|
بين تاريخ الوصاية وإغراءات «الإعمار»: ما يقترَح اليوم ليس مجرد «مساعدة» بل مشروع احتلالي حديث .
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 22:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المقدّمة :
حين ننظر اليوم إلى ما يحدث في غزة، لا يمكننا أن نختزله في كونه حربا طارئة أو جولة من جولات الصراع، كما تحاول الماكينات الإعلامية الغربية أن تصوّره. فالحقيقة الأعمق، التي تحاول القوى الإمبريالية بكلّ أدواتها طمسها، هي أنّ معركة غزة ليست سوى واحدة من مئات المعارك الممتدّة منذ أكثر من قرن من الزمن، في حرب طويلة الأمد بين مشروعين متناقضين في جوهرهما: مشروع التحرير ومشروع الاستعمار. إنّها معركة من حرب التاريخ نفسه ضدّ التزوير، من حرب الذاكرة ضدّ النسيان، من حرب الإنسان ضدّ من أراد تحويله إلى رقمٍ في إحصاءات الضحايا. فغزة اليوم ليست فقط مدينة محاصرة تقصف، بل رمزٌد حيّ لمعنى المقاومة حين يتجسّد في لحم البشر ودمهم. هي فصل من رواية طويلة عنوانها “التحرير”، رواية بدأها الفلسطينيون منذ وعد بلفور، مرورا بالثورات الكبرى ضدّ الانتداب البريطاني، فحرب 1948، فالنكسة، فالانتفاضات، وصولا إلى اليوم، دون أن ينكسروا أو يرفعوا راية الاستسلام. غزة هي الضمير النابض لتاريخٍ لم ينته بعد، لأنّ ما يجري فيها ليس مجرد دفاع عن بيت أو عن مدينة، بل عن الحقّ نفسه في أن يكون للفلسطيني وطن كامل، من النهر إلى البحر، لا تجزئة فيه ولا تسويات. لقد كانت كلّ المعارك السابقة ، من معركة الكرامة إلى الانتفاضة الأولى والثانية، إلى صمود المخيمات في لبنان، إلى حروب غزة المتكررة ، سلسلة حلقات متواصلة في صراع تاريخي واحد ضدّ المشروع الصهيوني الذي لم يكن هدفه يوما “الأمن” كما يدّعي، بل الاستئصال والاقتلاع وبناء كيانٍ استعماري استيطاني على أنقاض شعب كامل. وهنا تكمن الحقيقة الجوهرية: أنّ الصراع مع الكيان الصهيوني ليس صراع حدود، بل صراع وجود. ليس حول “الضفة وغزة”، بل حول فلسطين كلّ فلسطين، من البحر إلى النهر، كما ولدت في الوعي التاريخي وكما ستعود يوما كذلك. كلّ من يتحدث اليوم عن “حلّ الدولتين” أو عن “تسوية سياسية” لا يدرك أو يتجاهل أنّ هذا الخطاب وضع فقط لتكريس الهزيمة في العقول قبل الميدان. لأنّ التحرير لا يختزل في خرائط مرسومة في واشنطن أو تل أبيب، بل هو فعل إرادة جماعية تصنع في الخنادق وتغذّى بالذاكرة. ولهذا تبقى غزة رمز الإرادة التي لا تقهر، رغم الحصار والتجويع والمجازر. غزة تقاتل نيابة عن كلّ فلسطين، بل عن كلّ الشعوب التي أُريد لها أن تصمت أمام ظلم لم يعرف التاريخ له مثيلا في العصر الحديث. وفي جوهر هذا الصراع الممتدّ، تتجلّى الحقيقة الطبقية والسياسية الأعمق: فالمشروع الصهيوني لم يكن يوما مجرد استعمار جغرافي، بل منظومة رأسمالية إمبريالية متكاملة، تربط بين المال والسلاح والإعلام، هدفها إخضاع المنطقة بأسرها وتحويلها إلى سوقٍ تابعة. ومن هذا المنطلق، فإنّ تحرير فلسطين لا يمكن أن يتحقق إلا بتحرير الإنسان العربي من التبعية الاقتصادية والسياسية، من أنظمة خانعة كرّست مصالحها الخاصة على حساب القضية المركزية. فكيف نحرّر الأرض دون أن نحرّر العقل؟ وكيف نواجه مشروعا استيطانيا رأسماليا إمبرياليا بوعي مقطّع ومفرّغ من مضمونه الطبقي؟ إنّ كلّ معركة في غزة تعيد إلينا هذه الحقيقة المغيّبة: أنَّ التحرير ليس جغرافيا فقط، بل تحرّر من البنية الاستعمارية التي تكرّرت في كلّ العالم العربي بأشكالٍ مختلفة. فالمعركة ضدّ الكيان الصهيوني هي، في عمقها، معركة ضدّ النظام العالمي الذي صنعه، ضدّ الهيمنة الأمريكية – الأوروبية، ضدّ السردية التي شرعنت الاحتلال باسم “الديمقراطية” و“حقوق الإنسان”. ولهذا، حين تقاتل غزة، فإنها لا تدافع عن نفسها فقط، بل تقاتل نيابة عن كلّ الجنوب العالمي، عن كلّ الشعوب التي كتب عليها أن تكون ضحية هذا النظام الدولي الظالم. ولعلّ أخطر ما واجهته فلسطين عبر العقود، ليس فقط القصف والحصار، بل محاولة تحويلها إلى ملفّ تفاوضي فاقد للروح، عبر مشاريع "السلام" التي لم تكن سوى غطاء لإعادة إنتاج الاحتلال بصيغ جديدة. لكنّ غزة، بصمودها، أعادت المعنى إلى المقاومة، وذكّرت العالم بأنّ “السلام” لا يكون بين الضحية والجلاد، وأنّ “التسوية” التي تبقي على الاحتلال ليست سلاما بل استسلاما. لقد جعلت من فكرة “التحرير الكامل” واقعا يتنفس في الوعي العربي من جديد، وأعادت صياغة المعادلة الكبرى: “إمّا أن تكون فلسطين من النهر إلى البحر، أو لا تكون.” إنّ الصراع الحالي ليس نهاية الطريق، بل مرحلة من حربٍ طويلة ستستمرّ ما دامت جذور الاحتلال قائمة. ولن تطفئها كلّ القنابل ولا كلّ التطبيع، لأنّ الوعي الذي ولد في غزة اليوم أقوى من كلّ جيوش العالم. فالأطفال الذين يخرجون من تحت الركام حاملين راياتهم الصغيرة، يكتبون فصول المقاومة القادمة. والأمهات اللواتي يودّعن أبناءهنّ بالزغاريد، يعلنّ أنّ الشعب الذي يزرع في الموت حياة لا يهزم. وفي المقابل، يعيش الكيان الصهيوني مأزقه الوجودي العميق: فهو كيان قام على القهر، ولا يستطيع البقاء إلا في ظلّ الحرب، وكلّ هدنة تذكّره بأنه غريب عن المكان، بلا جذور في التاريخ ولا مستقبل في الوعي. إنّه مشروع يعيش فقط لأنّ الغرب يموّله، وسيسقط يوم تسقط شرعيته الأخلاقية أمام العالم ، وهي الآن تتهاوى بسرعة غير مسبوقة تحت أنقاض غزة. وإذا كان القرن الماضي قد شهد النكبة، فإنّ القرن الحالي يشهد عودة الوعي الفلسطيني والعربي إلى جذوره الأولى: فلسطين كلّها، من البحر إلى النهر، لا تقسم ولا تباع ولا تختزل. لم يعد أحد من أبناء المقاومة يتحدث عن حدود 67، ولا عن تقسيمات الضفة وغزة، لأنّ الحقيقة عادت كما كانت: فلسطين واحدة، من الماء إلى الماء، من الجليل إلى النقب، من حيفا إلى رفح. وهنا تكمن الوصية التاريخية التي تركها الشهداء للأجيال القادمة: أن تظلّ المعركة مفتوحة، لأنّ الاحتلال لا يرحل بالنداءات، بل بالمقاومة. أن تظلّ البنادق مشدودة لا دفاعا عن حدود مرسومة بالقلم، بل عن حقّ الإنسان في أن يعيش حرّا على أرضه دون قيد أو وصاية. وفي النهاية، لا بدّ من القول إنّ غزة اليوم ليست فقط معركة الفلسطينيين، بل معركة كلّ من لا يريد أن يعيش في عالم يدار بالظلم. هي معركة الوعي الإنساني ضدّ نظام رأسمالي استعماري جعل من الدم سلعة ومن الحقيقة جريمة. ومن هنا، حين تهتف غزة “الحرية”، فهي لا تهتف فقط لفلسطين، بل لكلّ إنسان في هذا العالم ما زال يؤمن بأنّ العدالة ممكنة. سيأتي يوم، مهما طال الزمن، يرفع فيه العلم الفلسطيني على كلّ شبر من الأرض، من البحر إلى النهر. وسيكتب في ذاكرة التاريخ أنّ هذا الشعب الذي واجه أقوى الجيوش وأعتى التحالفات، لم يسقط، بل أعاد تعريف معنى النصر ذاته. لن يكون النصر يوما في توقيع معاهدة أو في تصريح سياسي، بل في اللحظة التي تعود فيها فلسطين إلى خريطة الوعي، إلى الشعر، إلى القلب، إلى التراب الذي اشتاق لأصحابه. ففلسطين لا تموت لأنها أكبر من الجغرافيا، وأعمق من السياسة، وأصدق من كلّ الأكاذيب التي كتبت عنها. هي الكلمة الأولى التي نطق بها التاريخ حين تحدّث عن الكرامة، وستكون الكلمة الأخيرة حين يكتب نهايته: "هنا كانت فلسطين، وهنا بقيت." لم تعد معركة غزة مجرّد حدث عسكري عابر، ولا جولة جديدة من جولات الصراع الطويل، بل هي المجهر الذي أعاد تعريف معنى الصراع نفسه: صراع الوجود لا الحدود، صراع التاريخ ضدّ التزوير، والذاكرة ضدّ النسيان، والكرامة ضدّ الوصاية. فحين اشتعلت نار الحرب في غزة، لم تكن تدافع فقط عن مدينة محاصرة، بل عن الحقّ كله، عن فلسطين التي رفضت أن تختزل في اتفاقيات، وأن تختصر في "دولة" خلف الجدار، بل بقيت كما كانت منذ البدء: من البحر إلى النهر، من رفح إلى الجليل، من التاريخ إلى الوعي الجمعي. إنّ ما نراه اليوم ليس معركة منفصلة، بل حلقة من حرب ممتدة على مدار قرن كامل، بدأت مع وعد بلفور وما تزال تتواصل بأشكالٍ مختلفة، من الانتداب البريطاني إلى الاحتلال الصهيوني، من سايكس-بيكو إلى اتفاقيات أوسلو، من الحصار إلى “مجلس الوصاية العالمي” الذي يراد له أن يختزل فلسطين في وصاية دولية تدير الجرح بدل مداواته، وتحوّل الكفاح إلى “ملفّ إنساني”. لكنّ الحقيقة الكبرى التي أثبتتها غزة اليوم هي أن التحرير لا يقاس بالمفاوضات، بل بالوعي والإرادة. وأنّ من يقاتل على ترابها لا يدافع عن بيت مهدّم فقط، بل عن هوية مهدّدة، وعن جغرافيا أرادوا تمزيقها، وعن ذاكرة تكتب بالدم لا بالحبر. غزة ليست وحدها. هي صوت فلسطين كلّها، ومعركتها ليست سوى فصل من مئات المعارك التي خاضها الفلسطينيون جيلا بعد جيل، ضدّ المشروع الصهيوني-الإمبريالي الذي لم يكن هدفه “الأمن”، بل الاستئصال والاقتلاع وإحلال المستوطن محلّ صاحب الأرض. ولذلك، فإنّ تحرير فلسطين لا يكون إلا بتحرير كلّ فلسطين، من الماء إلى الماء، لأنّ تجزئتها قبول بهزيمة الوعي قبل الجغرافيا. هذه الحقيقة هي التي يجب أن توجّه النظر في كلّ تحليلٍ سياسي قادم. فالمسألة ليست في من يدير غزة أو الضفة، بل في من يمتلك القرار على الأرض ومن يصنع التاريخ. ولذلك فإنّ “مجلس الوصاية” الذي يطرح اليوم تحت مسمّى “السلام العالمي” ليس سوى صيغة جديدة من الاستعمار المقنّع، يراد بها تجريد الفلسطينيين من هويتهم وحقّهم في السيادة، تماما كما جرّدوا قبل قرن من أرضهم باسم “الانتداب”. ومن هنا تنطلق المهمة الراهنة — كما سنحلّل في النقاط التالية ، ليس في مجرّد رفض الوصاية الجديدة، بل في إسقاطها فكريا وسياسيا وميدانيا، عبر استعادة المعنى الحقيقي لفلسطين: كلّ فلسطين.
1. من الإبادة إلى الوصاية: انتقال الإمبريالية من الحرب إلى الإدارة.
