أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - الحرية والمواطنة في مواجهة آلة القمع وبناء جدار الخوف... قراءة في طبيعة السلطة وأدوات السيطرة















المزيد.....



الحرية والمواطنة في مواجهة آلة القمع وبناء جدار الخوف... قراءة في طبيعة السلطة وأدوات السيطرة


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8540 - 2025 / 11 / 28 - 20:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في كل مجتمع، الحرية ليست مجرد مفهوم نظري أو شعارات مكتوبة على الجدران، بل هي مسار طويل وممارسة يومية تتطلب وعيا مستمرا وتصميما على مواجهة الهيمنة والقمع بكل أشكاله. وعندما تنظر إلى المجتمعات التي تواجه سياسات قمعية شاملة، يدرك المرء أن الحرية الحقيقية تتطلب مقاومة واعية ومتعددة المستويات، حيث لا يقتصر النضال على الجانب السياسي فقط، بل يمتد ليشمل البعد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والنفسي والمعرفي.
السياسة في هذا الإطار ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي ساحة لصراع بين قوى الهيمنة والاستبداد من جهة، وبين قوى التحرر والمقاومة الشعبية من جهة أخرى. في هذا السياق، يصبح كل فعل، مهما بدا صغيرا أو هامشيا، جزء من الصراع العام على مستقبل المجتمع، وكل سلوك يوحي بالاستسلام أو الرضا بالوضع القائم هو مساهمة غير مقصودة في تثبيت هيمنة الطبقات المسيطرة.
إن السلطة القمعية الحديثة تعتمد على آليات متكاملة ومتعددة المستويات لضبط المجتمع والسيطرة عليه، وهي ليست مقصورة على القوة المادية أو القانون وحده، بل تشمل:
-القمع السياسي المباشر، الذي يهدف إلى إسكات أي صوت معارض وإنشاء جدار من الخوف النفسي والاجتماعي.
-القمع الرمزي والتضليل الإعلامي، الذي يحرف المعنى ويجعل المعارضة تبدو تهديدًا، ويعيد تشكيل الوعي الجماعي بما يخدم مصالح السلطة.
-السياسات الاقتصادية القاسية، التي تهدف إلى إفقار الفئات الشعبية والطبقة الوسطى، وزيادة اعتماد المجتمع على الدولة والنخبة الاقتصادية، وبالتالي تقليل القدرة على الفعل السياسي المستقل.
-احتكار المؤسسات التعليمية والثقافية، الذي يفرغ المجتمع المدني من أي قدرة على المقاومة المنظمة ويعيد إنتاج الولاء الفكري والاجتماعي للسلطة.
-تقييد الحقوق المدنية والحريات الأساسية، بما في ذلك الحق في التعبير والتنقل والتنظيم، ما يجعل الطاعة والخضوع قاعدة سلوكية مضمنة في المجتمع.
كل هذه الآليات تعمل في تناسق استراتيجي متكامل: القمع النفسي يصنع الخوف، والخوف يسهّل السيطرة الرمزية، والسيطرة الرمزية تسهّل تمرير السياسات الاقتصادية القمعية، والسياسات الاقتصادية تعزز تبعية المجتمع وتمد جدار الهيمنة ليدوم طويلا. كما قال كارل ماركس: «الدولة ليست سوى لجنة تدير مصالح الطبقة المسيطرة»، ومن هذا المنطلق، يصبح فهم العلاقة بين القمع السياسي والاقتصادي والثقافي شرطا أساسيا لفهم طبيعة الاستبداد وسبل مقاومته.
إن الوعي الاجتماعي، بهذا المعنى أداة أساسية للبقاء والمقاومة. إنه يشمل إدراك القوى الفاعلة، تحديد الأهداف الاستراتيجية للهيمنة، فهم الأدوات التي تستخدمها السلطة، وخلق مساحات بديلة للمقاومة السياسية والفكرية والثقافية. هذا الوعي هو ما يميز المجتمعات القادرة على الصمود أمام الاستبداد، ويجعل الفعل الشعبي المؤطر والمنظم ممكنًا حتى في أصعب الظروف.
ومن منظور تحليلي أوسع، يجب أن ندرك أن القمع لا يهدف فقط إلى إسكات المعارضة الحالية، بل يسعى لإعادة تشكيل المجتمع بأكمله، ليصبح مجتمعا خاضعا ذاتيًا، حيث يراقب المواطن نفسه قبل أن تراقبه السلطة، وتصبح الطاعة جزء من الوعي الفردي والجماعي على حد سواء. هذا ما أسماه فريدريك إنجلز: «الطبقة الحاكمة تتحكم في الدولة لتضمن استمرار مصالحها الاقتصادية، وليس لإرضاء الشعب». بالتالي، يصبح فهم العلاقة بين السيطرة السياسية والهيمنة الاقتصادية والثقافية شرطًا لفهم طبيعة الاستبداد الحديث وسبل مقاومته.
هذا التحليل، إذا، ليس مجرد سرد للأحداث أو وصفا للسياسات، بل محاولة لفهم النسق الكامل للهيمنة القمعية، وكيف يمكن للمجتمع أن يطور أدوات المقاومة الشاملة. وهي تركز على تحليل النقاط الأساسية للقمع، بدء من القمع السياسي المباشر، مرورا بالقمع الرمزي، التضليل الإعلامي، السيطرة على الاقتصاد، احتكار المؤسسات، تقييد الحقوق المدنية، تفكيك المعارضة، وانتهاء ببناء جدار الخوف النفسي والاجتماعي. وكل ذلك يتم في إطار رؤية يسارية ثورية تهدف إلى إبراز العلاقة العضوية بين القمع والمقاومة، وتوضيح أن الحرية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر وعي جماعي متقدم، تنظيم شعبي متكامل، ومشروع تحرري شامل يتجاوز مجرد المطالبة بالحقوق إلى إعادة بناء المجتمع بكامله على أسس العدالة والمساواة.
إن هذا الإطار التحليلي لا يهدف فقط إلى وصف الواقع، بل إلى رسم خريطة عملية للمقاومة والتحرر، بحيث يتمكن القارئ من فهم كل أبعاد القمع وأدواته، واستدعاء كل أشكال الفعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي التي يمكن أن تشكل قاعدة صلبة للمقاومة المستمرة. فالحرية ليست مجرد شعار، بل هي ممارسة واعية وصراع يومي ومشروع طويل الأمد، يتطلب الشجاعة، التضامن، التنظيم، والاستمرارية في مواجهة كل أشكال الاستبداد والهيمنة.

