النضال البيئي بين العفوية والتنظّم في تونس: الواقع والآفاق.

رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 00:19
المحور: الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
    

المقدّمة:

بين الأرض التي تختنق والإنسان الذي يصحو: من العفوية إلى الوعي البيئي المنظّم في تونس
لم تكن المسألة البيئية في تونس يوما قضية “نظافة” فحسب، بل كانت وما تزال قضية حياة وموت. في بلد يمتدّ من سواحل المتوسط حتى تخوم الصحراء، تتقاطع البيئة بالاقتصاد، والسياسة بالمجتمع، والفقر بالصحة. تونس، هذا الوطن الصغير جغرافيا، هو اليوم مختبر كبير لما سمّاه عالم الاجتماع أولريش بيك “مجتمع المخاطر”، حيث تتكدّس المصانع فوق الأجساد، وتستخرج الثروات من تحت الأرض لتتحوّل إلى لعنة بيئية بدل أن تكون بركة تنمية.
من قابس إلى قفصة، الى صفاقس ، تنبعث روائح الكبريت، والغازات، والرماد الفسفاطي، كأنّ الأرض تصرخ من تحت الإسفلت، وكأنّ الهواء نفسه صار ذاكرة للجريمة الصناعية. تلوث المياه والهواء والتربة لم يعد خبرا صحفيا بل صار خبزا يوميا للسكّان. في قفصة، حيث الحوض المنجمي التاريخي، أصبحت الأجساد تئنّ تحت وطأة الأمراض التنفسية والجلدية والسرطانية، في حين أن مدينة المظيلة التي تحتضن وحدتين كيميائيتين ضخمتين لمعالجة الفسفاط، تشبه اليوم نسخة صغرى من جحيم ڨابس، حيث تنساب النفايات الصناعية السامة في الأودية، وتتحوّل التربة إلى رماد حيّ.
تشير دراسات محلية وأخرى صادرة عن منظمات مثل البنك الدولي ووزارة البيئة التونسية إلى أن الكلفة الاقتصادية للتدهور البيئي بلغت نحو 2.7% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل قرابة 1.1 مليار دولار سنويا. وهي كلفة تتوزع بين الخسائر الصحية، وتلوث المياه، وتدهور الأراضي الزراعية، وانخفاض إنتاجية الفلاحة. هذه الأرقام ليست مجرّد إحصاءات جامدة؛ إنها وجوه الأطفال المصابين بالربو وأكباد النساء العاملات التي تسمّمها المعادن الثقيلة ، ورئات الشيوخ التي تملؤها جزيئات الفسفوجيبس، في ڨابس و السخيرة و حوض قفصة المنجمي.
ولأنّ البيئة هي مرآة التفاوت الاجتماعي، فإن المناطق المنجمية والصناعية التي تعاني أكثر هي أيضا الأفقر، والأكثر تهميشا، والأقل حظا في التنمية. ففي الوقت الذي تتمركز فيه عائدات الفسفاط والبترول والغاز في العاصمة أو في خزائن الشركات، تبقى كل جهات ولاية قفصة و خاصة منها الرديف، أم العرائس، المتلوي، والمظيلة من بين أكثر المدن بؤسا في البلاد، حيث نسب البطالة تتجاوز في بعض الفترات 30%، وحيث الماء الملوّث والهواء القاتل أصبحا جزء من المشهد اليومي.
لقد ولد النضال البيئي في تونس من رحم الوجع الشعبي لا من مكاتب الوزراء. لم يبدأ في الندوات أو المؤتمرات الأكاديمية، بل انطلق من الصرخة الأولى لأمّ في قابس حين رأت ماء البحر يتحوّل إلى أسود، ومن احتجاج عامل منجمي في الرديف حين اختنق برائحة الكبريت، ومن اعتصام الصيادين في صفاقس حين فقدوا رزقهم بعد غلق خليجهم بنفايات الفوسفوجيبس. كانت تلك الانتفاضات الأولى عفوية، متفرقة، لكنها حقيقية؛ تعبيرا عن وعي بيئي بدائي لكنه أصيل، نابع من إحساس الإنسان بالظلم، بالاختناق، وبأن جسده صار ميدان معركة بين الربح ورغبة الحياة.
لكن العفوية ، كما يقول أنطونيو غرامشي ، “لا تبنى عليها الثورات إن لم تتحوّل إلى وعي منظم”.
وهكذا بدأت تونس، على امتداد العقدين الأخيرين، تشهد تحوّلا تدريجيا من الغضب البيئي الشعبي إلى الوعي البيئي المنظّم. ظهرت جمعيات مثل “وقف التلوث بقابس”، “جمعية البيئة والتنمية بالرديف”، “مرصد قفصة للعدالة البيئية”، وبدأت الأصوات تتوحّد. صار الشارع يدرك أن التلوث نتيجة مباشرة لنمط إنتاج رأسمالي تابع، يقوم على نهب الموارد وخصخصة الأرباح وتعميم الأضرار.
أصبحت كلمة “العدالة البيئية” شعارا جديدا في تونس. إنها ليست فقط مطلبا نظريا بل مفهوم سياسي واجتماعي عميق يربط بين البيئة وحقوق الإنسان والعدالة الطبقية. العدالة البيئية تعني أن الهواء النقي ليس امتيازا طبقيا، وأن الماء الصالح للشرب ليس رفاهية، وأن الأرض التي تستنزف باسم التنمية يجب أن تستعاد باسم الحياة.
إنّ الصراع البيئي اليوم هو شكل جديد من أشكال الصراع الطبقي. فالمناجم والمصانع الكبرى هي الوجه المعاصر لنظام الهيمنة، والبيئة هي المسرح الجديد للعدوان الإمبريالي الداخلي والخارجي. في الجنوب التونسي، كما في الجنوب العالمي، تحوّلت أجساد الفقراء إلى مصفاة للربح. ولذلك فإن النضال البيئي ليس قضية “خضراء” فحسب، بل هو قضية حمراء وخضراء في آنٍ واحد: حمراء لأنها تخصّ الطبقة العاملة والمهمّشين، وخضراء لأنها تخصّ الأرض والحياة والطبيعة.
لقد أثبتت أحداث العقود الأخيرة – من تحركات قابس ضدّ المركّب الكيميائي، إلى اعتصامات الحوض المنجمي، إلى الاحتجاجات ضدّ تدمير خليج صفاقس ، أنّ الوعي البيئي الشعبي في تونس يسير بخطى متسارعة رغم القمع والإهمال. فكلّما انسدّت قنوات الحوار الرسمي، انفجرت البيئة كقضية سياسية. وكلّما تجاهلت السلطة صرخات الأهالي، تحوّل الهواء المسموم إلى شعار احتجاجي.
لكن هذا النضال، برغم اتساعه، ما زال يفتقر إلى التنظيم الكافي والقيادة الموحّدة. هو نضال عفويّ بأرواح جماعية مشتتة، متجذّر في التجربة اليومية لكنه متعب من التكرار. من هنا تبرز الحاجة التاريخية إلى الانتقال من الرفض البيئي الشعبي إلى مشروع سياسي بيئي وطني، يؤسس لرؤية شاملة تجعل من البيئة محورا للعدالة الاجتماعية لا ملحقا لها.
كما تقول الفيلسوفة فاندانا شيفا:
«لن يكون هناك تنمية مستدامة بلا ديمقراطية بيئية.»
فالديمقراطية البيئية في تونس اليوم ضرورة وجودية، لأنّ من لا يملك القدرة على الدفاع عن أرضه ومائه وهوائه، لا يملك أيضا القدرة على تقرير مصيره.
من رحم هذا الواقع يخرج سؤالنا المركزي:
هل يمكن أن يتحوّل النضال البيئي في تونس من ردّ فعلٍ عفويّ على الألم إلى قوة منظمة قادرة على تغيير نموذج التنمية بأسره؟
هل يمكن أن تتصالح الأرض مع الإنسان حين يصبح هذا الأخير فاعلا لا ضحية؟
وهل يمكن أن تكتب لتونس بيئة عادلة، خضراء بالحقّ، لا بالخطاب؟
ذلك هو السؤال الذي نحاول أن نفكّكه في هذا النص الطويل، عبر قراءة معمّقة للنضال البيئي التونسي بين العفوية والتنظّم، بين الواقع والآفاق، بين البيئة كألم، والبيئة كأمل.

اوّلا — العفوية كطاقة احتجاجية حيّة .

1.1. طبيعة العفوية: صوت الأرض قبل الخطاب:

العفوية في النضالات البيئية التونسية هي أصل المعرفة الميدانية؛ هي وعي قائم قبل أن يتبلور تنظيماً رسميا. هي ناتجة من تجربةٍ يومية مباشرة: انبعاث روائح خانقة، مياه بحر أسود، صيد يتراجع، أمراض رئوية لدى الأطفال، ولادة مشوّهة أو نسب سرطانية يشتبه بأنها أعلى من المعتاد. لا تحتاج هذه التجارب إلى تحليل أكاديمي لتدرك حقيقتها؛ فهي “حكمة الشعب” المباشرة: الناس يشعرون بأنّه ثمة رابط بين ما يقتلع من الأرض وما يعاد لهم على شكل أمراض وفقر. كما قال أنطونيو غرامشي إنّ “الوعي لا يولد في الكتب بل في المعاناة اليومية” ، وهنا المعاناة هي الوقود الأول للاحتجاج.