حين فشلت آلة الحرب في محو غزّة من الخريطة، لجأت الإمبريالية إلى محوها من التاريخ. لم تعد المسألة الآن تدمير مدينة، بل تدمير سردية؛ لم تعد الغاية القضاء على مقاتلين، بل القضاء على المعنى الذي أنتج المقاومة. وهذا التحوّل هو ما سمّاه غرامشي بـ “الهيمنة الثقافية”، أي اللحظة التي يدير فيها المستعمر وعي المقهورين بدل أجسادهم. خلال الحرب، كانت المقاومة تقاتل الجندي والطيار؛ أمّا الآن، فهي تقاتل المهندس والمموّل والخبير الدولي. تقاتل خطابا جديدا يتحدّث باسم الإنسانية بينما يخفي في جوهره بنية السيطرة ذاتها. إنّ “مجلس السلام العالمي” ليس سوى ترجمةٍ ميدانية لنظرية “إدارة الأزمات” التي طوّرتها مراكز القرار الأمريكية بعد فشلها في حروبها السابقة: إن لم تستطع السيطرة على النصر، سيطر على إعادة الإعمار. تماما كما جرى في العراق بعد 2003 حين أُنشئ “مجلس الحكم” بإشراف أمريكي ليعيد إنتاج الاحتلال في شكل إداريّ، أو كما جرى في كوسوفو حين فرضت وصاية أممية جعلت البلاد محمية غربية لا دولة مستقلة. هكذا تعاد التجربة ذاتها في غزّة: نزع السلاح باسم الأمن، نزع القرار باسم الإدارة، ونزع الهوية باسم السلام. إنّ نقل إدارة القطاع إلى "مجلس دولي" لا يهدف فقط إلى ضبط الأمن، بل إلى إعادة بناء الهرم الاجتماعي والسياسي الفلسطيني بما يخدم التوازنات الأمريكية-صهيونية. فبدل أن يكون الشعب هو مصدر القرار، يصبح “المانح الدولي” هو المقرّر الأعلى. وبدل أن تكون المقاومة تجسيدا لحقّ تقرير المصير، تصنّف كمشكلة يجب “احتواؤها”. هذه هي الصيغة الجديدة للهيمنة: “احتلال بلا جنديّ، حرب بلا جبهة، سلام بلا سيادة.” الوصاية، إذا، ليست بديلا عن الحرب بل استمرار لها بأدوات مختلفة. فهي تستعمل البيروقراطية حيث فشلت المدافع، والمساعدات حيث فشل الحصار. إنّها، بتعبير فانون، "التكملة النفسية للمستعمرات بعد تدميرها جسديا". في هذا السياق، يصبح “الإعمار” جزء من الحرب لا من السلام. إذ يراد عبره هندسة وعي جديد للفلسطيني، يفهم فيه أنّ الخلاص ليس بالتحرير بل بالمشاريع، وأنّ العدو ليس الاحتلال بل الفقر، وأنّ الحلّ ليس المقاومة بل التنمية. هكذا تتحوّل الأيديولوجيا النيوليبرالية إلى بديل عن المشروع الوطني. ومن خلال برامج التمويل والـ ONG، يتمّ خلق طبقة اجتماعية جديدة في غزة: طبقة “الوسطاء” بين الاحتلال والشعب، بين المانح والمحتاج، بين الاستعمار و"التنمية". وهذه الطبقة , التي قد نسميها "البرجوازية الوكيلة" ، هي الأداة الطبقية التي يركن إليها مجلس الوصاية لإدارة المرحلة المقبلة. إنها ذات البنية التي حلّلها لينين حين قال في كتابه الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية: “حين تتعفن الرأسمالية، تنتج طبقات طفيلية وظيفتها حماية مصالح رأس المال العالمي داخل المستعمرات.” وهكذا، يصبح "مجلس السلام العالمي" ليس مجرّد هيئة سياسية، بل بنية طبقية جديدة تعيد إنتاج السيطرة في شكل اقتصادي-اجتماعي. فهو لا يهدف إلى "سلام بين الشعوب"، بل إلى سلام بين الطبقات: سلام بين رأس المال الأمريكي والنخب المحلية التي ستحكم غزة باسم “الاستقرار”. إنّها حرب بلا دماء، لكنها أخطر من الحرب نفسها لأنها تسعى إلى إعادة برمجة الفلسطيني. ومن هنا يمكن فهم المعنى العميق لعبارة راسم عبيدات: “لقد فشلت حرب الإبادة، فبدأت حرب المعنى.”
2. الوصاية باسم الإنسانية: كيف يُدار الاستعمار من خلال مؤسسات العولمة.
حين انهار نموذج الاحتلال العسكري الكلاسيكي، لم تتراجع الإمبريالية، بل طوّرت أدواتها. فبدل أن تحكم بالحديد والنار، أصبحت تحكم باللوائح والقوانين؛ وبدل الجندي، أصبح هناك الخبير؛ وبدل الاحتلال، أصبح هناك “التدخل الإنساني”. إنها مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، حيث تصبح الأمم المتحدة والبنك الدولي ... الخ ، أدوات السيطرة الفعلية على الشعوب باسم "التنمية والاستقرار". إنّ "مجلس السلام العالمي" هو تجسيد دقيق لهذا التحوّل: سلطة فوق وطنية، لا تسائل أمام أحد، تتدثّر بخطاب الإنسانية، لكنها تملك القدرة على فرض السياسات الأمنية والاقتصادية على مجتمع محاصر ومنهك. بهذه الصيغة، يتحوّل الفلسطيني من “مواطن مقاوم” إلى “مستفيد من المساعدات”. ويتحوّل النضال الوطني إلى “أزمة إنسانية” تحتاج إلى إدارة. إنها عملية نزع السياسة من الوجود الفلسطيني، أي تجريد الفلسطيني من فاعليته التاريخية، وتحويله إلى موضوع إداريّ. تماما كما حدث في البوسنة بعد حرب التسعينات: “دولة” تحت وصاية دولية، فيها حكومة وبرلمان، لكن لا قرار لها خارج إرادة المندوب السامي الغربي. وهذا ما يراد لغزّة: أن تكون "كيانا دوليا" لا فلسطينيا، تدار بالقرارات الأممية لا بالإرادة الشعبية. إنّ أخطر ما في هذه الصيغة هو أنّها تحوّل الاحتلال إلى مشروع قانوني دولي، أي إلى "شرعية واقعية" لا يمكن مساءلتها. فحين تصبح غزة "منطقة إدارة دولية"، لن يعود الاحتلال مسؤولا قانونيا عنها، ولن يكون الكيان ملزم بالانسحاب أو بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني. وبذلك، تتحقق أخطر أهداف الصهيونية دون رصاصة واحدة: شطب سكان غزة من تعداد فلسطين التاريخية، وتحويلهم إلى لاجئين في وطنهم. أما ما يسمّى “إعادة الإعمار” فيراد به أن يكون طعما اجتماعيا لإنتاج الطاعة السياسية. فالأموال الخليجية ستوزّع بشروط أمريكية-صهيونية، والمناطق الخاضعة للمقاومة ستستثنى من التمويل، لتبدأ عملية فرز جديدة داخل المجتمع: غزة “صالحة” وغزة “خارجة عن النظام”. وهذا ليس مجرد تقسيم إداري، بل عملية هندسة طبقية تعيد تشكيل المجتمع وفق معيار الولاء لا وفق الحاجة. في هذا السياق، تعود إلى الأذهان مقولة المفكر اليساري المغربي عبد الله العروي: “حين يختزل التحرر في الخبز، يصبح الخبز أداة عبودية جديدة.” فالوصاية باسم السلام هي استكمال للحرب بأدوات اقتصادية. إنها تقتل الروح الثورية في النفوس عبر الإغاثة، وتخنق الفعل المقاوم بالمنح. وهنا تكمن عبقرية المشروع الإمبريالي الجديد: أن يقنع ضحاياه بأنّهم شركاء في بنائه، لا عبيد في خدمته. ولذلك، فإنّ مواجهة هذا المشروع لا تكون ببيانات الرفض، بل ببناء وعي نقديّ طبقيّ تحرّريّ يدرك أنّ الإمبريالية تغيّر جلدها ولا تغيّر جوهرها. فهي اليوم ترتدي قناع “الإنسانية”، وغدا قد ترتدي قناع “الذكاء الاصطناعي”، لكنها ستظل كما وصفها فانون : “قوة لا تعيش إلا باستعباد الآخرين.”
3— «مجلس السلام العالمي» كاستنساخ استعمار متقدّم.
إنّ وصف «مجلس السلام» بعبارة أممية رقيقة يخفي وراءه إرثا طويلا من الممارسات التي توضع تحت مسمّيات إنسانية أو تقنية، لكنّها في جوهرها أدوات لإعادة تشكيل السلطة والاقتصاد والجغرافيا الاجتماعية. لا نكتفي هنا بوصف إنشائيّ بسيط؛ بل نتعامل مع المشروع كمركّب سياسي-طبقي-ثقافي له بنية داخلية، آليات تنفيذ، وكليةٍ استبدالية تهدف إلى إنتاج واقع سياسي جديد. سنفكّك هذا المركّب عبر أربعة محاور تتحرّك من الملموس الميداني إلى التحليل البنيوي والنظري.
أ — قرائن ميدانية حالية: من المؤتمرات إلى قوات «الاستقرار»: في الأسابيع الأخيرة تجلّت نيات تشكيل آليات دولية لتثبيت ما بعد الهدنة: قمة شرم الشيخ، مبادرات إعادة الإعمار، وأحاديث عن قوة «تثبيت/استقرار» متعددة الجنسيات بقيادة مصر ومشاركة دول إقليمية وغربية، مع أطر إشرافية دولية. هذه الخطط ليست أقوالًا أدبية؛ بل إجراءات عملية تُحاك الآن على موائد دبلوماسية وتُترجَم في وثائق عمل لمؤتمرات قادمة، بما في ذلك تحضيرات لمؤتمر إعادة إعمار في القاهرة/المنطقة. القاسم المشترك بين هذه التحركات: تحويل الاختناق الإنساني إلى فرصة لفرض هيكلية إدارية جديدة — قوة «استقرار» تأخذ على عاتقها الأمن، ومجلس يُشرف على توزيع التمويلات، وشروط لإعادة الإعمار قد تُستثني مناطق تُعتبر «خاضعة للمقاومة». وهذا ما يجعل المشروع وصاية لا مجرّد إنقاذ.
ب — آليات التنفيذ: المال كقوّة سيطرة، الأمن كقيد سياسي، والسردية كغطاء أخلاقي: -المال: ربط التمويل بشروط إدارية وتعاقدات طويلة الأمد يعيد إنتاج تبعية اقتصادية. تمويل هائل يجمَع في مؤتمرات المانحين يُصبح أداة ضغط على من يمنحون منه: من يطبّع سياساتهم مع «المجتمع الدولي» يحظى، ومن يرفض يهمّش. تحضير مؤتمر جمع تبرعات بقيمة عشرات مليارات الدولارات يجعل المؤتمِر شريكا في صياغة السياسة وليس مجرد مانحا. -الأمن: التخطيط لقوة متعددة الجنسيات أو آليات مراقبة يضع الأمن كشرط لإطلاق البرامج التنموية. الربط بين «الأمن» و«الوصول» إلى المساعدات يخلق منطقا بسيطا: من يتحكم بالأمن يتحكم بالتحويلات والموارد. تقارير الصحافة الدولية تشير إلى استعداد لوجود قوة دولية بسلطات واسعة لتثبيت الأوضاع، مع نقاش صريح حول نزع سلاح المقاومة كشرط أولي. هذا تنسجم مع منطق الوصاية: الخطوة الأولى احتواء السلاح، الخطوة الثانية إدارة الحياة المدنية. -السردية: صناعة خطاب يقدّم الوصاية كحلّ إنساني عقلاني — «إعادة بناء»، «منع التطرف»، «حماية الأطفال» — تعمل على تشويه البوصلة السياسية وتحويل المطالبة بالحقوق إلى هاشتاغ إنساني. الصحافة الكبرى بدأت بالفعل في تناول «نموذج رفح» أو «غزة الجديدة» ضمن ترجماتٍ مألوفة تعطي المشروع شرعيته الإعلامية.
ج — منطق تطوّر المؤسسات: كيف تتحوّل مؤقتات إلى قواعد دائمة: التجربة التاريخية تعلّمنا أنّ آليات مؤقتة (قوات مؤقتة، مجالس مؤقتة، صناديق مؤقتة) سرعان ما تتحوّل إلى بنى مؤسسية دائمة بقرارات تبرّر الزمن الطويل باسم «الاستقرار». إنشاء مجلس إشرافي دولي لإدارة إعادة الإعمار بمهل زمنية مفتوحة أو عقود تشغيلية طويلة يعني أن الفاعل الخارجي يتحول إلى متحكّم مؤسسي في شؤون السكان. هذه الاستدامة المؤسسية هي قلب الوصاية: ليست مجرد إجراء زمنيّ بل نظام يمسّ السيادة.
د — البعد الطبقي: صناعة طبقة وسيطة تعمل كأداة استقرار: أي مشروع يحمل تمويلا كبيرا سيخلق رابطا مادّيا بين رأس المال والطبقات المحلية. سيبرز داخل غزة «وسطاء» ، مقاولو إعادة إعمار، إداريون في صناديق التمويل، نخب مدنية مرتبطة دوليا ، الذين سيجدون مصالح مادية في استمرار النظام الجديد. هذه الطبقة هي الضامن المحلي للوصاية؛ فحين تصبح مصالحها مرتبطة بالكيانات الداعمة، تتحول مواقفها من مطالب سيادة إلى حماية مصالحها الاقتصادية. هذه ديناميكية طبقية تُرسّخ التحوّل السياسي.
