أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - بين الثورات المغدورة منها، والمسروقة، والمستمرّة: صراع الوعي والتنظيم والزّمن التّاريخي.















المزيد.....



بين الثورات المغدورة منها، والمسروقة، والمستمرّة: صراع الوعي والتنظيم والزّمن التّاريخي.


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8556 - 2025 / 12 / 14 - 22:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مقدّمة:
☑️حين ينهض التاريخ من تحت الركام:
ليست الثورة صرخة عابرة في ليل طويل، ولا انفجارا غضبيا بلا ذاكرة، بل هي لحظة استعادة التاريخ لنفسه بعد اختناق مزمن. إنّها اللحظة التي يتوقّف فيها الزمن الرسمي ، زمن البلاغات، والمؤتمرات، والإصلاحات المؤجّلة ، ليبدأ زمن آخر، زمن المقموعين حين يكتشفون فجأة أنّ الصمت لم يعد خيارا، وأنّ الطاعة لم تعد ضمانة، وأنّ الخوف لم يعد يحمي شيئا.
في هذا المعنى، لا تولد الثورة من الفراغ، ولا من “مزاج” شعبي طارئ، بل من تراكم مادي كثيف:
تراكم الفقر، تراكم الإهانة، تراكم العمل بلا أجر عادل، وتراكم الإقصاء من القرار والمعنى. الثورة هي نقطة الغليان التي تبلغها التناقضات حين تعجز السلطة عن إدارتها بالوسائل المعتادة، وحين تفشل الأيديولوجيا في إقناع المقهورين بأنّ بؤسهم قدر.
قال كارل ماركس:
«الثورة هي نتاج تناقضات لا يمكن احتواؤها داخل النظام القائم.»
ولهذا، فإنّ الثورة ليست انحرافا عن “الاستقرار”، بل كشف عن زيفه. ليست فوضى طارئة، بل تسمية دقيقة لفوضى قائمة يراد لها أن تبدو طبيعية. فالاستقرار الذي يبنى على الجوع، والهدوء الذي يدار بالقمع، والنظام الذي يحافظ عليه بتهميش الأغلبية، ليست سوى أشكال مؤجّلة من الانفجار.
إنّ الحديث عن الثورة، من منظور يساري ثوري، هو حديث عن السلطة بوصفها علاقة قهر، وعن الدولة بوصفها جهازا تاريخيا لإدارة الصراع الطبقي، لا حكما محايدا فوق المجتمع. الدولة، في لحظات السلم الظاهري، تخفي هذه الحقيقة خلف القانون والمؤسسات؛ أمّا في لحظات الثورة، فتسقط الأقنعة، وتظهر الدولة على حقيقتها: طرفا في الصراع، لا حكما فيه.
قال نيكوس بولانتزاس:
«الدولة هي تكثيف مادي لعلاقات القوة داخل المجتمع.»
ومن هنا تبدأ المأساة، وتبدأ الإمكانية في آن واحد. فحين تدخل الجماهير إلى مسرح التاريخ، لا تفعل ذلك ككتلة واحدة متجانسة، بل كقوى متعددة، بوعي متفاوت، وبمصالح متباينة. ولهذا، لا تكون الثورة طريقا مستقيما، بل ساحة صراع داخل الصراع:
صراع بين من يريد اقتلاع النظام من جذوره، ومن يريد إعادة تدويره؛
بين من يرى الحرية شرطا للعدالة، ومن يراها بديلا عنها؛
وبين من يفهم الثورة كمسار طويل، ومن يختزلها في لحظة رمزية.
هنا بالضبط تتحدّد مصائر الثورات.
فهناك ثورات تغدر حين تهدّد جوهر السلطة.
وثورات تسرق حين تفصل السياسة عن الاجتماع، وتسلّم القيادة إلى نخب ترى في الثورة سلّما لا قطيعة.
وثورات قليلة تصرّ على الاستمرار، لا لأنّها أقوى، بل لأنّها أكثر وعيا بطبيعة الصراع.
قال أنطونيو غرامشي:
«الأزمة تكمن في أنّ القديم يحتضر، والجديد لا يستطيع أن يولد.»
هذه المنطقة الرمادية ، بين موت القديم وتعسّر ولادة الجديد ، هي فضاء الثورة الحقيقي. فيها تتكثّف الهزائم، وتتراكم الخيبات، لكن فيها أيضا يصاغ الوعي، ويختبر التنظيم، ويعاد تعريف معنى النصر والهزيمة.
إنّ أخطر ما يمكن أن يصيب الثورة ليس القمع وحده، بل فقدان البوصلة:
حين تختزل الحرية في إجراءات،
والديمقراطية في صناديق بلا سيادة،
والسياسة في إدارة الفقر بدل القضاء عليه.
عندها تتحوّل الثورة من فعل تحرّر إلى ذكرى، ومن مشروع تغيير إلى خيبة جماعية.
لكن التاريخ، كما تعلّمنا التجربة، لا يتحرّك بالخيبات وحدها. فكلّ ثورة، حتى المهزومة منها، تترك أثرا لا يمحى:
تكسر حاجز الخوف،
تفضح آليات الحكم،
وتزرع في الوعي الجمعي فكرة خطيرة: أنّ ما بدا أبديًا يمكن أن يهتزّ.
قال والتر بنيامين:
«كلّ لحظة من لحظات الحاضر تحمل إمكانية خلاص.»
ومن هنا، لا يكون هذا النص تأمّلا في الماضي، ولا رثاء للثورات، بل محاولة لقراءة الثورة كمسار مفتوح، يتشكّل بين الغدر والسرقة والاستمرار، ويتحدّد بقدر ما نمتلك من وعي، وتنظيم، وصبر تاريخي.
فالثورة ليست وعدا جاهزا بالمستقبل،
بل سؤالا دائما موجّها إلى الحاضر:
كيف نعيش؟
ولمصلحة من يدار هذا العالم؟
وإلى متى يطلب من الأغلبية أن تدفع ثمن نظام لم تختره؟
بهذا المعنى، تبدأ الثورة…
لا حين يخرج الناس إلى الشوارع فقط،
بل حين يدركون أنّ العودة إلى ما كان لم تعد ممكنة.