1.2. أشكال العفوية: من الشارع إلى الحواجز:

تتخذ العفوية في تونس أشكالا متعددة:
+محطات احتجاج عفوية: تجمعات أمام أبواب المصانع، إغلاق طرقات، إضرابات محلية قصيرة الأمد.
+أمثلة حديثة: مسيرات واسعة في ڨابس بعد تسريبات غازية تُسبّب اختناقات وحالات إعياء لدى التلاميذ؛
+شبكات تواصل محلية: رسائل صوتية، مجموعات واتساب، وتنسيق لحظي بين المناطق المجاورة عند حصول حادث تلويث. هذه الوسائل الرقميّة، رغم بساطتها، تضخّم من تأثير العفوية وتسمح لها بالظهور بشكل سريع أمام الرأي العام.
+إفراز احتجاجات مؤقتة لكنها مكثفة: حيث تنفجر الحركة بعد حادث محدّد (تسرّب غازي، تلوّث سدّة) وترغم السلطات على ردّ فعل ظرفيّ (إقفال مؤقت، وعود، لجان تحقيق)، ثمّ تهدأ الحركة إذا لم يتحوّل الغضب إلى تنظيم.

1.3. ما الذي تنجزه العفوية؟:

-تسليط الضوء: العفوية تجعل المشكلة مرئية؛ دونها قد تبقى الكارثة محمية بخطاب صمت رسمي. حالات الاستنفار الطبيّ في ڨابس، وتصاعد دخول المصحات، دفعت الإعلام والهيئات الحقوقية إلى تسليط الضوء على الأزمة.
-إحداث ضغط سياسي مؤقت: وعود التحقيق أو إيقاف وحدة لعدة أيام قد تتحقق بسبب انفجار عفوي؛ لكنّها غالبا لا تقطع جذور المشكلة لأنها لا تبنى على قدرة مؤسسية مستمرة للمساءلة.
-تكوين ذاكرة جماعية: الاحتجاجات العفوية تغذّي رواية محليّة عن الظلم، وتحوّل التجارب الفردية إلى تجربة مشتركة تحافظ على استمرار الرفض.

1.4. حدود العفوية ، لماذا لا تكفي؟:

+غياب الاستمرارية: احتجاج يوم أو أسبوع يخمد بسرعة إذا لم يكن هناك تنظيم محلي يبني عليه حملة ضغط متواصلة.
+الاستجابة القمعية أو التجزيئية: الدولة أو الأجهزة الأمنية قد تتعامل مع الحراك كخرق للنظام العام، فتتفّكك الفعالية أو تجرّمها. التقارير الإخبارية عن مواجهات وتدخلات أمنية في احتجاجات في ڨابس تظهر كيف أن العفوية قد تضرب بالقمع بدلا من أن تستجب مطالبها بالحلول الجذرية.
+استغلالها أو تسييسها: تحوّل العفوية إلى ساحة للتنافس السياسي أو لاستعمالها كأداة ضغط بين فرق ليست بالضرورة متمركزة على أجندة بيئية حقيقية، ما قد يضعف مصداقية الحركة في الرأي العام.
+نقص القدرة على المطالبة القانونية: العفوية تفتقر في العادة إلى أدوات المرافعة القانونية (تقارير خبراء، قياسات مستندة، متابعات قضائية) التي تحوّل مطالبة شعبية إلى قضية قابلة للمساءلة أمام المحاكم أو الجهات الرقابية.

1.5. العفوية كبذرة تنظيمية ، تجارب ومراحل:

العفوية ليست خلافا للتنظيم، بل مرحلته الأولى. من التجارب الميدانية في تونس وما حولها نرى أن:
-موجات الاحتجاج العفوية غالبا ما تلد شبكات محلية تظلّ ساعية إلى المعرفة (قياسات ملوّثات، استقصاءات صحفية محلية، اتصالات بمختصين)؛
هناك أمثلة في مناطق عدة حيث تطوّرت حركة عفوية إلى منظّمة محلية صغيرة قادرة على رفع شكاوى قانونية وطلب تحقيقات مستقلة؛ هذه الحالة تُظهر التحوّل من فعل عاطفي إلى أداء سياسي مدروس.

1.6. شهادات وأرقام داعمة:

تقارير ميدانية وعلمية تظهر وجود معادن ثقيلة وتركيزات خطرة في تربة مواقع منجمية بالمناطق بالحوض المنجمي بقفصة ، دراسات مثل تلك المنشورة على موقع AGRIS وMDPI سجلت مستويات Cd وNi وZn وCr تفوق الحدود المسموح بها في مواقع المنجم. (مثال: نتائج دراسة تشير إلى قيم قصوى Cd󖑁.2 ppm في مواقع متلوّية).
في مناطق المرافق الكيميائية (مثل ڨابس)، تقارير إعلامية وتحقيقات بيئية وثّقت وجود انبعاثات أمونيا وثاني أكسيد الكبريت، وحالات اختناق جماعي وأعراض تنفسية لدى أطفال المدارس دفعت آلاف المواطنين إلى الخروج في مظاهرات واسعة. تقارير وكالة الأنباء ووكالات دولية رصدت هذه الاحتجاجات وكان لها وقع سياسي كبير.

1.7. الخلاصة الجزئية (عن العفوية):

العفوية هي روح الحركة الشعبية؛ هي الانبعاث الأول للغضب والرفض. لكنها وحدها غير قادرة على تحويل الغضب إلى تغيّر دائم ما لم تدعّم بالبنى التنظيمية التي توفر أدوات قياس، مرافعة، وتحالفات اجتماعية واسعة. العفوية تعلّمنا أين يؤلم الشعب فعلا؛ التنظيم هو الذي يعلّمنا كيف نُغَيّر ذلك الألم إلى قوانين ومؤسسات جديدة.

ثانيا — التنظيم كمرحلة نضج .

2.1. لماذا التنظيم؟ من الغضب إلى المشروع:

التنظيم استجابة عملية لمحدودية العفوية. عندما تتشكّل مؤسسات محلية مدروسة (جمعيات، مراكز بحث محلية، شبكات حقوقية)، يصبح لدى المجتمع المدني ذراع قياس وذراع ضغط: الأولى لقياس التلوّث وتوثيقه، والثانية للضغط القانوني والسياسي. التنظيم يحوّل المطالبة من صرخة إلى مشروع: تقارير خبراء، دعاوى قضائية، ضغط على المؤسسات الدولية، بناء تحالفات مع نقابات أو جمعيات حقوقية، بل والمطالبة بإجراءات بديلة (نقل الوحدات، نظام مراقبة دائم، برامج إصلاح صحي).

2.2. أشكال التنظيم البيئي في تونس: تجارب محلية ووطنية:

-جمعيات محلية: في ڨابس ورفاقها نشأت جمعيات مدنية متخصصة ركّزت على توثيق الانبعاثات وتنظيم المسيرات وجمع التواقيع. ترافقت بعض هذه المبادرات مع تحالفات وطنية.
-شبكات مهنية وأكاديمية: باحثون محليون وأساتذة جامعات شاركوا في دراسات ميدانية ونشر بيانات علمية تدعم مطالب السكان. دراسات منشورة على مجلات محكمة (MDPI، PubMed) تناولت ملوثات ناتجة عن عمليات غسل الفسفاط وحمضية المياه والملوثات المعدنية في مياه الصرف.
-تحالفات حقوقية: منظمات حقوقية وطنية ودولية تدخلت لتوثيق الأثر الصحي وللدفع بمسارات قضائية أو ضغط سياسي (مثل بيانات من منظمات حقوقية ونشطاء)؛ كذلك تصاعدت الدعوات لتدقيق عمليات الشركات من قبل هيئات مستقلة.

2.3. أدوات التنظيم: ماذا يفعل التنظيم جيدا؟:

+القياس العلمي الممنهج: تنظيم حملات قياس تلوث الهواء والمياه والتربة، والاستعانة بخبراء محليين ودوليين لإصدار تقارير قابلة للاستخدام قانونيا. الدراسات التي تظهر pH منخفض جدا (2-3) ومحتوى ملحي عال في مياه المصانع في مناطق مثل المظيلة بقفصة تعد أمثلة على ما يمكن انتزاعه من توثيق علمي.
+المرافعة القانونية: رفع دعاوى قضائية أو شكاوى أمام هيئات رقابية وطنية ودولية، مطالبة بتحقيقات مستقلة وتعويضات صحية.
+الضغط السياسي المستمر: تنظيم حملات رأي عام منظمة، استخدام الإعلام، بناء تحالفات مع نقابات العمال (الذين هم أيضًا متضررون في بعض الحالات)، ومنظمات نسوية وفلاحية.
+بناء بدائل محلية: مقترحات للانتقال العادل؛ مشاريع طاقة متجددة على مستوى جهوي، برامج إعادة تأهيل التربة، دعم لمشاريع اقتصادية بديلة لتقليل اعتماد مناطق المناجم على أنشطة ملوّثة.

