|
|
بعد غزة… الضفة الغربية على صفيح النار: التهجير القسري والاستيلاء على الأرض بوصفهما الوجه الجديد للمحرقة الصامتة.
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8519 - 2025 / 11 / 7 - 21:29
المحور:
القضية الفلسطينية
المقدمة — الضفة الغربية: الجرح المفتوح الذي يفضح العالم
في زمن تزدحم فيه الشاشات بخطابات “الإنسانية”، وتتسابق الدول في تسويقِ شعارات “السلام” و”القانون الدولي”، تبرز الضفة الغربية اليوم كمرآة كونية للزيف الأخلاقي، وكجرح مفتوح على الجسد العربي والضمير الإنساني. فها هي الأرض التي كانت مهد الحكاية الأولى، تعاد كتابتها بالحديد والنار، وها هو التاريخ يغتصب مرة أخرى أمام صمت أمميّ مدوّ، وتواطؤ عربيّ رسميّ يختبئ وراء البيانات المعلّبة واللغة الخشبية التي فقدت روحها. ما يحدث اليوم في الضفة الغربية ليس فصلا جديدا من الصراع، بل هو إعادة إنتاج استعمارية لجوهر المشروع الصهيوني الذي لم يتوقف يوما منذ “النكبة الكبرى” عام 1948. الكيان الصهيوني لم يكتف بما جرى في غزة من إبادة جماعية موثّقة بالصوت والصورة، بل وسّعَ دائرة القتل والاقتلاع إلى الضفة الغربية، في محاولة لترسيخ “النكبة الثانية” ودفن ما تبقّى من الوجود الفلسطيني الحر. أكثر من 650 فلسطينيا استشهدوا في الضفة منذ بداية العام 2025، وفقا لتقارير “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية”، وأكثر من 1200 منزل هدم بالكامل، فيما يقدّر عدد المهجّرين قسرا بما يفوق 85 ألف شخص خلال الأشهر التسعة الأخيرة وحدها ، أرقام لا تعبّر عن الإحصاء بقدر ما تعبّر عن مشروع شامل لتفريغ الأرض من أصحابها الأصليين. لقد تحوّلت الضفة إلى مسرح مفتوح لجريمة استعمارية تتقن أدوات الحداثة: الجرافة تسير تحت حماية الطائرات المسيّرة، والمستوطنون يتحركون في قوافل مدنية مسلّحة تحرسها قوات الاحتلال، وتدعم بموازنات رسمية تقدّر سنويا بأكثر من 3.5 مليار دولار تضخّ في البنية التحتية للمستوطنات، ضمن خطة استيطانية تمتد حتى عام 2030 هدفها زيادة عدد المستوطنين من 800 ألف إلى مليون ونصف داخل الضفة وحدها. هكذا يصبح الاستيطان أداة سياسية واقتصادية في آن واحد؛ مشروع نهب مغلف بخطاب دينيّ وقانونيّ زائف، تبرّره واشنطن وتغذّيه أوروبا بالصمت والمال والتقنيات الأمنية. فالكيان الصهيوني لم يعد يكتفي بجغرافيا الاحتلال، بل يسعى إلى إعادة هندسة المكان والديموغرافيا، عبر تحويل المدن الفلسطينية إلى “جزرٍ معزولة” داخل بحر من المستوطنات، ومنع أي تواصلٍ عمرانيّ أو اجتماعيّ بينها، لتفكيك النسيج الوطني وتحويل الفلسطيني إلى مجرد “مقيم مشروط” في وطنه. وفي قلب هذه الجريمة المركّبة، يقف الفلسطيني اليوم أمام خيار واحد لا غير: إما البقاء مقاوما أو الرحيل إلى العدم. لكن المقاومة، كما يقول المفكر الثائر فرانز فانون: “حين تسلب من الإنسان أرضه واسمه وتاريخه، تصبح المقاومة ليست حقا بل ضرورة وجودية.” هذه الضرورة هي ما يجعل من الضفة الغربية اليوم رمزا كونيا للمقاومة ضد المنظومة الرأسمالية الاستعمارية التي لم تتغيّر، بل استبدلت خطابها العسكري المباشر بخطاب “الأمن” و”مكافحة الإرهاب” لتبرير القتل والاقتلاع. فالمستوطن اليوم ليس جنديا بالضرورة، بل هو مستثمر، ورجل أعمال، وموظف في شركة تكنولوجيا مراقبة، وعضو في منظومة رأسمالية تبيع الحرب وتشتري الأرض. إنّ ما يجري في الضفة ليس مجرد احتلال بالمعنى العسكري، بل احتلال معرفيّ واقتصاديّ وثقافيّ؛ فالكيان الصهيوني يسعى لسرقة التاريخ، كما يسرق الأرض، عبر تحويل القرى الفلسطينية إلى أطلال سياحية تعرض للعالم كـ “مواقع تراثية عبرية”، وتهويد أسماء الجبال والوديان والأنهار، في عملية “محو” شاملة تمارس يوميا في المناهج والإعلام والخريطة. ومن هنا، يصبح الحديث عن “التهجير القسري” مجرّد عنوان ناقص لا يفي الحقيقة حقها؛ لأن ما يحدث في الضفة هو مشروع نفيٍ كامل للشعب الفلسطيني من الزمان والمكان، مشروع تسنده الإمبريالية الغربية التي ترى في هذا الكيان حارسا لمصالحها في قلب الشرق، ومختبرا لتقنيات السيطرة والإخضاع الحديثة. إنّ الكيان الصهيوني هو الوجه المسلّح للعولمة الرأسمالية، كما كتب سمير أمين: “الاستعمار لم يمت، بل غيّر أدواته، وصار رأس المال سلاحا يغزو قبل الجيوش.” وفي مقابل هذا المشروع، تولد في الضفة مقاومة جديدة بصيغ متعددة: مقاومة مسلحة في المخيمات، ومقاومة مدنية في القرى، ومقاومة معرفية في الجامعات، ومقاومة بيئية في الحقول التي تعاد زراعتها رغم الخراب. هذه المقاومة ليست فقط فعلا وطنيا، بل هي موقف وجوديّ ضد محو الإنسان، تعلن أنّ الفلسطيني لا يهزم لأنه يرفض أن ينسى. من هنا ينطلق هذا المقال: قراءة يسارية ثورية في راهن الضفة الغربية، بوصفها ساحة للصراع الطبقي والسياسي ضد الرأسمالية الاستعمارية. فالمسألة ليست فقط مسألة احتلال خارجي، بل تواطؤ داخلي أيضا، بين سلطة فلسطينية تحولت إلى “شرطيّ مقاولٍ” يعمل تحت سقف أوسلو، وبين نظام عالميّ يجعل من فلسطين مختبرا لتقنيات الردع والسيطرة. الضفة الغربية اليوم ليست فقط مساحة جغرافية تجتاح باستمرار، بل بنية استعمارية تدار بعقل نيوليبرالي يرى في الأرض سلعة وفي الإنسان فائضا. لكن في قلب هذا الخراب يولد وعي ثوريّ جديد، يعيد تعريف المقاومة لا كفعل رمزيّ، بل كـ مشروع تحرريّ شامل ضد الاستعمار والرأسمالية معا. “من لا يثور ضد الظلم، فقد اختار موقع الجلاد ولو بصمته.” إرنستو تشي غيفارا فلتكن هذه المقدمة نداء إلى الضمير الأممي، وإلى كلّ من يؤمن بأنّ العدالة لا تتجزّأ، وأنّ الأرض لا تقاس بعدد الكيلومترات بل بعمق الجرح الذي تخلّفه في الذاكرة. لأنّ الضفة الغربية ليست مجرد جغرافيا، بل وصية التاريخ الأخيرة: إمّا أن تبقى حيّة بالمقاومة، أو يمحى العالم كلّه معها.