أولا: الثورة المغدورة
حين تواجه الدولة التاريخ بالرصاص.

الثورة المغدورة هي تلك التي تقابل منذ ولادتها بمنطق الحرب. لا تفاوض، لا إصلاح، لا احتواء. فقط القمع.
الدولة هنا تدرك، بحسّها الطبقي الغريزي، أنّ الثورة ليست احتجاجا يمكن امتصاصه، بل خطرا وجوديا على بنية السيطرة نفسها.
في هذه اللحظة، تسقط كلّ أوهام “الدولة الوطنية”، و“المؤسسات”، و“الحياد”.
تتكشّف الدولة على حقيقتها:
جهاز قمع منظم لحماية مصالح أقلية،
وسلطة لا تعترف بالشعب إلا كموضوع للضبط.
قال ماكس فيبر إنّ الدولة تحتكر “العنف المشروع”،
لكن الثورة المغدورة تفضح هذه العبارة:
العنف ليس مشروعا، بل طبقيا.

☑️في الثورة المغدورة:
يجرَّم الاحتجاج،
يشيطَن الفقراء،
يصوَّر المتمرّد كعدوّ داخلي،
ويستدعى الخارج، صراحة أو ضمنا، لضمان “الاستقرار”.
الغدر لا يكون فقط بالرصاص، بل أيضا:
بتزوير الذاكرة،
بتشويه الشهداء،
وبإعادة كتابة التاريخ من زاوية الجلاد.
قال والتر بنيامين:
«لا توجد وثيقة حضارة إلا وهي في الوقت نفسه وثيقة بربرية.»
الثورة المغدورة تتحوّل إلى جرح مفتوح في الذاكرة الجماعية.
لكن هذا الجرح ليس علامة ضعف، بل مخزن طاقة تاريخية.
فكلّ دم سفك دون عدالة،
وكلّ صوت خنق دون محاسبة،
يتحوّل إلى دين مؤجَّل في ذمّة النظام.
الدولة التي تغدر بالثورة قد تنتصر أمنيا،
لكنها تخسر أخلاقيا وتاريخيا.
لأنها، في لحظة الغدر، تعلّم الشعب درسا لا ينسى:
أنّ هذا النظام لا يصلَح، ولا يفاوض، ولا يجمَّل.
الثورات المغدورة لا تموت،
بل تتعفّن تحت السطح،
تنتظر جيلا جديدا،
أكثر وعيا، أقلّ براءة، وأشدّ جذرية.

ثانيا: الثورة المسروقة
حين يختطف الفعل الشعبي باسم الشرعية.

إذا كانت الثورة المغدورة تقمع بالسلاح،
فإنّ الثورة المسروقة تخنق بالقانون، وبالخطاب، وبالتمثيل الزائف.
هنا لا تغلق الساحات بالقوّة فقط،
بل تفتح قاعات التفاوض،
وتستدعى النخب،
ويقال للشعب: “لقد انتصرتم، عودوا إلى بيوتكم”.
قال أنطونيو غرامشي:
«الهيمنة لا تمارس بالقوة وحدها، بل بالقبول.»
في الثورة المسروقة، ينتَج هذا القبول قسرا،
عبر:
تحويل المطالب الجذرية إلى إصلاحات تقنية،
فصل السياسي عن الاجتماعي،
وإقصاء السؤال الطبقي من المجال العام.
تستبدل لغة العدالة الاجتماعية بلغة “الحوكمة”،
وتستبدل الثورة بإدارة الأزمة،
وتستبدل الجماهير بخبراء.
الأخطر في الثورة المسروقة أنّها:
تبقي البنية الاقتصادية كما هي،
تبقي التبعية كما هي،
وتغيّر فقط واجهة الحكم.
قال سمير أمين:
«الديمقراطية التي لا تمسّ علاقات الملكية ليست إلا شكلا من أشكال الاستبداد المقنّع.»
في هذه اللحظة، تسرق الثورة مرتين:
حين تقصى القاعدة الشعبية التي فجّرتها.
حين يعاد تعريف “النجاح” بما لا يغيّر شيئا في حياة الفقراء.
تتحوّل الحرية إلى حقّ تصويت بلا سيادة،
وتتحوّل الدولة إلى وسيط بين رأس المال المحلي والعالمي،
وتترك الجماهير وحيدة أمام الغلاء، والبطالة، والهشاشة.
الثورة المسروقة لا تنتج الخوف،
بل تنتج الإحباط،
وهذا أخطر، لأنّ الإحباط يقتل الإيمان بالفعل الجماعي.
لكن حتى هنا، لا ينتهي التاريخ.
فالسرقة لا تلغي الحقيقة،
والحلم المسروق يظلّ حيا في الوعي،
ينتظر لحظة استعادته.

ثالثا: الثورة المستمرّة
حين يتحوّل الفعل العفوي إلى وعي تاريخي طويل النفس.