2.4. إمكانيات التنظيم والقيود الهيكلية:

+الإمكانيات:
-التنظيم يخلق استمرارية: حملات ضغط متجددة، دعم متواصل للضحايا، واستراتيجية قانونية قابلة للتنفيذ.
-التنظيم يتيح الوصول إلى خبرات ومعدات قياس لا يمتلكها المتظاهرون العفويون.
-التنظيم يفتح قنوات تمويل مشروطّة لصالح دراسات واعتمادات لإعادة تأهيل مناطق تضررت.
+القيود:
-التمويل: غياب موارد مستقلة يدفع البعض إلى الاعتماد على تمويل خارجي قد يفرض شروطًا تغير من استراتيجية الحركة أو تُضعف من استقلال قرارها.
-التجزئة القطاعية: التنظيمات غالبا ما تنبثق محليا وتفتقد للتنسيق الوطني، ما يضعف قدرتها على تشكيل ضغط مركزي على الدولة.
-التهديدات الأمنية والسياسية: التنظيم يواجه تضييقا متعمّدا عبر عناصر قانونية أو إدارية وعمليات قمع، أو محاولات تشويه. تقارير عن مواجهات واعتقالات أثناء احتجاجات حديثة تؤكد هذا الخطر.

2.5. دروس من تجارب تونسية: متى نجح التنظيم؟:

-حين توفّرت بيانات علمية واضحة يمكن استخدامها قانونيا؛
-حين حزم التنظيم أدواته بين الميداني، القانوني، والإعلامي؛
-حين نجح في خلق تحالفات قطاعية (عمال، فلاحون، جمعيات نسائية، طلاب)، ما زاد من شرعية المطالب.
أمثلة: حالات نجحت فيها جمعيات محلية في فرض تنفيذ تحقيقات أو دفع الحكومة إلى اللجوء إلى إجراءات مؤقتة (توقيف وحدة ملوّثة، فتح تحقيق إداري). هذه النجاحات الجزئية مهمة لأنها تثبت أن التنظيم يمكنه تحقيق نتائج ملموسة إذا ما استثمر أدواته بكفاءة.

2.6. بيانات رقمية تدعم الحاجة للتنظيم:

دراسات ميدانية في حوض قفصة المنجمي أظهرت تركيزات مرتفعة للمعادن الثقيلة في التربة والنباتات المحيطة بمواقع الغسل، ما يفتح احتمالا لمخاطر صحية مزمنة لدى السكان العاملين وقاطني المناطق. قيم مسجلة في بعض الدراسات: Cd حتى ~33 ppm في مواقع معينة ، أرقام تفوق حدود التلوّث الطبيعي المسموح به في ترب سليمة.
دراسات على مياه مخرجات صناعات الفسفاط رصدت أحماضا قوية (pH بين 2 و3) وملوحا عاليا، ما يعني أن تصريف هذه المياهه إلى المسطحات المائية أو التربة يغيّر من قابلية الحياة فيها بشدّة ويهدد السلسلة الغذائية المحلية.

2.7. اقتباسات وإحالات فكرية تدعم منطق التنظيم:

“العمل الجماعي هو أن نأخذ ما في العفوية ونحوّله إلى سياسة” ، صيغة مركبة تستلهم غرامشي وسياق العمل الاجتماعي: الفعل الجماهيري يستكمل بالمنهجية السياسية.
أندريه غورز: “لن ننقذ البيئة ما لم نغيّر طريقة عيشنا؛ ولن نغيّر طريقة عيشنا ما لم نغيّر المجتمع.” هذا يبرّر أن التنظيم البيئي ليس مشروعا تقنيا فحسب بل مشروعا اجتماعيا وسياسيا.
التنظيم هو الوسيلة لتحويل المطالب البيئية من موجات غضب متقطعة إلى منهج سياسي: قياس، مرافعة، تحالف، بديل تنموي. لكنه يبقى هشّا أمام مشكلات التمويل، التشظّي الاجتماعي، وضغط أجهزة الدولة واللوبيات. نجاحه يتوقف على قدرته على أن يصنع تحالفا واسعا يربط الميدان بالعلم بالقانون بالسياسة.

ثالثا: قفصة والحوض المنجمي ، الجرح المفتوح في الجسد البيئي التونسي.

3.1. السياق التاريخي والبعد الاقتصادي:

محافظة قفصة ومجموعة تجليات الحوض المنجمي (أمّ العرائس، الرديف، المتلوي، المظيلة) تمثّل منذ أكثر من قرن المنطقة الصناعية الاستخراجية الرئيسية في تونس: حيث تم اكتشاف احتياطيات ضخمة من الفسفاط، وهكذا تحوّلت المنطقة إلى “مخزون الدولة” في عهد الاستعمار ثم الدولة التونسية.
وفقا لتقارير، تمتلك تونس نحو 2.5 مليار طنّ من احتياطي الفسفاط عالميا، والغالبية في قفصة، حسب مصادر فرنسية.
لكن هذا النشاط الاستخراجي الضخم لم يصحب معه تنمية شاملة أو إعادة توزيع عادل. ففي الواقع، التحويل الصناعي لهذه المادة وشرائح القيمة الأعلى يتم في أماكن (مثل ڨابس أو صفاقس)، في حين تبقى المناطق المنجمية تحمّل الأثر البيئي والصحي، بينما تستفيد منها الدولة والشركات. هذا ما يجعل قفصة نموذجا واضحا لـ الظلم البيئي: موارد تسحب، وأضرار ترمى، وبطانة اجتماعية تنهار.
على سبيل المثال، إنتاج الفسفاط في تونس انخفض من حوالي ~8 مليون طنّ سنويا في 2010، إلى نحو ~2.83 مليون طنّ في 2020، بسبب احتجاجات الحوض المنجمي وانسداد قنوات الإنتاج.
وهذا الانخفاض يظهر ليس فقط أزمة إنتاج، بل أزمة اجتماعية ، فقدان وظائف، توقف استثمارات، وتفاقم التهميش.

3.2. التأثّرات البيئية والتلوث الميداني:

+التربة والمياه:
دراسات حديثة تؤكد أن مياه الصرف والصناعيّة في مناطق الحوض المنجمي تحتوي على معدّنات ثقيلة (مثل Cd، Ni، Cr، Al، Mn) بأرقام تتجاوز بكثير المعايير المقبولة: على سبيل المثال، دراسة تحليلية في موقع مظيلة/قفصة سجلت Cd بين 0.31-0.44 mg/L، Al بين 7.1-27.8 mg/L، Mn بين 1.9-3.5 mg/L، Ni بين 0.37-0.48 mg/L، Cr بين 1.1-2.12 mg/L.
كما أن مياه الجوف (الشبّانة) أظهرت قيما إشعاعية مرتفعة (مثلا ^238U𕛐.165 Bq/L، ^226Ra𕛔.5 Bq/L) في المنطقة، ما يعني وجود مكوّن إشعاعي إضافي إلى جانب الملوّثات الكيميائية.
التربة كذلك تأثّرت: “…حوالي ثلث الغطاء النباتي في حوض قفصة اختفى، وتركت ملايين الأطنان من الحمأة (البوء) المعدنية تلوّث تبعاتها”.
+الهواء والمجتمع المحلي:
بينما يركّز الكثير على التربة والمياه، فإنّ الهواء ليس بمنأى. الغبار المعدني، انبعاثات الغسيل، الهواء المحمّل بجسيمات دقيقة ومركّبات أكسيدية، كلها تؤثّر على صحة السكان.
في أحد تقارير العام 2013، ذكر أن منطقة ڨابس (وثيقة الصلة بصناعات الفسفاط) “لديها أعلى معدّل سرطان في تونس، وفي حيّ شطّ سلّام أحد المنازل وجد أن واحدل من كل عشرة أسر لديها حالة سرطان رئة”.
وفي قفصة، نشرت منظمة حقوقية أن النساء في الحوض المنجمي لديهنّ معدّلات إجهاض ومشاكل ولادة أعلى من المعدّل الوطني، بسبب التعرّض لملوّثات تنتجها صناعات الفسفاط.
+الاقتصاد والبطالة:
-الأمر يتجاوز التلوّث: ففي الحوض المنجمي، البطالة مرتفعة، خاصّة بين النساء (مثلا البطالة الجامعية النسائية تفوق 50٪ في بعض التقديرات) بينما إنتاج الفسفاط هو المصدر الرئيس للمنطقة.
إذًا، ما نراه هو: موارد تخرج، أيديّ عاملة تستخدم، والبيئة تدمّر، لكن التنمية لا تأتي للسكان. وهو ما يزيد من الاستياء المحلي والعنف المحتمل.