النقطة الأولى: بناء جدار الخوف ، الآلية النفسية والاجتماعية والسياسية للسيطرة.

جدار الخوف هو أعظم إنجازات السلطة القمعية الحديثة، وهو ليس ملموسا بالحجر أو الاسمنت، بل مكوّن من طبقات متعددة:

1. الطبقة النفسية:
الهدف هو زرع الخوف في ذهن المواطن من خلال رسائل غير مباشرة أو مباشرة: الاعتقالات المفاجئة، المحاكمات الصورية، الملاحقات القانونية، التضليل الإعلامي، ونشر الإشاعات الموجهة. كل هذه الأدوات تجعل المواطن يبدأ بمراقبة نفسه قبل أن يراقبه أحد، ويعيش حالة مستمرة من الريبة والقلق. وكما قال الفيلسوف باروخ سبينوزا: «لا يسعى الجلاد إلى الطاعة بالقوة فقط، بل بالخوف أيضًا».

2. الطبقة الاجتماعية:
الخوف لا يظل داخل الفرد فقط، بل يمتد إلى المجتمع بأسره، حيث يبدأ كل فرد برصد سلوك الآخرين، والتصرف وفق توقعات السلطة، والابتعاد عن أي نشاط قد يفسّر كمعارضة. تتفكك شبكات التضامن، ويصبح المجتمع فضاء مشتتا، منعزلا، وغارقا في الرقابة الذاتية. بهذا تصبح السلطة قادرة على التحكم في التفاعل الاجتماعي اليومي، وتحويل كل علاقة إنسانية إلى مساحة محتملة للخطر.

3. الطبقة الرمزية:
احتكار السلطة للمعنى هو أهم مرحلة في بناء جدار الخوف. فالسلطة لا تكتفي بالقمع المباشر، بل تهدف إلى أن تصبح كل رواية وطنية، وكل تصور للعدالة، وكل فكرة عن الأمن، منقولة من خلال منظورها الخاص، بحيث يصبح أي نقد أو بديل سياسي تهديدا للهوية الوطنية المفترضة.
مع مرور الوقت، يصبح الصمت قاعدة، والخوف ممارسة يومية، ويعيش المجتمع في حالة استعداد دائم للتكيف مع السلطة، مهما كانت ممارساتها ظالمة. وبهذا المعنى، كما قال أنطونيو غرامشي: «الأزمة تكمن في أنّ القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد، وفي زمن الفراغ تصعد الوحوش». "الوحوش" هنا ليست مجرد رموز، بل بنية خوف متراكمة، تحول المجتمع إلى كتلة خاضعة، وتعقد أي محاولة حقيقية للتغيير.
إن بناء جدار الخوف يجعل القمع أكثر كفاءة، إذ لا تحتاج السلطة إلى استخدام القوة المباشرة طوال الوقت، بل يكفي أن يشعر المواطن بالخطر، وأن يفرض على نفسه الرقابة الذاتية قبل أن يفرض عليه أحد آخر ذلك. كل اعتقال، كل حملة تشويه، كل محاكمة صورية تضيف طبقة جديدة على هذا الجدار، وتزيد من صعوبة أي تحرك جماعي مستقل.

النقطة الثانية: تجفيف منابع السياسة وتحويل المعارضة إلى تهديد افتراضي.

السلطة التي تبني جدار الخوف لا تتوقف عند ذلك، بل تتجه إلى تجفيف منابع السياسة نفسها، بحيث يصبح النشاط المدني أو السياسي المستقل تهديدا افتراضيا، حتى وإن لم يمارس أي فعل حقيقي.