الثورة المستمرّة ليست تلك التي لا تهزم، بل تلك التي تفهم الهزيمة ولا تحوّلها إلى نهاية. هي الثورة التي تدرك أنّ الصراع الطبقي لا يحسم في جولة واحدة، وأنّ السلطة لا تنتزع بضربة رمزية، بل بتراكم طويل من التنظيم والوعي والصراع داخل المجتمع نفسه.
في الثورة المستمرّة، لا يعود الشارع هو الشكل الوحيد للفعل الثوري، بل يصبح واحدا من أدواته. فحين تغلق الساحات، تفتح العقول، وحين يقمع الجسد، ينتقل الصراع إلى البنية، إلى الثقافة، إلى الاقتصاد، إلى معنى الحياة اليومية نفسها.
قال فلاديمير لينين:
«الثورة ليست وليدة الانفجار، بل وليدة التنظيم.»
الثورة المستمرّة هي انتقال نوعي من الغضب إلى المشروع، ومن العفوية إلى السياسة الجذرية. إنّها اللحظة التي يفهم فيها المضطهدون أنّ المشكلة ليست في هذا الحاكم أو ذاك، بل في نمط حكم كامل، وفي علاقات إنتاج تعيد إنتاج القهر مهما تغيّرت الوجوه.

1. من إسقاط النظام إلى تفكيك البنية:
الثورة المستمرّة ترفض الوهم القائل إنّ سقوط رأس السلطة يعني سقوط النظام.
فالنظام، في التحليل الماركسي، ليس شخصا، بل:
علاقات ملكية،
بنية اقتصادية،
جهاز دولة،
وأيديولوجيا تبرّر كلّ ذلك.
قال لويس ألتوسير:
«الدولة لا تحكم فقط بالقمع، بل بإنتاج المعنى.»
لذلك، فإنّ الثورة المستمرّة تخوض معركة مزدوجة:
ضد جهاز القمع (الشرطة، القضاء، الجيش حين يوظّف داخليا)،
وضد جهاز الهيمنة الرمزية (الإعلام، المدرسة، الخطاب الديني، والخطاب الليبرالي).
إنّها ثورة تفهم أنّ السيطرة لا تمارس بالسلاح فقط، بل بالاقتناع، وبالتعوّد، وبإقناع الفقير بأنّ فقره طبيعي، وبأنّ البديل مستحيل.

2. الثورة المستمرّة كصراع اجتماعي يومي:
في هذا المعنى، لا تعود الثورة حدثا استثنائيا، بل عملية اجتماعية دائمة.
تظهر في:
الإضرابات،
المعارك النقابية،
مقاومة الخصخصة،
الدفاع عن الخدمات العمومية،
والنضال من أجل الخبز، والسكن، والكرامة.
قال روزا لوكسمبورغ:
«من لا يتحرّك لا يشعر بقيوده.»
الثورة المستمرّة تحرّك المجتمع ببطء، ولكن بثبات.
إنّها ثورة تعرف أنّ الصراع الحقيقي يدور حول:
من ينتج الثروة؟
من يقرّر مصيرها؟
ولمصلحة من تدار الدولة؟
ولهذا ترفض الفصل بين السياسي والاجتماعي،
وترفض اختزال الحرية في صندوق اقتراع،
وترفض الديمقراطية التي تتعايش مع الجوع.

3. التنظيم: روح الثورة المستمرّة:
ما يميّز الثورة المستمرّة عن الانفجار العفوي هو التنظيم.
لا تنظيم فوقيّ منفصل عن الجماهير،
ولا طليعة متعالية،
بل تنظيم منغرس في الواقع الاجتماعي، يتعلّم من الناس بقدر ما يعلّمهم.
قال غرامشي:
«الحزب الثوري هو المثقف الجماعي للطبقة العاملة.»
في الثورة المستمرّة:
يبنى الوعي داخل المعركة،
وتصاغ النظرية من التجربة،
وتختبر الشعارات في الواقع، لا في الكتب فقط.
التنظيم هنا ليس أداة للسيطرة، بل وسيلة للتحرّر.
إنّه ما يحوّل الغضب إلى قوّة،
والشتات إلى كتلة تاريخية قادرة على الفعل.

4. الهزيمة كمرحلة لا كنهاية:
الثورة المستمرّة لا تخاف من الاعتراف بالهزيمة،
لكنها ترفض تحويلها إلى قدر.
قال ليون تروتسكي:
«الهزيمة الحقيقية هي التخلّي عن الفكرة.»
الهزيمة، في هذا السياق، ليست سوى لحظة إعادة تموضع.
فكلّ ثورة مستمرّة تمرّ بمراحل:
صعود،
قمع،
كمون،
ثم عودة بأشكال جديدة.
ما يتغيّر ليس الهدف، بل الأدوات.
وما يتراكم ليس الخسارة، بل الخبرة.

5. الثورة المستمرّة كأفق تاريخي:
الثورة المستمرّة لا تعد بالنصر السريع،
ولا تبيع الوهم،
ولا تخدّر الجماهير بشعارات سهلة.
إنّها تقول بوضوح:
إنّ التحرّر عملية طويلة،
وإنّ العدالة لا تمنح بل تنتزع،
وإنّ الرأسمالية، في جوهرها، نظام لا إنساني لا يمكن تجميله.
قال سمير أمين:
«الرأسمالية لا تُصلَح، بل تتجاوَز.»
ولهذا، فالثورة المستمرّة ليست خيارا أخلاقيا،
بل ضرورة وجودية لشعوب تدفع يوميا إلى الهامش.

ثالثا. التنظيم: من العفوية المشتعلة إلى القوّة التاريخية الواعية.