النقطة الاولى : من الإبادة المكثفة إلى الطرد البطيء: قراءة طبقية لآليات التصعيد.
1.1 شاهد رقميّ: أرقام تنطق بمنهجية الطرد.
الوقائع الميدانية الأخيرة تظهر أن ما يحدث في الضفة ليس فلتانا أمنيا؛ بل نمط منهجي من العنف والتهجير. سجّلت جهات أممية ومراكز رصد ارتفاعا كبيرا في حوادث العنف الاستيطاني والعمليات العسكرية والهدم، بحيث صارت حالات الطرد والتهجير مجموعة من نتائج سياسات متكاملة. مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حذّر مرارا من تصاعد عمليات النقل القسري ومصادرة الأراضي في الضفة، واعتبر أن هناك «توجيهات تسهم في تقويض الوجود الفلسطيني وإحداث تحويلات ديمغرافية جوهرية». في مؤشرات أكثر تحديدا: تقارير أممية وأخرى ميدانية تشير إلى مستويات عالية من حوادث العنف؛ منظمة حقوقية دولية وثّقت أكثر من 1,400 حادثة عنف استيطاني في فترات معينة بعد أكتوبر 2023، في حين سجّلت منظمات الإغاثة واليونيسف تقارير تهجير جماعي خلال عمليات عسكرية محددة وصلت في ذروتها إلى نزوح عشرات الآلاف (تقديرات أظهرت نزوحا محليا يفوق 30,000 شخصا خلال عمليات عسكرية شمال الضفة في أوائل 2025). هذه الأرقام تبيّن أن الطرد ليس عرضيا بل مرتبط بحملات ميدانية واسعة وبتصعيد أمني مؤسّس.
1.2 آليات التصعيد ، كيف يصنع الطرد عمليا؟.
الطرد يتكوّن من تراكم منظّم لأدوات أربعة تعمل متداخلة: -البيروقراطية القانونية (الشرعنة الإدارية): أداة هادئة لكنّها فتاكة. تستعمل قوانين التخطيط، وأنظمة الترخيص الانتقائية، وقرارات تصنيف الأراضي (مناطق تدريب، أملاك دولة، محميات) لتجريد الفلسطيني من حقه في البناء أو إصلاح المسكن، ثم تستخدم أوامر الهدم لتبرير الطرد. هذا الأسلوب يخلق «قانونية» تبدو محايدة لكنها في الواقع عملية طرد ممنهجة. -العنف الاستيطاني المنظّم: المستوطنون لا يعملون مستقلين دائما؛ حوادث العنف ضد الفلسطينيين ، إحراق محاصيل، قطع أشجار زيتون، هجمات على الرعاة ، رصدت بكثافة وارتبطت بغياب رادع فعّال من قبل القوات المكلفة بحماية المدنيين، وهو ما يعطى العنف دلالة منهجية كأداة ضغط. -الحملات العسكرية المركّزة: عمليات اقتحام ليلية، عمليات محكمة تستهدف مخيّمات ومدن محددة (مثل حملات في جنين وطولكرم ونابلس) تفضي إلى هدم منازل، اعتقالات واسعة، وخوف جماعي يدفع لأجل مؤقّت أحيانا ثم دائم في حالات عجز إعادة الإعمار. تقارير ميدانية تحدثت عن مئات المنازل المدمّرة ونزوح آلاف السكان في موجات متتالية. -التحويل الاقتصادي للأرض: تحويل أوتبوتات إلى مستوطنات معترف بها، إنشاء طرق وخدمات وحوافز استثمارية للمستوطنين والمقاولين، وتحويل مصادر الماء والموارد الطبيعية لخدمة المستوطنات ، جميعها تجعل من كلّ أرض مسْتخدمة هدفا للضمّ والتحويل إلى أصل رأسمالي. هذه الأدوات لا تعمل منفردة، بل في تراكب يمكّن من خلق «انفصال» تدريجي: فقدان المسكن → فقدان مصدر الرزق → نزوح داخلي أو هجرة. بذلك يتحقق الطرد ببطء لكنه حتمي إذا لم تقطع شوكاته استراتيجيا.
1.3 قراءة طبقية: الضحية والمستفيد.
الطرد لا يصيب الجميع بالمثل. الفئات الأضعف اقتصاديا ، الفلاحون الصغار، الرعاة، عائلات الريف، والبعيدون عن شبكات النفوذ الحزبي أو المالكي ، هم أول من يطرد. في المقابل، تفوز مجموعات رأس المال المهيمنة: شركات البناء، مقاولو الطرق، مورّدو الخدمات، مشغّلو المناطق الصناعية والبلديات التوسعية. هذا التناقض في من يكسب ومن يخسر يوثّق أن العنف ليس فحسب قمعا وطنيا بل إعادة توزيع طبقي لصالح تراكم رأسمالي جديد. فحين يصبح القانون مجرد آلية لترسيخ الملكية الجديدة، يتحوّل الطرد إلى عملية إنتاج للرأسمال.
النقطة الثّانية : تهجير الذاكرة: تشريعات الشرعنة والتحويل الديموغرافي.