هذه السياسة تشمل:
-إفراغ الساحة السياسية من المنافسين المحتملين، بحيث تصبح كل حركة سياسية خارج السيطرة تهديدا.
-تقييد المجتمع المدني، وضرب شبكات التضامن، والحد من كل مبادرة مستقلة.
-احتكار الرواية العامة للسلطة، بحيث يصبح أي نقاش عن البدائل السياسية أو الاجتماعية مشكوكا فيه أو مرفوضا.
-تحويل المعارضة من كيان فعلي إلى تهديد افتراضي، وتبرير القمع باعتباره حماية للوطن.
يقول بيير بورديو: «السلطة لا تسعى فقط للسيطرة، بل للاحتكار الرمزي للعقل العمومي». الاحتكار الرمزي هنا يعني السيطرة على ما يسمح بالتفكير فيه، وما يسمح بالتعبير عنه، وبالتالي تقييد أي قدرة جماعية على إعادة تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي.
هذه الاستراتيجية تضمن للسلطة استمرار السيطرة حتى بدون استخدام القمع المباشر. فبمجرد أن يشعر المواطن أن أي فعل مستقل قد يعرضه للتهديد، يصبح الخوف أداة مراقبة فعّالة، ويستبدل النشاط الجماعي بالصمت، ويصبح المجتمع تابعا طوعيا للهيمنة المفروضة.
إن تحويل المعارضة إلى تهديد افتراضي هو عملية منهجية لإضعاف المجتمع المدني وإفراغ المجال العام من أي إمكان لممارسة الحقوق، وهو ما يجعل أي مقاومة لاحقة صعبة للغاية إلا إذا تحرك المجتمع ككل، بوعي جماعي وتضامن متكامل.

النقطة الثالثة: تمهيد الطريق للدكتاتورية الاقتصادية والسياسية ، القمع كوسيلة وليست غاية.

القمع السياسي الذي نشاهده اليوم ليس غاية بحد ذاته، بل هو وسيلة لإعادة إنتاج النظام الاجتماعي والاقتصادي بما يخدم مصالح الطبقة الحاكمة والقوى المهيمنة دوليا. الدولة الاستبدادية الحديثة تستخدم كل أدواتها ، من بناء جدار الخوف إلى تجفيف منابع السياسة ، لتهيئة المجتمع لقبول سياسات اقتصادية واجتماعية قاسية، غالبا ما تعرف بالنيو-ليبرالية، تشمل:
-خصخصة المؤسسات العامة والخدمات الأساسية.
-تقليص الدعم الاجتماعي للفئات الشعبية والفقراء.
-رفع أسعار السلع الأساسية والخدمات، مع تثبيت أجور منخفضة.
-تشجيع الاستثمارات الأجنبية على حساب الإنتاج الوطني المستقل.
-تطبيع العلاقات الاقتصادية والسياسية مع القوى الإمبريالية الخارجية، مع تقليص القدرة الوطنية على القرار المستقل.
هذا التوجه يظهر بوضوح العلاقة بين القمع السياسي والسياسات الاقتصادية: فكلما أصبح المجتمع أكثر رهبة، وأكثر انطواء على نفسه، كلما زاد حيز السلطة لتنفيذ سياسات تفقّر غالبية الشعب، وتزيد من تبعيته للنظام الدولي الرأسمالي.
كما أشار سمير أمين: «الرأسمالية لا تنتصر دون دولة استبدادية تحمي مصالح رأس المال وتسيطر على المجتمع». وبالتالي، فإن كل محكمة صورية، وكل اعتقال سياسي، وكل تضليل إعلامي، ليس مجرد فعل فردي أو عابر، بل جزء من مشروع ممنهج لإعادة إنتاج الهيمنة الاقتصادية والسياسية على المدى الطويل.
وعلى المستوى التاريخي، نرى أن الأنظمة التي استثمرت في القمع لتحصين مصالحها الاقتصادية، سواء في أوروبا أو أمريكا اللاتينية أو إفريقيا، نجحت غالبا في تثبيت هيمنة الطبقة الحاكمة على المجتمع. وبالمقابل، أي حركة شعبية حاولت مقاومة ذلك كانت تواجه العنف المباشر والقمع المنهجي، ما يظهر أن العلاقة بين القمع السياسي والاستغلال الاقتصادي علاقة عضوية ومتلازمة.
في هذا السياق، يصبح القمع السياسي ليس فقط أداة لإسكات المعارضين، بل آلية لإعادة تشكيل الوعي المجتمعي نفسه، بحيث يقتنع المواطن بأن السياسات الاقتصادية القاسية هي "ضرورة وطنية" أو "حلول حتمية"، ويقبل الوضع القائم على مضض. ويقول فريدريك إنجلز: «الطبقة الحاكمة تتحكم في الدولة لتضمن استمرار مصالحها الاقتصادية، وليس لإرضاء الشعب».

النقطة الرابعة: التضليل، التشويه، والتحكم في الرأي العام ، صناعة العدو الوهمي.

إلى جانب القمع المباشر وبناء جدار الخوف، تستخدم السلطة أدوات التضليل والتشويه لإعادة صياغة الواقع الاجتماعي والسياسي، وتحويل أي فعل مستقل أو نقد إلى تهديد لوجود الدولة. هنا يصبح المواطن جزء من لعبة مزدوجة: الخوف + التشويه.

1. صناعة العدو الداخلي والخارجي:
السلطة غالبا ما تحول أي حركة معارضة، أو أي رأي حر، أو أي تحرك مدني، إلى عدو وهمي، سواء داخلي أو خارجي. هذا العدو ليس بالضرورة حقيقيا، لكنه يخدم هدفا مزدوجا:
-توجيه غضب المجتمع بعيدا عن السلطة، وجعل أي نقد داخلي يبدو "خيانة" أو "خطرا على الوطن".
-إضفاء الشرعية على القمع، باعتباره دفاعا عن الدولة أو الاستقرار الوطني.