☑️التنظيم بوصفه نفيا للهشاشة الثورية:
إذا كانت العفوية هي الشرارة، فإنّ التنظيم هو النار التي لا تنطفئ.
العفوية تفجّر اللحظة، لكنّها عاجزة عن حمايتها.
أمّا التنظيم، فهو ما يمنح الثورة ذاكرة، واستمرارية، وقدرة على تحويل الغضب إلى قوّة اجتماعية منظّمة.
قال فلاديمير لينين:
«العفوية وحدها لا تقود إلا إلى وعي نقابي، أمّا الوعي الثوري فيبنى تنظيما.»
التنظيم في الثورة المستمرّة ليس تقنية إدارية، بل شرط وجود. فالثورة التي لا تنظّم نفسها تترك عارية أمام:
جهاز الدولة،
التفاف النخب،
واستنزاف الزمن.
التنظيم ضد منطق الانفجار ثم التبخّر
أحد أخطر أوهام الخطاب الليبرالي ، وحتى بعض الخطابات الراديكالية السطحية ، هو تمجيد الانفجار الشعبي بوصفه غاية في ذاته.
لكن التاريخ يثبت أن:
الانتفاضات غير المنظّمة تستنزف،
والحشود بلا أفق تفرَّق،
والغضب غير المؤطّر يتحوّل إلى يأس أو عنف عبثي.
التنظيم هو ما يحوّل الجماهير من جمهور إلى فاعل تاريخي.
وهو ما يمنع الثورة من أن تكون مجرّد ردّ فعل، ويجعلها فعلا واعيا بذاته.
قال أنطونيو غرامشي:
«من دون تنظيم، لا توجد طبقة، بل أفراد فقط.»

☑️أي تنظيم؟ ضد التنظيم الفوقي وضد الشعبوية:
الثورة المستمرّة ترفض نموذجين قاتلين:
-التنظيم الفوقي المغلق:
حيث تتحوّل القيادة إلى نخبة معزولة، تتكلّم باسم الجماهير دون أن تعيش شروطها.
-اللا-تنظيم الشعبوي:
حيث يختزل الوعي في الهتاف، والسياسة في الغضب، والاستراتيجية في اللحظة.

☑️التنظيم الثوري المطلوب هو:
منغرس في الواقع الاجتماعي،
ديمقراطي داخليا،
صارم فكريا،
مرن تكتيكيا،
واضح استراتيجيا.
تنظيم لا يرى في الجماهير مادة للتعبئة، بل ذاتا تاريخية تتعلّم وتخطئ وتصحّح.

☑️التنظيم كذاكرة جماعية للصراع:
التنظيم هو ذاكرة الثورة.
بدونه، تبدأ كلّ موجة احتجاج من الصفر.
وبوجوده، تتحوّل كلّ هزيمة إلى درس، وكلّ انتصار إلى لبنة.
هو من:
يحفظ التجربة،
يصوغ الشعارات من الواقع لا من الفراغ،
ويربط النضالات الجزئية (العمل، السكن، التعليم، الصحة) بالأفق التحرّري الشامل.
قالت روزا لوكسمبورغ:
«الثورة تتعلّم أثناء سيرها.»
لكن هذا التعلّم لا يحدث تلقائيا، بل عبر تنظيم قادر على تحويل التجربة إلى وعي.

☑️التنظيم كمعركة ضد الهيمنة الثقافية:
لا يقتصر دور التنظيم على إدارة الاحتجاج، بل يمتدّ إلى تفكيك الهيمنة الأيديولوجية.
فالرأسمالية لا تحكم فقط بالقمع، بل بإقناع المضطهَدين بأنّ:
الفقر قدر،
والبديل مستحيل،
والتمرّد فوضى.
التنظيم الثوري يخوض معركة:
داخل المدرسة،
داخل الإعلام،
داخل اللغة،
داخل الوعي اليومي.
إنّه معركة على المعنى، لا تقلّ ضراوة عن معركة الشارع.

رابعا. الهزيمة: من الانكسار المرحلي إلى الوعي التاريخي.

☑️الهزيمة كجزء بنيوي من الصراع:
الثورة المستمرّة لا تنظر إلى الهزيمة كعار، بل كمرحلة.
ففي الصراع الطبقي، لا توجد خطوط مستقيمة، بل:
تقدّم،
ارتداد،
كمون،
ثم اندفاع جديد.
قال ليون تروتسكي:
«الثورة تهزم عندما تتوقّف عن التعلّم.»
الهزيمة تصبح قاتلة فقط حين تتحوّل إلى:
استسلام،
أو إنكار،
أو نوستالجيا عقيمة للماضي.
أمّا حين تفهم بوصفها لحظة كشف، فإنّها تتحوّل إلى رافعة وعي.

☑️الهزيمة تكشف طبيعة الدولة:
في لحظة الهزيمة، تسقط الأقنعة.
الدولة التي كانت تتحدّث عن القانون تكشف عن القمع.
والنخب التي بشّرت بالإصلاح تكشف عن تحالفها مع السلطة.
والخارج الذي ادّعى دعم “الديمقراطية” يكشف عن خوفه من أي مساس بالمصالح.
الهزيمة، بهذا المعنى، ليست فقط خسارة، بل درس سياسي جماعي:
من هو العدو؟
من هو الحليف؟
وما هي حدود الممكن داخل النظام القائم؟

☑️ضد ثقافة جلد الذات:
أحد أخطر نتائج الهزيمة هو انتشار خطاب جلد الذات:
“الشعب غير جاهز”
“المجتمع متخلّف”
“الثورة كانت خطأ”
هذا الخطاب ليس بريئا.
إنّه إعادة إنتاج لأيديولوجيا الهيمنة، ونقل لمسؤولية الفشل من البنية إلى الضحية.
قال فرانتز فانون:
«المستعمَر يهزم مرتين: مرّة بالقوة، ومرّة حين يقتنع بأنّه لا يستحق الانتصار.»
الثورة المستمرّة ترفض هذا المنطق.
تقول بوضوح:
المشكلة ليست في الناس، بل في ميزان القوّة، وفي غياب التنظيم، وفي شراسة النظام.