2.1 شرعنة النهب: من أوتبوتات إلى مستوطنات معترف بها.
الكيان الصهيوني أقدم في ماي 2025 على خطوة نوعية: الإعلان عن إضفاء الشرعية على 22 مستوطنة جديدة (تحويل أوتبوتات غير مرخّصة إلى مشاريع حكومية)، قرار اعتبره مراقبون نقطة تحويل سياسية لأنّه يحوّل تواجدا غير رسمي إلى بنية قابلة للحماية القانونية والمالية. الخطوة لم تكن عارضة؛ بل جزء من تسريع سياسة الضمّ على الأرض عبر أدوات تشريع داخلية. هذا النوع من القرار هو ما يجعل الحديث عن «حل سياسي» قائما على حدود واضحة أمرا وهميا: ففي الوقت الذي تتوسّع فيه بنايات المستوطنات وتشبك شبكات طرق ومياه، تصير العودة للحدود المتفق عليها مسألة سياسية مكلفة للغاية.
2.2 الأرقام الديموغرافية: ثخانة الوجود الاستيطاني.
بحسب تقارير أممية ومراكز رصد إقليمية، بلغ عدد المستوطنين في الضفة والقدس الشرقية حوالي 737,000 نسمة بنهاية 2024، موزعين على مئات مستوطنات وبؤر، وهو رقم يعطي المشروع الاستيطاني ثخانة ديموغرافية وسياسية تجعل معه مواجهة تلك البنيات أصعب بكثير. هذا التراكم السكاني يعمل كدرع اجتماعي واقتصادي لمزيد من السياسات الإقصائية.
2.3 أساليب قانونية-إدارية لصياغة التحويل.
قواعد التخطيط والملكية توظّف بذكاء لتقليص مساحة البناء الفلسطيني: إعلانات عن أراض للدولة، تصنيف مناطق تدريب، اقتطاع مساحات زراعية، وزيادة القيود على الحصول على تراخيص. هذه الأدوات تبدو تقنية لكنّها تنتج واقعا ملموسا: فقدان الحق في البناء → انخفاض الكثافة السكانية الفلسطينية في مناطق استراتيجية → سهولة دمج تلك المساحات في مشروعات استيطانية لاحقة. فالاستيلاء على الأرض يبدأ دائما بكيفية كتابة القوانين.
النقطة الثّالثة : الاستيطان كآلة استعمارية متكاملة: بنى تحتية، رأس مال، وذراع أمنية.
3.1 بنى تحتية تكرّس الفصل: الطرق، المياه، والكهرباء.
الاستيطان الحديث لا يكتفي ببناء مساكن؛ هو يربط المستوطنات بشبكات طرق مستقلة، خدمات مياه وكهرباء مخصّصة، ومناطق صناعية محصنة. الموازنات المعلن عنها وبرامج البنية التحتية تكرّس تفوق المستوطِنة على التجمع الفلسطيني القريب، وتضع حواجز زمنية ومادية تحول إعادة وصل المناطق إلى عملية باهظة التكلفة سياسيا واقتصاديا. تقارير رقابية أخيرة أشارت إلى تحويل مبالغ كبيرة لتطوير بنية تحتية لصالح ربط المستوطنات، في حين تحرم التجمعات الفلسطينية من شبكات خدمات أساسية.
3.2 رأس المال يراكم من الخراب: شركات، بنوك، وعقود حكومية.
منذ سنوات، أصبح الاستيطان صناعة تجلب الربح: شركات مواد بناء، مطوّرو عقارات، شحّانات، شركات أمن خاص، ومورّدو تكنولوجيا مراقبة يجدون أسواقا جديدة في الضفة. ربط أسماء الشركات بسلسلة المشاريع يظهر أن هناك فئات اقتصادية داخل وخارج الكيان الصهيوني تستثمر في استمرار الواقع القائم، ولذلك تحميه سياسات مالية وقانونية. كسر هذا الجهاز الاقتصادي هو مدخل لازم لتقويض المشروع.
3.3 ذراع أمني مزدوج: قوات الدولة والمستوطنون المسلّحون.
الاستيطان يدعم نفسه بأمن مزدوج: قوات رسميّة مسؤولة عن «الأمن» ومجموعات مستوطنين تعمل كقوة ضغط ميدانية. تقارير معمّقة تشير إلى أن غياب محاسبة فعّالة على اعتداءات المستوطنين يمنح هذه العصابات الشرعية العملية، ويحوّل العنف إلى آلية طرد غير رسمية. أما التسليح والتدريب والشبكات اللوجستية المتصلة بالمستوطنين فتعطيهم القدرة على ترويع القرى وممارسة سياسة إخلاء غير رسمية لكنّها فعّالة.
3.4 الاستنتاج الاستراتيجي: استهداف البنى الاقتصادية والمحاسبة الدولية.
إذا كان الاستيطان آلة اقتصادية—أمنية—قانونية، فإنّ النصر لا يأتي فقط بالتصدي الميداني، بل عبر ضرب شرايين التمويل والقانون التي تغذّيه. المقاطعة الاقتصادية، فضح سلاسل التوريد، مقاضاة الشركات والممولين، وضغط سياسي دولي فعال ترفع كلفة استمرار هذا النمط إلى ما يفوق قيمة الربح، فتتغير معادلات المصلحة لدى الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين. هذا ما يجعل المقاومة اليوم مطلبا متعدد الأبعاد: شعبيا، قانونيا، ودبلوماسيا. فلا يكفي أن نعيد بناء الجدران بعد الهدم؛ يجب أن نكسر مصنع الربح الذي أقام تلك الجدران.
النقطة الرابعة: الضفة كآخر مسرح للمشروع الصهيوني ، من الغيتو إلى التهام الأرض.