2. السيطرة على الرواية الإعلامية:
وسائل الإعلام، خاصة الرسمية منها، تصبح منصة لإعادة إنتاج السلطة الرمزية:
-تصوير المعارضين كتهديدات خطيرة على الأمن القومي.
-تشويه صورة أي ناشط أو سياسي مستقل عبر نشر شائعات أو تفسيرات منحازة.
-فرض سيطرة كاملة على الخطاب العام بحيث يصبح المواطن عاجزا عن التفريق بين الحقيقة والتضليل.
هذا ما يسميه بورديو بـ «الاحتكار الرمزي للعقل العمومي»: السيطرة على ما يسمح بالتفكير فيه، وما يسمح بالنقاش حوله، وتحويل المعارضة من كيان فعلي إلى تهديد رمزي.

3. الزراعة النفسية للخوف والشك:
عملية التشويه لا تقتصر على الإعلام الرسمي، بل تتغلغل في المجتمع نفسه:
-الأفراد يراقبون بعضهم البعض.
-أي تعبير عن النقد أو المعارضة يتحول إلى مخاطرة اجتماعية.
-التضامن بين الفئات المستهدفة يصبح صعبا، حيث يصبح المواطنون خائفين من أن يظهروا دعمهم علنا.
بهذا المعنى، تصبح الدولة جهازا مزدوجا:
+جهاز قوة مباشر عبر المحاكم والشرطة والاعتقالات.
+جهاز سيطرة رمزي عبر الإعلام والتضليل وبناء العدو الوهمي.
كما قالت روزا لوكسمبورغ: «من لا يتحرك لا يشعر بقيوده». وبهذا المعنى، يفرض الخوف والشك قيودا على المجتمع أكثر مما تفرضه القوة المادية نفسها، ويصبح المواطن جزء من الآلية القمعية بنفسه، قبل أن تستخدمه السلطة كسلاح في مواجهة الآخرين.

4. إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية والاجتماعية:
كل هذا التشويه والتحكم في الرأي العام مرتبط ارتباطا وثيقا بالمشروع الاقتصادي والسياسي للسلطة:
-الفقراء والفئات الشعبية هم الضحايا الرئيسيون، حيث تفرض عليهم سياسات تقشف وخصخصة.
-الطبقات الوسطى تجبر على الانصياع خوفا من فقدان وضعها الاجتماعي أو الاقتصادي.
-النخبة الحاكمة والمؤسسات المالية الخارجية تضمن استمرار هيمنتها دون أي مقاومة مجتمعية فعّالة.
وهكذا، تتحقق منظومة القمع الشاملة: جدار الخوف + تجفيف منابع المعارضة + التشويه والتحكم في الرأي العام = هيمنة كلية على المجتمع، سياسية واقتصادية وثقافية، بحيث يصبح أي فعل تحرري أو نقدي صعب التنفيذ إلا من خلال وعي جماعي متقدّم وتضامن شعبي منظم.

النقطة الخامسة: الاستغلال الاقتصادي والسيطرة على الطبقات الشعبية ، القمع كأداة إعادة إنتاج الهيمنة.

السلطة الاستبدادية الحديثة لا تهدف إلى مجرد إخضاع المعارضة أو إسكات الأصوات الحرة، بل تسعى إلى تهيئة المجتمع نفسه لقبول سياسات اقتصادية واجتماعية قاسية، تزيد من التبعية وتعمّق الفقر والانعزال الطبقي. القمع السياسي ليس نهاية المطاف، بل جزء من مشروع شامل لإعادة إنتاج الهيمنة على كافة المستويات.

1. الفقر كأداة سياسية:
الفئات الشعبية تدفع الثمن الأكبر للسياسات الاقتصادية القمعية: انخفاض القدرة الشرائية، تدهور الخدمات العامة، ونقص الفرص الاقتصادية. كل ذلك يجعل الطبقات الشعبية أكثر هشاشة وأكثر استسلاما للهيمنة. كما يقول سمير أمين: «الرأسمالية لا تنتصر إلا بوجود دولة استبدادية تضمن مصالح رأس المال وتسيطر على المجتمع». هذا يعني أن القمع السياسي والاقتصادي مرتبطان عضويا: الأول يزرع الخوف، والثاني يستثمره لتحصين السياسات النيوليبرالية على حساب المواطنين.

2. إعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية:
السياسات الاقتصادية القمعية لا تؤثر فقط على المستوى الفردي، بل تعيد إنتاج التركيب الطبقي للمجتمع:
-الطبقة الشعبية تصبح عالة على سياسات الدعم الجزئي والخدمات المحدودة، وتفقد قدرتها على الفعل السياسي المستقل.
-الطبقة الوسطى تخضع للضغط المستمر خوفا من فقدان وضعها، مما يقيد قدرتها على دعم المبادرات المعارضة.
-النخبة الاقتصادية والسياسية تزداد تمكينا، مستفيدة من الفساد المؤسسي والهيمنة على الموارد الأساسية.

3. القمع الاقتصادي كآلية للسيطرة النفسية والاجتماعية:
الفقر المصطنع والتقشف ليسا مجرد أزمات اقتصادية، بل وسائل لتشكيل وعي مجتمعي يخضع للهيمنة. المواطن الذي يعيش في رعب مستمر من فقدان العمل أو الحرمان من الخدمات الأساسية يصبح أقل استعدادًا للمخاطرة بالمقاومة. كما قال فريدريك إنجلز: «الطبقة الحاكمة تتحكم في الدولة لتضمن استمرار مصالحها الاقتصادية، وليس لإرضاء الشعب».

