رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 14:01
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
ما يجري اليوم في الجامعة التونسية ومراكز البحث العلمي ليس مجرد حدث عابر أو خلل تقني يمكن تداركه باستدعاء خبراء أو مشاريع تعاون عند الحاجة؛ إنه امتداد مباشر لهيمنة معرفية وسياسية بدأت منذ عهد الحماية الفرنسية في سنة 1881 واستمرّت تتغلغل عبر أنظمة التعليم طوال القرن العشرين، ثم أعادت إنتاج نفسها بطرق أكثر نعومة بعد الاستقلال سنة 1956، حيث تم الانتقال من الهيمنة المباشرة إلى الهيمنة عبر “التعاون الدولي” و“التحديث” و“جودة التعليم”. ومع مرور الزمن، تحول هذا “التعاون” إلى آلية ثابتة للتحكم في الاتجاهات الاستراتيجية للجامعات ومراكز البحث، وتحديد لغات التدريس، ومعايير التقييم، ومقام العلوم الإنسانية والاجتماعية، وحتى طبيعة العلاقة بين الجامعة والمجتمع. لكن هذه الهيمنة، التي كانت تعمل في خطوط منخفضة الكثافة لعقود، اكتسبت بعد 2019 ديناميكية جديدة، حيث ارتفع منسوب التدخل الفرنسي في “الإصلاحات” التي يعلنها النظام في قطاع التعليم العالي، وازدادت كثافة المشاريع المشتركة، واتسع مجال النفوذ اللغوي والمعرفي الفرنسي ليشمل التعليم العام أيضًا عبر مشاريع لغوية كبرى.
بعد 17 ديسمبر 2010 / 14 جانفي 2011، انفجر المشهد التونسي بحرية غير مسبوقة، لكن خلف حيوية النقاشات العامة بقيت البنية العميقة للمنظومة التعليمية على حالها: هشة التمويل، محدودة الاستقلالية، ومتداخلة مع مصالح خارجية. فرنسا، التي تعتبر تونس جزء من فضائها الجغرافي-اللغوي، لم تغادر الموقع المركزي الذي احتلته منذ عقود، بل أعادت توجيه استراتيجيتها نحو التحكم في عناصر أساسية من المنظومة الجامعية: معايير الجودة، التقييم، اعتماد المؤسسات، تكوين الخبراء، وضبط السياسات اللغوية. في هذا السياق، لم يكن تدخل السفير الفرنسي أو حضور السفارة مجرد تفاصيل بروتوكولية، بل كان انعكاسا لشبكة مؤسسات وهيئات فرنسية تعمل بشكل منهجي لربط التعليم العالي التونسي بمنظومتها هي، ولمحاولة إعادة تشكيل الجامعة التونسية في اتجاه يخدم المركز الفرنسي اقتصاديا وثقافيا وسياسيا.
يتزامن هذا مع مشاريع ومبادرات فرنسية متعددة، بعضها يخص التعليم العالي تحديدا، وبعضها يطال التعليم العام، مما يضع المنظومة التعليمية برمتها في مسار تابع لأجندات خارجية. ففي 2 جويلية 2025، أُعلن رسميا عن إطلاق مشروع بحثي مشترك يحمل اسم FEF Horizon – Recherche بين الوكالة التونسية للتقييم والاعتماد في التعليم العالي والبحث العلمي وقسم التعاون الثقافي بسفارة فرنسا بتونس. وقد تم الإعلان بحضور وزير التعليم العالي والبحث العلمي منذر بالعيد وسفيرة فرنسا آن جيغون. ويهدف المشروع ، وفق الصيغة الرسمية ، إلى “تعزيز التعاون الثنائي في مجال التعليم العالي والبحث العلمي وتطوير منظومة ضمان الجودة”. لكنه في الحقيقة يمثل خطوة واضحة نحو إحكام النفوذ الفرنسي على منظومة التقييم الأكاديمي الوطنية، إذ يشمل إعداد مرجعية محدثة لضمان الجودة، تدريب خبراء التقييم، وإدراج أدوات رقمية لتحليل التقييم، إضافة إلى تطبيق “أفضل الممارسات الدولية”، وهي عبارة تستعمل عادة لترجمة إدماج معايير خارجية في السياسات الوطنية. ويمتد المشروع على فترة 2025–2026.
