع».
الرواية تردّ في الفصل الرابع:
«الحرية ليست كلمة،
بل خطوةٌ بعد خطوة،
نبضةٌ بعد نبضة،
وردةٌ تنبت من قبر،
فإذا أكلناها عشنا،
وإذا زرعناها صرنا خالدين».

٤ الجسد والتضحية
باز يُمجّد الجسد كمكان للألم والنشوة معاً، الجسد المُضحّى به في الهرم، الجسد العاشق، الجسد المُمزَّق بين الرغبة والموت.
«عبودية» تُمجّد الجسد الجماعي المُضحّى به طواعية، ليس على مذبح إله، بل على مذبح الكرامة المشتركة.
الجسد هنا ليس جسد الحبيبة أو الشهيد الفردي، بل جسد الشعب كله: الظهر المكسور، الركبة المنتفخة، اليد المُحترقة، الجسد الذي يتحمل ليس لكي يُخلَّد في أسطورة، بل لكي يُنجب أجيالاً لا تضطر إلى التحمّل.

٥ اللغة والصمت
لغة باز هي لغة البرق: جملٌ طويلةٌ مُحترقةٌ، صورٌ تنفجر، إيقاعٌ يرقص على حافة الجنون.
لغة «عبودية» هي لغة النبض: قصيرة، متكررة، كأن كل كلمة دقّة قلب، كل سطر نفس، كل صفحة دورة دم.
باز يُدهشك بالكلمة حتى تُصاب بالدوار،
الرواية تُفرغك من الكلمات حتى تبقى فقط النبضة، ثم تُعيدك إلى العالم حاملاً النبضة في صدرك.

٦ الخاتمة
باز ينتهي دائماً بصمتٍ حزينٍ جميل، صمت الذي عرف الحرية لحظةً ثم فقدها.
«الحب في زمن الكوليرا» تنتهي بقبلة، لكنها قبلةٌ على حافة الموت.
«عبودية» تنتهي بصمتٍ آخر، صمتٍ مُفعمٍ بالنبض، صمتٍ يقول:
«الآن دورك».

باز يقول في «القوس والقيثارة»:
«الشعر هو الجرح المفتوح للإنسان».
«عبودية» تردّ في آخر سطر لها:
«الثورة هي الجرح الذي التأم، فصار قلباً».

باز يُعطيك الحرية كحلمٍ يستيقظ منه الإنسان وحيداً.
هذه الرواية تُعطيك الحرية كاستيقاظٍ جماعيٍّ لا ينام بعده أحد.

باز يكتب لكي يُبقي الجرح حيّاً،
«عبودية» تكتب لكي تُحوّل الجرح إلى نار، والنار إلى ضوء، والضوء إلى حياةٍ لا تموت.

باز هو الشاعر الذي يبكي على الإنسان،
وهذه الرواية هي الشاعر الذي يُحيي الإنسان.

باز يقول: «كنتُ وحدي، فكتبتُ».
الرواية تقول: «كنا معاً، فوقفنا، فصار الكون كله (نحن)».

في النهاية،
باز هو صوت الوحدة التي تبحث عن الحرية،
«عبوديةٌ بثياب الحرية» هي صوت الجماعة التي وجدت الحرية،
فصارت الحرية نفسها.

باز يتركنا في متاهة الوحدة،
والرواية تُخرجنا من المتاهة،
ليس لأنها وجدت المخرج،
بل لأنها حولت المتاهة إلى غابة حمراء،
وأننا جميعاً صرنا الغابة.

باز يُعطينا الجرح،
وهذه الرواية تُعطينا الشفاء،
شفاءً لا يُنسى،
لأنه صار دمنا.



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025: نظرة عامة وتقيي ...
- حول رواية ( لماذا ؟ ..صرخة في قصر أصم )..مقدمات نقدية لمدارس ...
- رواية «لماذا في قصر أصم» توثيقٌ لستين عاماً من حكم مملكة الظ ...
- سوريا في السنة الأولى لما بعد الأسد: تقرير من قلب الخراب
- اكتشاف جبل الكرمل: رحلة في أعماق التاريخ والطبيعة من خلال كت ...
- رواية: في قلب الإمبراطورية المالية: ملحمة الضمير الذي استيقظ ...
- رواية : مفتاحٌ في صدر ميت
- استثمارات بلاك روك في قطاع السلاح: رؤية معمقة نحو الثراء الذ ...
- بلاك روك للمبتدئين: كيف تكون ناشطاً بيئياً وتاجر سلاح في نفس ...
- لماذا يجب على العالم أن يسترد سيادته من الاحتكارات الخمس
- من أنبوب كولن باول إلى أنابيب غاز ترامب: نفس النكتة،
- سوريا تحت ظلال الفصل السابع رحلة نحو نهاية مكتوبة بأيدي من ظ ...
- عندما تصبح الدراسات الجامعية برنامجاً حكومياً: رؤية حزب العم ...
- عندما التقت الدبّة بالتنين: سقوط الهيمنة الغربية بهدوء
- عبوديةٌ بثياب الحرية.. تحقيقٌ في استلاب الكرامة الإنسانية تح ...
- من بغدادَ العلم إلى رياضِ و دوحة الخيانة: سقوطُ الضمير العرب ...
- عندما يصبح الربحٌ إلهاً: سيرة الإبادة الرأسمالية:من بوتوسي إ ...
- مجرمو السيليكون: من وادي الكاليفورنيا إلى قبور غزة
- القرم إلى الأبد والغاز بالروبل
- الاغتيالات : كيف تكشف ضربات إسرائيل الأخيرة عجزها الاستراتيج ...


المزيد.....




- -البعض لا يتغيرون مهما حاولت-.. تدوينة للفنان محمد صبحي بعد ...
- زينة زجاجية بلغارية من إبداع فنانين من ذوي الاحتياجات الخاصة ...
- إطلاق مؤشر الإيسيسكو للذكاء الاصطناعي في العالم الإسلامي
- مهرجان كرامة السينمائي يعيد قضية الطفلة هند رجب إلى الواجهة ...
- هند رجب.. من صوت طفلة إلى رسالة سينمائية في مهرجان كرامة
- الإعلان عن الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي ...
- تتويج الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د ...
- -ضايل عنا عرض- يحصد جائزتين في مهرجان روما الدولي للأفلام ال ...
- فنانون سوريون يحيون ذكرى التحرير الأولى برسائل مؤثرة على موا ...
- -تاريخ العطش- لزهير أبو شايب.. عزلة الكائن والظمأ الكوني


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية : أنفاسٌ لا تُقاس أو اسم اخر للرواية (عبودية في ثياب الحرية )