3.3. مسارات النضال والاحتجاج في الحوض المنجمي:

احتجاجات المناجم وعمليات إغلاق موقت كثيرة حصلت في المظيلة، الرديف وأمّ العرائس، حيث يُسدّ المنجم طريقه من الإضراب أو التجميد تزامنا مع مطالب بيئية واجتماعية. كما أن الوثائق الحكومية تشير إلى أن تراجع الإنتاج كان مرتبطا بحالة الشارع لا بسوق الفسفاط فقط.
هذه الحركات العفوية والتحركات الشعبية تعدّ تمهيدا للتنظيم، لكنها ما زالت عاجزة عن تغيير نموذج الإنتاج أو فرض سياسة عدالة بيئية حقيقية.
الواقع في قفصة والحوض المنجمي يظهر بوضوح أن التلوّث هو نتاج طبيعة صناعية استخراجية تعمل بمنطق: استخراج – تصنيع – تصدير، مع تحميل الأضرار لمن يعيش في محيطها. النضال هنا ليس خيارا تكميليا، بل ضرورة جوهرية لإعادة بناء مشهد الإنتاج، وإحقاق حقّ العيش والبيئة لكافة التونسيين.

رابعا: البيئة كمسألة طبقية وعدالة اجتماعية.

4.1. البعد الطبقي للتلوّث:

عند النظر إلى التلوّث في تونس، نجد أنه يركّز في المناطق الأكثر تهميشا: المناجم الداخلية، الأرياف، الجزر الصناعية الثقيلة، حيث الفقر أكبر، والقوة التفاوضية أقل، والوعي الجماعي غالبا أضعف. بينما الطبقات الوسطى والطبقة العليا، التي تسكن عادة في المناطق الحضرية الأفضل خدماتا، لا تتحمّل الأضرار بنفس الدرجة.
كما قال المفكر الأميركي موراي بوكشن: «لا يمكننا أن نفهم الأزمة البيئية دون أن نفهم البنية الهرمية للمجتمع.»
في تونس، هذا ينطبق حرفيا: التلوّث والرّهان التنموي يتجهان إلى الهوامش، بينما الربح المركزي يوظّف للطبقات العليا أو يعيد توزيع نفسه خارجها.

4.2. توزيع المخاطر والمنافع:

+المنافع: الفسفاط، الصادرات، تكنولوجيا التصنيع، وغيرها من عوائد الدولة أو الشركات. مثال: تونس تخطّط لرفع الإنتاج إلى 14 مليون طنّ بحلول 2030، وهو هدف اقتصادي كبير.
+المخاطر: تلوّث الهواء، المياه، التربة؛ أمراض تنفسية وعضوية؛ تدهور البيئة البحرية؛ فقدان الصيد والزراعة في المناطق المتضرّة.
على سبيل المثال، في منطقة الحوض المنجمي، معدل البطالة بين النساء الجامعيات 54٪، بينما النساء يشكّلن غالبية المتضرّرات من التلوّث.
كما أن دراسة في منشور (Environmental Science & Pollution Research، عام 2025) وجدت أن مياه الصرف من مصانع الأسمدة في مظيلة/قفصة تسبّبت في تأثيرات سمية مباشرة على خلايا بشرية ، النسبة المئوية للموت الخلوي (IC₅₀) كانت 12.06٪، 17.68٪، 24.23٪ في مواقع مختلفة، ما يدلّ على واضحة وسريعة التأثير.

4.3. الربط مع النضالات الاجتماعية والعمالية:

النضال البيئي لا يمكن فصله عن نضال العمال والفلاحين. ففي الحوض المنجمي، الكثير من العاطلين أو شبه العاطلين هم من عوائل معتمدة على الفسفاط أو الأنشطة المرتبطة به، لكنهم يرون كيف أن إنتاجهم يجنّبون، وأثره يعطى لهم كوكالون. هذا ينتج شعورا مزدوجا: “هم يستفيدون، ونحن ندفع الثمن”.
وعليه، تجد الحركة البيئة الميدانية نفسها تلاق مع المطالب العمالية (وظائف، أمان بيئي، صحة). إن ربط المطالب ، مثل تحسين الشروط البيئية + تحسين التشغيل المدني ، هو ما سيحوّل الموضوع من “بيئة” إلى “عدالة اجتماعية”.
ما نعانيه ليس تلوّثا منفصلا عن البنية الاجتماعية، بل علامة على هيمنة رأسمالية استغلالية جعلت من البيئة حلقة في سلسلتها، وجعلت من الناس “تكلفة خارجية” يجب أن تدفع. لإحقاق العدالة، يجب أن يعاد تشكيل ما يسمّى “البيئة” لتشمل حقوقا اجتماعية، صحية، تشغيلية، وليس مجرد “حماية” بالمعنى التقليدي.

خامسا: الدولة بين الإنكار والتسويف ، السلطة التي تشرعن التلوّث.

5.1. الدولة كفاعل مركزي في النسق البيئي:

في تونس، الدولة ليست مجرد طرف مواز للمجتمع المدني أو الشركات، بل هي فاعل مركزي في بنية الإنتاج والتلوّث: من ترخيص الشركات، إلى متابعة التأثيرات البيئية، إلى وضع التشريعات الزجرية، إلى إجراء المراقبة، ثم تنفيذ العقوبات أو نقل الآثار. وعليه، فإنّ سؤال “من يقف خلف التلوّث” ليس فقط خاصّا بالشركات أو المناطق الملوّثة، بل بالدولة، بمؤسساتها، وبالبنية القانونية والسياسية التي تسمح باستمرار التلوّث.

5.2. سياسة التهميش والإنكار:

+إنكار أو تقليل مسؤولية الدولة: تحليل لـ Tunis بيّن أن “العديد من السياسات البيئية لم تنفّذ بسبب ضعف الإرادة السياسية” بينما “تغيّرات الوزارات المستمرّة” وخشية التأثير على النمو تسبّبت في تباطؤ.
+التسويف والإجراءات الظرفية: مثلا في قابس، بعد احتجاجات مستمرّة على مصنع الكيميائيات، وعود بنقل المصنع أو تحديثه لم تترجم إلى إجراء حاسم. وفي تقرير صحفي حديث: “رغم تشكيل لجنة تحقيق بأمر الرّئيس، لم ترصد تغييرات ملموسة لدى السكان”
+تغيّر الوزارات والتنقّل الإداري: منذ الثورة، الوزراء المسؤولون عن البيئة غالبا ما كانوا في منصبهم لفترات قصيرة (متوسط مدة تقلّ عن 389 يوما) ما جعل تنفيذ السياسات طويلة الأمد أمرا صعبا.

5.3. تشريعات وإطار قانوني ناقص:

ينصّ دستور (2022) على الحق في “بيئة صحية ومتوازنة” في الفصل 47 .
لكن الواقع أنّ المؤسسات التي يفترض أن تطبّق هذا الحق تفتقر إلى الإمكانات والمساءلة، ما يجعل الحق شكليا غالبا.
نظام الضرائب البيئية موجود (مثل الضريبة على المواد البلاستيكية المستوردة، صندوق مكافحة التلوّث FODEP) لكن بيانات الإيرادات ضعيفة، والتطبيق غير متكامل.
+التصنيفات الدولية: وفق Yale Center for Environmental Law & Policy، تقع تونس في المرتبة 91 عالميا في مؤشر الأداء البيئي لعام 2024، لكن عندها تراجع واضح في مؤشرات “الحيوية الإيكولوجية” و”التنوّع البيولوجي”.

5.4. البيانات تفضح الفجوة بين القول والفعل:

مياه الريّ والصرف الصناعي تواجه مشكلات كبيرة: مثلا، بيانات لجزء من المياه الجوفية في حوض قفصة أظهرت تراكيز معادن ثقيلة تفوق المعايير. شاهدنا في قسم سابق تلك الأرقام.
-جودة الهواء: قيمة PM₂.₅ لتونس تقدّر بـ ~10.3 ميكروغرام/م³ — الرقم ليس كارثيا بالنسبة للدول النامية، لكنّه لا يعبّر عن الفوارق الجهوية الكبيرة، حيث تتعرض مناطق مثل المنجم والمصنع لتركّزات أعلى بكثير.
-النفايات: وفق معطيات CIA World Factbook، تونس تنتج ~2.7 مليون طن نفايات صلبة سنويا (2014)، وتعاد تدوير ~108 آلاف طن فقط (~4 %).