هـ — أفق الذاكرة والهوية: إخراج المقاومة من المشهد السياسي: أعمق ما يريد المشروع تحقيقه هو تجريد الوجود الفلسطيني من بعد المقاومة السياسي والذاكرات. بإعادة تشكيل جغرافيا التمويل واستهداف المناطق «الصالحة»، يتم عمليا خلق سوق للهوية: من يحافظ على صورته وارتباطه بالمشروع الدولي يكافأ بالموارد، ومن يثبت على مطالب السيادة يعزل. هذا استنزاف للبعد الرمزي للمقاومة: تحويل الأنقاض إلى سلعة سياحية بينما تطوى الرواية الوطنية. تقارير تحليلية صحفية اعتبرت المشروع وسيلة لتأجيل الدولة وتأطير غزة كمشروع إداري دولي.
و — خلاصة تحليلية لمقاربة اليسار: لماذا هو وصاية بالحرف لا بالتورية؟: الوصاية تتجسّد عندما تكون آليات القرار، التمويل، والأمن خارج دائرة المساءلة الوطنية. كل ما سبق ، قوات استقرار، صناديق دولية، شروط أموال، تمييز جغرافي في التمويل، طبقات وسيطة مرتبطة ، يشكلون شبكة متكاملة تجعل من «مجلس السلام» وصاية عملية. الرفض اليساري لا يرفض الإعمار أو الإغاثة؛ بل يرفض أن تكون المساعدة وسيلة لتفكيك الحقوق والسيادة. اليسار يطالب بإطارٍ يقصّر دور الجهات الخارجية، يضع أولوية للشرعية المحلية، ويجعل أي تمويل مُلزِمًا بشروط سياسية تحفظ الحق الوطني.
4 — المعركة الراهنة: إسقاط الوصاية وبناء أدوات سيادة بديلة ، خارطة نضال شاملة ومراحلية عميقة.
المعركة ضدّ «مجلس الوصاية» ليست مناورة دفاعية بل مشروع بناء؛ ليست إنكارا لضرورة إعادة الإعمار بل شروطا لإجبار أي مساعدة على أن تكون إعادة سيادة، لا قيدا عليها. لتكون هذه المعركة مجدية، نحتاج إلى خطة متعددة الأذرع تجمع بين السياسة والمجتمع والقانون والاقتصاد والسرد. أدناه خارطة نضالية مركّبة، تفصيلية ومتصاعدة، تضع الأهداف الكفاحية والوسائل العملية في منظومتها البنيوية.
أ — المكوّن السياسي: استعادة القرار الشعبي ومساءلة السلطة الدولية: إعادة تأسيس آلية تمثيل فلسطينية موحّدة لإدارة الانتقال: عقد مؤتمر وطني شامل (ممثلو غزة، الضفة، فلسطينيّي الخارج، منظمات نسوية، نقابات) لإعلان ميثاق مؤقت ينصّ على آليات إدارة إعادة الإعمار تملك الشرعية الداخلية وتضع قواعد قبول المانحين. هذه الآلية يجب أن تكون ملزمة دوليّا وقانونيّا عبر تبليغ الجهات الدولية بأن أي تعامل دون موافقة هذه الآلية لن يعرف شرعيا. (الهدف: منع التفويض الأحادي للمجالس الدولية). -شرطية التمويل بقوانين وطنية: سنّ تشريعات أو قرار توافقي يلزم أي صندوق خارجي بالتوقيع على بروتوكولات تعطي لجنة رقابة فلسطينية الحق في التدقيق والتحكيم، وإلزامية توظيف المحليين واشتراطات عدم التمييز الجغرافي. (الهدف: قفل ثغرة تحويل الأموال إلى أدوات فصل جغرافي). -موقف دبلوماسي استراتيجي: تشكيل قوة دبلوماسية فلسطينية توزّع أوراق ضغط على العواصم: توثيق خرائط المشاريع، تقديم شكاوى رسمية للأمم المتحدة، واستصدار قرارات برلمانية في دول داعمة تلزم حكوماتها بعدم الانخراط في مشاريع تخالف شرطية السيادة. (الهدف: تحجيم الشرعية الدولية للمجلس).
ب — المكوّن القانوني: تحييد مشروع الوصاية عبر المحاكم والحقائق الموثّقة: +توثيق انتهاكات سياسية واقتصادية: ملفات مفصّلة ترفع إلى المحكمة الجنائية الدولية ولجان حقوق الإنسان تظهر أي تعدّي على حقوق السكن، التمييز في توزيع المساعدات، أو أي خطة تغيير ديموغرافي. هذا التوثيق يجب أن يرافق كل اتفاق يبرَم. (الهدف: خلق تكلفة قانونية على من يجرّب فرض الوصاية). +شروط قانونية دولية للتمويل: العمل مع منظمات حقوقية دولية لصياغة معايير إلزامية على المانحين (transparency & accountability clauses) تجعل من تمويل المشاريع أفعالا قابلة للمساءلة القانونية إن دسّت سياقات طمس الهوية أو الفصل. (الهدف: تحويل التمويل إلى آلية مراقبة لا قيد).
ج — المكوّن الاقتصادي: بناء اقتصادات محلية مقاومة للوصاية: صناديق إعادة إعمار وطنية محكومة مجتمعيا: إطلاق صندوق وطني (بمشاركة مغتربين ومؤسسات محلية) تحت رقابة شفافة، تموّل مشاريع بنية تحتية أساسية وزراعية تضمن تشغيلا محليا. هذا الصندوق ليس بديلا عن التمويل الدولي لكنّه يشكّل ركيزة استقلالية ضغط: إن لم تلبّ شروط السيادة، لا تقسم أموال الصندوق لجهات محلية متواطئة. (الهدف: خلق بدائل مالية تنقص من قدرة المشروع الدولي على فرض شروطه). +ولوية للاقتصاد الحقيقي والعمال المحليين: مشاريع إعمار تشترط توظيف القوى العاملة المحلية، إعادة بناء شبكة الإمدادات الزراعية والصناعات الصغيرة، وبرامج دعم النساء العاملات في الريف والحضر. هذا يقلّل الاعتماد على مشاريع ضخمة تسلّط الصفقات على مقاولين دوليين. (الهدف: حماسة اقتصادية وطنية تمنع تفتيت النسيج الاجتماعي).
د — المكوّن المجتمعي والثقافي: إعادة بناء الذاكرة وصدّ السرد الوصائي: حملات سردية مضادة عالمية: تنظيم حملات إعلامية تشرح كيف يمكن أن يتحوّل «السلام الدولي» إلى وصاية، تسوق شهادات أهلية وصورًا من الميدان، وتستخدم وسائل التواصل ووسائط إعلامية دولية لفضح النوايا. هذه الحملات يجب أن تستهدف الممولين، البرلمانات الأجنبية، والرأي العام الدولي. (الهدف: سحب شرعية المشروع من تحت أقدام منظِّريه). -تعزيز الثقافة والذاكرة المحلية: مشاريع ترميم الذاكرة (أرشفة قصص الناجين، مشاريع فنية، تعليم مناهج تاريخية) تؤكّد أن غزة ليست مجرد موقع أزمة إنسانية بل فضاء سياسي ذو ذاكرة وحقوق. (الهدف: جعل الطمس الثقافي صعبا ومكلفا).
ه — المكوّن الأمني-الاجتماعي: توازن بين السلم الأهلي والشرعية الشعبية للحماية: -أطر أمنية وطنية محكومة ديمقراطيا: تنظيم هياكل أمن محلية تحت إشراف فلسطيني متنوع (تشارك فيها لجان شعبية وممثلون مدنيون)، بحيث تكون مسوّغا أمام المجتمع الدولي لإدارة الأمن المحلي دون تسليم الساحة الأمنية بالكامل لقوة أجنبية. (الهدف: شَغل الفراغ الأمني بالشرعية المحلية). -شبكات حماية مدنية: تدريب مجتمعات محلية على حماية المساعدات، توثيق توزيعها، وإنشاء قنوات شكاوى شعبية تُمنع استغلال النقص الأمني لمبررات التدخل الخارجي. (الهدف: تحييد الحجج التي تبرر قوة خارجية).
و — المراحل الزمنية: من الاستجابة العاجلة إلى بناء الدولة القابلة للحياة: +مرحلة الطوارئ (0–6 أشهر): تأمين وصول المساعدات، تأكيد آليات رقابية فلسطينية على التوزيع، وحماية نقاط الدخول (مثل رفح) بإشراف فلسطيني. (المرجع: أهمية فتح معابر كمحور سيادي). +مرحلة الانتقال (6–24 شهرا): تأسيس صناديق وطنية، انتخاب مجالس محلية لإدارة الإعمار، التزام المانحين ببروتوكولات شفافية، ولجنة متابعة دولية-محلية موصوفة قانونيا. (المرجع: خطط مؤتمر إعادة الإعمار وإجراءات المتابعة الدولية). +مرحلة البناء السياسي (24+ شهرا): ترجمة الشروط الاقتصادية إلى سياسات تعزز البنية التحتية الوطنية، جدول زمني لترتيبات سياسية أوسع يشارك فيه كل الفاعلين الفلسطينيين، ومفاوضات دولية تشترط عليها العودة لحقوق الشعب. (المرجع: الحاجة إلى ربط الإعمار بآليات سياسية).
ز — لماذا هذه الخريطة قابلة للتحقيق ومن أين تأتي قوتها؟: قوتها تكمن في أن المشروع لا يعتمد على عنصر واحد: هو شبكي يربط بين السياسة والاقتصاد والثقافة والقانون، ما يجعل تعطيله أصعب على من يريد فرضه أحاديًا. كما أن أدوات الضغط الدولي ، برلمانات، منظمات حقوقية، حركات تضامن ، يمكن أن تجهد شرعية أي مجلس وصاية إذا تبيّن أنه يسهِم في طمس الحقوق. الصحافة المدققة والدبلوماسية البرلمانية كانت قد أبدت حذرا وانتقادات حقيقية لمقترحات «الوصاية» في التغطيات الأخيرة؛ هذا يعني أن الرفض المدروس يمكن أن يجد أرضًا دولية داعمة إذا ارتبط بمطالب واضحة وقانونية. +بين اليقظة والعمل: إعادة تعريف الانتصار: إنّ إسقاط «مجلس الوصاية» لا يتحقّق بترديد عبارات الرفض وحدها، بل عبر بناء أدوات وطنية ودولية تُحوّل الرفض إلى قدرة عملية: قدرة على إدارة الموارد، قدرة على مساءلة المانحين، قدرة على حماية الحقوق، وقدرة على سرد بديلٍ عالمي يكشف الوجه الحقيقي للوصاية. البديل ليس مجرد رفض، بل إعادة بناء مشروع وطني-اجتماعي-ديمقراطي قادر على أن يقول للعالم: نحن نريد مساعدتكم — ولكن ضمن شروط تحفظ سيادتنا وكرامتنا وذاكرتنا. إن المعركة طویلة، لكنها ليست مستحيلة؛ لأنّ من لطالما قاوموا الإمبريالية تعلموا درسا واحدا لا يزول: أن الهزيمة التي تطبخ على نار المال والبيروقراطية تواجه بعصيان سياسي منظم، وبنظم بديلة تبني القوة من داخل المجتمع قبل أن تطلبها من الخارج. هذا هو ميدان الاشتباك الآن: بين أن تظل غزة مختبئة خلف مجلس وصاية يطبع صفحتها الأخيرة، أو أن تكون غزة نفسها بداية لكتاب فلسطيني جديد — كتاب السيادة الذي لا يكتب إلا بدمٍ وصبر ومعرفة.
5 — الذاكرة كحقل معركة: كيف يُعاد تشكيل الوعي الفلسطيني تحت قناع “إعادة الإعمار الثقافي”.
في كلّ مشروع وصاية، قبل أن تبنى الجسور، تهدم الذاكرة. إنّ أخطر ما يهدّد فلسطين اليوم ليس فقط تجريف الأرض أو تدمير الحجر، بل إعادة بناء الوعي الوطني على مقاسٍ إنسانيّ منزوع السياسة، يقدّم للعالم بوصفه “وعيا جديدا”، “معتدلا”، “حضاريّا”. إنه مشروع اغتيال رمزيّ طويل المدى، غايته تحويل الفلسطيني من فاعل مقاوم إلى موضوع إنسانيّ يتلقّى الرعاية، وإعادة برمجة المخيال الجمعي ليقبل الواقع كقدر لا كاحتلال يجب مقاومته.
أ — من الذاكرة المقاتلة إلى الذاكرة المؤرشفة: يراد لغزة أن تتحوّل من رمز للبطولة إلى “متحفٍ للكارثة”. تصوّر إعلامي كثيف يقدّمها للعالم كمنطقة منكوبة تحتاج إلى الترميم النفسي أكثر من التحرير السياسي. من هنا تنشأ مشاريع “الذاكرة الإنسانية”: أرشفة الصور، متاحف الحرب، برامج الدعم النفسي، إنتاج أفلامٍ تبكي الأطفال ولا تذكر الاحتلال، تحويل الجرح إلى سلعةٍد ثقافية قابلة للعرض. وهذا بالضبط ما تسعى له المؤسسات الغربية “الناعمة” تحت لافتة الثقافة والفنّ والسلام: أن تفرغ الذاكرة من بعدها الثوري، لتُبقي منها ما يمكن تسويقه للعالم كـ"حكاية ألم إنسانيّ عام". بهذا المعنى، تتحوّل غزة من رمز للمقاومة إلى موضوع للشفقة. وهنا تكمن الخدعة الفلسفية الكبرى: تحويل المقاومة من فعل جماعيّ له سياق سياسي إلى حالة عاطفية عالمية تثير التعاطف وتفرغها من مضمونها الطبقي والتحرّري. إنها عملية “تأميم” للذاكرة في يد المؤسسات الدولية، تدار عبر مراكز دراسات وورشات تمويل ثقافي تروّج لخطاب “ما بعد الوطنية”، “ما بعد الصراع”، و“ما بعد المقاومة”.