قبل ذلك، وفي مارس 2024، عقد وزير التعليم العالي والبحث العلمي منصف بوكثير اجتماعا مع سفيرة فرنسا آن جيغوين، أكدا فيه “تعزيز التعاون في مجال التعليم العالي والبحث العلمي”، وناقشا “دعم آليات تكوين الكفاءات والتعاون الجامعي الثنائي”، بالإضافة إلى التحضير لاجتماع في إطار المجلس الأعلى للتعاون التونسي-الفرنسي. وفي بيانات وزارة التعليم العالي نفسها، يظهر بوضوح أن الجانب الفرنسي يلعب دورا “توجيهيا” في سياسات التعليم العالي، وليس مجرد شريك عرضي.
لكن التدخل الفرنسي لا يتوقف عند الجامعة؛ فقد توسع ليشمل التعليم العام أيضا عبر مشروع PARLE الذي انطلق في 1 جانفي 2024 بدعم من الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) والاتحاد الأوروبي، بهدف “تحسين وتقوية مهارات اللغات” في تونس، مع التركيز على اللغتين العربية والفرنسية، ويستمر المشروع إلى 31 ديسمبر 2027. هذا يعني أن فرنسا تتحكم اليوم في نقطة البداية (التعليم الابتدائي) ونقطة الوصول (التعليم العالي)، ما يجعلها شريكا متحكما في تحديد مخرجات المنظومة التعليمية بأكملها.
إن آليات التدخل الفرنسي ليست عشوائية. فهي تبدأ بالتقييم، مرورا بوضع المعايير، ووصولا إلى تكوين الخبراء، وتغليف ذلك كله بعبارات جذابة مثل: “التعاون الدولي”، “نقل الخبرات”، “تطوير الجودة”، و“ملاءمة البرامج لسوق الشغل”. لكن خلف هذا الغلاف، يمكن تمييز حقيقة واضحة: فرنسا تحدد إطار المرجعيات الكبرى التي تشتغل ضمنها الجامعة التونسية، من لغات التدريس إلى مناهج التقييم.
التساؤل الذي يطرحه كثيرون اليوم هو: لماذا تشرف فرنسا على إصلاح التعليم العالي؟ وأين السيادة؟
الجواب بسيط ومعقد في الآن ذاته: فرنسا تعتبر التعليم أداة استراتيجية لإعادة إنتاج نفوذها في تونس. وحين تتحكم في معايير اعتماد الجامعات، وفي تكوين لجان التقييم، وفي اللغات التي يجري التدريس بها، فإنها تتحكم في العقل المنتج للمعرفة، وفي من يدرّس، وكيف يدرّس، ولمن يدرّس. وهذا ليس جديدا؛ إنه امتداد لسياسات الهيمنة الثقافية التي بدأت منذ تأسيس أول مدارس استعمارية في تونس سنة 1883، والتي كانت تهدف إلى تكوين نخب محلية تابعة ذهنيا وثقافيا للإدارة الفرنسية.
هذا الاختراق يصبح أخطر حين ندرك أن تاريخ المؤسسات العلمية التونسية يكشف أن الاستقلال العلمي كان ممكنا ومعقولا، لكن تدخل القوى الأجنبية هو الذي عطّل هذا المسار. مثال ذلك مركز الطاقة الذرية الذي تأسس بعد الاستقلال وكان يضم خبراء مثل محمد علي العنابي والبشير التركي، وقد سعى إلى بناء مفاعل نووي سلمي، لكن المشروع اصطدم بضغط خارجي واضح، وانتهى بإغلاق المركز سنة 1969. كما أن أول تقييم للبحث العلمي في تونس وفق قانون 1989 تم تحت إشراف خبراء فرنسيين، وسط اعتراض الباحثين المحليين.
إن الهيمنة الفرنسية اليوم ليست احتلالا عسكريا، بل هي احتلال معرفي ـ اقتصادي. إنها تفكيك للسيادة التعليمية من الداخل عبر أدوات “ناعمة”: التقييم، التدريب، اللغة، التمويل، والبرامج المشتركة. ومع استمرار ضعف التمويل الوطني للبحث العلمي، تصبح المؤسسات التونسية مجبرة على قبول هذه المشاريع التي تفرض عليها من الخارج. فيتحول “التعاون” إلى تبعية، و“الشراكة” إلى وصاية، و“نقل الخبرات” إلى إعادة إنتاج لسياسات استعمارية بأدوات حديثة.