إنّ الضفة الغربية اليوم ليست مجرد جغرافيا محتلة، بل هي آخر مسرح حيّ لتنفيذ المشروع الاستعماري الصهيوني في شكله الأكثر وحشية. فمنذ أن تحولت غزة إلى رماد بفعل آلة الإبادة، اتجهت أنظار المحتل نحو الضفة، لا بوصفها "أرضا للنزاع" بل كـ"غنيمة سياسية وجغرافية". هذا التحول هو في جوهره استكمال للمنظور الصهيوني القديم الذي يقوم على منطق الإلغاء الكامل للشعب الفلسطيني من التاريخ والجغرافيا. في الأسابيع الأخيرة من سنة 2025، تضاعفت وتيرة الهجمات الاستيطانية في الضفة بنسبة 68% وفق تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، وسجّلت أكثر من 1200 اعتداء استيطاني منذ مطلع العام. وهذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي مؤشر على ما يمكن تسميته بـ"تسريع دورة التهويد"، حيث تحرق القرى ويطرد الفلاحون ويقتلع الزيتون الذي عمر ألف عام. الكيان الصهيوني، مدعوما بالصمت الغربي وتواطؤ الأنظمة الرجعية العربية، ينفذ في الضفة نموذجا مصغّرا لغزة، لكن بأدوات أكثر "بيروقراطية": مصادرات، أوامر عسكرية، وحواجز تشلّ الحياة اليومية. كما قال المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد: "الاحتلال لا يحتاج إلى قنابل ليخنقك، يكفيه أن يسدّ طريقك إلى المدرسة أو الحقل." في نابلس، جنين، وطولكرم، تتحول الحواجز إلى جدران موت. أكثر من 850 حاجزا عسكريا تم تثبيتها حتى منتصف 2025، تعزل المدن عن قراها، والإنسان عن أرضه. أما الاستيطان في الضفة، فقد بلغ عدد المستوطنين أكثر من 760 ألفا يعيشون في أكثر من 300 مستوطنة وبؤرة، تلتهم ما يزيد عن 40% من مساحة الضفة. إنّها عملية استبدال ديمغرافي بطيئة، هدفها جعل الوجود الفلسطيني "استثناء إداريا" في وطنه. الضفة اليوم غيتو كبير، ليس له أسوار من حديد فقط، بل أسوار من حرمان وتقطيع للجسد الفلسطيني الواحد. وكما كتب غسان كنفاني في "عائد إلى حيفا": "الاحتلال ليس أن يدخلوا بيتك... بل أن يسكنوا في ذاكرتك." إنهم اليوم يسكنون ذاكرة الأرض نفسها، يعيدون هندسة المكان ليتحول الفلسطيني إلى زائر في وطنه، والعالم يكتفي بالمشاهدة من خلف الزجاج الدبلوماسي.
النقطة الخامسة: التطهير الصامت ، التهجير القسري كأداة للاستعمار المعاصر.
لم يعد التهجير في الضفة حدثا استثنائيا، بل صار سياسة رسمية ممنهجة. منذ مطلع 2025، وثّقت منظمات حقوقية دولية مثل “B’Tselem” و“Human Rights Watch” تهجير أكثر من 22 ألف فلسطيني من مناطق الأغوار والجنوب تحت ذرائع “عسكرية” أو “أمنية”. هذه الأرقام تخفي وراءها مأساة جماعية: عائلات تطرد من بيوتها في الليل، أطفال ينامون في العراء، قرى تسوّى بالأرض لتقام مكانها بؤر للمستوطنين المسلحين. الكيان الصهيوني يمارس ما يمكن تسميته بـ"الإبادة الباردة": لا يعدم الفلسطيني بالرصاص فقط، بل يقتله بالبطء الإداري ، يمنعه من الماء، من الكهرباء، من التنقل، من البناء، من الحياة. وفي حين أن العدوان على غزة شكّل مجازر نارية، فإن الضفة تواجه المجازر الصامتة، التي تنفذها الجرافات بدل الطائرات. كما قال فرانز فانون في “معذبو الأرض”: "الاستعمار لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يريد أن يسرق الإنسان من نفسه." وهذا ما يحدث اليوم في الضفة؛ فالهدف ليس فقط إخضاع الجسد الفلسطيني، بل تدمير روحه، جعله يتأقلم مع القهر ويعتبره قدرا. وفي ظلّ هذه الجرائم، تتحول القرى مثل خربة طانا ومسافر يطا إلى رموز للمقاومة اليومية، تلك المقاومة التي تمارس بالماء والزرع والبقاء، لا بالسلاح فقط. لكن حتى هذه المقاومة البسيطة تجرّم وتحاصر. ففي تقرير أممي صدر في أكتوبر 2025، وصف الوضع في الضفة بـ"حالة ما قبل التطهير الكامل"، إذ تتوفر كل المؤشرات على نية الاحتلال تفريغ المنطقة “ج” نهائيا من سكانها. هكذا يتحول التهجير إلى آلية مركزية ضمن بنية المشروع الصهيوني: اقتلاع الإنسان الفلسطيني من المكان، ثم من التاريخ، ثم من الذاكرة. والنتيجة هي أن النكبة في 1948، هي عملية مستمرة حتى الآن ، "نكبة متجددة" تتغير أدواتها، لكنها تحتفظ بروحها الفاشية نفسها.
النقطة السادسة: المقاومة كجواب على الفناء ، الضفة بين الثورة والبقاء.
أمام هذا الجحيم اليومي، لا يمكن قراءة المشهد في الضفة بمعزل عن تصاعد روح المقاومة. فكل بيت يهدم يولد منه بيتان في الذاكرة، وكل شهيد يتحول إلى فكرة تسري في العروق. إنّ الكيان الصهيوني اليوم، وهو يكرر في الضفة ما فعله في غزة، يظنّ أنه يزرع الخوف، لكنه يزرع التمرد. منذ جانفي 2025، وثّقت التقارير الأمنية للاحتلال نفسه أكثر من 1800 عملية مقاومة في الضفة بين إطلاق نار وزرع عبوات واشتباكات مسلحة، وهو رقم قياسي منذ الانتفاضة الثانية. هذه ليست مجرد ردود أفعال، بل ولادة جيل جديد من المقاومين الذين ولدوا تحت الحصار ولم يعرفوا إلا الاحتلال وجها للعدو. الضفة اليوم هي مختبر الثورة الجديدة. ليست ثورة عسكرية فقط، بل ثورة وعي، كما قال جورج حبش: "الثورة ليست بندقية فقط، بل وعي وإرادة تحرر." هذه المقاومة اللامركزية، التي تنبع من القرى والمخيمات، تعيد صياغة المعادلة من جديد: لم يعد الفلسطيني يطلب العدالة، بل يفرض وجوده بالفعل، بالثبات والصمود، بالحياة نفسها. إنّ ما يجري في الضفة هو محاولة لإجهاض مشروع البقاء الفلسطيني، لكن التاريخ يثبت أن الأرض التي شربت دماء أبنائها لا تموت. وكما قال محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة: على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات، أم النهايات..." الضفة ليست مجرد مساحة جغرافية، إنها المدى الأخير للكرامة العربية، الميدان الذي تتكثف فيه كل التناقضات بين مشروع استعماري فاشي وشعب أعزل لا يملك سوى إيمانه بأن العدالة لن تكون أبدًا على فوهة دبابة.