5.5. الاختيارات التنموية: الإنتاج أم البيئة؟:

الدولة التونسية اختارت ، بشكل معلن أو ضمني ، استمرار أنماط استخراجية كثيفة (مثل الفسفاط، النفط، الأسمدة) رغم أضرارها البيئية والاجتماعية. مثال: هدف رفع إنتاج الفسفاط إلى 14 مليون طن بحلول 2030.
هذا التوجّه يدلّ على أن “تنمية الموارد الطبيعية” تظلّ أولوية أعلى من “التنمية المستدامة” أو “العدالة البيئية”.
الدولة التونسية اليوم بين خيارين: إما تحوّل حقيقي في نمط إنتاجها وسياساتها البيئية، أو استمرار زحف الضرر البيئي على المجتمعات المحلية. إنّ التسويف ليس مجرّد تقصيرٍ إداري، بل جزء من العقد التنموي الذي يُكرّس التبعية والنهب. نضال البيئة إذا ليس ضد التلوث وحده، بل ضد منظومة الدولة–رأس المال–المجتمع التي تسمح به.

سادسا: آفاق النضال البيئي ، نحو جبهة وطنية للعدالة البيئية.

6.1. لماذا آفاق؟ لماذا الآن؟:

نتيجة تراكم العفوية والتنظيم، وتفاقم الأزمات (بيئية، صحية، اجتماعية)، جاء وقت توسيع الأفق: من احتجاجات محلية متناثرة إلى مشروع وطني يلمّ تجارب المناطق ويضع رؤية شاملة للعدالة البيئية.
«البيئة ليست قضية مستقبلية، بل موضوع وجودي اليوم» ، كما قلنا في المقدمة.
إن الانتقال من العفوية إلى التنظيم، ومن التنظيم إلى حركة جماعية وطنية، هو ما قد يحدّد شكل تونس القادم.

6.2. ملامح الجبهة الوطنية المقترحة:

-توحيد النضالات المحلية في منطقة واحدة. على سبيل المثال، ربط حركات ڨابس، قفصة، صفاقس، المناطق الساحلية والمناطق الداخلية، ضمن شبكة وطنية.
-تحالف قطاعيّ: مشاركة الفلاحين، العمال، الجمعيات النسائية، الحركة الطلابية، الباحثين، والمنظمات الحقوقية.
-خارطة طريق سياسية واضحة: تتضمن مقترحات إصلاحية محدّدة مثل «خطة انتقال عادل للمنطقة المنجميّة»، «خطة تنظيف وتحديث الوحدات الكيميائية في ڨابس»، «برنامج تعويض صحي وإعادة تأهيل بيئي للمتأثرين».
-آليات ضغط واستمرارية: إنشاء «مرصد وطني للعدالة البيئية» مستقل، يعتمد على بيانات وتقارير ويكون شريكا في التفاوض مع الدولة والشركات.
-بعد بديل تنموي: الانتقال إلى طاقات متجددة، الاقتصاد الدائري، الزراعة المستدامة، وتحسين البُنى التحتية البيئية ، وليس فقط مقاومة التلوّث، بل بناء اقتصاد مختلف.

6.3. الأدلة والبيانات التي تدعم ضرورة هذا الانتقال:

الترتيب الدولي لتونس (38 في مؤشر الاستدامة العالمي) يبيّن أن الإصلاحات البيئية يمكن أن تعزّز فرص التنمية.
+الخطط الحكومية: مشروع الهيدروجين الأخضر في تونس (مثلا مفاوضات مع TotalEnergies/VERBUND لإنتاج 200000 طن سنويا من الهيدروجين بحلول 2030).
+الشفافية والبيانات: تونس انضمت لمبادرة Data4Now لتعزيز الإحصاء البيئي.
هذه المعطيات تشير إلى أن هناك نواة في الدولة وعلى المستوى الدولي يمكن البناء عليها ، لكن يتطلب الأمر ضغطا مجتمعيّا منظّما لتحويلها إلى واقع.

6.4. التحديات والفرص:

+التحديات:
-التجزئة المحلية وعدم التنسيق المركزي.
-ضعف التمويل المستقل للمبادرات البيئية.
-مقاومة مصالح قوية (شركات، لوبيات، بنى تقليدية).
-غياب التمثيل الواقعي للمناطق المتضرّرة في صنع القرار.
الفرص:
-تصاعد وعي شعبي واحتجاجات متكرّرة (مثال: احتجاجات ڨابس أكتوبر 2025).
-فرص تكنولوجية (الطاقات المتجددة، تدوير النفايات، الهيدروجين الأخضر).
-الالتزامات الدولية (الاتفاقيات البيئية، أهداف التنمية المستدامة) التي توفر إطاراً لتبرير التغيير.

6.5. خطة عمل مقترحة مختصرة:

+القياس الوطني الشامل: تكوين جهاز رقابي مستقل لجمع بيانات التلوّث في كل المناطق المعرضة.
+التوعية والربط المحلي: حملات إعلامية تربط بين التلوّث وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، مع إشراك المدارس والمجتمع المدني.
+تشكيل شبكات محلية إلى جبهة وطنية: عقد مؤتمر وطني للبيئة يجمع المنظمات من كل الجهات، ويقر ميثاقا للعدالة البيئية.
+مفاوضة الدولة والشركات: استخدام التقارير والمطالبة بخطة “انتقال عادل” للمنطقة المنجميّة، تضمّ وظائف بديلة، حذف الوحدات الأكثر تلوّثا، ومتابعة صحية للسكان المتضرّرين.
+بدائل اقتصادية بيئية: دعم المشاريع الصغيرة في الزراعة المستدامة، إنتاج الطاقات الشمسية والرياح محليا، مشاريع إعادة التدوير.
+مراقبة وتنفيذ وقانون: تأمين أن الأدوات القانونية تفعّل (قوانين البيئة، قوانين الصحة المهنية، قوانين العدالة الاجتماعية)، ومحاسبة المخالفين.
إذا ترك الأمر فقط للعفوية أو للاحتجاجات المحلية، فسنظلّ نلاحق تسويات مؤقتة. أما إذا ما توفّرت جبهة وطنية متماسكة تعيد صياغة العلاقة بين البيئة والمجتمع والدولة، فحينها يمكن أن تتغيّر تونس: ليس فقط من حيث “البيئة النظيفة” بل من حيث العدالة الاجتماعية، التشغيل الكرامة الوطنية، والاستقلال البيئي.
في هذا الإطار، النضال البيئي ليس معركة هامش، بل خطّ مقاومة رئيسيّ للبعد التونسي المستقبلي.

سابعا: النساء والفلاحات في النضال البيئي التونسي.

7.1 السياق ودور المرأة الريفية:

في تونس، تشكّل المرأة الريفية أو العاملة في القطاعات البيئية أحد أطراف المعادلة التي تكشف تداخل البيئة، النوع الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية. فوفقا لتقرير بعنوان “Drought and Contamination: Climate Change Aggravates the Plight of Rural Women in Tunisia”، فإنّ النساء الريفيات يعانين "عبئا أثقل من تغيّر المناخ مقارنة بنظرائهن في الحضر. إذ إنّهنّ يشكّلن أكثر من 50٪ من السكان الريفيين و70٪ من العاملين في الزراعة".
كما أن التنميّة الريفية التقليدية تتجاور مع تغيّرات مناخية (جفاف، تقادم المراعي، تملّح التربة، نقص المياه) بحيث تصبح المرأة محورا عمليا للتعامل مع التدهور البيئي ، من جمع الحطب، إلى الريّ، إلى تربية المواشي، إلى الحراجة الموسمية.

7.2 تجارب ونماذج انخراط نسائي:

في منطقة بنزرت (سجنان) مثلا، مبادرة إعادة تشجير أشرفت عليها نساء محليات زرعن نحو 100000 شجرة (بأنواع صمّمت لتحمّل الجفاف، مثل البلوط، السرو، والصنوبر) ضمن مشروع “Soli & Green”.
في البحر، على جزر قرقنة قرب صفاقس، تعمل صيّادات نساء ، مثل سارة السويسي (43 سنة) ، في ظروف مهنية مزدوجة: مواجهة صعوبات بيئية (ارتفاع حرارة البحر، تراجع الصيد، تلوّث مياه) وصراعات اجتماعية (هيمنة الرجال على مهنة الصيد)؛ لكنهنّ يستمرّن في العمل، لأن مصدر العيش أو المساهمة العائلية يُحتم ذلك.

7.3 الأبعاد الإحصائية والبحثية:

دراسة منشورة في MDPI بعنوان “Investigating the Gender-Climate Nexus: Strengthening Women’s Roles in Adaptation and Mitigation in the Sidi Bouzid Region” فحصت نساء ريفيات في سيدي بوزيد، ووجدت تقسيما إلى ثلاث فئات: شديدة التعرض، معرضة، وقادرة على التكيّف. من أبرز النتائج: نقص موارد المياه أدى إلى تصاعد التوترات الأسرية وانخفاض الدخل الزراعي.
مشروع “Empower women to combat climate change in Tunisia” أشار إلى أن نحو 75٪ من الأراضي التونسية مهددة بالتصحر، وأنّ 17٪ من النساء يعملن في القطاع الزراعي ، ما يجعلهنّ عرضة تأثّرا مزدوجا: بطالة/فقر + تغيّر بيئي.