ب — النخب المحلية كأداة لاغتيال الوعي: كما في الاقتصاد، تنشأ هنا طبقة ثقافية وسيطة: كتّاب، فنانون، صحافيون، ومنظمات مجتمع مدني مرتبطة بالمموّلين الأجانب. هؤلاء يتحولون إلى ناطقين رسميين باسم “السلام”، بينما يقدّم المقاومون كـ“معرقلين للتقدّم”. تمنح الجوائز لمن يكتب عن الألم دون أن يذكر الاحتلال، وتغلق المنصّات في وجه من يقول “المقاومة حقّ”. هذا التحوّل الطبقي الثقافي هو أحد أخطر أشكال الوصاية، لأنّ من يملك الخطاب يملك الوعي، ومن يملك الوعي يعيد إنتاج الواقع. هكذا يتمّ استبدال اللغة الثورية بلغة تقنية إنسانية: لا نقول “شهيد”، بل “ضحية”، لا نقول “استعمار”، بل “نزاع”، لا نقول “تحرير”، بل “استقرار”.
ج — المقاومة الثقافية: إعادة امتلاك الذاكرة: الجواب على هذا المشروع لا يكون بالتباكي على الماضي، بل بتأسيس ذاكرة مقاومة جديدة، تبنى بالمعرفة والخيال والعمل الجماعي. ذاكرة لا تؤرشف الاحتلال، بل تحاكمه. ذاكرة تصرّ على تسمية الأشياء بأسمائها: القصف هو قصف، لا “حادثة مؤسفة”، والمقاوم هو فاعل سياسي لا مجرّد رمز فولكلوري. من هنا ضرورة خلق “مجلس ذاكرة وطني” مستقلّ، يديره مثقفون تقدميون وكتّاب ومناضلون من القاعدة، لا يخضع لتمويل أجنبي، يتولّى إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني بلغة تحرّرية. إنّ الدفاع عن الذاكرة هو دفاع عن المستقبل. فالشعوب التي تسلب ذاكرتها تعاد برمجتها لتقبل كل أشكال الوصاية باسم “الحداثة”. وغزة اليوم ليست فقط ميدان حرب عسكرية، بل مختبر عالمي لإعادة هندسة الوعي المقاوم. وكلّ قصيدة تكتب هناك، كلّ لوحة، كلّ درس في مدرسةٍ تحت الركام، هو مواجهة لهذا المسعى الاستعماري الجديد. كما قال فرانز فانون: “حين يكتب المستعمر تاريخه بدمه، يصاب المستعمر بالذعر، لأنه يدرك أن كلّ ذاكرة هي سلاح سياسيّ في المعركة”.
6 — من أنقاض الوصاية إلى مشروع التحرّر: نحو بديل جذريّ يعيد تعريف المساعدة والسيادة.
حين يرفض اليسار الوصاية لا يفعل ذلك رفضا للسلام أو للإعمار، بل رفضًا لنمط محدّد من المساعدة يجعل الشعوب أدوات في يد النظام الإمبريالي العالمي. إنّ المعضلة ليست في “إعادة البناء”، بل في من يعيد البناء ولأيّ غاية. لذلك، فإنّ الخطوة القادمة ليست نقد المشروع الدولي فحسب، بل اقتراح بديلٍ جذريّ مستند إلى مبدأ العدالة الطبقية والسيادة الشعبية.
أ — في معنى البديل اليساري: تحويل المساعدة إلى تضامن، لا وصاية: الفرق بين “المساعدة” و“التضامن” هو الفرق بين علاقة تبعية وعلاقة نضال مشترك. المساعدة تقدّم من الأعلى إلى الأدنى، تحدّد شروطها ومداها من المانح، وهي تحمل في جوفها منطق السيطرة. أما التضامن، فهو علاقة أفقية بين الشعوب، تبنى على الاعتراف المتبادل بالمصير الواحد وبالعدوّ المشترك: الاستعمار والرأسمالية العالمية. وهذا ما ينبغي أن يكون أساس “مشروع التحرّر البديل”: شبكة تضامن دولي تقدمي، لا “تحالف مانحين”، تربط بين نضالات الجنوب العالمي، من فلسطين إلى كوبا وفنزويلا وأفريقيا اللاتينية.
ب — السيادة الاجتماعية كشرطٍ للمقاومة السياسية: لا يمكن لأي مشروع تحرّر أن يقوم دون إعادة توزيع السلطة الاقتصادية. الوصاية تستمدّ قوتها من فقر المجتمعات وهشاشتها الإنتاجية، لذلك يجب أن يكون الردّ بتحقيق اكتفاء محليّ نسبي في الغذاء، الطاقة، والإنتاج البشري. إعادة الإعمار ليست بناء عمارات جديدة، بل بناء مجتمع منتج يملك قراره الاقتصادي. المدارس تبنى بالتعاونيات، المصانع تدار من العمّال، الأراضي تزرع بأيدي الفلاحين لا بالمستثمرين الدوليين. إنها ثورة اقتصادية صغيرة ضدّ رأس المال الكولونيالي. كما قال تشي غيفارا: “لا يمكن ليد تأخذ خبزها من عدوّها أن تبني مستقبلها بحرّية”.
ج — البعد النسوي في مقاومة الوصاية: في كلّ نزاع استعماريّ، المرأة هي أول من تقصى عن القرار وآخر من تستشار. لكنّها، في الوقت نفسه، أول من يزرع ويطبخ ويعلّم ويُعيد بناء الحياة اليومية. إنّ المشروع الثوري البديل يجب أن يدرك أنّ تحرير المرأة جزء من تحرير الوطن، وأنّ كلّ مشروع إعادة إعمار لا يعترف بالنساء كفاعلات سياسيات واقتصاديات هو إعادة إنتاج للوصاية الذكورية والاستعمارية في آن واحد. من هنا، يجب أن توجّه الموارد أولا إلى العاملات الفلاحات، المعلمات، الممرضات، الحرفيات ، هؤلاء اللاتي حافظن على دورة الحياة رغم الدمار. إنّ بناء فلسطين الحرة يبدأ من الاعتراف بهنّ كقوة إنتاجٍ ومقاومة، لا كـ"ضحايا" أو “مستفيدات من الدعم”.
د — البنية الفكرية للمقاومة القادمة: التحرّر لا يكون بالانفعال، بل بإعادة إنتاج فكر ثوريّ جديدٍ يربط بين المقاومة السياسية والعدالة الاجتماعية. ينبغي أن تولد مدرسة فكرية فلسطينية ثورية حديثة تعيد وصل ما انقطع بين النظرية والممارسة، تستلهم فكر لينين وغرامشي وفانون، لكنها تطوّعه لواقع الحصار والاحتلال والعولمة الرقمية. مدرسة تفكّر في كيف تستخدم التكنولوجيا لخدمة التحرّر لا لمراقبة الناس، وكيف تحوّل الثقافة إلى جبهة نضالٍ لا إلى تسلية. إنّ الثورة القادمة ليست فقط بالسلاح، بل بالمعرفة. من يملك تفسير العالم، يملك تغييره.
هـ — نحو عقد اجتماعيّ جديد: في النهاية، لا بدّ من صياغة عقد اجتماعيّ فلسطينيّ جديد، يكون مشروع مقاومة ودولة في آن واحد. عقد يقوم على ثلاثة أسس: -أن لا وصاية على الشعب الفلسطيني إلا وصايته على نفسه. -أن المساعدة الدولية تقبل فقط ضمن شرط الشفافية والسيادة. -أن العدالة الاجتماعية شرط للتحرّر الوطني، لا ترف مؤجل. -هذا العقد ليس ورقة سياسية فحسب، بل رؤية أخلاقية جديدة للعالم تقول إنّ الإنسان لا يبنى بالإسمنت بل بالكرامة، وأنّ السيادة لا تقاس بعدد الدول التي تعترف بك، بل بعدد الناس الذين يستطيعون أن يرفعوا رؤوسهم في وجه الاستغلال. كما كتب غرامشي في سجونه: “القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر الوحوش.” والوحوش اليوم ليست فقط الدبابات، بل أيضا المجالس الدولية، والمؤتمرات، وخطابات السلام التي تنهي المقاومة باسم الإنسانية. إنّ مهمة اليسار الفلسطيني والعربي اليوم هي أن يملأ هذا الفراغ بولادة فكرية وميدانية جديدة، تعيد للعالم معنى كلمة “تحرّر”، بعد أن استهلكت في نشرات الأخبار. إنّ بناء البديل لا يبدأ من المكاتب ولا من البيانات، بل من الشارع، من الأرض، من الوعي الذي يقول: “لسنا ضحايا نطلب الرحمة، نحن شعب يقاوم كي يُعاد تعريف الإنسانية نفسها.”
7 — سلاح المقاومة الفلسطينية: حماية الكرامة الوطنية والتحرّر الشامل: السلاح الفلسطيني اليوم ليس مجرد أداة عسكرية بل رمز سيادة، وعنوان وعي وطني وسياسي. في سياق الهجمة الدولية والوصاية الجديدة على غزة، أصبح سلاح المقاومة محور الدفاع عن الهوية الوطنية الفلسطينية الشاملة، من غزة إلى الضفة الغربية، مرورا بالقدس وكل الأراضي الفلسطينية التاريخية من البحر إلى النهر، أي كل فلسطين.
أ — السلاح كضمان وجودي وسيادي: إدراك أن فلسطين ليست فقط حدود ما بعد 1967، بل أرض كاملة من البحر إلى النهر، يجعل السلاح الفلسطيني أداة ضرورية للحفاظ على حق العودة والكرامة الوطنية. السلاح هو الضمان ضد مشاريع التهجير والاقتلاع. هو الوسيلة لإجبار القوى الدولية على احترام الشعب الفلسطيني كمجتمع صاحب حقوق كاملة، وليس كمجرد رعايا تحت وصاية مزيفة. عبر السلاح، يؤكد الفلسطيني أنه فاعل سياسي مستقل، يرفض أن تحكم حياته على يد وصاية دولية أو مشاريع إعادة إعمار مشروطة. فرانز فانون يذكّرنا بأن: “التحرير يبدأ من القدرة على الدفاع عن النفس، ومن يملك هذه القدرة، يملك مستقبل شعبه”.
ب — المقاومة الشاملة: ليس فقط الفعل العسكري: المقاومة الفلسطينية ليست مجرد صواريخ أو كاتيوشا، بل تشمل مقاومة اقتصادية، ثقافية، اجتماعية، وسياسية: +المقاومة الاقتصادية: إنتاج محلي، شبكات توزيع مستقلة، تعاونيات فلاحية وصناعية، دعم اكتفاء الغذاء والطاقة. +المقاومة الثقافية: حماية اللغة، التعليم الوطني، الإرث التاريخي، توثيق النكبات والبطولات، حفظ الوعي الوطني في مواجهة التزوير التاريخي والوصاية الإعلامية. +المقاومة المجتمعية: المدارس والمستشفيات التي تستمر رغم الحصار، دور النساء والفلاحين والمعلمين في الحفاظ على دورة الحياة اليومية، كل هذا هو مقاومة مستمرة ومتداخلة مع السلاح العسكري.
ج — سلاح المقاومة كحاجز ضد الوصاية: مشروع مجلس الوصاية “السلام العالمي” يسعى لتحويل السلاح الفلسطيني إلى أداة ابتزاز، ويربط المساعدات الإنسانية بالتخلي عن القوة العسكرية. رفض هذا الابتزاز يعني وضع سلاح المقاومة كضمانة للكرامة والقرار الوطني. السلاح يصبح جزء من البنية الاستراتيجية للدولة الفلسطينية المستقبلية، التي تتجاوز غزة والضفة، لتضم كل فلسطين.
د — الرؤية اليسارية في إدارة السلاح: التحكم في السلاح يجب أن يتم وفق استراتيجية وطنية جامعة تشمل: -توحيد كل القوى الفلسطينية تحت رؤية واحدة للمقاومة. -دمج المقاومة العسكرية مع المقاومة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. -منع أي جهة خارجية من استخدام السلاح كأداة ضغط على الشعب الفلسطيني نفسه. السلاح، في هذا السياق، ليس مجرد وسيلة دفاعية، بل أداة سياسية وثقافية تحمي الأرض والهوية والوعي الوطني الشامل لكل فلسطين، من البحر إلى النهر.
8 — مسار الدولة الفلسطينية: من الحقوق التاريخية إلى مشروع تحرّر شامل من البحر إلى النهر.
الدولة الفلسطينية ليست مجرد حدود اتفاقية 1967، بل كل فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، بما فيها غزة، الضفة، القدس، وكل الأراضي التي سلبها الاحتلال عبر الاحتلال الاستيطاني والتهجير المستمر. إعادة بناء الدولة على هذا الأساس هي شرط أساسي لتحقيق التحرّر السياسي والاجتماعي والثقافي، وليس مجرد إنشاء كيانات مقسّمة وفق مشاريع وصاية أو استسلام دولي.