☑️الهزيمة كمرحلة إعادة بناء:
بعد الهزيمة، لا تعود الأسئلة هي نفسها.
لم يعد السؤال: كيف نحتجّ؟
بل:
كيف ننظّم؟
كيف نوسّع القاعدة الاجتماعية؟
كيف نربط النضال اليومي بالأفق التاريخي؟
الهزيمة تفرض:
مراجعة نقدية،
غربلة القيادات،
إعادة تعريف الأولويات،
وبناء أدوات جديدة.
إنّها لحظة انتقال من الطفولة الثورية إلى النضج السياسي.

☑️الذاكرة ضد النسيان المنظّم:
السلطة تراهن دائما على النسيان.
على تعب الناس، وعلى طيّ الصفحة، وعلى تحويل الهزيمة إلى صمت.
الثورة المستمرّة تفعل العكس:
تحفظ الذاكرة،
تخلّد الشهداء،
وتعيد سرد التاريخ من زاوية المضطهَدين.
فالنسيان هو الهزيمة النهائية.
أمّا الذاكرة، فهي شرط العودة.

خامسا. الثورة المستمرّة كأفق تاريخي
حين تصبح الثورة ضرورة لا حدثا.

الثورة المستمرّة ليست وعدا قريبا، ولا أفقا طوباويا يلوَّح به لتسكين الغضب، بل هي منطق تاريخي ينبع من بنية النظام نفسه. فطالما ظلّ الاستغلال قائمًا، وطالما استمرّ تراكم الثروة في يد أقلية، وطالما بقيت الدولة أداة لإدارة هذا التراكم بالقوة والقانون، فإنّ الثورة لا تكون احتمالا، بل حتمية مؤجَّلة.
قال كارل ماركس:
«ليس وعي الناس هو الذي يحدّد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدّد وعيهم.»
من هنا، لا تقاس الثورة المستمرّة بارتفاع منسوب الاحتجاج، بل بعمق التناقضات التي تنتجها الرأسمالية التابعة، وباستحالة حلّها داخل النظام القائم. فكلّ إصلاح جزئي، وكلّ تسوية سياسية، وكلّ انتقال شكلي، لا يفعل سوى تأجيل الانفجار، لا إلغائه.

☑️الثورة المستمرّة ضد وهم النهاية:
أحد أخطر الأسلحة الأيديولوجية للسلطة هو الترويج لفكرة “نهاية التاريخ”، أو “نهاية الثورات”، أو “استحالة البديل”.
يقال للناس:
هذا هو الممكن الوحيد،
وهذا هو أقصى ما يمكن تحقيقه،
وكلّ ما عداه فوضى أو خراب.
الثورة المستمرّة تفكّك هذا الوهم من جذوره.
إنّها تقول بوضوح:
ما يقدَّم بوصفه “واقعية” ليس سوى استسلام منظّر.
قال هربرت ماركوزه:
«الواقعية في مجتمع قمعي هي شكل من أشكال الامتثال.»
الثورة المستمرّة ترفض الواقعية التي تطبّع مع الظلم،
وترفض العقلانية التي تبرّر اللامعقول،
وترفض السياسة التي تفصل الممكن عن العادل.

☑️الأفق التاريخي ضد اللحظة العابرة:
في هذا المعنى، لا تعيش الثورة المستمرّة على منطق اللحظة، بل على منطق الأفق.
اللحظة تستنزف،
أمّا الأفق فيبنى.
هي ثورة تعرف أنّ:
التغيير الجذري لا يحدث دفعة واحدة،
وأنّ بناء القوة أهم من حصد الرمزية،
وأنّ الزمن، حين يدار تنظيميا، يصبح حليفا لا عدوا.

☑️الأفق هنا ليس غامضا، بل محدّد:
تفكيك علاقات الاستغلال،
إعادة توزيع الثروة،
بناء دولة اجتماعية لا بوليسية،
وسيادة شعبية لا شكلية.

☑️الثورة المستمرّة والسيادة:
لا يمكن للثورة المستمرّة أن تكون وطنية حقا دون أن تكون اجتماعية،
ولا اجتماعية دون أن تكون سيادية.
فالتبعية الاقتصادية ليست مسألة تقنية، بل قيد سياسي يفرغ أي ديمقراطية من مضمونها.
ولهذا، فإنّ الثورة المستمرّة تربط دائما بين:
التحرّر الاجتماعي،
والتحرّر من الهيمنة الخارجية،
والتحرّر من منطق السوق العالمي المفروض بالقوة.
قال سمير أمين:
«لا تحرّر وطني دون فكّ الارتباط.»
الأفق التاريخي للثورة المستمرّة هو كسر هذا الارتباط، لا التكيّف معه.

سادسا. الثورة المستمرّة كمعنى للكرامة والإنسان.

☑️حين يصبح النضال أسلوب حياة:
الثورة المستمرّة ليست برنامجا سياسيا فقط، بل تحوّلا أنثروبولوجيا في نظرة الإنسان إلى ذاته.
إنّها لحظة خروج من موقع الضحية إلى موقع الفاعل،
من الخضوع إلى المبادرة،
من الصمت إلى الكلام.
قال باولو فريري:
«التحرّر لا يمنَح، بل ينتَزع عبر الوعي بالفعل.»
في هذا المستوى، تصبح الثورة المستمرّة ممارسة يومية:
في العمل، حين يرفض العامل الإذلال،
في الحيّ، حين ينظَّم الناس للدفاع عن حقّهم،
في المدرسة، حين يقاوم التلقين،
في اللغة، حين يسمّى القمع قمعا لا “إجراء”.