النقطة السابعة : سلطة أوسلو (رام الله): دورها كقوة شرطيّة وصمتها الخانق أمام الكيان الصهيوني.
لا بدّ أن تقرأ مأساة الضفة العربية اليوم بزاوية داخلية مؤلمة: -سلطة أوسلو في رام الله، الجسد الرسمي الذي ولد في اتفاقيات أوسلو كممر بائس بين احتلالٍ مباشر ونظام إدارة مؤقت ، لم تعد مجرد جهاز هزيل، بل تحوّلت في جزء من أدوارها إلى قوة شرطة داخلية تخدم منظومة الاحتلال. هذه السلطة التي اختارت «التنسيق الأمني» مع المحتلّ كأول دستور عملها، أصبحت تستخدم سلاحها الصامت ضدّ أبناء شعبها: اعتقالات، ملاحقات، قمع للصحافيين والنقابيين والناشطين، وتعاون أمني يسهّل عمل الكيان الصهيوني على الأرض. في الواقع العملي، شهدت السنوات الأخيرة تكرارا لحملات اعتقال نفّذتها أجهزة الأمن الفلسطينية بحقّ معارضين وناشطين سياسيين ، أحيانا بذرائع «أمنية» تقربها من منطق الاحتلال نفسه ، بينما تترك المساحات التي يهدّدها المستوطنون والقوات الصهيونية عرضة للعنف. تقارير حقوقيّة مستقلّة وثّقت حالات اعتقال تعسفيّ وتعذيب واحتجاز بلا محاكمة، وشكاوى تلقّاها جهاز الرقابة الفلسطيني (الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان) بعدد لافت من الشكاوى المتعلقة بالاعتقالات والتعذيب خلال 2024. هذا السلوك لا يقرأ إلا كخيانة مزدوجة: خيانة وطنية أولا، وخيانة شعبية ثانيا. أمّا التنسيق الأمني نفسه ، ذلك الاتفاق الذي ولد مع أوسلو كقاعدة لبقاء السلطة ، فقد أضحى آلية توظّف لتقويض المقاومة الشعبية. السلطة تداهم مخيّمات اللاجئين وتستهدف «الثوّار» في جنين ونابلس بحجج أمنية تبدو وكأنها خدمة مجانية للعمليات الصهيونية على الأرض: إضعاف الخلايا المحلية، فكّ روابط الدعم الاجتماعي، وإخراج قيادات شعبية من الميدان. هذه الاستراتيجية الأمنية للسلطة تخدم هدفين متزامنين: الحفاظ على بقايا وظائفها الإدارية وتفادي مواجهة مباشرة قد تعرضها للانشطار؛ وفي الوقت نفسه تسهم عمليا في تفريغ الأرض من عناصر قادرة على المقاومة الجماهيرية. النتيجة العملية كانت متوقعة: حين ترتدي السلطة عباءة «الشرطي» بدل أن تكون قيادة تحررية، فإنها تفقد شرعيتها لدى الجماهير. ونرى اليوم أن الاحتقان الشعبي تجاه رام الله تفاقم: شكاوى ومظاهرات ونداءات تطالب بوقف التنسيق الأمني، وبمحاسبة من يعتقل أبناء الشعب بدل محاسبة من يقتلعهم من أرضهم. حتى الجهات الدولية التي تدعم السلطة اقتصاديا ودبلوماسيا وجدت نفسها في موضع المحاسبة عن بقاء جهاز أمني يورّطها أخلاقيا. تقارير تحليلية محلية اعتبرت أن غياب استراتيجية وطنية لمكافحة الاحتلال وتفضيل العمل الإداري الأمني «أضعف المشروع الوطني» وجعل السلطة «ورقة استخدام» لا أكثر. أكثر من ذلك: بينما تشنّ السلطات الصهيونية غارات متكررة حتى في قلب رام الله، تبقى السلطة عاجزة ، أحيانا متواطئة في الصمت ، عن حماية مواطنيها أو حتى مواجهة الانتهاكات دبلوماسيا بفعالية. الهجوم الصهيوني المباشر الأخير في رام الله، الذي أظهر قدرة قوات الاحتلال على العمل في مركز الإدارة الفلسطينية، كشف هشاشة سلطة أوسلو وعرضها للابتزاز السياسي والعسكري. هذا المشهد، حيث يصبح مقر السلطة نفسه ساحة اقتحام، يؤكّد أن سياسات التنسيق الأمني لم تجنِ إلا فقدانا للسيادة ومزيدا من التعريض للمواطنين. فإن ما تفعله سلطة رام الله يشبه آلية داخليّة لتطبيع الاحتلال: هي تفقد وظيفتها الوطنية وتستبدلها بوظيفة إدارية تحفظ امتيازات نخب صغيرة مقابل أمان هزيل ومنح رخصة لبقاء الاحتلال على نحو أكثر فعّالية. كما قالت مجموعات ومفكرون نقديون: السلطة صارت «قوة إنفاذ للاحتلال» أكثر منها قيادة مقاومة. هذا التحوّل لا يبرّره أي ضغط خارجي؛ إنه قرار سياسي داخلي له ثمن أخلاقي وجغرافي باهظ. لا يكمن الحل في استبدال اسم «السلطة» بجهاز آخر من دون تصفية ارتباطاته الأمنية والاقتصادية مع منظومة الاحتلال. المطلوب ثورة داخلية ، سياسية واجتماعية ، تضع أمن الشعب وحقوقه فوق كلّ اعتبارات بقاء المؤسسات الإدارية الهزيلة. حاجة الشعب الفلسطيني اليوم أن يرى في قيادته من يقف في وجه الجرافة، لا من يفتح الباب أمامها. أما من لم يبد بعد مستعدا لذلك، فليعلم أن التاريخ لا يصفح عن من اختار أن يكون بوقا لآلات الطرد.
النقطة الثّامنة : التطبيع والخيانة الرسمية: كيف صارت عواصمنا غرفا للتنازل عن الشعب.
1) التطبيع كعملية طبقية: الوجه التجاري للخيانة.