4. الإفقار الثقافي والمعرفي:
القمع الاقتصادي يمتد إلى الفضاء الثقافي والمعرفي:
-الحد من الوصول إلى التعليم والخدمات الثقافية يزيد من صعوبة تنظيم المجتمع فكريا.
-تقييد حرية الإعلام والتعليم يجعل الشعب أقل قدرة على التمييز بين الحقيقة والتضليل، وأضعف في مواجهة المشاريع السياسية المستبدة.
-إعادة إنتاج ثقافة القبول بالواقع القائم، وتحويل الفعل المستقل إلى مخاطرة شخصية أو اجتماعية.

5. التاريخ والدروس العالمية:
التاريخ يظهر أن كل دولة حاولت فرض سياسات اقتصادية استبدادية استندت أولا إلى القمع السياسي، نجحت في تثبيت هيمنة النخبة الاقتصادية، وكانت المقاومة غالبا محدودة بسبب ضعف التضامن الاجتماعي والوعي الطبقي. أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا شهدت أمثلة على كيفية استخدام القمع الاقتصادي لتثبيت السلطة، وهو ما يجعل الفهم الطبقي للمسألة ضرورة لأي مشروع تحرري.

النقطة السادسة: التضليل الإعلامي وإعادة تشكيل الواقع ، السيطرة على الرأي العام والوعي الجماعي.

إلى جانب القمع الاقتصادي والسياسي، تستخدم السلطة أدوات التضليل الإعلامي كأحد أهم أساليب السيطرة على المجتمع. الحرب على الوعي ليست مجرد تضليل، بل مشروع طويل الأمد لإعادة تشكيل الفعل الاجتماعي والسياسي.

1. الاحتكار الإعلامي والتحكم في الخطاب العام:
السلطة تهيمن على الخطاب الرسمي، وتحول كل صوت مستقل إلى تهديد. يتم تشويه كل فكرة سياسية أو اجتماعية خارج الإطار الرسمي، بحيث يصبح أي نقد أو نشاط مدني خارج نطاق السلطة مصدرا للريبة أو العنف الرمزي.

2. صناعة العدو والتهديد الوهمي:
السلطة تستخدم الإعلام وصناعة الرواية الرسمية لتحويل المعارضة إلى عدو داخلي أو خارجي:
-كل نشاط مستقل يسوّق على أنه تهديد للأمن القومي.
-يبرر القمع الاجتماعي والسياسي باعتباره حماية للمجتمع والوطن.
هذا الأسلوب يزرع الرعب ويقطع خطوط التضامن بين المواطنين، بحيث يصبح أي فعل معارض محفوفا بالعقاب الاجتماعي والقانوني.

3. السيطرة الرمزية والهيمنة على المعنى:
كما قال بيير بورديو: «السلطة لا تسعى فقط للسيطرة، بل للاحتكار الرمزي للعقل العمومي». السيطرة الرمزية تعني:
-تحديد ما يسمح بالتفكير فيه والتحدث عنه.
-تحويل المعارضة إلى كيان رمزي أكثر منه فعلي.
-فرض قبول الظلم الاقتصادي والسياسي كأمر واقع، بحيث يصبح أي فعل تحرري صعب التنفيذ.

4. التأثير النفسي والاجتماعي للتضليل:
التضليل الإعلامي يبني حالة مستمرة من الريبة والخوف، حيث يراقب المواطن نفسه قبل أن يراقبه الآخرون، ويصبح الخضوع الذاتي جزء من الآلية القمعية. كل حملة تشويه، كل تضليل إعلامي، كل تهديد رمزي يضيف طبقة جديدة لجدار الخوف النفسي والاجتماعي، ويزيد صعوبة أي مقاومة جماعية.

5. إعادة إنتاج الهياكل الطبقية والاجتماعية:
من خلال السيطرة على الخطاب والوعي الجماعي، تتحقق الآثار التالية:
-الطبقات الشعبية تقيد في تحركها بسبب الخوف الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
-الطبقات الوسطى تصبح أكثر خضوعا لضغط السلطة خوفا على وضعها الاجتماعي والاقتصادي.
-النخبة الاقتصادية والسياسية تحافظ على مصالحها دون مقاومة مجتمعية فعّالة، ويصبح التغيير المستقل شبه مستحيل إلا بوعي جماعي متقدم وتنظيم شعبي متماسك.

6. البعد الثقافي والمعرفي:
التضليل الإعلامي لا يقتصر على السياسة فقط، بل يمتد إلى إعادة تشكيل الوعي الثقافي والفكري:
-تحويل الشعب إلى متلقي سلبي للرواية الرسمية.
-قمع النقد الثقافي والفني المستقل.
-تحجيم القدرة على الابتكار الاجتماعي والسياسي.
بهذا الشكل، يصبح التضليل الإعلامي والجدار النفسي والقمع الاقتصادي والسياسي متلازمين، ويشكلون معا منظومة متكاملة لإخضاع المجتمع بالكامل، بحيث يصبح أي فعل تحرري أو مقاوم للسلطة شبه مستحيل إلا عبر وعي جماعي منظم وتضامن شعبي شامل، وهو جوهر أي مشروع تحرري حقيقي.

النقطة السابعة: احتكار المؤسسات وإفقار الفعل المدني ، تقييد القدرة على المقاومة المنظمة.

السلطة القمعية لا تكتفي بالقمع النفسي والاقتصادي والتضليل الإعلامي، بل تسعى للاحتكار المؤسسي الكامل. السيطرة على المؤسسات ليست مجرد مركزية للإدارة، بل وسيلة لإفراغ المجتمع المدني من أي قدرة على الفعل المستقل.

