محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8559 - 2025 / 12 / 17 - 17:45
المحور:
القضية الفلسطينية
في الأوطان العادية، تُنجب النساء أبناءً للحياة؛ ليكبروا، ليتعلّموا، وليحلموا بمستقبلٍ يشبههم.
أمّا في فلسطين، فالأمومة ليست فعل حياةٍ فقط، بل فعل مقاومة.
في فلسطين، تتحوّل الولادة إلى موعدٍ مؤجَّل مع الألم، ًًويصير القلب مستعداً منذ اللحظة الأولى للغياب.
كتب غسان كنفاني، بوعيٍ جارح وحزنٍ هادئ، عن تلك المرأة التي لا تُنجب لنفسها، بل لوطنٍ يطالب دوماً بالمزيد، فقال في روايته «أم سعد»:
«هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين،
هي تُخلِف وفلسطين تأخذ…»
لم تكن هذه الكلمات توصيفاً أدبياً فحسب، بل شهادةً إنسانية كاملة؛
شهادة على أمٍّ تعرف، دون أن يُقال لها، أن أبناءها ليسوا ملكها وحدها، وأن فلسطين ستأتي يوماً لتأخذ حصّتها كاملة، بلا مساومة وبلا تأجيل.
في المخيمات، تجلس الأمهات على عتبات البيوت الضيّقة، لا يترقّبن عودة الأبناء، بل ينتظرن خبراً عنهم.
وحين يأتي الخبر، لا يكون كما تشتهي القلوب.
تشدّ الأم ثوبها، ترفع رأسها، وتكتم دمعتها، لأن البكاء العلني قد يُفهم خيانةً للفكرة التي ربّت أبناءها عليها.
الحزن الفلسطيني ليس صاخباً، بل عميق.
ليس انكساراً، بل صمودٌ طويل.
وأم سعد لم تكن شخصيةً روائية فحسب، بل صورةً جامعة لأمهات فلسطين جميعاً؛ أولئك اللواتي يعرفن أن الحرية لا تُكتب بالحبر، بل بالأجساد التي تخرج من أرحامهن وتمضي.
لم يُمجِّد غسان كنفاني الموت، بل كشف ثمنه.
كتب عن أمٍّ تواصل الحياة بعد أن أخذت فلسطين أبناءها، لا لأنها لا تحزن، بل لأنها لا تملك رفاهية السقوط.
ففي كل بيتٍ فلسطيني صورة،
وفي كل أم اسم،
وفي كل قلبٍ ألمٌ لا يشيخ.
الأم الفلسطينية لا تطلب وساماً، ولا تنتظر شكراً.
يكفيها أن تعرف أن أبناءها لم يذهبوا عبثاً، وإن كان قلبها يعرف الحقيقة كاملة.
تمسح الغبار عن صورةٍ معلّقة على الجدار، تهمس باسمٍ تعرفه فلسطين جيداً، ثم تواصل يومها كما لو أن شيئاً لم يُكسَر في داخلها.
هكذا تعيش أم سعد،
وهكذا تعيش آلاف الأمهات مثلها؛
يُنجبن،
وتأخذ فلسطين،
ويبقى الحزن مقيماً… بلا ضجيج.
ليست أم سعد حكايةً انتهت في كتاب، بل ذاكرةٌ مفتوحة تتناسل في كل بيتٍ فلسطيني.
هي الأم التي تعلّمت أن تحوّل الغياب إلى معنى، والألم إلى صبر، والصمت إلى موقف.
وفي وطنٍ اعتاد أن يدفع أثمانه من لحم قلبه، تبقى الأمهات شاهداتٍ على أن الحرية لا تولد دفعةً واحدة، بل تُنجب مراراً…
وتعرف فلسطين أسماء أبنائها، كما تعرف جيداً دموع أمهاتهم التي لم تسقط.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