☑️الثورة ضد تدجين الإنسان:
الرأسمالية لا تسرق الثروة فقط،
بل تدجّن الإنسان.
تحوّله إلى:
مستهلك بدل أن يكون مواطنا،
فرد معزول بدل أن يكون عضوا في جماعة،
كائن خائف بدل أن يكون فاعلا.
الثورة المستمرّة هي نقيض هذا التدجين.
إنّها إعادة بناء الإنسان بوصفه:
كائنا اجتماعيا،
صاحب حقّ في القرار،
وفاعلا في صنع مصيره.
قال إرنستو تشي غيفارا:
«الثورة الحقيقية تصنع إنسانا جديدا.»
وهذا “الإنسان الجديد” لا يولد من الخطابات،
بل من الممارسة الجماعية،
ومن استعادة الثقة بالذات وبالقوة المشتركة.

☑️الثورة كأخلاق نضالية:
في زمن الانتهازية السياسية،
تعيد الثورة المستمرّة الاعتبار للأخلاق، لا بمعناها الوعظي، بل بمعناها الصراعي:
الصدق مع الجماهير،
رفض المتاجرة بالآلام،
وعدم تحويل النضال إلى سلّم للمصالح الفردية.
الأخلاق هنا ليست حيادا،
بل انحيازا واضحا للمضطهدين.
قال جان بول سارتر:
«الحياد في زمن الظلم هو انحياز للجلاد.»
الثورة المستمرّة تجبر كلّ فرد على اتخاذ موقع،
وتفضح وهم الوقوف “فوق الصراع”.

☑️المعنى ضد العدمية:
في لحظات الإحباط الكبرى، تنتشر العدمية:
لا شيء يتغيّر،
لا جدوى من النضال،
الكلّ فاسد.
الثورة المستمرّة هي الردّ الجذري على هذه العدمية.
إنّها تقول:
المعنى لا يعطى، بل يصنَع.
وأنّ النضال، حتى حين لا ينتصر فورا،
يمنح الحياة قيمة،
ويمنح الإنسان كرامته.

سابعا. الثورة المستمرّة والسلطة
من وهم الاستيلاء إلى منطق التفكيك والبناء.

أحد أكثر الأخطاء شيوعا في تاريخ الحركات الثورية هو اختزال المسألة في سؤال: كيف نصل إلى السلطة؟
بينما السؤال الجذري الذي تطرحه الثورة المستمرّة هو: ما هي هذه السلطة أصلا؟ ولمصلحة من وجدت؟
قال ميشيل فوكو:

«السلطة ليست شيئا يمتلك، بل علاقة تمارس.»
الثورة المستمرّة تنطلق من هذا الفهم العميق:
أنّ السلطة ليست قصرا يقتحَم، ولا منصبا ينتزَع، بل شبكة علاقات متغلغلة في:
الدولة،
الاقتصاد،
الثقافة،
الحياة اليومية.
ولهذا، فإنّ الثورة التي تكتفي بالاستيلاء على جهاز الدولة دون تفكيك منطقه، تجد نفسها سريعا وقد ورثت نفس الأدوات، ونفس الإكراهات، ونفس الإغراءات.

☑️ضد فتنة الدولة الجاهزة:
الدولة القائمة ليست قالبا محايدا يمكن ملؤه بمضامين جديدة.
إنّها، في جوهرها، نتاج تاريخ طويل من:
حماية الملكية،
ضبط العمل،
إدارة الفقر،
وقمع التمرّد.
قال نيكوس بولانتزاس:
«الدولة ليست أداة في يد الطبقة السائدة فقط، بل تجسيد لعلاقات القوّة داخل المجتمع.»
الثورة المستمرّة تفهم أنّ:
دخول الدولة دون تغيير بنيتها = إعادة إنتاج الهيمنة،
واستبدال النخب دون تغيير منطق الحكم = ثورة محبَطة مؤجّلة.
لذلك، لا تتعامل مع السلطة كغنيمة، بل كسؤال مفتوح:
كيف نمنع تركّز القرار؟
كيف نربط السلطة بالرقابة الشعبية؟
كيف نمنع تحوّل الثوريّ إلى حاكم معزول؟

☑️السلطة من الأسفل: منطق مزدوج لا اختزالي:
الثورة المستمرّة لا تقع في وهم “تحطيم الدولة دفعة واحدة” كشعار رومانسي،
ولا في وهم “إصلاح الدولة من الداخل” كخيار تقني.
إنّها تسير في مسار مزدوج:
تفكيك أدوات القمع والهيمنة،
وبناء أشكال سلطة بديلة من الأسفل.
سلطة تبنى عبر:
المجالس،
التنظيمات القاعدية،
النقابات المناضلة،
وأشكال الديمقراطية المباشرة.
قالت روزا لوكسمبورغ:
«الحرية لا تنظَّم من فوق، بل تمارَس من تحت.»
في هذا المعنى، لا تنتظر الثورة المستمرّة “يوم النصر” لتغيّر العلاقات الاجتماعية،
بل تبدأ بتغييرها داخل الصراع نفسه.

☑️ضد عبادة الزعيم:
كلّ ثورة لا تحصّن نفسها ضد الشخصنة، تزرع فيها بذور ارتدادها.
فالزعيم، مهما بدا جذريا، هو اختزال خطير لإرادة جماعية معقّدة.
الثورة المستمرّة:
ترفض الزعيم المنقذ،
ترفض التفويض المطلق،
وتربط القيادة بالمساءلة الدائمة.
لأنّ السلطة، حين لا تراقَب، تعيد إنتاج ذاتها، ولو رفعت أقدس الشعارات.