7.4 التحدّيات التي تواجهها النساء في الميدان البيئي:

+ضعف الوصول إلى الأراضي، التمويل، التقنيات الملائمة، والتدريب ، مما يحدّ من قدرة النساء على التكيّف مع التغيّرات البيئية وتحويلها إلى فرص.
+ازدواجية العبء: المرأة الريفية مسؤولة عن المنزل، تربية الأولاد، جمع الحطب أو المياه، وفي نفس الوقت تتعرّض لتقلّص المصادر الطبيعية والمخاطر البيئية.
+عدم الاعتراف الرسمي بدورهنّ أو تجنيدهنّ في السياسات البيئية ، كثيرا ما تكون الأصوات النسائية مرئية محليا فقط، وليس ضمن القرار المركزي.
+التسييس/القمع: بعض النساء الناشطات واجهن الاستدعاء أو الاعتقال بسبب مشاركتهنّ في احتجاجات بيئية. مثال: الناشطة رانيا مشارقي في جندوبة/عين دراهم تمّ استدعاؤها قضائيا بعد احتجاج من أجل حقّ المياه.
7.5 لماذا تعدّ مشاركة النساء عنصر قوة؟
لدى النساء الريفيات معرفة مباشرة بالأرض، المياه، النباتات، ومصادر الحياة ، أي بأنّهنّ فاعلات بيئيات لا مجرد ضحايا.
إشراك النساء يعزّز “التغذية المعادِيّة” لنموذج الإنتاج: مشروع الزراعة المستدامة، إعادة التشجير، الاقتصاد التضامني الريفي ، أنماط بديلة للنمط الصناعي الملوّث.
مشاركة النساء تعني توسيع معنى “البيئة” من معالجة تقنية إلى معالجة اجتماعية وتحويلها إلى قضية عدالة بين الأجيال وبين الجنسين وبين الحضر والريف.
إذا، لا يمكن للنضال البيئي التونسي أن يغفل هذا البعد النسائي الريفي أو الحرفي ، فهنّ ليسنّ مجرد «متأثرات» بل كيانات فاعلة تستطيع أن تشكّل محورا خاما للتحوّل. إن دمجهنّ في التنظيم البيئي، وتقديم آليات تمكين حقيقية (تمويل، تدريب، دورات، ملكية الأرض، تكنولوجيا) سيغيّر من خارطة الفاعلين، ومن توزيع القوى في هذا النضال.

ثامنا: الشباب ودورهم في النضال البيئي ، قوة المستقبل المتحركة.

8.1 الواقع والشباب: بين البطالة وحساسية المناخ:

في تونس، تشكّل فئة الشباب (15-29 سنة) نحو 30٪ من السكان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي فئة مهدّدة بالبطالة، وتعيش في بيئة تتزايد فيها التحديات المناخية والبيئية.
دراسة كشفت أن طلبة الثانويات (ن = 372، أعمار 16-20 عاما) لديهم مستوى منخفض من «المعرفة البيئية الصحية للّوكيميا» ، أي أن الشباب غير مجهّز كفاية بوعي صحي بيئي.

8.2 النماذج الشبابية في الميدان:

في عام 2019، تأسّست حركة Youth For Climate Tunisia (YFCT) بناء على إلهام من الحركة العالمية Fridays for Future ، حيث نظموا إضرابات طلابية، أنشطة عبر شبكات التواصل، ولقاءات مع سياسيين.
في الإعلام الرقمي، من أبرز المبادرات: “Blue tn” ، منصة بيئية تونسية أنشأتها شابة، وتضم فريق عمل بنسبة 90٪ من النساء، وتوجهت لاستقطاب الشباب عبر محتوى مبسّط وترفيهي.

8.3 إمكانيات الشباب في النضال البيئي:

+طاقة التجديد: شباب اليوم أقل ارتباطا بالهياكل التقليدية، أكثر قدرة على الاستخدام الرقمي، والمبادرة المباشرة.
+جسر بين القضايا: البطالة، التلوّث، المناخ ، كلّها تمسّ حياتهم، وبالتالي لديهم دافع شخصي للمشاركة.
+القدرة على التشكيل: عندما ينظّم الشباب، يمكنه أن يحدث ضغطا حضريا/إعلاميا يفرض أجندة بيئية على الدولة (مثال احتجاجات ڨابس أكتوبر 2025، والتي شهدت مشاركة شبابية ملحوظة).

8.4 التحديات التي تواجهها مشاركة الشباب:

-ضعف المعرفة المتخصصة: الدراسة التي أشارت إلى نقص الـ EHL لدى طلاب الثانوي.
-تثبيت التنظيم: المبادرات الشبابية غالبا ما تبقى مقتطعة أو موسمية، ما يجعلها تفقد الزخم.
-القمع القانوني/الإداري: السلطات التونسية وثّقت بين 2020 و2025 أنها استهدفت الكثير من المحتجين أو ناشطين بيئيا/اجتماعيا بتهم فضفاضة (مثل “عرقلة العمل”) في سياق احتجاجات بيئية واجتماعية.
-الحواجز الاقتصادية والاجتماعية: انخراط الشباب غالبا يعتمد على توافر وقت، تمويل، شبكة دعم ، وهو ما يفتقر إليه كثيرون.
الشباب في تونس يشكّلون رافعة تغيير ممكنة في النضال البيئي، سواء من حيث الديناميكية أو الرؤية أو الاستخدام الرقمي. لكن شرط نجاحهم هو أن يتحولوا من فرديّة إلى تنظيم، من احتجاجات عفوية إلى تشكيل مستمر، ومن صوت نقاشي إلى ضغط مؤسّسي. إدماجهم في الجبهة الوطنية أو الهيكل التنظيمي البيئي سيعطي النضال دفعة نوعية.

التاسع — النقابات والعمال: بين الضحية والفاعلية السياسية .

9.1. وضعية العمال في المناطق الملوَّثة: مزدوجة ومعقّدة:

العمال في قطاعات الاستخراج والمعالجة (عمّال المناجم، عمال المصانع الكيميائية، العمّال المتعاقدون في وحدات الغسل والتصنيع) هم في الـ«نقطة الثنائية» للمعادلة: من ناحية هم من يستفيدون ، مؤقتا ، من فرص العمل، ومن ناحية أخرى هم الأكثر تعرّضا للمخاطر الصحية والاقتصادية طويلة الأمد. العمل في حوض قفصة أو في وحدات تحويل الفسفاط يوفّر دخلا محدودا، لكنّه يعرّض العمّال لمواد سامة، لحوادث مهنية، ولأمراض مهنية مزمنة. دراسات ميدانية أكدت تركّز عناصر سامة في مواقع المعالجة، كما رصدت حالات تسمّم ومؤشرات صحية أعلى من المعدل في السكان والعاملين.
+مثال رقمي مهم: إنتاج الفسفاط تراجع من ~8 مليون طن في 2010 إلى ~2.8 مليون طن في 2020 نتيجة اضطرابات الشارع وأعمال الإضراب والاعتصام؛ هذا التراجع لا يعني بالضرورة تحسّنا بيئيا إن لم يصحبه بديل اقتصادي والاجتماعي للعمال.

9.2. دور النقابات التقليدية (UGTT وما يماثلها): إمكانيات وتردّدات:

النقابات العمالية الكبرى في تونس (خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل UGTT) لعبت تاريخيا أدوارا مزدوجة في ملفات التشغيل والحقوق الاجتماعية، وقد تدخلت أيضا في ملفات بيئية عندما تقاطعت مع مطالب التشغيل والصحة. الحركة النقابية يمكن أن تكون قوة محورية إذا ما ربطت بين مطلب الصحة البيئية ومطالب الشغل والكرامة. أمثلة أخيرة تظهر نقابات جهوية تدعو لإجراءات احتجاجية ضدّ تردّي الوضع البيئي (نداءات للوقفات والتعبئة) وطلب عقد مجالس وزارية. وهناك تحرّكات نقابية جهوية في قابس وقفصة تطالبت بإجراءات ملموسة حفاظا على الصحّة والوظائف.
لكنّ النقابات أيضا أمام اختبارات صعبة:
+المأزق الأخلاقي: الدفاع عن وظائف ملوّثة أم الضغط لإغلاق الوحدات؟
+خطر التسويق السياسي: قد تستغلّ بعض التحركات النقابية لمناورات سياسية دون حلول حقيقية.
+التمايز الطبقي داخل صفوف العمّال: العمال الدائمون مقابل المؤقّتين، من يملك حماية اجتماعية ومن لا يملك ، كلّ ذلك يضعف القدرة على مطلب موحّد.