أ — الدولة كإطار شامل للمقاومة والتحرّر: الدولة الفلسطينية، إذا كانت حقيقية، تشمل: +السيادة الكاملة على الأرض: رفض كل مشاريع التقسيم أو التجزئة، وإلغاء أي وصاية دولية على القرار الفلسطيني. +السيادة على السلاح والقدرة الدفاعية: السلاح ليس أداة عدوان، بل ضمانة حماية المواطنين، والأرض، والهوية الوطنية. +السيادة الاقتصادية: التحكم في الموارد المحلية، دعم الفلاحين والعاملين، بناء صناعات محلية، وتحقيق اكتفاء غذائي للطاقة الأساسية، بما يحرر المجتمع من تبعية المنظمات الدولية والاقتصادات الخارجية.
ب — العدالة الاجتماعية كشرط الدولة: أي مشروع دولة فلسطينية حقيقي يجب أن يدمج العدالة الاجتماعية كأساس: -توزيع الأراضي بشكل عادل بين الفلاحين. -ضمان عمل النساء والفلاحين والمعلمين كمحرك أساسي لبناء المجتمع. -نظام صحي وتعليمي مستقل، قائم على المساواة والعدالة، وليس على الشروط الدولية أو مصالح الشركات الأجنبية. هذه العدالة ليست ترفا، بل استراتيجية بقاء: لأنها تمنع تفتيت المجتمع الفلسطيني وتحافظ على قدرته على المقاومة المستمرة.
ج — التحالفات الدولية على قاعدة التضامن لا التبعية: الدولة الفلسطينية الحرة لا تبنى بمعزل عن العالم، لكنها تبنى على تضامن دولي اختياري وحرّ: +شراكات مع دول الجنوب العالمي التي تحترم السيادة الوطنية. +رفض كل مشاريع التمويل المشروط بالوصاية أو السيطرة الدولية. +تبادل المعرفة والتكنولوجيا لتعزيز المقاومة الذاتية لا السيطرة الخارجية.
د — الثقافة والوعي: الجبهة الأساسية للدولة: الوعي الوطني والثقافة هما خط الدفاع الأول ضد محاولات محو الهوية: +تعليم التاريخ الوطني والوعي الطبقي منذ الصغر. +إعلام مستقل يحفظ صورة الاحتلال وفضح مشاريع الوصاية. +دعم الفنون والثقافة الوطنية لتعزيز المقاومة المستمرة. كما كتب غرامشي: “من يسيطر على الثقافة يسيطر على المستقبل. ومن يسيطر على المستقبل يسيطر على التاريخ نفسه”.
هـ — الدولة الفلسطينية من البحر إلى النهر: رؤية شاملة: الدولة الفلسطينية يجب أن تبنى على أرض كاملة من البحر إلى النهر، تشمل غزة، الضفة، القدس، وكل الأراضي الفلسطينية التاريخية: -لا تقبل بالحدود الضيقة التي فرضها الاحتلال بعد 1967. -لا تقبل بتقسيم فلسطين إلى كانتونات صغيرة تحت وصاية دولية. كل فلسطين هي أرض وطنية واحدة، يتشارك أهلها مسؤولية الدفاع عنها، وإعادة بنائها، وحماية هويتها التاريخية. الدولة بهذا الشكل تصبح مشروع تحرّر شامل، يدمج المقاومة المسلحة، الاقتصادية، الثقافية والاجتماعية، ويخلق نموذجا جديدا للمجتمع الفلسطيني المقاوم، الذي لا يقبل أي وصاية، ولا استسلام، ولا تقسيم.
9 — سلاح المقاومة الفلسطينية: ضمان السيادة والكرامة الوطنية الشاملة.
السلاح الفلسطيني اليوم ليس مجرد أداة دفاعية عسكرية، بل عنصر أساسي لإعادة تعريف العلاقة بين الشعب والأرض، والمقاومة والسيادة، من غزة إلى الضفة الغربية، مرورا بالقدس، وكل فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر. إن الحديث عن السلاح يتجاوز الكاتيوشا أو الصواريخ، فهو مقوم للكرامة الوطنية، وأداة لإدارة الصراع مع الاحتلال ومنع أي مشروع وصاية دولية أو إقليمية من تحويل الفلسطيني إلى كائن بلا إرادة، بلا هوية، بلا قرار.
أ — السلاح كحق سيادي ووطني: الاعتراف بحق الفلسطيني في السلاح هو اعتراف ضمني بسيادته التاريخية على الأرض بأكملها: -السلاح ليس وسيلة عدوان، بل ضمان لعدم فرض الوصاية الأجنبية. -هو أداة لفرض معادلة قوة تحمي الأرض والإنسان، وتحافظ على التوازن الديموغرافي في فلسطين التاريخية. -عبر السلاح، يصبح الفلسطيني صانع قرار وليس مجرد متلقٍ للأوامر الدولية أو مشاريع إعادة الإعمار المشروطة. كما قال فانون: “التحرر يبدأ من القدرة على الدفاع عن النفس، ومن يمتلك هذه القدرة يمتلك مصير شعبه”.
ب — المقاومة الشاملة: أكثر من مجرد كفاح عسكري: المقاومة الفلسطينية يجب أن تفهم كـ شبكة متداخلة من الإجراءات والتضحيات اليومية: +المقاومة الاقتصادية: إنشاء تعاونيات فلاحية وصناعية، شبكات توزيع مستقلة للغذاء والطاقة، حماية الموارد المحلية من السيطرة الأجنبية. +المقاومة الثقافية: الحفاظ على الهوية واللغة الوطنية، توثيق النكبات والبطولات، الدفاع عن الإرث الفلسطيني في كل مكان. +المقاومة الاجتماعية: المدارس والمستشفيات التي تعمل رغم الحصار، دور النساء والفلاحين والمعلمين في صون دورة الحياة اليومية، كل ذلك يشكل خط الدفاع الأول للحفاظ على المجتمع حيّا وفعّالا. إن هذا النهج الشامل يحول كل فعل يومي في غزة، الضفة، والقدس إلى جزء من المقاومة المستمرة، ويدمج سلاح المقاومة العسكرية في استراتيجية وطنية واحدة.
ج — الابتزاز الدولي وضرورة استقلالية السلاح: مشروع مجلس الوصاية “السلام العالمي” يحاول تحويل السلاح الفلسطيني إلى أداة ابتزاز: -تهديد بإيقاف المساعدات الإنسانية إذا لم يسلم الفلسطيني سلاحه. -محاولة تسييس المقاومة لإضعافها داخلياً، وإخضاع المجتمع الفلسطيني للوصاية الاقتصادية والثقافية. يجب أن يكون الرد واضحا: السلاح جزء لا يتجزأ من السيادة الفلسطينية، ويجب أن يظل خارج أي شروط أو ضغوط دولية.
د — الإدارة الاستراتيجية للسلاح: إدارة السلاح يجب أن تكون وفق رؤية وطنية شاملة: +توحيد كل القوى والفصائل الفلسطينية تحت استراتيجية مقاومة واحدة، +ربط المقاومة العسكرية بالمقاومة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، +ضمان عدم استغلال السلاح داخليا أو دوليا ضد الشعب الفلسطيني نفسه. السلاح بهذا المعنى ليس مجرد أداة قتالية، بل ركيزة للتحرير الوطني الشامل، ولحماية الأرض والهوية والتاريخ الفلسطيني من البحر إلى النهر.
10 — مسار الدولة الفلسطينية: من الحقوق التاريخية إلى مشروع تحرر شامل.
إعادة بناء الدولة الفلسطينية لا يمكن أن تقف عند حدود 1967، بل يجب أن تشمل كل فلسطين من البحر إلى النهر، بما فيها غزة، الضفة، القدس، وكل الأراضي الفلسطينية التاريخية. الدولة الحقيقية هي التي تجمع الشعب كله في إطار سيادي شامل، بعيدا عن مشاريع التقسيم أو الوصاية الدولية التي تريد تحويل الفلسطيني إلى تابع بلا إرادة.
أ — الدولة كإطار للتحرر الوطني: الدولة الفلسطينية يجب أن توفر: +السيادة على الأرض: رفض كل مشاريع التجزئة، والتأكيد على حق الفلسطيني في تقرير مصيره على كل أرض وطنية. +السيادة على السلاح: حماية المجتمع الفلسطيني، وضمان أمنه دون ربطه بالمصالح الأجنبية. +السيادة الاقتصادية: إدارة الموارد المحلية لدعم الفلاحين والصناعة، تحقيق اكتفاء غذائي، تقليل الاعتماد على المنظمات الدولية.
ب — العدالة الاجتماعية والاقتصادية كشرط الدولة: الدولة الفلسطينية الحقيقية ترتبط بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية: -إعادة توزيع الأراضي المتضررة بين الفلاحين. -دعم النساء والفلاحين والعاملين في جميع القطاعات، كركيزة لبناء مجتمع مستقر. -نظام صحي وتعليمي مجاني قائم على العدالة وليس على شروط التمويل الخارجي. هذه العدالة ليست رفاها، بل شرط بقاء المجتمع الفلسطيني موحدا وقادرا على المقاومة المستمرة.
ج — التحالفات الدولية على أساس التضامن: الدولة الفلسطينية الحرة يجب أن تنفتح على العالم، لكنها على قاعدة التضامن وليس التبعية: +شراكات مع دول الجنوب العالمي التي تحترم السيادة الوطنية. +رفض كل التمويلات المشروطة بالوصاية أو السيطرة الدولية. +تبادل المعرفة والتكنولوجيا لتعزيز القدرة الذاتية، وليس لتعميق الاعتماد على الخارج.
د — الثقافة والوعي: الجبهة الأولى: الدولة الفلسطينية لن تكتمل إذا لم تحارب الوصاية عبر الثقافة والوعي: -تعليم التاريخ الوطني والوعي الطبقي منذ الصغر. -إعلام مستقل يحفظ الحقيقة الفلسطينية ويكشف سياسات الاحتلال والوصاية. -دعم الفنون الوطنية التي تعكس الهوية وتعزز المقاومة. غرامشي يؤكد: “من يسيطر على الثقافة يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على المستقبل يسيطر على التاريخ”.
هـ — فلسطين من البحر إلى النهر: رؤية شاملة: الدولة الفلسطينية يجب أن تشمل كل فلسطين التاريخية، بعيدا عن حدود 1967 الضيقة: +رفض أي تقسيم أو كانتونات صغيرة تحت وصاية دولية. +ضمان توحيد الأرض والشعب في إطار دولة واحدة. كل فلسطين هي وطن شامل، يتشارك أهلها المسؤولية في الدفاع عنها، إعادة بنائها، وحماية هويتها الوطنية. الدولة بهذا الشكل تصبح مشروع تحرر شامل، يجمع بين المقاومة المسلحة، الاقتصادية، الثقافية والاجتماعية، ويخلق نموذج مجتمع فلسطيني متكامل، لا يقبل الوصاية، ولا الاستسلام، ولا التجزئة.
11 — إسقاط «مجلس الوصاية»: معركة السيادة، الشرعية، والذاكرة .
«مجلس الوصاية» (أو «مجلس السلام العالمي» كما يجمّل سِمته المدافعون عنه) لا يمثّل إدارة ظرفية لأزمة إنسانية، بل يصاغ ليكون آلية تحولٍ مؤسسي تمتدّ لعقود. إسقاطه ليس مجرد ممانعة سياسية، بل مشروع منقذ للهوية الوطنية، لمنع شطب الشعب الفلسطيني من الخريطة السياسية والتاريخية. المناورة ليست على هامش إعادة الإعمار؛ المناورة على جوهر ما يعنيه أن تكون أمة حرة. إذا أردنا أن نحدد لماذا الإسقاط ضرورة، فثلاثة مُنطلقات تكفي لتأكيد ذلك: +السيادة: أي مجلس دولي يملك الحقّ في فرض شروط سياسية على شعب محتلّين هو فعل استيلاء على حق تقرير المصير. +الشرعية: أي إدارة خارجية تسنّ قواعد سريانها دون موافقة منتخبة أو متفَق عليها محليا تفقد شرعيتها أمام الشعب. +الذاكرة: إعادة كتابة التاريخ الشعبي باسم «الإنسانية» تمهّد لمسح الرواية المقاومة واستبدالها بروايةٍ محايدة تصوّب الواقعة على أنها مأساة بلا مجرم.
أ — القراءة التاريخية: الوصاية كنمط تكراري في التجربة الفلسطينية والعالمية: التاريخ يدرّس أنه حين تتعثّر قوى الاستبداد في تحقيق أهدافها بالعنف المباشر، فإنّها تحوّل استراتيجيتها إلى حكم عبر آليات مؤسسية. من الانتداب البريطاني إلى نظم الوصاية المعاصرة، هناك خطّ تطوريّ مشترك: «مشروع إنساني/تنموي» يغلف مشاريع استيطانية وسياسات طمس سياسي. -أمثلة للتأمل: +الانتداب البريطاني (1920s–1948): استخدم الخطاب الحضاري لتبرير إعادة ترتيب ملكية الأرض والهياكل الإدارية. +حالات وصاية معاصرة: البوسنة بعد التسعينات، كوسوفو، وأشكال الحماية الدولية في افريقيا؛ في كلّ منها، مؤسسات دولية تدير أمورا سياسية واقتصادية طالتها هيمنة خارجية طويلة الأمد. +الاستنتاج: الوصاية ليست انزلاقا عرضيا، بل شكل من أشكال الإمبريالية في زماننا ، أكثر ثباتا وأقل وضوحا ، لكنها تؤدي إلى نفس النتيجة: سلب الإرادة الوطنية.
ب — بنية المشروع: كيف يُصنّع «مجلس السلام» الوصاية على الأرض؟ (تفصيل وظيفي بنيوي): لفهم كيف يقنع المشروع شعوبا وحكومات دولية بالقبول، يجب تفكيك بنيته العملية إلى مكوّناتها: +الشرعية الإعلامية: -خطاب إنساني مركّز: أطفال، مستشفيات، كهرباء — تعرض المشكلة كأزمة إنسانية محايدة، لتغييب السؤال السياسي: من الذي دمر ومن الذي يملك الحق في إعادة البناء؟ -صناعة مفردات: «غزة الجديدة»، «مدينة نموذجية»، «الاستثمار الإنساني» — كلها ترمي إلى تطبيع الشروط قبل النقاش السياسي. +الشرعية المالية: -مؤتمرات المانحين الكبرى: تجتمع تبرعات بمليارات تعرض كحلّ سحري، لكن شروط صرفها تستعمل كأداة ضغط سياسيا ومكانيا. -آليات التمويل: صناديق دولية تدار من قبل جهات مانحة وتمنح مصالحها للمقاولين الذين يرتبطون بالدوائر الداعمة بدل الربط بالمجتمع المحلي. +الشرعية الأمنية: قوة «استقرار» متعددة الجنسيات أو آليات مراقبة دولية تعرض كحجاب للحماية، لكنها تفعل العكس: تجعل أمن السكان مرهونا بقبول الشروط الدولية. الربط بين نزع السلاح وتقديم المساعدات كأداة ابتزاز أخلاقية. +الشرعية المؤسسية: -تشكيل مجالس إشرافية دولية تغدو في الواقع هيئات تشريعية/تنفيذية تتجاوز أي هيئة فلسطينية، وتفرض قواعد تشغيل تمتد لسنوات. هذه الأربعة — إعلام، مال، أمن، مؤسسات — هي أعمدة وصاية متكاملة. إسقاط المجلس يعني تعطيل هذه الأعمدة وإعادة الشرعية إلى الشعب.
ج — المنطق الطبقي: لماذا تسعى الوصاية إلى خلق طبقة وسيطة؟ ومن تستهدف داخلياً؟: لا تعمل الوصاية في فراغ؛ هي تسعى لانتاج «موالين محليين» هم أداة تنفيذ. المنطق الطبقي واضح: -إنتاج طبقة وسطى عميلة: مقاولو خدمات، مدراء صناديق، نخب ثقافية مموّلة، ينشأون من عقود إعادة الإعمار. مصالحهم المادية تجعلهم أدوات ضغط داخلية للحفاظ على الاستقرار الدولي. -تفكيك البنى الشعبية المنتجة: إذا حوّل التركيز نحو مشاريع استهلاكية سياحية أو مناطق اقتصادية معزولة، ينخفض الاعتماد على الاقتصاد الشعبي (فلاحة، حرف، صناعات صغيرة) ما يُضعف قاعدة المقاومة الاجتماعية. -استهداف الدور القيادي النسائي والفلاحي: المشاريع الكبيرة تهمش النساء العاملات والفلاحين؛ وهذا يفضي إلى فقدان قدرة المجتمع على الإنتاج الذاتي. الاستراتيجية لمواجهة ذلك هي إعادة توجيه الموارد إلى اقتصاد شعبي يملك قاعدة اجتماعية واسعة، وإشراك المجتمعات المحلية في هندسة الإعمار، وبالتالي تحييد قدرة طبقة الوساطة العميلة على التنفيذ.
د — أدوات إسقاط المجلس: خارطة نضال شاملة (سياسية — قانونية — دبلوماسية — ثقافية — اقتصادية): سقوط المشروع يتطلب نضالا متسقا متعدد المستويات. أقدّم هنا خارطة أدواتٍ مفصلة ومتكاملة (مهيكلة وليس إجرائية):
1) المسار السياسي المحلي: -ميثاق وطني جامع: دعوة إلى مؤتمر يمثل غزة والضفة والشتات لوضع شروط قبول أي تمويل دولي (شرعية محلية، مشاركة مجتمعية، إشراف قانوني). -مجالس تمثيل انتخابية مؤقتة: مجالس أحيائية ومنحها صلاحيات لتقرير المشاريع على مستوى محلي — قفل الباب أمام التفويض الأحادي للمجالس الدولية. -استراتيجية توحيد القوى: قواسم وطنية أساسية تضمن تمثيلا للفصائل، الأحزاب، النقابات، المنظمات النسائية، والشبابية.
2) المسار القانوني الدولي: -توثيق ومرافعات قانونية: تجميع ملفات تغيير ديموغرافي، تمييز في توزيع المساعدات، محاولات تقسيم أرضية كقضايا ترفع إلى هيئات حقوقية دولية والمحكمة الجنائية (الطبيعة القانونية للوصاية قد تشكِّل جريمة إنكار حق تقرير المصير). -مناصرة برلمانية دولية: حشد برلمانات وكنائس ونقابات أوروبية لرفض مشاركة حكوماتها في مشاريع وصاية.
3) المسار الاقتصادي: +صندوق إعادة إعمار فلسطيني: صندوق وطني تديره هياكل منتخبة ومدققة شفافيا، مع آليات التزام قانوني للمانحين ألا يصرفوا أموالا إلا عبره. +قوائم سوداء للشركات: تشجيع حملات مقاطعة ضد شركات تشارك في مشاريع تقسم القطاع أو تُهمش السكان المحليين. +برامج دعم الاقتصاد الشعبي: منح الأولوية للمقاولات الصغيرة، دعم التعاونيات الزراعية، إعادة بناء البنى التحتية الإنتاجية.
4) المسار الثقافي والسردي: -شبكة إعلامية مضادة: تأسيس منصات إعلامية دولية بالعربية والإنجليزية والفرنسية تحكي الرواية الفلسطينية بوثائق ومقامات شعبية. -مشاريع ذاكرة وطنية: إنشاء أرشيفات مستقلة، متاحف يقيمها أهلها، ومنصات رقمية تحفظ الرواية التاريخية المقاوِمة. -دعم الفن المقاوم: أفلام، مسرح، شعر، أغاني تظهر كيف أن الإعمار بدون سيادة هو طمس للهُوية.
5) المسار الدبلوماسي: +تحالفات جنوب‑جنوب: شراكات مع دول وحركات في الجنوب العالمي (أحزاب يسارية، نقابات، منظمات شعبية) لعرقلة شرعية مشاريع الوصاية. +شرعية دولية بديلة: التواصل مع دولٍ تحترم مبدأ السيادة (ليس بالضرورة سياسات حكومية دوما، بل ضغط شعبي/برلماني) لكسب مواقف رافِضة للوصاية.
ه — أدوات مقاومة أقل تكتيكية وأكثر استراتيجية (أهداف بعيدة الأمد): إلى جانب الإجراءات الملكية في الفقرات السابقة، هنالك ضرورات استراتيجية بنيوية: -إعادة بناء القاعدة الاجتماعية: دعم تعليم شعبي قوي، مؤسسات صحية تعمل على أساس الخدمات لا الشروط، برامج تشغيل تخرج الناس من الحاجة التي تُستغل للابتزاز السياسي. -بناء نخبة قادرة على الحكم: نخبة وطنية ملتزمة بالكرامة والعدالة، ليس نخبة تاجرية أو بيروقراطية مرتبطة بالمانحين. -تحويل كل مشروع دعم إلى حالة سياسية: لا يوجد تمويل عرضي؛ كل مشروع يُعلَن يُرافقه مطلب سياسي واضح وربطٌ قانوني. -ثقافة المساءلة: جعل الشفافية مبدئاً وطنيا يطبّق على كل مال وقرار.
و — المخاطر والاعتراضات المتوقعة وكيفية مجابهتها (تقدير واقعي للمواجهة): أي مشروع طموح يواجه مقاومة داخلية وخارجية. من المتوقع: +حملات تشويه إعلامية: تقدّم رفض المجلس كرفض للمساعدة، لذا نحتاج خطابا يربط الحقوق الإنسانية بالحقوق السياسية. +ضغط اقتصادي/دبلوماسي: تهديدات بقطع تمويل أو علاقات؛ هنا أهمية صناديق بديلة وتحالفات دولية. +محاولات شراء نخب محلية: من خلال عقود ومناصب؛ التجاوب يتطلب قوانين نزاهة ومنع تضارب مصالح وشراكات مجتمعية. +الاستجابة: دمج الضوابط القانونية، بناء موارد محلية، وإدارة خطاب نقدي يبرز أن إسقاط الوصاية هو شرط لإنقاذ البشر لا تهديم حياتهم.
ز — خاتمة هذا الفصل: إسقاط المجلس كميناء لبداية سيادة جديدة: إسقاط «مجلس الوصاية» ليس تشييدا لحالة عدائية بلا خطة، بل فتح لفرصة إعادة تشكيل سلطة الدولة والهوية. إذا نجح النضال في تعطيل بنية الوصاية، فالمكسب ليس مجرد رفض؛ بل خلق شروط لبدء بناء فلسطيني ديمقراطي، اقتصاديّا واجتماعيا، يكون شعبه هو صاحب القرار. في هذه المعركة تتقاطع الأخلاق والسياسة: الحرية ليست فضيلة بل شرط حياة، وسيادة الشعب ليست شعارًا بل شرط بقاء.
12 — لا تحرير لفلسطين إلا بتحرير كلّ فلسطين: قراءة تاريخية-استراتيجية شاملة؛ غزة حلقة من حرب مئة عام تستمر جيلا بعد جيل إلى أن يتحقق التحرّر من البحر إلى النهر تمهيد: بيان قاطع بلا ألفة لغوية.
لا يجوز أن تفهم كلمة «تحرير» بمعنى تقني ضيّق يقتصر على مساحات أو حدود خطية فرضها اتفاق أو احتلال مؤقت. تحرير فلسطين يعني استعادة حقّ الشعب الفلسطيني الكامل في تقرير مصيره على أرضه التاريخية، بأبعادها السياسية والثقافية والديموغرافية والحقوقية؛ أي فلسطين من البحر إلى النهر، كما توارثها الوعي الشعبي والذاكرة التاريخية. أي تعريف جزئي — يكتفي بـ«تحرير الضفة وغزة» بمعزل عن القدس والديار المهدورة والمساحات المضمحلة من فلسطين التاريخية — هو تجزئة لموضوع التحرّر وتهيئة لتقبل وصاية أو تسوية لا تعيد الحقوق كاملة.
أ — قراءة تاريخية مكثّفة: الحرب الطويلة وليست «حربًا» متقطعة: -الجذر الزمني: الصراع على فلسطين لم يبدأ بعام 1967 ولا حتى عام 1948 فقط؛ جذوره ممتدة في مشروع استعمار استعماري طويل امتدّ عبر القرن العشرين: وعد بلفور (1917)، الانتداب البريطاني، حركة الاستيطان والصهيونية، النكبة 1948، عمليات طرد وتشريد، استمرار الاستعمار الاستيطاني عبر بناء مستوطنات وعمليات طرد متواصلة. هذه ليست سلسلة أحداث متفرقة، بل مشروع متكامل له عقلٌ وسياسة زمنية. -الامتداد الجيلي: المقاومة لم تتوقف في ضربة عابرة؛ هي مجرى تَرَسَل عبر أجيال: المطالبة الشعبية، الانتفاضات، المقاومة المسلحة، الإنتاج الثقافي، النضال القانوني، الشتات، وهكذا. كل عدّة سنوات تُكتب صفحة جديدة في كتاب الصراع ، ليس انتهاء، بل استمرارية تقودها ذاكرة متجددة. -غزّة كحلقة: ما نراه في غزة اليوم ، كل محطات القصف، الحصار، الصمود، المقاومة ، ليس نهاية أو استثناء، بل حلقة في سلسلة من المعارك التي كانت وستبقى مستمرة ما دام مشروع الاستيطان قائما. غزة لم تولد مقاومة من فراغ، بل هي استمرار لمسار تاريخي طويل، ومحطة مركزية في الصراع العام على فلسطين.
ب — البعد الجغرافي والسياسي: لماذا تحرير «الجزء» يقود إلى تسليم «الكُل»: +المنطق الديموغرافي: فصل أجزاء من الأرض أو قبول رسم حدود جزئية يسهّل شطب حقّ الشعب كمجتمع واحد. أي صيغة ترسّخ فكرة أن "هناك فلسطينيين هنا وآخرين هناك" تُسهِم في إضعاف المطالبة بحقوق متساوية شاملة ، الحق في العودة، المواطنة، الملكية، والاستقلال السياسي. +المنطق القانوني والدولي: التنازل عن مطالب امتداد الأرض التاريخي يعني قبول معايير جديدة للشرعية الدولية قد تحترم «حلولًا جزئية» وتلغي المطالب الجذرية. تسوية محلية صغيرة تحوّل إلى سابقة دولية تستخدم لاحقا لتطبيع تقسيمات أكثر قسوة. +المنطق الاستراتيجي: قبول «دولة حزء» أو «كيان محدود» يترك مساحة سياسية لإعادة هندسة بنى القوة ، أمنية، اقتصادية وثقافية ، لصالح من يسعى إلى إدارة القضية بدل حلّها. باختصار: قبول الجزئيات يضمن بقاء عناصر الاستعمار وقدرته على إعادة التحميل لاحقا.
ج — الذاكرة الجماعية والطبيعة الإرادية للتحرّر: -الذاكرة كوقود: الذاكرة الجماعية الفلسطينية (النكبة، النضالات، اللاجئين، القدس، الحجارة، الخيمة، القصيدة) هي عنصر مركزي يربط الأجيال. أي محاولة لتجزئة الأرض أو تقزيم المطالب تستهدف طمس هذه الذاكرة أو احتوائها ضمن مشروع إنساني خالٍ من السياسة. -الإرادة التاريخية: التحرّر ليس حدثا واحدا ينجز باستفتاء أو صفقة؛ إنه إرادة تاريخية مستمرة تمارس يوميا في المدارس، الحقول، المدن والشتات. هذه الإرادة لا تنتزع بالقوانين الدولية وحدها، بل بتجسّدها المعيشي والثقافي والسياسي الذي يرفض التجزئة.
د — لماذا تعتبر معركة غزة «مفتاحًا» وليس «هدفًا نهائيًا»؟: +جغرافياً: كون غزة جزء من فلسطين التاريخية يجعل مآلاتها ذات دلالة رمزية وسياسية واسعة. تحرك فيها الأوضاع ينعكس في الضفة، في القدس، وفي الشتات. +رمزيا: صمود غزة يمثل قدرة مكثفة على مقاومة التهجير، ما يُلقي بتأثيراته على السرد الفلسطيني العام. إن نجاح ناجع، سياسي، اجتماعي، أو رمزي ، في غزة يترجم تجاوزا للرهان على التفتيت. +استراتيجيا: حماية غزة من أي مشروع وصاية أو تحجيم سياسي هي شرط لإبقاء مسارات التفاوض والسياسة الوطنية مفتوحة ومستندة إلى قوة شعبية لا إلى وصاية.
هـ — معركة طويلة الأمد: منطق الزمن الثوري والصبر الاستراتيجي: -الزمن كأداة للمقاومة: مقاومة ناجحة ليست بالضرورة معركة خاطفة؛ إنها تراكم قدرة ميدانية، سياسية، اقتصادية وثقافية تتزايد عبر الزمن. -التعايش مع الفترات الموجية: في الحرب الطويلة، ثمة موجات انتصار وهزيمة؛ الحكمة الثورية تقتضي حفظ القدرة، بنائها، وتوظيف أي مكاسب لتعزيز البنية الشعبية. -توليد شبكات متجددة: عبر أجيال، تولد قيادة جديدة، معرفة فنية، شبكات دعم، وتحالفات دولية ، كل ذلك يحول المعركة من حادثة عابرة إلى مسار تحرّري مستدام.
و — الوحدة الوطنية كشرط لتحقيق التحرّر الشامل: ليس ثنائية غزة-الضفة، بل مشروع شامل: التحرّر يطلب توحيد كل الفئات ، العمال، الفلاحين، النساء، الشباب، المثقفين، الشتات ، في برنامج سياسي واحد يرفض مقايضة الحقوق بمساعدات مشروطة. +آليات التمثيل: الحاجة إلى مؤسسات وطنية ، منتخبة، شفافة، وممثلة ، قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية تعبر الحدود الجغرافية وتربط الشتات بمركز القرار. +الربط بين الميداني والسياسي: القوة الميدانية (بأشكالها المتعددة) يجب أن تترجم إلى استراتيجية سياسية واضحة هدفها بناء دولة شاملة: سيادة شعبية، عدالة اجتماعية، اقتصاد منتج، ثقافة حرة.
ز — البعد الدولي: لماذا لا ننتظر شرعية من الخارج بل نتصارع عليها؟: -الشرعية ليست هبة: إنما تبنى عبر قوة شعبية، دبلوماسية تدار بذكاء، وتحالفات تضامن دولية لا تخضع الخيارات المحلية. -مواجهة محاولات التطبيع: أي حل جزئي غالبا ما يروّج عبر قنوات دبلوماسية وإعلامية كـ«حل واقعي». الرفض الواعي لهذه الرواية يتطلب تكثيف العمل الدولي المضاد: حملات حقوقية، شبكات يسارية عالمية، تحالفات برلمانية شعبية. -التكتيك الدبلوماسي الحرّ: استغلال كل مساحات الشرعية الدولية لمطالب الشعب الفلسطينية ، المحاكم، الأمم المتحدة، المنظمات الحقوقية ، بينما تمنع أدوات الوصاية من تحويل الدعم إلى قيود.
ح — استراتيجيات عملية قابلة للتطبيق (غير عنفية بالضرورة؛ شاملة وواقعية): +الميثاق الوطني الشامل: صياغة وثيقة تضم شروط أي حل، تحفظ داخل قواعد دستورية وطنية (رفض الوصاية، شرط السيادة في إعادة الإعمار، إلخ). +شبكات الشتات الفاعلة: دمج الشتات في قرار سياسي دائم، استثمار قدراته الاقتصادية والدبلوماسية لضغط على سياسات دولية. +برنامج قِيمي-اقتصادي: ربط إعادة الإعمار بشرط إعادة بناء اقتصاد منتج محليا يضمن استقلالا تدريجيا عن المانحين المشروطين. +حملات سردية متواصلة: فضح أي مشروع وصاية عبر أدلة، شهادات، وثائق، وإنتاج ثقافي يربط الجمهور العالمي بحقيقة النضال الفلسطيني الشامل.
ط — خاتمة قسمية: الأرض والذاكرة والإرادة كقواعد نهائية: لا يتحقق التحرّر الجزئي دون المساس بجوهر الوجود الفلسطيني. الأرض، الذاكرة، والكرامة تُدشكّل وحدة لا تقبل التجزئة. أي نضال يقتصر على مناطق أو حدود ترضى بها القوى الاستعمارية لا يعد نضالًا تحرريًا حقيقياً، بل مجرد إدارة لحالة القهر. التحرّر الشامل ، فلسطين من البحر إلى النهر ، يتطلب صمودا متواصلا، استراتيجية متجددة، ووحدة شعبية حقيقية تمتد جيلا بعد جيل إلى أن يكتمل الاسترداد السياسي والإنساني للحقوق.
13 — إعادة بناء المجتمع والاقتصاد الوطني: من الاستقلال السياسي إلى الاستقلال المعيشي.
يمكن إسقاط المجلس، ويمكن إحباط قرارات سياسية دولية؛ لكن إنْ لم تتحقق أسس الاستقلال الاقتصادي والمحلي، فإنّ كل إنجاز سياسي يظل هشّا. إنّ أي مشروع وصاية يسعى بالضبط إلى خلق تبعية اقتصادية طويلة الأمد تفقد الشعب قدرة القرار. لذلك إعادة بناء المجتمع لا يمكن أن تكون مجرد إعادة بناء مباني؛ هي إعادة بناء القدرة على العيش، الإنتاج، التوزيع، والقوة التفاوضية كوحدة سياسية‑اقتصادية.
أ — تشخيص بنيوي للاقتصاد الفلسطيني تحت الحصار والوصاية المحتملة: لفهم خطة البدء، يجب أولا أن نحلل وضعية الاقتصاد الفلسطيني الحالية وندرك نقاط الضعف التي تستغلها الوصاية: +اعتماد تاريخي على المساعدات والتشغيل في الخارج: جزء كبير من الاقتصاد الفلسطيني معتمد على التحويلات، والاستثمارات الخارجية، وعقود التشغيل خارج وطنه. هذا خلق طابعا طبقيا هشا. +تفكك البنية الإنتاجية المحلية: تدمير المصانع، خفض المساحة المزروعة، تراجع التصنيع المحلي ، كلها عوامل تبقي المجتمع في حلقة الاستيراد. +مشاكل السيولة والتمويل المحلي: نظام بنكي محدود، نقص في رؤوس الأموال المتاحة للمشروعات الإنتاجية. +البُنى التحتية المدمّرة: كهرباء، مياه، شبكات نقل — كلها عناصر أساسية لأي اقتصاد حقيقي. +الازدواجية الاقتصادية: مشاريع استهلاكية ضخمة مقابل غياب الدعم للمنتجين ، ما يفضي لتزايد التبعية. هذه التشخيصات تحدد الأولويات: -إعمار بنية الإنتاج لا إعمار صور سياحية؛ دعم الناس المنتجين لا توظيفهم كيد عاملة في مشاريع مُسيّرة من الخارج.
ب — مبادئ أساسية لاقتصاد تحرري‑قومي‑شعبي (إطار فكري): اليسار الذي يسعى لدولة حرة يجب أن يضع مبادئ واضحة لاقتصاد ما بعد الوصاية: الملكية الاجتماعية للموارد الحيوية: -الأرض والمياه وموارد الطاقة يجب أن تكون خاضعة لآليات ملكية عامة أو تعاونية تحميها من استحواذ المستثمر الأجنبي. -الأولوية للاقتصاد المنتج: الزراعة، الصناعة الخفيفة، الحرف، الخدمات الأساسية ، كلّها تحتاج أولويات في التمويل والسياسات. -ديمومة العمال والمنتجين: تشجيع تعاونيات العمال والفلاحين وإدماجهم في إدارة المشروعات التي يمولونها ويعملون بها. -الاستقلال النقدي والمالي الجزئي: بناء آليات تمويل محلية وصناديق سيادية شعبية تخفف الاعتماد على السفن المالية الخارجية. -العدالة الاجتماعية كسياسة اقتصادية: السياسات الضريبية، الحفاظ على الحد الأدنى للأجور، دعم الخدمات العامة ، كل ذلك شرط للحفاظ على السلام الاجتماعي والقدرة على المقاومة. هذه المبادئ لا تكتب لتظل شعارات؛ هي قواعد لإعادة هندسة الدولة الاقتصادية من القاعدة إلى القمة.
ج — سلم أولويات إعادة الإعمار الاقتصادي : إعادة بناء الاقتصاد يجب أن تكون مخططة زمنيا ومؤسساتيا. أقترح مراحل زمنية متعاقبة مع أهداف قابلة للقياس: +المرحلة الأوّلية: الطوارئ الاقتصادية (0–6 أشهر) إمدادات طاقة مؤقتة: استراتيجيات طاقة محلية عاجلة (مولدات مجتمعية، محطات شمسية مجتمعية صغيرة) تضمن الحد الأدنى لتشغيل المستشفيات والمدارس. -دعم دخل مباشر: شبكات دعم نقدي طارئة للمشردين والأسر المتضررة لتفادي الانهيار الاجتماعي. -حماية الأسواق المحلية: فتح قنوات توزيع مؤقتة للغذاء تجنّب أي موجة احتكار أو ارتفاعات جنونية للأسعار. +المرحلة الانتقالية: استعادة القدرة الإنتاجية (6–24 شهرا) -دعم التعاونيات الزراعية: إعادة تأهيل الأراضي، استرجاع ما تهدم من بنى الري، وتقديم بذور ومستلزمات لدورات زراعية فورية. -بناء ورش صناعية صغيرة: تمويل مشروعات حرفية وصناعات بسيطة تلبي سوقا محلية. -بروتوكولات تشغيل محلية: عقود تشترط توظيف العمال المحليين وتدريبهم، أولوية للمقاولات المحلية. -صندوق استثماري محلي: تحويل المدخرات المحلية، التبرعات المشروطة، وحصة من التوظيفات لتمويل مشاريع مدرة للدخل محليا. +مرحلة البناء السياسي‑الاقتصادي (24–72 شهرا) -بناء قطاعات استراتيجية: غذاء، طاقة متجددة، بناء سكني مدار محليا، إعادة تشغيل منشآت تعليمية وصحية بمقاييس وطنية. -تطوير البنية التحتية: شبكات طرق وموانئ ووسائل نقل تربط الداخل مع الشتات لتسهيل التبادل التجاري الفلسطيني‑الفلسطيني. -إرساء نموذج ملكية مختلط: شركات عامة بها مشاركة مجتمعية وتعاونية، تمنع خصخصة الموارد الأساسية. +مرحلة الاستدامة والانتشار (بعد 6 سنوات) -شبكة اقتصادية متماسكة: نظام تكامل بين المدن والقرى، سوق داخلي قوي، وصادرات صغيرة تستند إلى صناعات محلية واختصاصات حرفية. -صندوق سيادي وطني: يدير فوائض استثمارية لصالح الخدمات العامة والبحوث والتنمية. -سياسات استدامة بيئية: استثمار في الزراعة المستدامة وحماية المياه والبيئة كجزء من أمن الأجيال.
د — أدوات تمويلية مبتكرة ومقاومة للاستغلال الدولي: التمويل هو ساحة اشتباك مباشر. بدائل تمويلية تُحفظ السيادة:ض -الصناديق الوطنية التشاركية: صناديق يستثمر فيها الداخل (مغتربون، جمعيات، ودائع شعبية) مع شفافية ومساءلة. -سندات سيادية محلية/إقليمية: آليات دين داخلية ذات آجال قصيرة تُستخدم لتمويل مشروعات إنتاجية مع ضمانات اجتماعية. -تحالفات تمويلية تضامنية: اتفاقات مع دول جنوبية أو مؤسسات تضامنية تضع شروطاً لعدم إملاء سياسات داخلية. -منع العقود المشروطة: قواعد صارمة لاحتواء شراكات عامة‑خاصة بحيث لا تستنزف حقوق ملكية وطنية. هذه الأدوات لا تستعمل لتعزيز نمو مالي فحسب، بل لإرساء قواعد تمنع تحكّم مانح أجنبي بآلية صنع القرار المحلي.
ه — البنية المؤسسية: كيف تُنظّم الدولة الاقتصادية القادمة؟: إعادة هيكلة الدولة الاقتصادية تتطلّب مؤسسات جديدة أو إعادة تشكيل القديمة: -وزارة إعادة الإعمار الوطنية: بسلطات قانونية واضحة، لكن تحت رقابة شعبية ومجلس شعبي منتخب. -مجالس محلية للإعمار والتوظيف: مجالس منتخبة على مستوى الحي والمدينة تملك صلاحية قطع العقود وتحديد أولويات التوظيف. -هيئة رقابية للصفقات: شفافة، مستقلة، ومنبثقة عن برلمان أو هيئة تشريعية فلسطينية. -شبكة بحثية‑تطويرية: مراكز بحثية محلية تعمل على التكنولوجيات المناسبة للظروف المحلية (طاقة شمسية، مياه معاد تدويرها، تقنيات زراعية منخفضة التكلفة).
و — العدالة الاجتماعية: ليس رفاها بل سيادة استراتيجية: العدالة الاجتماعية ليست «بند سياسة» ثانوي؛ هي شريان يضمن تجذّر الدولة: +سياسات دعم مباشر: ضمانات دخل أساسية للمهمشين، دعم الإسكان، وقروض ميسّرة لتأسيس مشاريع صغيرة. +إصلاحات ضريبية تقدّمية: استرداد قدرة الدولة عبر نظام عمّالي يدعم الخدمات العامة، لا عبر بيع الأصول. +قوانين عمل تحمي العمال: تشجيع نقابات قوية ونهج مشاركة العمال في إدارة المصانع والتعاونيات. هذه السياسات تبني رابط ثقة بين المواطن والدولة، وتخلق قاعدة اجتماعية مقاومة أمام محاولات التفتيت.
ز — الثقافة الاقتصادية: بناء وعي الإنتاج والمواطنة الاقتصادية: لا يكفي أن تقدّم إجراءات تقنية؛ يجب أن تصاحبها ثقافة اقتصادية جديدة: -التعليم والتدريب المهني: برامج مطابقة للاحتياجات المحلية، تخرج عمالاً ومهنيين لهم طلب في السوق المحلي. -حملات وعي مجتمعي: حول فوائد التعاونيات، اقتصاد المشاركة، وأهمية الشفافية. -دعم الفلسفة الاقتصادية الوطنية: جدل عام حول مفهوم الملكية، العدالة، والاستهلاك كجزء من مشروع تحرّري طويل الأمد.
ح — المخاطر الاقتصادية وكيفية التخفيف منها : إعادة الهيكلة الاقتصادية ستواجه هجمات، منها: -ضغوط تسليع/تضخمية: استيراد كميات كبيرة قد يقوّي رأس المال الأجنبي. الحل: حماية صناعات قائمة، رسوم رمزية على واردات غير أساسية، دعم للمنتج المحلي. -محاولات اغتنام عقود: التأسيس لقوانين تعاقب الفساد وتمنع تضارب المصالح. -انهيار سوق العمل إذا طالت الأزمة: سياسات زرع التشغيل المحلي التدريجي والبرامج التحويلية. -الردّ هنا يتطلب مزيجا من سياسات مالية حكيمة، إدارة نقدية تراعي التضخم، وبرامج تشغيل عاجلة تدمج الفئات الأشد هشاشة.
إعادة بناء المجتمع والاقتصاد ليست مجرد ملف تقني؛ إنها معركة مفاهيمية وثقافية وسياسية. الدولة القابلة للحياة ليست تلك التي تُبنى على مشروعات رمزية، بل تلك التي تُبنى على قواعد إنتاج مستدامة وعدالة اجتماعية ، وهذه وحدها تضمن أن تكون فلسطين دولة قوية من البحر إلى النهر، لا مجرد رقعة جغرافية مقسّمة تحت وصاية. إن السيادة الاقتصادية تصنع استقلال السياسة، وتحوّل رفض الوصاية إلى قدرة دائمة على تقرير المصير. هنا هو أن نجعل من كلّ حصة عائد وطني، ومن كل عمل محليّ أساسا لمستقبل يملك فيه الفلسطيني قرار أرضه وحياته وذاكرته.
خاتمة :
في نهاية هذا التحليل الممتدّ من التاريخ إلى الحاضر، ومن الذاكرة إلى الوعي الجمعي، يمكن القول إنّ فلسطين ليست حدثا، وليست جرحا فقط، بل هي وعي إنساني متجذّر في مقاومة النسيان. ليست القضية الفلسطينية مجرد ملفّ سياسي أو نزاع جغرافي على أرض، بل هي امتحان أخلاقي وتاريخي للحضارة البشرية بأسرها. فمنذ قرنٍ من الزمن والدم الفلسطيني يُراق دفاعا عن معنى الكرامة ذاته، عن تلك الفكرة البسيطة التي تقول: إنّ الإنسان لا يقاس بما يملكه، بل بما لا يقبل أن يُنتزع منه. إنّ معركة فلسطين هي معركة الإنسانية ضدّ الاستعمار الحديث في أبشع صوره، فهي ليست معركة بين شعب صغير وكيان مدجّج بالسلاح والدعم الإمبريالي، بل هي صراع بين مشروعين متناقضين تماما: مشروع التحرر والعدالة والمساواة من جهة، ومشروع النهب والسيطرة والاقتلاع من الجهة الأخرى. لذلك، حين نقول تحرير فلسطين، فنحن لا نعني استعادة الأرض فقط، بل استعادة المعنى المسلوب للإنسان العربي وللإنسان عمومًا؛ استعادة الذاكرة من أيدي التزوير، والتاريخ من براثن الأكاذيب التي صنعها المستعمرون. ففلسطين ليست “قضية الشرق الأوسط”، بل بوصلة العالم كلّه. من يقف مع فلسطين يقف مع فكرة العدالة ذاتها، ومع حق الشعوب في تقرير مصيرها، ومع الإنسان ضدّ الوحشية المُمأسسة باسم “الأمن”. ولهذا السبب، حاولت القوى الاستعمارية منذ البداية أن تحوّلها إلى “نزاع محلي”، وأن تجزّئها في الوعي العام بين “الضفة” و“غزة”، وبين “حلّ الدولتين” و“صفقة القرن”، لأنّها تعلم أنّ الكلّ الفلسطيني هو ما يرعبها، وأنّ ذكر “فلسطين من البحر إلى النهر” هو في ذاته فعل مقاومة فكرية قبل أن يكون فعلًا ميدانيًا. لقد أثبتت الأحداث أنّ معركة غزة ليست فصلا عابرا في كتاب طويل، بل عودة كبرى للروح التاريخية للشعب الفلسطيني، الذي لا يقاتل فقط من أجل حدود جغرافية، بل من أجل أن يعيد للعالم معنى أن يكون “الحقّ” ممكنا في وجه “القوة”. كلّ بيت يهدم في غزة هو بيت يعاد بناؤه في الوعي الجمعي العربي. وكلّ طفل يستشهد هناك، يفتح في قلب الأمة بابا جديدا للكرامة. لهذا نقول إنّ هذه الحرب ليست حربا أخيرة، بل حلقة من سلسلة طويلة من الصراع المستمرّ منذ قرن من الزمن، ستستمرّ جيلا بعد جيل إلى أن تتحرّر فلسطين كلّ فلسطين، من البحر إلى النهر. إنّ الذين يظنّون أن بإمكانهم محو فلسطين من الخريطة، لم يفهموا بعد أن فلسطين ليست نقطة على الورق، بل فكرة في الدم. لا تمحى بالاتفاقات، ولا تلغى بالاعترافات، لأنّها تسكن في القصيدة وفي المهد وفي المقبرة، في وجدان كلّ أمّ تنتظر ابنها، وفي حنجرة كلّ مناضل يغنّي للحرية. وهنا يمكن أن نستحضر كلمات الشاعر محمود درويش التي تحوّلت إلى نبوءة: “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة.” ففلسطين ليست مجرد أرض، بل هي الأرض التي تعطي للحياة معناها حين تدافع عن كرامتها. ومن هذه الحقيقة، تنبثق المعادلة الجوهرية: لا تحرّر لفلسطين بالمعنى السياسي أو العسكري إلا بتحرّر الأمّة العربية من التبعية، من الانقسام، ومن الخضوع للمنظومات النيوليبرالية التي أفرغت الوعي الجمعي من محتواه المقاوم. ففلسطين هي مرآة كلّ عاصمة عربية، فإذا انكسر وجهها، انكسر وجه العرب جميعا. وإنّ كلّ ثورة اجتماعية، كلّ انتفاضة عمالية، كلّ نهوض نسويّ أو شبابيّ في الوطن العربي، يحمل في عمقه بعدًا فلسطينيا، لأنّ تحرّر الفلسطيني لا يمكن أن يتمّ في فراغ، بل في فضاء عربيّ متحرّر من الخوف والتبعية. لقد آن الأوان لأن ندرك أنّ القضية الفلسطينية ليست ملكا لجغرافيا محدّدة، بل هي ملك للكرامة الإنسانية. وكلّ محاولة لعزلها عن بعدها الكوني ليست سوى سعي لتصغيرها حتى يسهل بيعها. لكن التاريخ أثبت أنّ الشعوب لا تهزم حين تمتلك الوعي، وأنّ الجغرافيا لا تختصر حين تمتلك الذاكرة. إنّ المستقبل، مهما بدا غامضا، يحمل بين طيّاته يقينا صلبا واحدا: أن هذا الشعب الذي لم يتعب منذ قرن من المقاومة، لن يهزم اليوم. وأنّ كلّ ما يبنى على القهر والاستيطان سينهار كما انهارت قبله كلّ الإمبراطوريات التي ظنّت أنّ الأرض يمكن أن تشترى، وأنّ الإنسان يمكن أن يباع. سيأتي يوم، مهما تأخّر، تفتح فيه نوافذ البيوت في القدس وغزة ويافا وحيفا على سماء واحدة بلا حواجز ولا أسلاك، ويرفع العلم الفلسطيني على أرض محرّرة، لا باعتباره راية قومية فحسب، بل رمزا لانتصار الإنسان على الوحشية، ولعودة العدالة إلى وجه الأرض. وحينها فقط، سيعرف العالم أنّه لم يكن هناك “نزاع” بين طرفين، بل صراع بين نور وظلام، بين ذاكرة حية وكيان بلا جذور، بين من زرع الزيتون ومن سرقه. ففلسطين، في النهاية، ليست قضية تحلّ، بل وصية تحمل. وصية الشهداء والأطفال، وصية التاريخ للأجيال القادمة بأن الحرية لا تمنح بل تنتزع، وأنّ من يزرع في الأرض دما، يزرع في التاريخ خلودا. وهكذا ستظلّ فلسطين ، كلّ فلسطين ، من البحر إلى النهر، تختبر إنسانيتنا كل يوم، وتذكّرنا بأنّ الخيانة عابرة، أمّا الذاكرة فباقية، وأنّ الشعوب قد تسقط لكنها لا تهزم.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشروع قانون المالية لسنة 2026: بين الوهم الاجتماعي وتكريس ال
...
-
الديني و الماركسي في خندق المقاومة وحدود الالتقاء: من طهران
...
-
اتفاق شرم الشيخ: عودة الانتداب بثوب أمريكي – قراءة في مشروع
...
-
غزة والمقاومة: غنيمة التّاريخ وبوصلة الأحرار
-
من -الشعب يريد- إلى -النهضة تقرر- إلى -الرئيس يقرر
-
الأفقية والقاعدية: تفكيك مفاهيمي وتحليل تطبيقي.
-
البناء القاعدي والتسيير الذاتي: بين النظرية، التجارب، والتحو
...
-
السلاح ، المخدرات و الادوية ، اسلحة للثراء و اخضاع الشعوب.
-
تحليل مقتضب للنرجسية الفردية و السّلطة والشعبوية.
-
الاعتراف بالدولة الفلسطينية: خطوة ناقصة في معركة طويلة ضد ال
...
-
الأدب العربي والترجمة: ساحة المقاومة والوعي.
-
الأدب والتكنولوجيا: بين انفتاح النص وقلق المستقبل.
-
نقد الإبداع وإبداع النقد.
-
بقايا الطلائع القديمة: الثورة بين الخطاب والممارسة والخيبة.
-
اللّجوء بين إنسانية العالم وابتزاز السياسة: في أزمة النظام ا
...
-
قراءة نقدية تفكيكية لرواية -أنا أخطئ كثيرا- للاديبة اللبناني
...
-
11 سبتمبر 2001 ، انطلاق اللّعبة الامبريالية الكبرى.
-
الحرب كحقل تجارب للذكاء الاصطناعي: كيف أصبحت غزة مختبرا للمر
...
-
رؤوس أقلام حول أمريكا: الإمبريالية الحربية والاقتصادية من ال
...
-
أحفاد مانديلا . تحرير العمل: الدرس الجنوب إفريقي.
المزيد.....
-
السعودية في معرض فرانكفورت: تحد لصورة نمطية لكن بأي شكل ومحت
...
-
بايرن يلحق الهزيمة الأولى بدورتموند.. ولايبزغ يرتقي للوصافة
...
-
-خسرنا ثقة القطريين-...ويتكوف يشعر بـ-الخيانة- حيال هجوم إسر
...
-
فايننشال تايمز: بهذا رد البرغوثي على بن غفير في فيديو المواج
...
-
البرهان: مستعدون للتفاوض بما يصلح السودان ويبعد أي تمرد
-
الداخلية السورية تفكك خلية لتنظيم الدولة في ريف دمشق
-
نتنياهو: الحرب ستنتهي بعد تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق غزة
...
-
فيديو منسوب للبرهان بشأن مفاوضات تسوية النزاع بالسودان.. هذه
...
-
الصليب الأحمر يسلم جثامين 15 فلسطينيًا من إسرائيل إلى غزة
-
كيف يمكن للهرمونات أن تتحكّم بعقولنا؟
المزيد.....
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
المزيد.....
|