التطبيع لا يبدأ في قاعات السفارات وحدها؛ يبدأ في صفقات، في عقود أسلحة، في مشاريع استثمارية تغلق القضايا الأخلاقية لصالح مصالح نخب حاكمة. عندما يقدّم نظام عربي لوفد صهيوني «ملفّات استثمارية» عن الضفة والقدس، فهو لا يعرض فرصا اقتصادية فحسب ، إنه يشارك في مشروع تحويل الأرض إلى أصل قابل للتبادل. نتائج هذا التحالف مباشر: غطاء دبلوماسي لمن يسلب الأرض، سوق تكنولوجي لمن يصنع آلات المراقبة، وشبكات سياسية تؤمّن بقاء المشروع. هذا الوجه الربحي يتحوّل سريعا إلى منافع شخصية ونفعية للنخب ، وهو ما يجعل رفض التطبيع مسألة شعبية واجبة، لا مجرد خيار رمزي.
2) الصمت الرسمي: خيانة علنية أم حسابات قصيرة المدى؟.
الصمت الرسمي أو التحفّظ الدبلوماسي ، وخصوصا عند حكومات تعرّف عن نفسها بأنها «شريكة» أو «معتدلة» ، ليس موقفا بريئا. إنه قرار سياسي يختار المصالح على حساب الضحايا. إحصاءات استطلاعات الرأي في المنطقة تظهر فجوة صارخة بين رغبة الشعوب في التضامن وقرارات أنظمة تبرم اتفاقيات سرّية أو علنية مع الكيان الصهيوني. هذا الانقسام بين القاعدة والحاكم يؤدي إلى شرخ ديموقراطي يضع الأنظمة في موقع العار أمام جماهيرها.
3) التطبيع كآلية لطمس القضية: سياسات «التنمية مقابل السكوت».
السياسات الرسمية التي تعرض مشاريع اقتصادية على حساب فتح قنوات سياسية أو حماية الشعب هي سياسات معاملة: «أغناك فابق صامتا». برامج «التعاون الاقتصادي» غالبا ما تروّج كطريق للسلام، بينما تعمل فعليا على تطبيع الوجود الاستيطاني وخلق مصالح اقتصادية مشتركة تجعل من الصعب لاحقا مساءلة الجلاد. التطبيع إذن ليس فقط خيانة، بل محاولة لصناعة حالة اعتيادية تبني غطاء للضمّ الفعلي. هذه الخطيئة السياسية لا تسقط مسؤولية الحركات الشعبيّة؛ بل تحوّل كل فعل مقاوم داخل الضفة إلى فعل ضد منظومة داخلية وخارجية معا. فالتطبيع ليس اتفاقا بين دولتين فقط، بل صفقة بين نخبتين تقايضان دم الشعوب بفرص اقتصادية.
النقطة التّاسعة : الإعلام والرواية الموحدة: صناعة النسيان وإدانة الضحية بلغة القانون الصهيوني.
1) السيطرة على السرد: كيف يتحول القاتل إلى «طرف في نزاع»؟.
أداة الاحتلال ليست فقط الجرافة أو الرصاصة؛ الأداة الأكبر هي تحويل فعل القمع إلى صياغة لغوية مطاطة تضع الضحية والمعتدي في سطر واحد: "اشتباكات، توترات، مواجهات". هذه اللغة تخفّف من وطأة المسؤولية القانونية وتحوّل الجريمة إلى ظاهرة. دراسات وتقارير أكاديمية وطبية تشهد أن الإعلام الغربي يميّز في التوصيفات ويفضّل مصادر «أمنية» صهيونية أكثر من روايات الضحايا. هذا الانحياز ليس عرضيا ، إنه عملية أخلاقية وسياسية تصنع صمتا دوليّا يمكّن الجلاد.
2) الرقمنة والحجب: حذف رواية الضحايا من الفضاء العام.
المنصات الرقمية، التي كان من المفترض أن توزّع السلطة في سرد الأحداث، أصبحت أداة رقابية: آلاف المنشورات التي تفضح العنف تحذف بحجج «انتهاك المعايير»، بينما تظل خطابات الكراهية وتصريحات المتطرفين دون رادع. المحاصرة الرقمية للحقيقة تزيد عزلة الضفة على المستوى العالمي وتقلل من قدرة حركة التضامن على الوصول إلى جمهور عريض بسرعة. التوثيق الشعبي (هواتف، لقطات) أصبح دفاعا معرفيا أساسيا ، لكن تلك اللحظات تحتاج إلى قنوات بثّ حرة لمقاومة عملية التعتيم.
3) كيف نردّ إعلاميا؟ بناء سرد مضاد ثوري.
الردّ لا يكون بمجرد الشكوى؛ بل بإنتاج سرد مضاد منظّم: مراكز إعلامية شعبية، قنوات بثّ بديلة، شراكات مع صحافة تحقيقية دولية، وحملات ترجمة للمواد الميدانية باللغات الأوسع. هذا الردّ يجب أن يكون طبقيا: ربط صراع الأرض بالاستغلال والفساد عبر تقارير تعرض كيف تستفيد شركات وحكومات من استمرار القمع. من يسيطر على السرد يستطيع أن يحشد قوى عمالية ونقابية وأكاديمية دولية ضد منظومة التطبيع والتمويل. فالذي يسيطر على اللغة، يسيطر على الحقيقة؛ ومن يسيطر على الحقيقة، يكتب التاريخ.
النقطة العاشرة : الضفة كرمز عالمي: كيف تصير فلسطين بوصلة أخلاقية للمقاومة العالمية.
1) فلسطين تتجاوز الحدود: من قضية قومية إلى شعور كوكبي بالعدالة.
ما يحدث في الضفة لا يبقى محليا. خلال 2024–2025 شهدنا توسعا هائلا في احتجاجات التضامن حول العالم ، من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية، من جنوب أفريقيا إلى آسيا ، تجسيدا لرفض نظام دولي يسمح بالتمييز المزدوج بين القانون والحقوق. بيانات رصد الاحتجاجات تشير إلى تزايد ملحوظ في تحرّكات التضامن (زيادة 43% في فترات محددة حسب مؤسسات تتعقب الحركات الاحتجاجية). هذه الظاهرة تظهر أن القضية الفلسطينية تسترد مركزيتها كقضية كوكب أخلاقي ضد الرأسمالية الإمبريالية.
2) التضامن العمّالي والنقابي: ربط نضال الأرض بنضال العمل العالمي.