ثامنا. الثورة المستمرّة والزمن
الصبر الثوري ضد استعجال الهزيمة.

الثورة المستمرّة ليست ثورة الاستعجال، بل ثورة الزمن الطويل.
زمن لا يقاس بدورات انتخابية،
ولا بقمم سياسية،
بل بتغيّر بطيء، عميق، في موازين القوّة والوعي.
قال فرناند بروديل:
«التاريخ الحقيقي هو تاريخ الزمن الطويل.»
الثورة المستمرّة تتحرّك داخل هذا الزمن،
وتعرف أنّ:
الأنظمة تهزم ببطء،
والبنى لا تنهار بضربة واحدة،
والوعي لا يتغيّر بمرسوم.

☑️ضد وهم النصر السريع:
أحد أخطر أشكال الإحباط هو توقّع النصر السريع.
حين لا يتحقّق، يتحوّل الأمل إلى يأس،
والثقة إلى خيبة،
والنضال إلى عبء.
الثورة المستمرّة ترفض هذا المنطق.
إنّها تعيد تعريف النصر:
النصر هو بناء القوّة،
النصر هو توسيع الوعي،
النصر هو كسر الخوف،
النصر هو منع العدو من العودة إلى “الطبيعي”.
قال أنطونيو غرامشي:
«تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة.»
هذا هو شعار الزمن الثوري الطويل.

☑️الكمون: حين تعمل الثورة بصمت:
ليست كلّ مراحل الثورة صاخبة.
هناك مراحل كمون، انسحاب، صمت ظاهري.
لكن هذا الصمت ليس فراغا، بل إعادة ترتيب.
في هذه المراحل:
يعاد بناء التنظيم،
تعاد صياغة الخطاب،
ويعاد الاتصال بالقاعدة الاجتماعية.
السلطة تخطئ حين تظنّ أنّ غياب الشارع يعني نهاية الثورة.
فالكمون هو غالبا شرط العودة.

☑️الذاكرة والزمن:
الزمن يعمل لصالح من يمتلك الذاكرة.
والسلطة تراهن دائما على النسيان:
نسيان القمع،
نسيان الوعود،
نسيان الدم.
الثورة المستمرّة تجعل من الذاكرة سلاحا سياسيا:
تكتب تاريخها من زاوية المقموعين،
تنقل التجربة بين الأجيال،
وتمنع تحويل الهزيمة إلى صفحة مطويّة.
قال والتر بنيامين:
«حتى الموتى لن يكونوا في أمان إذا انتصر العدو.»

☑️الصبر الثوري كفضيلة سياسية:
الصبر هنا ليس انتظارا سلبيا،
بل عمل طويل النفس،
انضباط، تراكم، ومثابرة.
هو الصبر الذي:
لا يتنازل عن الهدف،
ولا يستسلم للواقع،
ولا يحوّل الواقعية إلى خيانة.
الثورة المستمرّة تعرف أنّ:
من لا يحتمل الزمن، يخسر المعركة،
ومن يختصر الطريق، يختصر الثورة.

خاتمة:
☑️الثورة كاسم آخر للحياة، وكصراع لا يملك رخاء النهاية:
ليست الثورة فصلا يغلق في كتاب التاريخ، ولا موجة تقاس بعلوّها ثم بانكسارها، بل هي سيرورة اجتماعية عميقة، تتقدّم بقدر ما يعاد إنتاج أسبابها، وتتراجع بقدر ما تحاصر، لكنها لا تنتهي لأنّ شروط نهايتها لم تنجز بعد. إنّ الحديث عن “انتهاء الثورة” ليس سوى خطاب المنتصرين مؤقتا، أو خطاب المنهكين الذين أرهقهم طول الطريق، لا خطاب التاريخ.
الثورة، في جوهرها، ليست مسألة استثنائية، بل عودة المجتمع إلى حقّه في الفعل. هي اللحظة التي يكفّ فيها المقهورون عن العيش كأشياء، ويبدؤون الوجود كذوات. ولهذا، فإنّ كلّ محاولة لاختزال الثورة في سقوط نظام، أو في تغيير دستور، أو في تداول شكلي للسلطة، هي محاولة لقتل معناها العميق، وتحويلها من مشروع تحرّر إلى إجراء إداري.
لقد أثبتت التجربة التاريخية، مرارا وتكرارا، أنّ:
الثورات تغدر حين تهدّد جوهر السلطة،
وتسرق حين تفرَّغ من مضمونها الطبقي،
وتستمرّ حين تتحوّل إلى وعي وتنظيم وزمن طويل.
قال كارل ماركس:
«التاريخ لا يفعل شيئا… إنّ البشر هم الذين يفعلون التاريخ.»
لكن البشر لا يفعلونه في فراغ، بل داخل بنى قمعية، وعلاقات قوّة غير متكافئة، وأنظمة عالمية صمّمت لإعادة إنتاج اللامساواة. ولهذا، فإنّ الثورة ليست نزهة أخلاقية، بل صراعا قاسيا، متعرّجا، وطويل النفس.
إنّ أخطر ما تواجهه الثورات ليس القمع وحده، بل تفكيك المعنى:
حين يقنع الناس بأنّ الظلم طبيعي،
وحين يقنع الفقراء بأنّ لا بديل لهم،
وحين تختزل السياسة في إدارة البؤس بدل تغييره.
هنا بالضبط تتدخّل الثورة المستمرّة، لا كحنين رومانسي، بل كضرورة عقلانية. فهي تقول إنّ النظام القائم لم يعد قادرا على تقديم حلّ تاريخي، وإنّ كلّ استقرار داخله ليس سوى توازن هشّ فوق فوهة تناقضات.
قالت روزا لوكسمبورغ:
«الاشتراكية أو البربرية.»
وليس في هذه المقولة أي مبالغة. فالعالم الذي يدار بمنطق الربح الأقصى، والتراكم اللانهائي، والتهميش المنظّم، لا يمكن أن ينتج إلا مزيدا من العنف، والاستلاب، وانهيار المعنى الإنساني. والثورة، هنا، ليست خيارا أخلاقيا، بل دفاعا عن إمكانية الحياة نفسها.
إنّ الثورة المستمرّة لا تعد بالجنة، ولا تبيع أوهام النصر السريع. إنّها تعد بشيء أكثر تواضعا وأكثر عمقا:
أن لا نقبل بما هو قائم لمجرّد أنّه قائم.
أن نربط الكرامة بالخبز، والحرية بالعدالة، والسيادة بالتحرّر من التبعية.
وأن نفهم أنّ السياسة ليست مهنة للنخب، بل فعل جماعي يومي.
هي ثورة تعرف أنّ:
الهزيمة ليست عارا،
وأنّ التراجع لا يلغي الصراع،
وأنّ الانكسار يصبح قاتلا فقط حين يتحوّل إلى استسلام.
قال ليون تروتسكي:
«الحياة جميلة. فلنحرّرها من الشرّ، والقمع، والعنف، ولنتمتّع بها إلى أقصى حد.»
وهذا التحرير لا يتمّ بالانتظار، ولا بالتكيّف، ولا بالتمنّي، بل بالفعل المنظّم، وبالصبر الثوري، وبالإصرار على ربط اليومي بالتاريخي، والجزئي بالكلي.

في النهاية، ليست الثورة وعدا بالمستقبل فقط، بل موقفا من الحاضر.
موقفا يرفض تحويل الإنسان إلى رقم، والعمل إلى عبودية، والسياسة إلى خدعة.
موقفا يقول إنّ الكرامة لا تؤجّل، وإنّ العدالة لا تجزّأ، وإنّ الحرية لا تمنح من فوق.
قد تهزم الثورة اليوم،
وقد تحاصر غدا،
وقد تدخل في كمون طويل،
لكنها، ما دامت تعبّر عن تناقضات حقيقية،
وما دام الظلم قائما،
فإنّها ستعود.
لا كصدفة،
ولا كمعجزة،
بل كحقيقة تاريخية.
فالثورة، في معناها الأعمق، ليست حدثا ننتظره…
بل مسارا نختاره........



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة التونسية: ثورة مستمر بين الشرارة الشعبية والالتفافات ...
- الهيمنة الفرنسية، الفرنكفونية، وإصلاح التعليم العالي والمراك ...
- الاشتراكية بين الأمس واليوم: مشروع حضاري لإعادة إنتاج الإنسا ...
- الانقلابات العسكرية في إفريقيا: بين الهيمنة والريع وفرصة الث ...
- الفعل الثوري والبيئة: حين يصبح الدفاع عن الأرض جزء من معركة ...
- القطاع والضفة بين معماريّة الخراب ومخطّطات الاقتلاع: جغرافيا ...
- الحرية والحريات في صراع الهيمنة: الشيوعية والنضال من أجل الإ ...
- تونس الآن الآن ..
- فنزويلا في قلب الصراع العالمي
- الحرية والمواطنة في مواجهة آلة القمع وبناء جدار الخوف... قرا ...
- قراءة في أحزاب اليسار الكلاسيكية، واليسار الثوري الحديث، وال ...
- أمريكا اللاتينية: المكسيك وكولومبيا وفنزويلا والبرازيل بين ا ...
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ...
- بعد غزة… الضفة الغربية على صفيح النار: التهجير القسري والاست ...
- الدّولة البوليسية المعاصرة
- من مانهاتن إلى القصبة: حين تتكلم الأزمات بلغتين
- السّرياليّة والسّرياليّة الثوريّة. من الحلم إلى التمرّد: في ...
- النضال البيئي بين العفوية والتنظّم في تونس: الواقع والآفاق.
- بين تاريخ الوصاية وإغراءات «الإعمار»: ما يقترَح اليوم ليس مج ...
- مشروع قانون المالية لسنة 2026: بين الوهم الاجتماعي وتكريس ال ...


المزيد.....




- أردوغان: رسالتنا بشأن غزة تركت أثرا لدى ترامب
- تونس.. توقيف 21 شخصا إثر احتجاجات في القيروان
- أستراليا تعلن تفاصيل بشأن منفذيْ هجوم بوندي وتشيد بالمنقذ ال ...
- مرشح أقصى اليمين يفوز بالرئاسة في تشيلي
- تحول -غير مسبوق- من أوكرانيا.. وتقدم في مفاوضات وقف الحرب
- مستشار خامنئي: إيران ستدعم حزب الله بحزم
- الكافيين يطارد المراهقين في موسم الامتحانات.. انتباه لحظي وم ...
- فيديو متداول لـ-احتفال مؤيدي الحكومة السورية- بهجوم تدمر.. ه ...
- وسط تقدم المفاوضات.. أوكرانيا تتخلى عن طموح الانضمام للناتو ...
- اكتشاف لوحة فسيفساء ضخمة شمال غربي دمشق أثناء أعمال زراعية


المزيد.....

- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - بين الثورات المغدورة منها، والمسروقة، والمستمرّة: صراع الوعي والتنظيم والزّمن التّاريخي.