لذا لا يمكن الحديث عن سيادة وطنية حقيقية دون سيادة معرفية. ولا يمكن الحديث عن سيادة معرفية في ظل وجود برامج تقييم وإعتماد تدار من قبل سفارات ومنظمات أجنبية. إن تحرير التعليم العالي يمر عبر:
تمويل وطني مستقل لا يخضع للإملاءات الخارجية؛
تقييم داخلي ديمقراطي تشارك فيه النقابات الجامعية والطلبة؛
سياسة لغوية تضع العربية في مركزها كلغة علمية، لا كلغة رمزية؛
شراكات متكافئة لا تسمح لطرف خارجي بتحديد أولويات البحث العلمي.
إن مستقبل الجامعة التونسية، الذي يطرح اليوم على أنه مسار إصلاح، هو في الحقيقة مفترق طرق: إما جامعة مستقلة تنتمي إلى شعبها، وإما جامعة مربوطة بمنظومات معرفية أجنبية تحدد فيها الأولويات وفق مصالح خارجية لا علاقة لها بمشروع وطني مستقل. إن الهيمنة الفرنسية ليست مجرد معركة لغوية بين العربية والفرنسية، بل هي معركة بين نموذج معرفي تابع ونموذج معرفي مستقل. بين جامعة مخصخصة تدار عبر مشاريع “ضمان الجودة”، وجامعة شعبية تدار عبر إرادة مجتمع بأكمله. بين علم يوجّه نحو خدمة السوق الأوروبية، وعلم يوجّه نحو خدمة الشعب التونسي.
ووسط هذا المشهد، يجب عدم إغفال صراع آخر أكثر خفاء، وهو صراع النفوذ بين المنظومة الأنغلوساكسونية والفرنكفونية في مستعمرات فرنسا القديمة. فاللغة الإنجليزية اليوم هي لغة العلم، ولغة العالم، ولغة الإنترنت، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي. إنها لغة صاغت قواعد السوق الرقمية والبحث العلمي العالمي، وصارت شرطا للاندماج في الاقتصاد الحديث.
في المقابل، تعيش الفرنسية تراجعا حادّا عالميا، وانخفاضا في عدد المتحدثين الأصليين، وتقهقرا في مكانتها في المؤسسات العلمية الكبرى. وهذا الانحسار يجعل فرنسا أكثر توتّرا وأكثر إصرارا على التشبث بما تبقّى لها من "مجال نفوذ" لغوي وثقافي: مستعمراتها القديمة، ومنها تونس.
لذلك، فإن جزء كبيرا من تدخل فرنسا في إصلاح التعليم العالي ليس فقط اقتصاديا أو سياسيا، بل لغويا-حضاريا في عمقه. فرنسا تخشى تحوّل الجامعة التونسية نحو الإنجليزية، لأنه سيعني خسارتها لأهم أدوات الهيمنة الناعمة التي بقيت لديها بعد 1956. فاللغة ليست مجرّد وسيلة تواصل؛ إنها وسيلة إنتاج معنى، وشكل من أشكال السيطرة الرمزية. ومن يربح المعركة اللغوية، يربح النفوذ الثقافي والسياسي والاقتصادي.
ولهذا السبب، كلّما ازدادت الإنجليزية قوة في تونس ، في العلوم، في التكنولوجيات الجديدة، في مراكز البحث، في سوق الشغل ، كلما سارعت فرنسا لتعزيز حضورها داخل الجامعات والوزارات ومشاريع "الإصلاح". لأنها تدرك أن خسارة تونس لغويا تعني خسارتها سياسيا واستراتيجيا في فضاء مغاربي شديد الحساسية.
وإلى جانب هذا البعد الخارجي، فإن الجامعة أصبحت ساحة صراع داخلي أيضا. فالتعليم ليس مجالا تقنيا، بل حقل تنازع بين طبقات اجتماعية تبحث كل منها عن إعادة إنتاج نفسها. وفي بلد يعيش على وقع أزمات اقتصادية متتالية، وملفات فساد، وغياب رؤية وطنية، يصبح سهلا على القوى الخارجية ، وفي مقدمتها فرنسا ، أن تتسلل إلى عمق القرار التعليمي.
إن الطبقة الحاكمة في تونس ، بمختلف تغييراتها منذ الاستقلال ، لم تنظر يوما إلى الجامعة باعتبارها مصدرا للسيادة الوطنية، بل باعتبارها جهازا لتصنيع البيروقراطيات وإنتاج نخب مطواعة. وحين عجزت عن تطوير نموذج مستقل، فتحت الباب أمام المستشارين الأجانب ليعيدوا هندسة الجامعة وفق مصالحهم، لا وفق حاجات الشعب.
وهكذا يتحول الأستاذ إلى منفذ برامج، والطالب إلى مستهلك معارف جاهزة، والبحث العلمي إلى ملحق بقوى خارجية تحدّد له أولوياته.
وفي النهاية، إن استرجاع السيادة المعرفية ليس مهمّة تقنية تدار في مكاتب مغلقة أو تناقش بلغة محايدة، بل هي مهمّة سياسية من الطراز الأول، تلامس قلب الصراع على المستقبل. فالأزمة التعليمية ليست انفصالا عمّا يجري في بنية الدولة، بل هي انعكاس مباشر لعطب تاريخي في معنى الاستقلال ذاته: استقلال بلا سيادة معرفية، يشبه علما بلا أرض، وصوتا بلا إرادة. إن الحديث عن إصلاح التعليم في ظل بقاء القرار العلمي والسياسي في يد الخارج، هو مجرد تلطيف للواقع، لا تغييره.
إن السيادة المعرفية ليست شعارا بل مشروع تحرّر وطني جديد، لا يقل أهمية عن معارك التحرّر من الاستعمار في منتصف القرن الماضي. فالاستعمار الذي خرج من الباب العسكري، عاد من نافذة المناهج والاتفاقيات والدعم الفني والخبراء. وإذا كانت الشعوب قد انتزعت استقلالها السياسي في القرن العشرين، فإن معركة القرن الحادي والعشرين هي معركة الاستقلال المعرفيّ. وهذا الاستقلال لا يتحقق إلا عبر ثلاث ركائز: تعليم حرّ و ديمقراطي، بحث علمي مستقل، ونضال جماعي يرفض تحويل الجامعة إلى مؤسسة وظيفية تعيد إنتاج التبعية في صيغتها الجديدة.
المعرفة ليست حيادية، ولم تكن يوما بريئة. إنها ساحة صراع طبقي مكتمل الأركان: الطبقات المهيمنة تنتج عبرها خطابا مطابقا لمصالحها، وتحتكره عبر لغتها ومؤسساتها وتمويلها، بينما يسعى الشعب ، حين يمتلك وعيه ، إلى إنتاج معرفة مضادة، تفكّك علاقات السيطرة وتعيد تعريف الإنسان والمجتمع والدولة. ولذلك فإن كل “إصلاح” يصاغ خارج الإرادة الشعبية، وكل مشروع أكاديمي جاهز يسقط على الجامعة من فوق ، وخاصة حين يأتي من باريس ، هو امتداد عضوي لبنية التبعية التي ما زالت تتحكم في مفاصل الدولة بعد 1881، مهما جاءت في ثوب “الجودة” أو “العصرنة”.
وما لم يعاد بناء الجامعة على أسس وطنية ديمقراطية مستقلة، مستندة إلى حاجات المجتمع فعلا لا إلى إملاءات الخارج، فإن كل إصلاح سيبقى إصلاحا شكليًا، يرمم الواجهة بينما تنهار الأساسات. فالسؤال الجوهري لم يعد: أي برنامج دراسي نريد؟ بل:
من يملك قرار المعرفة؟ ومن يملك الحق في تعريف المستقبل؟
هل هي الشعوب، أم القوى التي صنعت نموذجا عالميا يستبطن التفوق الثقافي والسياسي للدول المهيمنة؟
إن تحرير الجامعة هو الخطوة الأولى نحو تحرير الدولة، وهو المعركة المركزية التي تحدّد موقع تونس في التاريخ القادم: إما شعب يكتب مشروعه الوطني بعقله ولغته ومعرفته، أو بلد يعاد تشكيله وفق نماذج جاهزة تكتب في دوائر خارجية، ثم يطلب منه أن يمتثل.
وحين تصبح المعرفة ، بما فيها مناهج التعليم، وآفاق البحث، ولغات الإنتاج العلمي ، ملكا للشعب، لا ملكا لمكاتب التعاون الفرنسي، عندها فقط تبدأ تونس في استعادة موقعها كبلاد تمتلك مشروعها، لا كفضاء يعاد تشكيله حسب رغبات الآخرين. فالمعرفة، حين تحرّر، لا تحرّر الجامعة فقط، بل تحرّر المجتمع كله، وتفتح الطريق أمام استقلال حقيقي لا يقاس بالأعلام والاحتفالات، بل بقدرة البلد على إنتاج ذاته.
وحين يصبح العقل التونسي حرّا، يصبح الوطن بأكمله قابلا للنهضة.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