التحول الاستراتيجي الحقيقي يكمن في ربط تضامن فلسطين بحركات العمل: إضرابات موانئ، رفض نقل تكنولوجيات مراقبة، مقاطعات لشركات متورطة في تمويل الاستيطان. عندما تنضمّ نقابات عالمية إلى حراك مقاطعة اقتصادي سيضع هذا ضغطا ماديا يغيّر معادلات الربح التي تغذي الاستيطان. المبادرات التي رصدت في موانئ ومدن أوروبية أزهقت جزء من منطق الإهمال الدولي؛ فهي تظهر أن الصوت الجماعي المنضبط يمكنه أن يشن هجمة اقتصادية على شبكة الاحتلال.
3) فلسطين كمحكّ لضمير الإنسانية: مسؤولية التحالف العالمي.
الدور الأخلاقي الذي تلعبه الضفة اليوم يضع المسألة كمحكّ لضمير العالم: هل سنقبل أن تستمر قوانين مزدوجة تطبّق على الأقوياء ولا تطبق على الضعفاء؟ دعم فلسطين اليوم هو اختبار لمصداقية مؤسسات الحقوق والديمقراطية العالمية. كلّ قرار حكومي يدافع عن التطبيع أو يموّل أجهزة قمع يسجّل كدليل على وجود نظام عالمي فصلاني لا نزعة نحو العدالة. حركة التضامن العالمي هي الأساس الذي يمكنه أن يعيد تعريف هذه القاعدة ويجعل من محاسبة الممولين أولوية استراتيجية. حين يسكت العالم عن دم يسفك أمام عينيه، يسقط أمران معا: الضحية والضمير العالمي . التطبيع رسميا يفقد شرعيته أمام شعوب المنطقة؛ لذلك لا بد من تحويل الزخم الشعبي إلى ضغط مباشر على الأنظمة: مقاطعات شعبية، إضرابات، وفضح لكل صفقة تربط نخبا عربية بالكيان الصهيوني. الإعلام والغرف الرقمية يجب أن تعاد تسخيرها في خدمة الحقيقة: دعم منصات بديلة، حماية الصحافيين والمحتوى الرقمي، وبناء «مراكز رصد سردي» توثّق وتترجم ما يحدث بلغة مضادة فعالة. الربط مع الحركات العمالية والإنسانية عالميا هو مفتاح النّزعة الاستراتيجية؛ لأن كسر شبكة الربح يقوّض الحافز المادي للاستيطان ويطرح السؤال السياسي على الطاولة الدولية بقوة جديدة. فلن تتحرر فلسطين بابتسامة دبلوماسيين ولا بوصايا صحفية؛ ستحرّر عندما يتحدّ العمال، الفلاحون، النساء، والشباب عبر عالم رفض أن يبقى صامتا أمام الجريمة .
الخاتمة: نحو أفق المقاومة الشاملة وانبعاث الوعي الطبقي في فلسطين
إنّ ما يجري اليوم في الضفة الغربية ذروة جديدة من مشروع استيطاني إحتلالي لم يتوقف منذ وعد بلفور، بل يلبس اليوم أقنعة جديدة من «الأمن»، و«الإدارة المدنية»، و«التطبيع الاقتصادي». بعد كلّ مجزرة في غزة، تأتي موجة جديدة في الضفة، كأنّ الاحتلال يجرّب أدواته هناك: اقتلاع القرى، تدمير البنى التحتية، مصادرة الأراضي، إحراق الحقول، قتل المزارعين، ومطاردة المقاومين في مخيمات جنين وطولكرم ونابلس والعيزرية وغيرها. الكيان الصهيوني اليوم لا يكتفي بالقصف، بل يسعى إلى إعادة هندسة الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية، أي تحويل الضفة إلى كانتونات معزولة، محاطة بجدرانٍ ونقاط تفتيش، تدار كأنّها «مناطق أمنية» وليست وطنا حيّا. ومثلما أبادت آلة الحرب الصهيونية أحياء غزة باسم «تدمير حماس»، ها هي الآن تحرق الضفة باسم «محاربة البؤر الإرهابية»، بينما الهدف الحقيقي هو واحد: إلغاء الوجود الفلسطيني نفسه، وإكمال حلقات مشروع التطهير العرقي. لكن المأساة الأعظم ليست في فظاعة الجريمة وحدها، بل في تواطؤ الصمت العربي والدولي، وفي استمرار سلطة رام الله في أداء دورها كدرع أمنيّ يحمي الاحتلال من الغضب الشعبي. فبينما تفتح معابر التطبيع في الخليج والبحر الأحمر والبحر المتوسط، تغلق في وجه الفلسطينيين بوابات المخيمات والسجون. وما يسمّى «المجتمع الدولي» لا يرى في هذه المجازر سوى «حق الكيان في الدفاع عن نفسه»! هكذا تعاد كتابة لغة الجريمة ببلاغة القانون. في هذا السياق، لا يمكن لأي تحليل يساري ثوري إلا أن يرى في ما يحدث وجها من وجوه النظام الإمبريالي العالمي. الكيان الصهيوني ليس مجرد جيش على أرض فلسطين، بل هو أداة مركزية في تقسيم العمل الإمبريالي: قاعدة عسكرية دائمة، تحرس تدفق رأس المال والنفط والهيمنة على الممرات التجارية، وتقدّم للعالم المختبر الأحدث لتكنولوجيا القمع والمراقبة. لذا فإن مقاومة هذا الكيان ليست شأنا محليا أو دينيا أو قوميا فحسب، بل قضية أممية ترتبط بكلّ نضال ضدّ الاستغلال الطبقي والاستعمار المعاصر. كما قال إرنستو تشي غيفارا: "حيثما وجد ظلم، هناك جبهة يجب أن تفتح." وفلسطين اليوم ليست جبهة واحدة، بل كلّ الجبهات في آنٍ واحد: جبهة مقاومة الاحتلال، وجبهة مقاومة التواطؤ العربي، وجبهة مقاومة السلطة العميلة التي تحولت إلى جهاز ضبط اجتماعي في خدمة الاحتلال. إنها أيضا جبهة الوعي، جبهة الكلمة، جبهة الثقافة التي تفضح وتؤرّخ وتصرخ في وجه العدمية التي يراد فرضها على شعب عظيم منذ قرن من النكبات. وفي قلب هذا الصراع، يبرز الوعي الطبقي الفلسطيني كعنصر ثوري حاسم. فالمقاومون في الضفة وغزة ليسوا جيوشا نظامية، بل أبناء الفقراء والمزارعين والعمال، أبناء القرى والمخيمات، الذين لم يملكوا إلا حجرا أو بندقية قديمة أو جسدهم في مواجهة جرافة مدججة بالتكنولوجيا. هؤلاء