9.3. نماذج اشتباك ناجحة: العمل المشترك بين العمّال والمجتمع المدني:

أمثلة من تونس وخارجها تظهر أن أفضل النتائج تتحقّق حين تتكوّن جبهة موحّدة: نقابات + جمعيات محلية + باحثون + نقاد بيئيون. في بعض مناطق الحوض المنجمي، شهدنا تحالفات محلية ساعدت على توثيق الانبعاثات ورفع شكاوى وإجبار الجهات على فتح تحقيقات. هذه التحالفات تمنح الحركة شرعية مزدوجة: شرعية اجتماعية (تمثيل السكان) وشرعية مهنية (تمثيل العمّال).

9.4. مطالب عملية للنقابات كي تكون فاعلة فعلا:

تحميل الملف البيئي أولوية ضمن مطالب التشغيل: أي تفاوض على الشروط المعيشية يجب أن يشمل بروتوكولات صحية، فحوصات دورية للعمّال، وتعويضات عن الأمراض المهنية.
-مناصرة خطة «انتقال عادل»: تحويل العمال إلى أنشطة بديلة (الطاقة المتجددة، تدبير النفايات، مشاريع تدوير)، مع ضمانات للتدريب والتعويض. (مبدأ «Just Transition» حسب ILO).
شراكة مع باحثين لتدعيم المطالب بدراسات صحيّة وبيئية قابلة للاستخدام القانوني. دراسات ميدانية (مثل تلك عن تركيزات المعادن والـpH الحمضي في مصارف المظيلة) تعتبر أدلة قوية في التفاوض القضائي والسياسي.
تضمين النساء والشباب ضمن قرارات النقابات لأنهم الأكثر تضررا والأكثر قدرة على الإبداع في حلول بديلة؛ هذا يحوّل النقابة من هيئة دفاع اجتماعي إلى قوة تحول مجتمعي.

9.5. معطيات وأرقام داعمة (مقتطفات):

إنتاج الفسفاط: تراجع من ~8 مليون طن (2010) إلى ~2.8 مليون طن (2020) بسبب احتجاجات وإضرابات في الحوض المنجمي.
بيانات تشغيل إقليمية (قفصة) تظهر أن العمالة الإقليمية تراوح مستوياتها سنويا (مثلا 79 ألف شخص سجلت في بيانات سابقة)، مع تفاوتات بحسب العقود والمواسم.
دراسات بيئية ومخبرية عيّنت وجود مياه صناعية بـpH حمضي جدا (2–3) وملوحة عالية في مخرجات مصانع الفوسفاط في مَظيلة/قفصة، ما يطرح خطرا بيئيا وصحيا حقيقيا على العمال والمجتمع.

العاشر — التقنيات البديلة، الاقتصاد الأخضر، وخارطة طريق للانتقال العادل .

10.1. لماذا «التقنيات البديلة» ليست خيارا تقنيا فقط؟:

التحوّل التقني (طاقة شمسية، طاقة ريح، تدوير، إزالة الكادميوم من الفسفاط، الهيدروجين الأخضر) يجب أن يرافقه تحوّل اجتماعي وسياسي: ملكية محلية، المشاركة، الحماية الاجتماعية، وسياسات توجيهية. لا يكفي إيجاد الحلول التقنية إذا ظلّت الفوائد خارج المجتمعات المتضررة. الدراسات والسياسات الدولية (ILO، UNFCCC، IEA) تؤكد أن الانتقال يمكن أن يخلق وظائف جديدة إذا كانت هناك خطة تدريب وتمويل وإشراك للعمّال.

10.2. المشروعات الواعدة ، فرص ومخاطر:

+الهيدروجين الأخضر (H2 Notos et TE H2 /VERBUND/TotalEnergies): مشاريع كبرى تستهدف إنتاج مئات الآلاف من أطنان الهيدروجين الأخضر سنويا، مع إمكانيات توظيف وبنى تحتية ضخمة. مثال: مشروع H2 Notos يخطط لإنتاج 200,000 طن/سنة في المرحلة الأولى، مع قدرة تصاعدية إلى 1 مليون طن سنويا. هذا مشروع ضخم يمكن أن يخلق فرص عمل وإنعاشا للمناطق الجنوبية، لكنه يثير أسئلة عن منافع التصدير مقابل المنافع المحلية ومن سيكون الفاعل المسيطر على الربح.
+مشروعات طاقة متجدّدة وطنية: تونس تسعى لرفع نسبة الطاقات المتجددة في المزيج إلى مستويات طموحة (خطط لغاية 35% بحلول 2030 وبعض المشاريع المعلنة لتوليد مئات ميغاوات). هذه البنية تفتح فضاءات لتوظيف محليّ في إنشاء وصيانة محطات شمس/رياح وتطوير منظومات تخزين. لكنّ التحدّي هو ضمان مشاركة محلية حقيقية وليس مجرد استثمار خارجي يستغل الأرض والموارد.
+التقنيات للحد من التلوّث الفسفاتي (مثلاً تقليل الكادميوم): أبحاث وتقنيات صناعية (تنقية الخام، تقنيات معالجة الحمأة، خفض محتوى الكادميوم) قيد التطوير ويمكن أن تقلل المخاطر الصحية والبيئية إذا فعلت تحت رقابة صارمة وبأولوية للصحة العامة. أبحاث عام 2025 تقترح طرقا فعالة لتخفيض Cd في الفسفاط مما يخفّف المخاطر على التربة والمحاصيل.

10.3. مخاطر التحوّل التكنولوجي غير المُدار (تحذيرات):

مشاريع التصدير الكبرى (هيدروجين أخضر) قد تحوّل تونس إلى محطة إنتاج خام للطاقة الخضراء تغذّي أوروبا بينما تظلّ المناطق المحلية تحمّل أعباء بنى تحتية ومخاطر بيئية محلية. دراسات نقدية تؤكّد أن هناك ضرورة لإطار «just transition» لمنع تفاقم عدم المساواة.

10.4. خارطة طريق مفصّلة (خطة عمل مرحلية، قابلة للتطبيق):

+المرحلة الأولى ، التقييم والشفافية (0–12 شهرا):
-إنشاء «مرصد وطني مستقل للبيئة والعمل» يضمّ خبراء، ممثلين عن النقابات، جمعيات المجتمع المدني، وخبراء صحيين. المرصد يجمع بيانات قياسية، ينشرها، ويعدّ تقارير سنوية. (أمثلة: نجاحات مرصد محليّ قادرة على دفع قضايا قضائية).
-تنفيذ مسح صحي ووبائي شامل للمناطق المنجمية وصناعات الفسفاط (تحليل معدني، متابعة سرطانات، أمراض تنفسية، تشوّهات ولادية). هذه قاعدة لا غنى عنها لمطالب التعويض وسياسات الصحة العامة.
+المرحلة الثانية ، حماية العمال والمجتمعات (12–36 شهرا):
-اعتماد قوانين تحمي العمّال: فحوصات طبية إلزامية، تعويضات عن الأمراض المهنية، صناديق دعم للعاملين المتضرّرين، برامج تأهيل مهني. (مبادئ ILO عن الانتقال العادل).
-فرض بروتوكولات بيئية صارمة على وحدات التصنيع: رقابة دوريّة، قياسات مستقلة، إلزام شركات الفسفاط والمعالجة بأن تطبّق تقنيات احتواء النفايات ومعالجة الحمأة. دراسات تُظهر أن معالجة الحمأة ورفع مستوى المقاييس يقلل أثر التلوّث.
+المرحلة الثالثة ، الانتقال الاقتصادى (36–96 شهرا):
-تبنّي مشاريع توليد طاقة متجددة موزّعة (مزارع شمسيّة/رياح مجتمعيّة) مع معدلات ملكية محلية (شركات تعاونية، شركات صغيرة) لتأكيد أن الفوائد المحلية ملموسة وليس فقط تصدير.
-إنشاء برامج إعادة توظيف واسعة: تدريب العمّال في مجالات تركيب وصيانة الألواح الشمسية، تصنيع قطع الغيار المحلية، إدارة محطات التحلية/الهيدروجين، وإدارة تدوير النفايات. ILO تظهر أن الاستثمار في التدريب يخلق «وظائف خضراء» ويحمي العاملين من فقد مفرط للوظائف.
+المرحلة الرابعة ، العدالة البيئية المنهجية (96 شهرا فصاعدا):
-اعتماد قانون خاص بالعدالة البيئية يتضمن معايير للتعويض، إعادة التأهيل البيئي، وصيغ امتلاك محلي/إشراف شعبيّ على المشاريع الكبرى.
-خلق صناديق وطنية للشفاء البيئي ، مصادر تمويل من ضريبة على أرباح الشركات الملوّثة، مساهمة دولية مشروطة (آليات تمويل بشروط العدالة)، واستثمار عائدات المشاريع الخضراء في تنمية المناطق المتضرّرة.