1. السيطرة على المؤسسات التعليمية والثقافية:
-التعليم، الذي يفترض أن يكون أداة للوعي والتحرر، يصبح وسيلة لإعادة إنتاج الأطر الفكرية الرسمية.
-المناهج التعليمية غالبا ما تهيأ لإعادة إنتاج القيم الرسمية والولاء للسلطة، مع تهميش الفكر النقدي المستقل.
-المؤسسات الثقافية تجبر على تبني الرواية الرسمية، أو تواجه الإغلاق والحرمان من التمويل.

2. استبعاد المجتمع المدني:
الجمعيات المستقلة والمنظمات الحقوقية والفنية تواجه معوقات قانونية وإدارية متكررة، مما يجعل أي نشاط خارج نطاق السلطة شبه مستحيل.
يتم تحويل المبادرات المدنية إلى قضايا أمنية أو شبه قانونية، ما يزيد من التشتت والفشل في بناء قوى ضغط مجتمعية فعّالة.

3. الاحتكار الرمزي للمعنى:
كما أشار غرامشي: «السيطرة على المجتمع ليست بالقوة وحدها، بل من خلال الهيمنة الثقافية». التحكم بالمؤسسات التعليمية والثقافية يعني السيطرة على الأفكار، وتشكيل الوعي، وجعل المجتمع يصدق أن أي نشاط مستقل مرفوض أو خطر.

4. التأثير الطبقي:
الفئات الشعبية تصبح محرومة من الفرص للتمكين الفكري والسياسي.
الطبقة الوسطى تجبر على تبني الصمت أو المراقبة الذاتية خوفا من فقدان المكانة.
النخبة الحاكمة تضمن استمرار هيمنتها الفكرية والسياسية دون مقاومة جماعية حقيقية.

النقطة الثامنة: تقييد الحقوق المدنية والتحكم في التعبير ، صناعة الطاعة المطلقة.

السيطرة على المؤسسات والتضليل الإعلامي يتكامل مع السيطرة على الحقوق المدنية الأساسية.
الهدف ليس مجرد إسكات المعارضين، بل خلق حالة من الطاعة المطلقة، حيث يصبح أي فعل مستقل تهديدا وجوديا للمواطن نفسه.

1. التقييد القانوني والبيروقراطي:
قوانين مبهمة أو فضفاضة تستخدم لتجريم أي فعل معارض.
الإجراءات البيروقراطية تستهدف تقييد النشاط المدني بشكل غير مباشر، ما يجعل الشعب محاصرا بين القانون والتهديد الاجتماعي.

2. الرقابة على الفضاء العام والرقمي:
-مراقبة منصات التواصل الاجتماعي، وملاحقة أي نشاط رقمي مستقل.
-خلق بيئة رقمية خاضعة للرقابة، بحيث يراقب المواطن نفسه قبل أن تراقبه السلطة.

3. التكييف النفسي والاجتماعي:
-المواطن يعيش حالة دائمة من الرعب والريبة.
-التضامن الاجتماعي يضعف، والعلاقات الإنسانية تصبح مشبوهة ومريبة في ظل المراقبة المستمرة.
-القمع يصبح مدمجا في وعي الناس أنفسهم، كما قالت روزا لوكسمبورغ: «من لا يتحرك لا يشعر بقيوده».

4. إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية:
الطبقات الشعبية تخضع اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، وتفقد القدرة على مقاومة الاستبداد.
الطبقة الوسطى تقيد حركتها خوفا على وضعها الاجتماعي والاقتصادي.
النخبة الحاكمة تضمن استمرار هيمنتها بدون مواجهة مجتمعية منظمة.

النقطة التاسعة: تدمير أفق الفعل السياسي المستقل ، تفكيك المعارضة وإفراغها من قدرتها على المبادرة.

بجانب التضليل والقمع والاحتكار المؤسسي، تسعى السلطة إلى تدمير أي أفق حقيقي للفعل السياسي المستقل.

1. تفكيك الأحزاب المستقلة والمنظمات المعارضة:
-استخدام المحاكم الصورية، والاتهامات الملفقة، والملاحقات القانونية لتفكيك التنظيمات السياسية.
-تحويل أي مبادرة إلى أزمة قانونية أو أخلاقية، ما يضعف التنظيمات المستقلة ويعيق قدرتها على التعبئة.

2. إفراغ المجتمع المدني من قوة الضغط:
-الجمعيات والمنظمات الحقوقية والفنية تصبح عاجزة عن التأثير، إذ تخضع للترهيب القانوني والإداري.
-التضليل الإعلامي يجعل أي تحرك شعبي محدودا، حيث يتم تصويره كتهديد للأمن القومي.

3. السيطرة على وعي المواطنين:
-تحويل كل فعل مستقل إلى تهديد وهمي يجعل المواطن يبتعد عن المشاركة السياسية.
-بناء وعي اجتماعي قائم على الطاعة والخوف، بحيث يصبح أي مشروع سياسي مستقل صعب التنفيذ.

النقطة العاشرة: الخطر المستقبلي ، ما بعد الاستبداد، وتحدي الاستمرارية الثورية.

كل هذه الأدوات ، جدار الخوف، القمع السياسي والاقتصادي، التضليل الإعلامي، احتكار المؤسسات، تقييد الحقوق، تفكيك المعارضة ، ليست مجرد إجراءات مؤقتة، بل مشروع طويل الأمد لإعادة إنتاج السلطة على المدى البعيد.

1. الاستعداد لحكم ديكتاتوري مطلق:
كل هذه الآليات تمهد المجتمع لقبول سلطة مستبدة كاملة، قد تظهر بعد انتهاء الصلاحيات الحالية للسلطة القائمة.
التغيير المستقبلي سيكون صعبا للغاية إذا لم يبنى وعي جماعي متقدم وتضامن شعبي منظم.

2. السياسات الاقتصادية والاجتماعية المستقبلية:
-استمرار الخصخصة والتقشف والفقر المنهجي.
-زيادة التبعية الاقتصادية للجهات الأجنبية والإمبريالية.
-تراجع أي قدرة وطنية على اتخاذ قرارات مستقلة.

3. إعادة إنتاج الخوف كأداة للهيمنة:
المواطن سيظل تحت ضغط الخوف المستمر، ما يعيق أي مشروع تحرري طويل الأمد.
الغاية هي تحويل المجتمع إلى كيان خاضع ذاتيًا قبل أي تدخل مباشر من السلطة.

4. الشرط الأساسي للمقاومة:
أي مقاومة مستقبلية تتطلب وعيا جماعيا متقدما، تنظيما شعبيا شاملا، ومشروعا تحرريا يدمج الفعل المدني، النقد الفكري، التضامن الاقتصادي، والسيطرة على الفضاء الرمزي.

الخاتمة: المقاومة كواجب وطني وشرط تحرري لاستمرارية المجتمع.

حين ننظر إلى الواقع الراهن، نجد أن كل أداة من أدوات القمع ، سواء المباشر أو الرمزي، الاقتصادي أو النفسي، الإعلامي أو المؤسسي ، تعمل بشكل مترابط لتفكيك المجتمع وإعادة إنتاج هيمنة السلطة على كافة المستويات. هذه الهيمنة ليست حالة عابرة، بل مشروع طويل الأمد لإعادة تشكيل المجتمع وفق مصالح النخبة الحاكمة والجهات المهيمنة دوليا، كما أن الهدف النهائي هو تحويل كل فعل مستقل، كل نشاط سياسي، كل صوت نقدي، إلى مخاطرة شخصية واجتماعية، تجعل المجتمع عاجزا عن المقاومة، ويخلق حالة من الانصياع النفسي والاجتماعي الذاتي.
في هذا السياق، يصبح الوعي الجماعي شرطا لا غنى عنه لأي مشروع تحرري: وعي يدمج الفعل السياسي المستقل، النقد الفكري الحر، التضامن الاجتماعي، والمقاومة الاقتصادية والسياسية والثقافية. كما قالت روزا لوكسمبورغ: «الحرية لا تعني مجرد الحق في القول، بل الحق في أن يُسمع صوتك ويؤخذ بعين الاعتبار». هذه الحرية هي قلب أي مشروع تحرري، وأي محاولة لتقييدها هي محاولة لإلغاء الفعل السياسي ذاته، وتحويل المجتمع إلى كيان خاضع بالكامل.
لقد برهنت التجارب التاريخية أن أي مجتمع يواجه مشروعا قمعيا متكاملا، سواء عبر القمع السياسي المباشر، التضليل الإعلامي، احتكار المؤسسات، أو السياسات الاقتصادية القاسية، يصبح معرضا لفقدان قدرته على تنظيم نفسه والمطالبة بحقوقه. أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا كلها شهدت أمثلة على كيفية استخدام الفقر والقمع والتضليل لإبقاء المجتمع في حالة انصياع مستمرة. وكل محاولة للمقاومة دون تنظيم جماعي متقدم ووعي جماعي متكامل كانت محكوما عليها بالفشل.
لكن التاريخ أيضا يعلمنا أن المقاومة ممكنة، وأن الظلم والهيمنة ليسا أبديين. كل مشروع استبدادي يتطلب معارضة واعية ومثابرة وشجاعة، واستدعاء كل أشكال التضامن بين الطبقات والفئات الاجتماعية. كما قال ماركس: «المجتمع الذي لا يملك القدرة على تحريك نفسه نحو تغيير واقعه محكوم عليه بالبقاء تحت الهيمنة». ومن هنا، تصبح المقاومة ليس مجرد خيار سياسي، بل واجبا وطنيا وأخلاقيا، ومسؤولية جماعية تفرضها ضرورة الحفاظ على الحياة الحرة والمجتمع المتماسك.
إن جدار الخوف الذي بناته السلطة ليس مجرد حاجز خارجي، بل أصبح جزء من وعي المجتمع نفسه. وكل خطوة نحو مقاومة هذا الجدار تتطلب شجاعة مزدوجة: مواجهة القمع المباشر، ومواجهة الذات، ومواجهة الشك والخوف الذي زرعته السلطة في النفوس. هذه الشجاعة تبدأ بالفرد، لكنها لا تكتمل إلا بالعمل الجماعي المنظم، بالنقابات والهيئات المدنية المستقلة، بالحركات الشبابية التقدمية، وبتنظيم الفعل السياسي والثقافي والمجتمعي في إطار مشروع تحرري شامل.
الواقع الاقتصادي المتأزم، والتبعية الاقتصادية للدول الكبرى، وسياسات الخصخصة والتقشف، ليست مجرد تحديات معيشية، بل هي أدوات لإعادة إنتاج الهيمنة طويلة الأمد. والمقاومة الاقتصادية جزء أساسي من النضال السياسي والثقافي؛ فالفقر والتهميش يجعل الفعل المستقل شبه مستحيل، لكن التضامن والتخطيط والتحالفات بين الفئات الشعبية يخلق مناعة مجتمعية ضد الاستغلال والهيمنة.
وفي نهاية المطاف، يجب أن نعي أن الاستبداد اليوم لا يختلف عن الاستبداد غدا إلا بقدرة المجتمع على تنظيم نفسه ومواجهة كل أشكال القمع والتضليل. ما لم يكن هناك وعي جماعي متقدم، وتضامن شعبي متين، وتنظيم سياسي مستمر، فإن أي مشروع تحرري سيواجه صعوبات هائلة، وسيظل المجتمع تحت وطأة الخوف والهيمنة.
الخلاصة: المقاومة هي فعل يومي، ووعي دائم، وتنظيم مستمر، ومشروع تحرري شامل يتطلب العمل على كل المستويات:
-السياسي: الحفاظ على الأحزاب والحركات المستقلة والنشاط المدني.
-الاقتصادي: التضامن الاقتصادي، مقاومة السياسات القمعية، حماية الموارد المحلية.
-الثقافي والفكري: حماية حرية التعبير، التعليم المستقل، الثقافة النقدية.
-الاجتماعي: بناء التضامن بين الفئات الشعبية والوسطى، وتعزيز القيم المجتمعية المستقلة.
-النفسي والمعنوي: مقاومة الخوف والريبة، بناء الشجاعة الفردية والجماعية.
كما قالت روزا لوكسمبورغ: «الحرية تتحقق فقط عندما يكون المجتمع كله قادرا على اتخاذ قراراته بحرية ووعي». ومن هذا المنطلق، يصبح كل فعل مقاوم، مهما صغر، خطوة نحو تحرير المجتمع والحفاظ على مستقبل حر ومساواة حقيقية.
إن هذا المسار الطويل، الصعب، والمليء بالتحديات، هو الطريق الوحيد الذي يضمن أن المجتمع لن يخضع بالكامل للهيمنة، وأن أي سلطة مستبدة ستواجه حدودها، وأن المستقبل، مهما بدا مظلما اليوم، يمكن أن يكون مفتوحا للحرية، للعدالة، والمقاومة الشعبية المنظمة.



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في أحزاب اليسار الكلاسيكية، واليسار الثوري الحديث، وال ...
- أمريكا اللاتينية: المكسيك وكولومبيا وفنزويلا والبرازيل بين ا ...
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ...
- بعد غزة… الضفة الغربية على صفيح النار: التهجير القسري والاست ...
- الدّولة البوليسية المعاصرة
- من مانهاتن إلى القصبة: حين تتكلم الأزمات بلغتين
- السّرياليّة والسّرياليّة الثوريّة. من الحلم إلى التمرّد: في ...
- النضال البيئي بين العفوية والتنظّم في تونس: الواقع والآفاق.
- بين تاريخ الوصاية وإغراءات «الإعمار»: ما يقترَح اليوم ليس مج ...
- مشروع قانون المالية لسنة 2026: بين الوهم الاجتماعي وتكريس ال ...
- الديني و الماركسي في خندق المقاومة وحدود الالتقاء: من طهران ...
- اتفاق شرم الشيخ: عودة الانتداب بثوب أمريكي – قراءة في مشروع ...
- غزة والمقاومة: غنيمة التّاريخ وبوصلة الأحرار
- من -الشعب يريد- إلى -النهضة تقرر- إلى -الرئيس يقرر
- الأفقية والقاعدية: تفكيك مفاهيمي وتحليل تطبيقي.
- البناء القاعدي والتسيير الذاتي: بين النظرية، التجارب، والتحو ...
- السلاح ، المخدرات و الادوية ، اسلحة للثراء و اخضاع الشعوب.
- تحليل مقتضب للنرجسية الفردية و السّلطة والشعبوية.
- الاعتراف بالدولة الفلسطينية: خطوة ناقصة في معركة طويلة ضد ال ...
- الأدب العربي والترجمة: ساحة المقاومة والوعي.


المزيد.....




- شاهد.. لماذا زار البابا لاوُن كنيسة القديس نيوفيتوس الغارقة ...
- -اشتباكات في حضرموت بين حلف القبائل والدعم الأمني-.. ما حقيق ...
- قيود ترامب على الهجرة.. فما هي الدول العربية المتأثرة بالقرا ...
- حريق هونغ كونغ: ارتفاع عدد الوفيات إلى 128 شخصاً، والبحث لا ...
- بينها دول عربية .. واشنطن تهدد حاملي البطاقة الخضراء بالطرد ...
- عمال مصر والصين.. شراكة نقابية جديدة تُدشّن خمس سنوات من الت ...
- بلجيكا تتمسك برفض استخدام الأصول الروسية لتمويل أوكرانيا خشي ...
- صحافة عالمية: الحملة العسكرية الإسرائيلية بالضفة انتقام جماع ...
- مظاهرات حاشدة في سوريا احتفالا بالذكرى الأولى لـ-ردع العدوان ...
- تحقيق لرويترز يكشف فظائع جديدة للدعم السريع بالفاشر


المزيد.....

- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - الحرية والمواطنة في مواجهة آلة القمع وبناء جدار الخوف... قراءة في طبيعة السلطة وأدوات السيطرة