هم، بلغة ماركس، الطبقة التي لا تملك سوى قيودها لتخسرها. وإذا كان النظام الإمبريالي يسعى لتحويل فلسطين إلى مختبر لسياسات السيطرة الطبقية على العالم، فإنّ الردّ الثوري الحقيقي يجب أن يكون من قلب الجماهير، من الأرض التي ترفض البيع، من الوعي الذي يدرك أن التحرر لا يستورد من الأمم المتحدة ولا من مكاتب أوسلو، بل ينتزع من بين الركام. إنّ كلّ حجرٍ يرفع في الضفة، وكلّ علم يخفق في جنين، وكلّ طفل يصرخ تحت الأنقاض في غزة، هو صرخة ضدّ العالم القديم بأسره. الدم الفلسطيني لم يعد يسكب فقط في معركة وطنية، بل في معركة كونية بين الإنسان الحرّ ورأس المال المسلّح، بين العدالة والاستعمار، بين التاريخ الذي يكتب بالدمّ والتاريخ الذي يمحى بالآلة. من هنا، فإنّ المطلوب اليوم ليس فقط التضامن مع فلسطين، بل الانخراط في مشروع تحرري أممي جديد، يعيد تعريف الصراع من جذوره: أن نقول إن فلسطين ليست "قضية الشرق الأوسط"، بل قضية الإنسانية جمعاء. أن ندرك أن سقوط الضفة لن يكون خسارة للفلسطينيين فقط، بل انتصارا للنظام العالمي الذي يسحق الفقراء في كلّ مكان. أن نفهم أن المقاومة ليست فعلا بطوليا فرديا، بل حركة وعي طبقي تاريخي تربط بين العامل في جنين والفلاح في اللطرون والمثقف في رام الله والمهاجر في الشتات. كما قال غسان كنفاني، وهو يلخّص جوهر المرحلة: "إن قضية فلسطين ليست قضية أرض فقط، بل قضية كرامة الإنسان في هذا العالم." وهذا العالم، كما يبدو اليوم، قد تخلّى عن كرامته، لكنّ الفلسطيني ما زال يحملها على كتفيه رغم الجراح. لذلك، فإنّ الخاتمة الحقيقية ليست في هذه السطور، بل في الشوارع التي ما زالت تنجب مقاومين، وفي الأمهات اللواتي يعدن أبناءهن إلى الميدان بدل المقابر، وفي المخيمات التي تعيد كل يوم تعريف معنى الحياة والكرامة. فلسطين ليست على وشك الانكسار، بل على وشك الانفجار ، انفجار وعي طبقيّ ثوريّ سيمتدّ من الضفة إلى كلّ ضفة في هذا العالم الجائر. وكما قال مهدي عامل : "حين يغلق التاريخ أبوابه في وجه الشعوب، تفتحه الجماهير بدمها." وهكذا، سيفتح الفلسطينيّ، مرّة أخرى، أبواب التاريخ بدمه، ليقول للعالم إن الأرض لا تباع، وإنّ الصمت ليس خيارا، وإنّ الحرية لا تفاوض ، بل تنتزع.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدّولة البوليسية المعاصرة
-
من مانهاتن إلى القصبة: حين تتكلم الأزمات بلغتين
-
السّرياليّة والسّرياليّة الثوريّة. من الحلم إلى التمرّد: في
...
-
النضال البيئي بين العفوية والتنظّم في تونس: الواقع والآفاق.
-
بين تاريخ الوصاية وإغراءات «الإعمار»: ما يقترَح اليوم ليس مج
...
-
مشروع قانون المالية لسنة 2026: بين الوهم الاجتماعي وتكريس ال
...
-
الديني و الماركسي في خندق المقاومة وحدود الالتقاء: من طهران
...
-
اتفاق شرم الشيخ: عودة الانتداب بثوب أمريكي – قراءة في مشروع
...
-
غزة والمقاومة: غنيمة التّاريخ وبوصلة الأحرار
-
من -الشعب يريد- إلى -النهضة تقرر- إلى -الرئيس يقرر
-
الأفقية والقاعدية: تفكيك مفاهيمي وتحليل تطبيقي.
-
البناء القاعدي والتسيير الذاتي: بين النظرية، التجارب، والتحو
...
-
السلاح ، المخدرات و الادوية ، اسلحة للثراء و اخضاع الشعوب.
-
تحليل مقتضب للنرجسية الفردية و السّلطة والشعبوية.
-
الاعتراف بالدولة الفلسطينية: خطوة ناقصة في معركة طويلة ضد ال
...
-
الأدب العربي والترجمة: ساحة المقاومة والوعي.
-
الأدب والتكنولوجيا: بين انفتاح النص وقلق المستقبل.
-
نقد الإبداع وإبداع النقد.
-
بقايا الطلائع القديمة: الثورة بين الخطاب والممارسة والخيبة.
-
اللّجوء بين إنسانية العالم وابتزاز السياسة: في أزمة النظام ا
...
المزيد.....
-
من بينها مصر والمغرب: ما هي أفضل أماكن مشاهدة كسوف الشمس الق
...
-
تقارير عن لقاء بين كوشنر وأبو شباب.. وواشنطن تنفي
-
اتهامات بالتجارب النووية ترفع مستوى التوتر: روسيا تعلن استعد
...
-
ملفات جيفري إبستين.. غيسلين ماكسويل تسعى لطلب تخفيف عقوبتها
...
-
اقتراب أكبر حاملة طائرات من سواحل أميركا اللاتينية يثير توتر
...
-
عكس التوقعات.. العراق ينتخب بمشاركة قياسية وسط تغيرات اقليمي
...
-
الجفاف والحشرات الغازية يقوضان غابات الصنوبر التاريخية في لب
...
-
حاملة طائرات أمريكية تصل أمريكا اللاتينية.. وفنزويلا تعلن عن
...
-
ماكرون يؤكد لعباس أن ضم الضفة -خط أحمر-.. وتشكيل لجنة مشتركة
...
-
شاهد: تحطم طائرة عسكرية تركية في جورجيا قرب الحدود الأذربيجا
...
المزيد.....
-
بصدد دولة إسرائيل الكبرى
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل
/ سعيد مضيه
-
البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية
/ سعيد مضيه
-
فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع
/ سعيد مضيه
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
/ سعيد مضيه
-
رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني
/ سعيد مضيه
المزيد.....
|