10.5. أرقام وتقديرات ميدانية لدعم الخطة:

+إمكانات الهيدروجين الأخضر: مشروع H2 Notos يهدف 200,000 طن في المرحلة الأولى مع قوة لتوسيعها إلى مليون طن سنويا ، هذا على الورق يوفر فرصا صناعية ضخمة لكنّها تتطلب إدارة العمال، محتوى محلي، وحماية بيئية حقيقية.
+إمكانات التوظيف الأخضر: وثائق ILO تشير إلى أن الانتقال المدروس يمكن أن يخلق آلاف الوظائف المحلية في قطاعات النفايات والمياه والطاقة إذا ما توفر التمويل وبرامج التدريب الملائمة. (تقديرات تعتمد على مدى الاستثمارات والسياسات).

10.6. مخاطِر وتوصيات نهائية سريعة:

-تجنّب نموذج التصدير الخالص للهيدروجين دون خلق قيمة محلية؛ اطلب شروطا تربط التصدير بمحتوى محلي واستثمارات اجتماعية حقيقية.
-اجعل العدالة البيئية حجر الزاوية للتفاوض: أي اتفاق مع شركات دولية يجب أن يتضمن بنود تعويض صحي، برامج إعادة تأهيل، وتوظيف محلي.
-نشّط آليات الرقابة الشعبية عبر مرصد مستقل وشفّاف؛ البيانات هي رأس مال الحركة ويجب حمايتها.
العمال والنقابات يمكن أن يكونوا الشريك المركزي في عملية الانتقال ، ليس كحاجزين أمام التغيير، بل كقوّة تحويلية تربط الشغل بالبيئة والعدالة. وفي الوقت نفسه، التكنولوجيا والبدائل (الطاقة النظيفة، معالجة الفسفاط، الهيدروجين الأخضر، إعادة التدوير) قد تحمل فرصا حقيقية لكنها ليست بطاقة سحرية؛ نجاحها مرهون بإستراتيجية وطنية عادلة، إشراك المجتمع المحلي، وضمان حماية العمّال والنساء والشباب.
الخيار بين استمرار نموذج «ثروات تستغل ، أضرار تلقى على الهوامش» أو نموذج «عدالة بيئية وانتقال عادل» هو خيار سياسي بالدرجة الأولى. وبالتالي، النضال البيئي يجب أن يبقى معركة اجتماعية وسياسية ، تعمل فيها النقابات، المجتمع المدني، النساء، والشباب، جنبا إلى جنب ، لكي يكتب لتونس مستقبل لا يزرع فيه البشر ثمن رفاهية الآخرين.

خاتمة :

إنّ النضال البيئي في تونس، في جوهره، ليس معركة عرضيّة حول «التلوّث» أو «الهواء النظيف» فحسب، بل هو صراع اجتماعي طبقي طويل النفس، تتقاطع فيه قضايا العدالة البيئية مع قضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فحين تتلوّث سماء ڨابس، أو تتسرّب الغازات السامّة من وحدات المظيلة و السخيرة و صفاقس، أو حين يجفّ الماء في أمّ العرائس و الرديف ويغتال الوادي بفعل النفايات الفسفاطية، فإنّ الأمر لا يتعلّق فقط بخلل تقني في المنظومة الصناعية، بل بمنظومة كاملة من الاستغلال، من المركز نحو الأطراف، ومن الرأسمال نحو الإنسان.
لقد تحوّل الجنوب التونسي، وخاصة الحوض المنجمي بقفصة وڨابس والسخيرة و صفاقس، إلى مختبر للتفاوت البيئي والاقتصادي في آنٍ واحد: حيث تنتج الثروات في الجهات المهمّشة، ويستهلك الربح في المراكز الكبرى. هذا النمط من «الاستعمار الداخلي» كما وصفه المنظّر البيئي الأرجنتيني هوراسيو ماتّوس، يقوم على تحويل الموارد الطبيعية إلى أرباح دون اعتبارٍ للأثمان الاجتماعية أو الصحية أو البيئية.
في قفصة وحدها، تقدّر كميات الفسفاط المستخرجة منذ الاستقلال بأكثر من 850 مليون طن، في حين لا تتجاوز نسبة السكان المتمتّعين بشبكات صرف صحي أو بمياه شرب سليمة 60% فقط في بعض المعتمديات المنجمية. إنّها مفارقة تلخّص عمق المأساة: الأرض الغنيّة تفقر أهلها.
وإذا كانت الدولة التونسية قد تبنّت منذ السبعينات منطق التنمية اللامتكافئة بين الساحل والداخل، فإنّ الثمن يدفع اليوم في تلوّث الهواء والماء والتربة، وفي انهيار الصحة العامة. تشير دراسة صادرة عن المرصد الوطني للأمراض الجديدة والمستجدّة (2023) إلى أنّ نسبة الإصابات بالأمراض السرطانية في ڨابس تجاوزت المعدّل الوطني بثلاث مرّات، وأنّ منطقة غنوش وحدها تسجّل ما يفوق 300 حالة سنويّا لكل 100 ألف ساكن. أمّا في المظيلة، فقد أكّدت تقارير الوكالة الوطنية لحماية المحيط وجود تسرّبات فوسفاتية في المياه الجوفية تسبّب ارتفاعا في تركيز الفلور والزرنيخ، ما يؤدّي إلى أمراض عظمية وتنفسية مزمنة لدى الأهالي.
هكذا يصبح النضال البيئي شكلا من أشكال المقاومة ضدّ «العنف البطيء» كما وصفه الكاتب الكيني روبي نيكسون، أي ذلك العنف الذي لا يرى، ولا يسمع، لكنه يقتل بالتدريج. إنّه عنف طبقيّ بامتياز، تمارسه الشركات الوطنية والأجنبية على أجساد الناس وبيئتهم باسم «التنمية». ولهذا لم يكن غريبا أن يتحوّل النضال البيئي في تونس إلى نضال شعبي ، من ڨابس إلى المتلوي، ومن الرديف إلى قابس ، تحمله نساء ورجال لا يملكون سوى أصواتهم، وجلودهم التي تلطّخها الأدخنة السوداء.
في هذا السياق، تتجلّى قيمة التنظيم البيئي المدني: إذ لا يمكن أن يظلّ النضال البيئي رهين العفوية أو التحركات الموسمية. لقد أثبتت التجربة، سواء في ڨابس أو في المظيلة، أنّ التحركات التي تملك بُنيةً تنظيمية ، جمعيات بيئية محلية، لجان مراقبة شعبية، تنسيقيات مواطنية ، كانت أكثر قدرة على الصمود والضغط والمساءلة. فالعفوية تشعل الشرارة، لكن التنظيم هو ما يجعلها تستمر وتتحوّل إلى قوّة اقتراح. يقول الفيلسوف الفرنسي أندريه غورز في كتابه إيكولوجيا الحرية:
«البيئة لن تنقَذ من قبل الخبراء، بل من قِبل المواطنين الذين يقرّرون أن يعيشوا في عالم لا يقتلهم.»
إنّ بناء بيئة سليمة في تونس لا يمكن أن يتحقّق دون ديمقراطية بيئية حقيقية، تمكّن المواطن من مراقبة المشاريع الصناعية والطاقية في منطقته، وتمنحه حقّ الفيتو على كلّ مشروع يهدّد سلامته الصحية والبيئية. وهذا ما أكّدته الباحثة الهندية فاندانا شيفا حين قالت:
«لا تنمية مستدامة دون ديمقراطية بيئية، ولا ديمقراطية بيئية دون عدالة اجتماعية.»
وهكذا يصبح الوعي البيئي نواة لوعي طبقيّ جديد، ويمثّل النضال البيئي في تونس أحد الوجوه الحديثة للصراع الاجتماعي. فهو يربط بين الأرض والعمل، بين التلوث والبطالة، بين الفسفاط والحرية. وهو ما عبّر عنه أحد أبناء الرديف قائلا:
«نحن لا نريد فقط هواء نظيفا، نريد حياة نظيفة من الظلم.»
إنّ مستقبل النضال البيئي في تونس يمرّ عبر إعادة توزيع السلطة على الموارد، وتحوّل الدولة من دولة راعية لمصالح الشركات إلى دولة حامية للإنسان والطبيعة. ولا يمكن لهذا التحوّل أن يتحقّق إلّا عبر إرادةٍ سياسية جذرية، تضع العدالة البيئية في قلب السياسات العمومية، وتعتبر الجنوب قلب تونس لا هامشها.
قد يبدو هذا الطريق طويلا، لكنّ التاريخ أثبت أنّ كلّ معركة تبدأ بصوت واحد يرفض الصمت أمام القبح. من ڨابس إلى المظيلة، ومن المتلوي إلى صفاقس، يتردّد اليوم صدى واحد:
أنّ الأرض ليست ملكا لمن ينهبها، بل لمن يحميها.
فالبيئة شرط الحياة.
ومن لا يدافع عن هوائه ومائه، لا يدافع عن نفسه، بل عن مستقبله الجمعي.
ولهذا، سيبقى النضال البيئي في تونس عنوانا لكرامة إنسانية تقاوم الموت البطيء، وتؤمن أنّ «الوطن لا يُقاس بحدوده الجغرافية، بل بنقاء هوائه وكرامة شعبه.»

#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل