|
|
قراءة في أحزاب اليسار الكلاسيكية، واليسار الثوري الحديث، والشعبوية اليسارية
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8539 - 2025 / 11 / 27 - 02:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا يمكن فهم مسار اليسار عبر تاريخه الطويل دون إدراك أنّه ليس «عائلة سياسية» واحدة، بل جدل حيّ، حركة تتخلّق من صراعاتها الداخلية أكثر ممّا تتحدّد ببرامجها. فاليسار، منذ لحظة ميلاده الأولى مع الثورة الفرنسية، ثم تبلوره مع الأفكار الاشتراكية الطوباوية، وصولا إلى الماركسية الكلاسيكية، لم يكن يوما كيانا مكتملا مغلقا، بل مشروعا مفتوحا يتغيّر كلّما تغيّر العالم. وقد كتب ماركس نفسه في رسالة إلى فايان أنّ «الحركة هي كلّ شيء، والهدف ليس شيئا»، وهو ما يعني أنّ اليسار لا يعيش باليقين بل بالتحوّل، لا بالثبات بل بالصراع. ومن هنا فإنّ أيّ قراءة في «أحزاب اليسار» ليست قراءة في تنظيمات، ولا في بيانات، ولا في مسارات حزبية، بل في أشكال وعي طبقي تتبدّل تبعا لتغيّر آليات الإنتاج، وأنماط السلطة، وأشكال الدولة، وعلاقات الإمبريالية. ولذلك لا معنى للفصل الميكانيكي بين «اليسار الكلاسيكي» و«اليسار الحديث» و«الشعبوية اليسارية» إلا إذا فهِم هذا الفصل كتعبير عن بنيات اجتماعية جديدة تولّد نظريات جديدة. لقد كان القرن التاسع عشر قرن اليسار الكلاسيكي الذي صاغته الأممية الأولى (التي وضع ماركس وإنجلز خطّها الفكري)، والأممية الثانية التي طوّر مفكّروها ، ككاوتسكي وبرنشتاين ، مفاهيم الاشتراكية الديمقراطية. ثم جاءت الأممية الثالثة (الكومنترن) لتقطع جذريا مع هذا الإرث وتعلن أنّ الثورة الاشتراكية تدخل مرحلة جديدة بشروط إمبريالية جديدة؛ فيما انشقّ تروتسكي لاحقا ليبني الأممية الرابعة، مؤسّسا تقليدا ثوريا يقاوم الستالينية ويعيد الاعتبار للثورة الدائمة. وهذه الأمميات الأربع ليست تفاصيل في التاريخ، بل مفاصل صلبة صاغت خريطة اليسار العالمي الكامل، ولا معنى لأي تحليل لليسار دون المرور بها. أمّا القرن العشرون المتأخّر، ومعه القرن الحادي والعشرون، فقد حملا تحوّلات أخرى: انهيار المعسكر السوفياتي، تحوّل الاقتصاد العالمي إلى النيوليبرالية، صعود التكنولوجيا الرقمية، تفتّت الطبقات الاجتماعية التقليدية، وتحوّل العامل الصناعي إلى بروليتاريا جديدة موزّعة بين الخدمات والاقتصاد الهشّ والعمل المنزوع الاستقرار. بهذا المعنى قال زيغمونت باومان إنّ «الحداثة السائلة تذيب البنى الصلبة التي كان اليسار يستند إليها»، وهنا بالضبط تنشأ الحاجة إلى يسار حديث يعيد بناء لغته ومفاهيمه. ومع ذلك، لم يفقد اليسار بوصلة الصراع الاجتماعي. فالظلم، وإن تغيّرت أشكاله، يبقى جوهر العالم الرأسمالي. وما الشعبوية اليسارية التي ظهرت في العقدين الأخيرين إلا نتيجة مباشرة لتآكل الثقة بالأحزاب التقليدية، وفشل الديمقراطية التمثيلية، وتضخّم الفجوة بين النخب النيوليبرالية والجماهير التي تُركت خارج التاريخ. هكذا تصبح قراءة اليسار ، الكلاسيكي والحديث والشعبوي ، أشبه بقراءة تاريخ الصراع الطبقي ذاته، فمن يحاول تحليل اليسار دون تحليل الطبقة إنما يعيد إنتاج ما حذّرت منه روزا لوكسمبورغ حين كتبت: «من يهرب من الماركسية يهرب من الواقع».
1 — اليسار الكلاسيكي: من الأممية الأولى إلى الرابعة، أو نشأة العقل الثوري الحديث.
يتمثّل اليسار الكلاسيكي في التيارات التي صاغت الأسس النظرية للصراع الطبقي: الماركسية، اللينينية، الأممية الثالثة، ثم الإرث التروتسكي للأممية الرابعة. وهذا اليسار لا يفهم إلا بالربط بين بنية الإنتاج وبنية الوعي، إذ تحوّل لأول مرة من نزعة أخلاقية-طوباوية إلى علم للتحوّلات الاجتماعية. يبدأ هذا المسار مع الأممية الأولى (1864) التي رسّخت القاعدة الذهبية: أنّ التحرّر لا يأتي من فوق، بل من التنظيم الذاتي للطبقة العاملة. وقد كتب ماركس في لائحة الأممية: «تحرّر العمال يجب أن يكون من صنع العمال أنفسهم». بهذا المعنى تأسس جوهر اليسار: تنظيم طبقي مستقل. ثم جاءت الأممية الثانية لتطوّر مفاهيم التنظيم الحزبي والنقابي، وتضع نظريات الانتقال السلمي للاشتراكية، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى جهاز إصلاحي فقد جذريته. وهنا بالضبط تدخّل لينين بقوله إنّ «الوعي الاشتراكي لا يهبط تلقائيا على الطبقة العاملة، بل يحمله إليها حزب ثوري»، وأعلن بذلك بداية القطيعة مع الإصلاحية، تمهيدا لثورة 1917. تأتي بعدها الأممية الثالثة (الكومنترن) التي بنيت على أساس عالمي ثوري واضح: مواجهة الإمبريالية، دعم الثورات في المستعمرات، وتطوير مفهوم «حزب الطليعة». وهنا يصبح اليسار لأول مرة مشروعا عالميا منظّما ضد الرأسمالية الدولية. وقد عبّر لينين عن روح هذه الأممية بقوله: «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»، وأنّ الثورة لم تعد محلية بل عالمية. لكن انحراف التجربة السوفياتية لاحقا، وتكلّس البيروقراطية، دفع ليون تروتسكي إلى تأسيس الأممية الرابعة (1938) كاستعادة للروح الثورية الحقيقية، مؤكدا أن «الثورة الدائمة» ليست شعارا بل مسارا تاريخيا، وأنّ الاشتراكية إمّا أن تكون ديمقراطية عمّالية أو تتحوّل إلى كارثة بيروقراطية. كلّ هذه الأمميات ليست «مراحل» فقط، بل بنيات فكرية تؤسّس لما يعنيه اليسار حقّا. فهي التي أعطت اليسار لغته: الصراع الطبقي، البروليتاريا، الثورة، الديمقراطية العمالية، الأممية، النضال المناهض للإمبريالية. ومن دون هذا الإرث يغدو أي حديث عن اليسار أشبه بما قالت عنه روزا لوكسمبورغ: «اشتراكية بلا صراع طبقي هي حديقة بلا ماء».
2 — اليسار الحديث: تحوّلات ما بعد السرديات الكبرى.
نشأ اليسار الحديث في ظلّ انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفكّك الميتافيزيقا الثورية الكبرى، وصعود النيوليبرالية كعقيدة عالمية. ومع ذلك، لم يمت اليسار، بل أعاد اختراع نفسه، لأنّ الظلم الاجتماعي لم يمت، والاستغلال الرأسمالي لم يتراجع، بل تغيّر شكله. وكما قال فوكو: «حيث توجد سلطة توجد مقاومة»، واليسار الحديث هو وجه هذه المقاومة الجديدة. أول تحوّل صنعه اليسار الحديث هو الانتقال من «الطبقة كمحرّك أوحد» إلى تحليل التداخل بين الطبقة، الجندر، العِرق، البيئة، والهويات. لكن ذلك لا يعني تخليه عن تحليل الصراع الطبقي، بل إعادة تموضعه ضمن واقع أكثر تعقيدا. فالعامل الحديث قد يكون عاملة منصة رقمية، مهاجرا غير موثّق، موظّفا هشّا في اقتصاد الخدمات، أو شابا يعمل في اللوجستيك تحت نظام مراقبة رقمي صارم. هذه البروليتاريا «اللامرئية» هي ما أسماه ديفيد هارفي «الطبقة العاملة المعولمة». التحوّل الثاني هو ولادة اليسار البيئي أو «الإيكوسوسيالية»، التي ترى أنّ الرأسمالية لا تستغل الإنسان فقط، بل تخرب الكوكب ذاته. ولهذا كتب جون بيلامي فوستر: «الرأسمالية نظام لا يستطيع العيش دون تدمير العالم». وهنا يصبح الدفاع عن البيئة دفاعا عن حياة الطبقات الفقيرة. أما التحوّل الثالث فهو صعود يسار الحركات الاجتماعية: النسوية الجذرية، الحركات المناهضة للعنصرية، الحركات المضادة للعولمة، النضالات الطلابية، والاحتجاجات ضدّ النيوليبرالية. هذا اليسار لا يشتغل فقط عبر الحزب، بل عبر الشبكات، الساحات، الفضاء الرقمي، والانتفاضات الشعبية التي تشبه موجات متمرّدة أكثر منها تنظيمات ثابتة. ومع ذلك، لم يفقد اليسار الحديث وعيه بأنّ جوهر الأزمة رأسمالي. ولذلك تقول نانسي فريزر: «لا يمكن تحرير المرأة داخل نظام يقوم على استغلال العمال»، وهي بذلك تعيد الصراع الجندري إلى أساسه الطبقي. بهذا المعنى، اليسار الحديث ليس قطيعة مع اليسار الكلاسيكي بل امتداد له في شروط جديدة. إنه ما كان ماركس سيسمّيه «تاريخ الصراع الطبقي في عصر الرقمنة». هو إعادة كتابة المفاهيم الثورية بأدوات العصر، دون التخلّي عن الجوهر: العدالة الاجتماعية، المساواة، التحرّر من الاستغلال.
3 — الشعبوية اليسارية: منطق اللحظة المأزومة أم مسارٌ جديد للسياسة الجذرية؟.
تظهر الشعبوية اليسارية كاستجابة مباشرة لانحطاط الديمقراطية التمثيلية، وانهيار شرعية أحزاب اليسار التقليدي، وتحوّل الدولة نفسها إلى جهاز نيوليبرالي محض. فمنذ التسعينيات، وبعد سقوط جدار برلين، خرج العالم من الثنائية القديمة (رأسمالية/اشتراكية) ودخل مرحلة «الليبرالية الوحيدة» حيث احتكرت الأسواق والمال السلطة والمعنى، وأُقصيت الجماهير إلى أطراف السياسة. هنا بالضبط نشأت الشعبوية اليسارية بوصفها «عودة المهمّش إلى التاريخ»، كما يقول إرنستو لاكلو: «الشعب ليس معطى جاهزا، بل يخلق من جديد حين تصبح السياسة مستحيلة داخل النظام». تقوم الشعبوية اليسارية على ثلاث أفكار مركزية:
أولا: بناء “الشعب” كفاعل سياسي جديد: فالشعب ليس فئة اجتماعية ثابتة، بل بناء خطابي، يولد عندما تتجمّع سلسلة من المطالب المتفرّقة ، اجتماعية، نقابية، نسوية، بيئية، شبابية ، في جبهة واحدة ضدّ السلطة القائمة. هذا هو ما يسميه لاكلو «سلسلة التكافؤ»، أي أنّ الشرائح المختلفة تتوحد عبر عدوّ واحد: الأوليغارشيا، النخبة النيوليبرالية، الرأسمال المالي. وتعبّر شانتال موف عن ذلك بقولها: «الديمقراطية ليست التوافق، بل الصراع، ومن ينكر الصراع يحكم باسم الأقوياء». وبذلك تحوّل الشعبوية اليسارية السياسة من إدارة تقنية إلى معركة اجتماعية داخل المجتمع ذاته.
ثانيا: استعادة السياسة من أيدي النخب: ففي عالم سيطر عليه البنك المركزي، الشركات العملاقة، التقنيات الخوارزمية، والمنظمات فوق القومية، صارت السياسة الحقيقية ، سياسة توزيع الثروة والقوة ، تدار من فوق. وهنا تكمن المفارقة: كلّما تزايدت النزعة التكنوقراطية، عادت الحاجة إلى خطاب شعبويّ يستعيد السيادة الشعبية. ليس بمعنى القومية الضيقة، بل بمعنى استعادة السيطرة الاجتماعية على الاقتصاد، كما يقول اليساري الأرجنتيني إرنستو لاكلو: «الشعبوية هي السبيل الوحيد لإنقاذ الديمقراطية من الليبرالية». إنّ الشعبوية اليسارية تعيد تعريف الديمقراطية بوصفها حكما للجماهير، لا إدارة بالأرقام. إنها رفض لأن يتحوّل الشعب إلى «متلق صامت» بينما تتحكم النخب في السوق والدولة.
ثالثا: ربط الصراع الطبقي بالهويات الجديدة: هنا يفترق اليسار الشعبوي عن الشعبوية اليمينية. فاليمين يستثمر الغضب الشعبي لتوجيهه ضدّ المهاجر، اللاجئ، المرأة، المثليين، الأقليات. أما اليسار الشعبوي فيعيد توجيه الغضب ضدّ رأس المال، ضدّ الشركات العابرة للقارات، ضدّ النيوليبرالية التي حوّلت المواطن إلى شيء. ومن هنا تصبح الشعبوية اليسارية ، كما يقول ديفيد هارفي ، «استعادة للطبقة العاملة في شكلها الجديد: المتعاقدون المؤقتون، العاملات المنزليات، الشباب في اقتصاد المنصات، العمال المهاجرون، والموظفون الهشّون الذين يعيشون على حافة الفقر». إنها محاولة لبناء كتلة تاريخية جديدة تجمع العمال والنساء والشباب والمهمّشين، بما يذكّر بالكتل الجبهوية التي تحدّث عنها غرامشي، حين قال: «الثورة لا تصنعها الطبقة وحدها، بل التحالف العضوي بين الطبقات المضطهدة».
+الشعبوية اليسارية كتجربة تاريخية: لم تظلّ هذه الأفكار في الكتب. بل تحققت في تجارب جنوبية وشمالية: -سيريزا في اليونان حين واجهت الترويكا الأوروبية. -بوديموس في إسبانيا حين خرج من قلب حركة «الغاضبون». -جبهة اليسار في فرنسا، و«فرنسا الأبية» مع ميلانشون. -بيرني ساندرز في الولايات المتحدة، كأول حركة يسارية جماهيرية منذ عقود. -حركات أميركا اللاتينية: من تشافيز وموراليس إلى لوبز أوبرادور. هذه التجارب ليست نسخا من الثورة الكلاسيكية، لكنها تعبّر عن أزمة عالمية في تمثيل المصالح الشعبية. إنها محاولة لإنقاذ السياسة من موتها. ولهذا يرى المفكّر الفرنسي بيار روسانفالون أنّ «الشعبوية اليسارية ليست انحرافا، بل محاولة يائسة لإعادة الديمقراطية إلى معناها الأصلي».
4 — أزمة اليسار اليوم: بين الإرث الكلاسيكي، الحداثة، والشعبوية اليسارية.
تعيش أحزاب اليسار اليوم واحدة من أكثر لحظات التناقض في تاريخها. فهي تحمل إرثا هائلا تركته الأمميات الأربع ، ذلك الإرث الذي صاغ المفاهيم الأساسية للصراع الطبقي ، لكنها تواجه واقعا جديدا لا يشبه الماضي: عالم بدون مصانع كبرى، بدون بروليتاريا صناعية صلبة، بدون نقابات قوية، وبدون دول قادرة على ضبط الأسواق العالمية. بهذا المعنى، اليسار اليوم ممزّق بين ثلاث قوى:
أ — إرث اليسار الكلاسيكي (الماركسية، اللينينية، الأممية الرابعة): هذا الإرث لا يزال يقدم أقوى أدوات التحليل: الإمبريالية، فائض القيمة، البنية التحتية والفوقية، الدولة كأداة للهيمنة الطبقية، ضرورة التنظيم الثوري. وما يزال صحيحا ما قاله لينين: «السياسة هي تعبير مكثّف عن الاقتصاد». لكنّ المشكلة ليست في النظرية، بل في العالم الذي تغيّر. فالرأسمالية اليوم سائلة، مرنة، لامركزية، تنتج الخوف بدل اليقين، وتفتت الطبقات بدل أن تجمعها. ومع ذلك يبقى التحليل الماركسي ، كما يقول فريدريك جيمسون ، «الإطار النظري الوحيد القادر على تفسير الرأسمالية المتأخرة». وهذا ما يجعل اليسار، رغم ضعفه التنظيمي، قويا من حيث أدوات الفهم.
ب — متطلبات اليسار الحديث: اليسار الحديث يواجه تحديات لم يعرفها اليسار الكلاسيكي: -قضايا الجندر والجنسانية. -الهويات الثقافية والعرقية. -الحداثة الرقمية والذكاء الاصطناعي. -كوارث المناخ. -الاقتصاد الهش والعمل المؤقت. -اللامساواة المعلوماتية. إنه واقع كانت روزا لوكسمبورغ ستسميه «رأسمالية متوحّشة بلا حدود»، ولو عاش ماركس لكان أضاف فصلا كاملا بعنوان «رأس المال الرقمي». ولذلك لم يعد اليسار قادرا على الاكتفاء بخطاطة القرن التاسع عشر. إذ يجب عليه أن يقرأ كل شيء من جديد: الطبقة، الدولة، الحزب، الجماهير، التكنولوجيا، الهويات، البيئة. وهذا لا يعني التخلي عن الماركسية، بل إعادة بنائها، كما يقول إريك هوبسباوم: «الماركسية لا تعيش بجمود نصوصها، بل بقدرتها على التجدد».
ج — صعود الشعبوية اليسارية كطريق ثالث: بين الإرث الكلاسيكي والحداثة المعقّدة، ظهرت الشعبوية اليسارية كجسر. فهي من جهة تستعيد جوهر الصراع الطبقي عبر مواجهة النخب المالية، ومن جهة أخرى تستوعب قضايا العصر عبر خطاب يشمل النساء، الشباب، الفقراء، المهاجرين، والطبقات غير المستقرة. إنها محاولة لإنهاء القطيعة بين الجماهير واليسار. فالأحزاب الكلاسيكية تحولت إلى بيروقراطيات، واليسار الجديد إلى نخب أكاديمية، وبقي الشعب في الشارع بلا قيادة. هنا تدخل الشعبوية اليسارية لتقول ما قاله غرامشي: «الأزمة تكمن في أنّ القديم يموت والجديد عاجز عن الولادة». الشعبوية اليسارية ليست مشروعا ثوريا مكتملا، وليست حزبا طبقيا بالمعنى اللينيني، لكنها ظاهرة تاريخية تعبّر عن رفض الناس لموت السياسة. إنها «صرخة شعب يريد العدالة»، كما يقول آلان باديو: «كل فكر سياسي حقيقي يبدأ بالإعلان: هذا العالم لا يُطاق».
د — اليسار بين ثلاث اتجاهات متصارعة: بالمحصلة، اليسار اليوم موزع بين ثلاث طرق: -التمسّك بالنقاء الكلاسيكي (لكن دون قدرة على التأثير الجماهيري). -تبني الحداثة الليبرالية-الاجتماعية (وبذلك يفقد جوهره). -أو خوض مغامرة الشعبوية اليسارية (مع مخاطرة الوقوع في التبسيط السياسي). وهذا ما يجعل اللحظة الحالية لحظة معرفية وسياسية حرجة. فاليسار يقف أمام سؤال وجودي: كيف نعيد بناء مشروع تحرّري في عالم بدون يقين؟ كما قال جورج لوكاتش: «الثورة ليست اختيارا بين النجاح والفشل، بل الاختيار بين أن نكون جزء من التاريخ أو ضحاياه». واليسار اليوم أمام هذا الاختيار تماما.
5 — حدود اليسار الكلاسيكي في عالم العولمة الرقمية: انكسار النموذج أم ضرورة تحديث؟.
يجد اليسار الكلاسيكي نفسه اليوم أمام معضلة تاريخية لم يعرفها في قرنين من تطوره. إذ إنّ العالم الذي صاغت فيه الأمميات الأولى والثانية والثالثة نظرياتها لم يعد هو العالم الذي نعيش فيه. لا من حيث البنية الاقتصادية، ولا من حيث التكوين الطبقي، ولا من حيث أشكال السلطة. فالبروليتاريا التي وصفها ماركس لم تعد هي القوة المركزية الوحيدة في الإنتاج، والصناعة الثقيلة لم تعد مصنع التاريخ، والنقابات لم تعد القلب النابض للطبقة العاملة. لقد دخلنا حقبة جديدة سمّاها زيغمونت باومان «الحداثة السائلة»، حيث كل شيء يتحرك دون استقرار: العمل، الهويات، الأسواق، المشاعر، والمواقع الاجتماعية.
أولا: تفكّك “المصنع” كرمز للطبقة العاملة: كان المصنع، زمن ماركس ولينين وروزا لوكسمبورغ، هو الفضاء المادي الذي تتشكّل فيه الطبقة العاملة كقوة موحدة. هنا ينتج العمال معا، ويضربون معا، ويخوضون النضال الجماعي. لكن الرأسمالية اليوم قامت بعملية «تفكيك ذاتي» للمصنع: -أماكن العمل أصبحت موزعة عبر العالم. -العمال يعملون عبر التطبيقات، أو من المنزل، أو بعقود يومية. -أصبحت القيمة تنتج عبر الخوارزميات والبيانات أكثر مما تُنتج عبر العرق العضلي. هذا ما دفع ديفيد غريبر إلى القول: «الرأسمالية لم تعد تحتاج إلى الطبقة العاملة كما احتاجتها سابقا؛ بل تحتاج إلى طاعتهم أكثر مما تحتاج إلى عملهم». في هذا السياق، يصبح اليسار الكلاسيكي ، بمقولاته التي نشأت في زمن المصنع ، عاجزا عن استيعاب شكل الاضطهاد الجديد الذي يعيش فيه العامل الرقمي أو الساعي في التطبيقات أو موظف «اقتصاد المنصّات» الذي يعمل دون حماية ودون نقابة.
ثانيا: تحوّل الدولة من أداة حكم طبقي إلى واجهة تقنية: لم تعد الدولة الوطنية هي السلطة الفعلية التي تواجهها الطبقة العاملة. فالصراع لم يعد ديمومة بين العمال والرأسمالي الوطني، بل بين المجتمع ككل والشركات العابرة للقوميات: -غوغل -أمازون -بلاك روك -فيسبوك/ميتا -شركات البيانات -البنوك العالمية هذه المؤسسات تتجاوز الدولة، وتتحكم في القرار السياسي من فوق، وهو ما جعل نعومي كلاين تتحدث عن «ديمقراطية الشركات»، حيث الدولة تصبح المدير التنفيذي لهذه الشركات، لا ممثل الشعب. وهنا يظهر قيد جوهريّ على اليسار الكلاسيكي: أنّ نظرياته بنيت على نموذج الدولة/الرأسمال في السياق الوطني، وليس في سياق الأسواق الكونية اللامرئية.
ثالثا: عقلية القرن التاسع عشر في مواجهة تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين: لا يمكن فهم الوعي السياسي الحديث دون فهم أن الإنسان المعاصر يعيش داخل هواتفه، شاشاته، شبكاته، بياناته. الهوية صارت رقما، والقوة صارت معلومة، والاستغلال صار غير محسوس. كما قال بول فريليو: «تسارعت التكنولوجيا إلى درجة أصبح معها الواقع نفسه مجرد ظلّ للسرعة». هنا يتساقط اليسار الكلاسيكي لأنه لا يزال يتحدث بلغة حديد وفحم ونقابات، في عالم تصنع فيه فائض القيمة عبر الذكاء الاصطناعي، والبيانات، والتلاعب النفسي في السوشيال ميديا.
رابعا: بؤس اللغة السياسية القديمة: إنّ اللغة التي تتحدث بها الأحزاب الكلاسيكية تبدو اليوم غريبة عن الناس: -«الطبقة العاملة» -«البرجوازية» -«ديكتاتورية البروليتاريا» -«التناقض الرئيسي والثانوي» هذه المصطلحات، رغم صحتها النظرية، لم تعد مفهومة في سياق العولمة الرقمية. ولذلك قال طوني نيغري: «لا يمكن للثورة أن تنتصر بلغة لا يفهمها المضطهدون».
خامسا: الحاجة إلى تحديث جذري لا يلغي الأصل: ليس المطلوب التخلي عن الماركسية، بل إعادة قراءتها. فماركس نفسه كان يحدّث نظريته باستمرار. وعندما سئل ذات يوم: «هل الماركسية هي تعاليمك؟» قال: «أنا لست ماركسيا». كانت هذه الجملة إعلانا ضد تحنيط الفكر. ولذلك فإنّ إريك هوبسباوم يلخص أزمة اليسار الكلاسيكي بقوله: «اليسار لا يموت عندما يفشل، بل عندما يتوقف عن قراءة العالم كما هو، ويعود إلى شعارات الماضي».
6 — الشعبوية اليسارية كأفق جديد: بين نقد النخب وتوسيع مفهوم الشعب.
تأتي الشعبوية اليسارية لتملأ الفراغ الذي تركه اليسار الكلاسيكي، ولتقدّم جوابا جديدا على سؤال قديم: كيف نعيد السياسة إلى الناس؟ فهي لا تعادي اليسار الكلاسيكي، لكنها ترفض جموده. ولا تعادي الحركات اليسارية الحديثة، لكنها تنتقد نخبويّتها الأكاديمية. بل هي، بتعبير لاكلو، «استراتيجية لإعادة تجميع الطاقات الاجتماعية الممزقة، في لحظة تلاشي الإيمان بالمؤسسات».
أولا: من “طبقة عاملة” إلى “شعب مضطهَد”: لا تقول الشعبوية اليسارية بأنّ الطبقة العاملة اختفت، لكنها تقول بأنّ الطبقة لم تعد وحدها. فقد تغيّر تركيب المضطهدين: -المهاجرون -النساء العاملات -شباب المدن الهشون -البيئيون -العمال المؤقتون -مستخدمو التوصيل -طلبة الجامعات -الأقليات الدينية -سكان الأطراف -الفلاحات العاملات في القطاع المواسم هذا الخليط الغاضب لا يجمعه موقع واحد في الإنتاج، بل يجمعه الشعور بالحرمان. ولذلك تقول شانتال موف: «الشعب ليس كتلة اقتصادية، بل تحالف وجداني بين الغاضبين».
ثانيا: النخبة المالية كعدوّ مشترك: في زمن الأمميات، كان العدو واضحا: البرجوازية الصناعية. أما اليوم فالعدو لم يعد يرى بالعين. إنه: -لوبيات السلاح . -شركات التأمين. -وكالات التصنيف. -البنوك الرقمية. -مراكز البيانات. -الاحتكارات الدوائية. -الشركات التي تصنع الخوارزميات. وهذا ما يجعل الشعبوية اليسارية تقول ما قاله بيير بورديو: «أخطر أشكال السلطة هي التي لا نراها، لأنها تجعلنا نعتقد بأنها الطبيعة ذاتها». لذلك تستهدف الشعبوية اليسارية تحديدا «غير المرئي»: السلطة المالية.
ثالثا: إعادة تعريف السياسة كاحتشاد جماهيري: ترى الشعبوية اليسارية أنّ السياسة ليست برلمانا فقط، وليست حكومة. بل هي: -تظاهرة -مسيرة -اعتصام -حملة شبابية -شعارات -معارك رمزية -هوية مشتركة -خيال جماعي كما قال غرامشي: «الثورة تبدأ حين يشعر الناس أن العالم الذي يعيشون فيه ليس طبيعيا، بل مفروضا». وتعمل الشعبوية اليسارية على تحويل هذا الشعور إلى قوة منظمة.
رابعا: منطق “العدو/الصديق” كمنهج تنظيمي: تعتبر الشعبوية اليسارية أن السياسة صراع، لا توافق. وهي تستعير من كارل شميت فكرته بأنّ كل سياسة تقوم على تعريف الصديق والعدو. لكنها تعيد تأويله بشكل تقدمي. فعدوّها ليس «الأجنبي» كما يفعل اليمين، بل النخبة المالية؛ وصديقها ليس «الأمة» بالمعنى القومي، بل الشعب بالمعنى الواسع. وهذا ما عبّر عنه ميلانشون بقوله: «لسنا ضد الأغنياء لأنهم أغنياء، بل ضد المنظومة التي تجعل من أغنياء قلّة حكّاما لكثرة مسحوقة».
خامسا: الشعبوية اليسارية كجسر بين القديم والجديد: إنها تبقي على جوهر الصراع الطبقي، لكنها توسّعه ليشمل معارك أخرى: -تقاطعية النساء -العنصرية -البيئة -التكنولوجيا -السيطرة الرقمية -النيوليبرالية الثقافية ولذلك يعتبر ديفيد هارفي أنّ الشعبوية اليسارية «التوسعة الطبيعية للماركسية في زمن الرأسمالية الرقمية».
سادسا: الحدود والمخاطر: رغم قوتها، ليست الشعبوية اليسارية بلا مخاطر: -قد تقع في التبسيط المفرط. -قد تصنع زعيما يبتلع الحركة. -قد تهمل البنية الاقتصادية لصالح الخطاب. -قد تتحول إلى “غضب دائم” بلا مشروع اقتصادي واضح. لكن هذه المخاطر لا تلغي ضرورتها التاريخية، كما قال آلان تورين: «كل حركة اجتماعية عظيمة تبدأ فوضوية، ثم تصبح التاريخ ذاته».
7 — الديمقراطية واليسار: بين المؤسسات والتعبير الجماهيري.
يواجه اليسار اليوم معضلة جوهرية: كيف يحافظ على المبادئ الثورية في سياق ديمقراطية تمثيلية أصبح فيها القرار السياسي يتخذ غالبا بعيدا عن الجماهير؟ هذه المعضلة ليست معضلة تنظيمية فقط، بل أزمة فلسفية ونظرية، إذ أنّ الديمقراطية لم تعد مجرد صراع بين مصالح متعارضة، بل أصبحت صراعا على شرعية الصوت الشعبي نفسه.
أ — أزمة المؤسسات التقليدية: الأحزاب الكلاسيكية، التي بنيت على نموذج الديمقراطية البرلمانية، أصبحت هشة أمام متطلبات العصر الرقمي والاقتصاد الهش. فقد تحوّلت الدولة إلى أداة «تكنوقراطية» تحكم بمعايير مالية واستراتيجية، لا بمعايير اجتماعية. هنا، كما كتب بيير روسانفالون: «الأزمة الديمقراطية ليست أزمة مشاركة، بل أزمة تمثيل: أي أن الناس لا يثقون في المؤسسات التي يفترض أنها تمثلهم». هذا التحدي يفرض على اليسار أن يعيد تعريف الديمقراطية ليس فقط كحق انتخابي، بل كحق تدخل مباشر في كل قرارات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ب — التعبير الجماهيري كإعادة للسيادة: هنا تظهر أهمية الشعبوية اليسارية كآلية لإعادة السياسة إلى الجماهير. إذ أنّ التظاهرات، الاعتصامات، الشبكات الاجتماعية، والإعلام البديل، صارت منصات جديدة لإعادة تشكيل الديمقراطية الحية. وكما قال غرامشي: «الديمقراطية ليست تعطيلا للنزاع، بل وسيلة لصنع القوة الجماهيرية». الشعبوية اليسارية تطرح فرضية أن الديمقراطية ليست صندوق اقتراع فقط، بل ممارسة مستمرة: في الحي، في المدرسة، في الشركة، وفي الفضاء الرقمي، أي في كل مكان يتواجد فيه الشعب.
ج — مواجهة سيطرة النخب: في النظام النيوليبرالي الحديث، تحوّل القرار إلى أيدي الأغنياء، شركات التكنولوجيا، ومراكز البيانات. أما الشعبوية اليسارية، فتعمل على مواجهة هذا التمركز من خلال إعادة القوة إلى الجماهير، واستعادة القدرة على صياغة الأولويات الاجتماعية. كما قال آلان باديو: «السياسة تبدأ عندما يسائل الشعب العالم، ويعلن أن هذا الواقع غير مقبول». وهذا يعني أن أي مشروع يساري حقيقي اليوم يجب أن يكون صرخة دائمة ضد تحكم النخب، وأن يكون وسيطا بين الأصوات المشتّتة والمتطلبات الجماعية.
د — إعادة صياغة العلاقة بين المؤسسات والشعب: اليسار الحديث يحتاج إلى صياغة جديدة للعلاقة بين المؤسسات الرسمية (الأحزاب، البرلمانات، النقابات) وبين الجماهير. فلا يمكن للأحزاب أن تبقى بيروقراطيات مغلقة، بل يجب أن تصبح محطات لتعبئة الجماهير، أدوات لفهم احتياجاتها، وفضاءات لإعادة صياغة السياسات وفقًا لمطالبها. هنا تظهر مقولة لآلان تورين: «المؤسسات بدون حركة جماهيرية هي جثة متحركة، والحركة الجماهيرية بدون مؤسسات تصبح فوضى بلا معنى».
8 — اليسار في القرن الحادي والعشرين: البروليتاريا الجديدة، الهوية، والتحديات العالمية.
يواجه اليسار اليوم تحديا مركبا: كيف يتعامل مع بروليتاريا القرن الحادي والعشرين التي لم تعد تعتمد على الإنتاج الصناعي الصلب وحده، وكيف يدمج قضايا الهوية، البيئة، والهويات الرقمية في استراتيجيته الثورية.
أ — البروليتاريا الجديدة: لم تعد البروليتاريا مجرد العمال الصناعيين في المصانع الضخمة، بل أصبحت متنوعة ومعقدة: -عمال المنصات الرقمية (Uber, Deliveroo, Freelancers) -موظفو القطاع الخدماتي المؤقت -الفلاحات العاملات في الاقتصاد الهش -المهاجرون غير النظاميين -الشباب المحروم من الأمن الوظيفي كما قال ديفيد هارفي: «البروليتاريا لم تختف، بل تبدّلت أشكالها لتواكب التكنولوجيات الجديدة وأساليب الاستغلال الحديثة». هذه البروليتاريا الحديثة تواجه استغلالا رقميا، اقتصاديا، واجتماعيا معقدا، ما يجعل مهمة اليسار إعادة صياغة مفهوم الصراع الطبقي ليشمل هذه الطبقات الجديدة.
ب — الهوية والتقاطعات الاجتماعية: اليسار الحديث لا يمكن أن ينجح إذا تجاهل الهويات المتعددة: -النوع الاجتماعي والجندر -العرق والإثنية -الدين والثقافة -البيئة والمناخ -الاقتصاد الرقمي اليسار اليوم يجب أن يكون متقاطعا، يربط بين الاستغلال الاقتصادي والاضطهاد الاجتماعي والسياسي. كما قالت نانسي فريزر: «العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق إذا تجاهلت الهويات المتنوعة، فهي جزء لا يتجزأ من الصراع الطبقي».
ج — التحدي العالمي: النيوليبرالية والتقنيات الرقمية: الاقتصاد العالمي أصبح متشابكا ومعقدا، والأسواق الرقمية تتحكم في كل شيء: -أسعار السلع -الوظائف -البيانات -المعلومات هذا يجعل الصراع الطبقي يتجاوز الحدود الوطنية، ويصبح صراعا عالميا ضد الإمبريالية المالية والتقنية. وكما قال زيغمونت باومان: «الحداثة السائلة تجعل كل شيء متحركا، والطبقات المضطهدة تواجه عدوا بلا حدود».
د — مهمة اليسار: بناء تحالفات جديدة: اليسار في القرن الحادي والعشرين يحتاج إلى بناء كتلة تحالفات جديدة: -الطبقة العاملة التقليدية والحديثة -الشباب والهويات الرقمية -الفلاحون والعاملات الزراعيون -الحركات النسوية والبيئية كل هذه التحالفات يجب أن توجّه ضد النيوليبرالية، الاستغلال الرقمي، والسلطة المالية، مع الحفاظ على جوهر الصراع الطبقي. كما قال غرامشي: «الثورة لا تصنعها الطبقة وحدها، بل التحالف العضوي بين جميع المضطهدين».
هـ — الخلاصة: اليسار اليوم: اليسار اليوم، ليكون فعّالا، يجب أن يجمع بين: -الإرث الكلاسيكي من الأمميات الأربع -التحليل الحداثي للبروليتاريا الجديدة والهويات المتقاطعة -الشعبوية اليسارية كأداة للتعبئة وإعادة السياسة إلى الجماهير إنه مشروع تاريخي يتطلب إبداعا فكريا، تحالفات واسعة، وتحديثا مستمرا للمفاهيم، لأنه كما قال آلان باديو: «الفكر السياسي الحقيقي يبدأ عندما يشعر الناس أن العالم غير مقبول، ويبحثون عن طريقة لتغييره».
9 — التنظيم الحزبي في اليسار: بين الهيكلة الكلاسيكية والمرونة الحديثة.
التنظيم الحزبي كان دائما محور القوة الأساسية لأي حركة يسارية، سواء الكلاسيكية أو الحديثة. ومع ذلك، يواجه اليسار اليوم تحديا مركبا: كيف يحافظ على الانضباط الداخلي والتنظيم الصارم الذي ميّز الأمميات الأربع، وفي الوقت نفسه يتفاعل مع العالم الحديث المائع، الرقمي والمتغير بسرعة؟ هذه المعادلة ليست سهلة، فالتناقض بين الثبات والمرونة هو أحد أعقد تحديات اليسار المعاصر.
أ — إرث الهيكلة الكلاسيكية: في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان التنظيم الحزبي يعد حجر الأساس لبناء القوة الثورية. الأممية الأولى والثانية والثالثة وحتى الرابعة وضعت مبادئ صارمة: -الحزب كوحدة مركزية -الانضباط والولاء للنظام السياسي للحزب -القيادة النظرية القوية التي تحدد الاستراتيجية -التواصل بين القيادات والأعضاء عبر وسائط واضحة كما قال لينين في كتابه «ما العمل؟»: «من دون تنظيم سياسي دقيق، لا يمكن لأي حركة ثورية أن تكون فعالة، وأي فوضى تتحوّل إلى هزيمة».
ب — ضغوط العصر الحديث على التنظيم: اليوم، يواجه اليسار قيودا لم تكن موجودة من قبل: -العولمة الاقتصادية التي تفتت الأسس الوطنية -الاقتصاد الرقمي الذي يغير شكل العمل والإنتاج -الثورة المعلوماتية التي تنقل قوة اتخاذ القرار إلى الفرد عبر الإنترنت -الهويات المتعددة التي تجعل من الانضباط التقليدي أمرا معقدا وهنا يظهر التحدي: كيف يمكن للحزب أن يبقى موحدا ومركزيا دون أن يصبح بيروقراطيا جامدا؟ كما قالت روزا لوكسمبورغ: «الحرية داخل التنظيم ليست رفاهية، بل شرط لنجاح أي عمل جماعي».
ج — التجربة الحديثة: مرونة الحزب والقيادة الشبكية: ظهرت اليوم أشكال جديدة من التنظيم الحزبي: -الحزب الشبكي: يعتمد على التواصل الرقمي لإدارة الحملات، ويتيح لأعضاء الحزب التعبير والمشاركة بشكل مباشر. -اللجان القاعدية: تعمل كخلية حية داخل المجتمع، تجمع بين المطالب المحلية والقرارات الاستراتيجية. -تخصيص القيادة المرنة: بدلا من القائد المطلق، يظهر نظام القيادة المشتركة أو الدورية. وهذا لا يعني التخلي عن الانضباط، بل تحويله إلى أداة للخدمة الجماهيرية، لا للقمع الداخلي. كما قال غرامشي: «القوة الحقيقية للحزب لا تأتي من قيادته العليا وحدها، بل من الروابط العضوية التي يخلقها بين الطبقات المضطهدة».
د — التوازن بين التنظيم والانفتاح: اليسار المعاصر مطالب بموازنة دقيقة: -صلابة النظرية والمبادئ -انفتاح على التجارب الاجتماعية الجديدة -القدرة على التفاعل مع الحركات الشبابية والرقمية -إدارة الصراعات الداخلية دون تمزيق الجبهة الموحدة كما يؤكد هوبسباوم: «الأحزاب القديمة تموت عندما تتوقف عن التعلم من العالم، والحركة الشعبية تموت عندما تفقد رابطها مع الجماهير».
10 — استراتيجية المستقبل: الدمج بين الإرث الكلاسيكي والشعبوية الحديثة.
النقطة العاشرة تمثل ختاما تحليليا واستراتيجيا: كيف يمكن لليسار الحديث أن يربط بين إرثه التاريخي وبين الشعبوية اليسارية كأفق جماهيري، دون فقدان الهوية الثورية؟
أ — استثمار الإرث الكلاسيكي: الإرث الكلاسيكي يقدّم أدوات تحليلية لا تزال صالحة لفهم الصراع الطبقي، النظام الرأسمالي، وأدوات الدولة. هذه الأدوات تشمل: -نظرية فائض القيمة -الدولة كأداة هيمنة طبقية -ضرورة التنظيم القاعدي -فهم التحالفات الطبقية كما قال ماركس في «البيان الشيوعي»: «التاريخ لا يصنع إلا من قبل الطبقات التي تدرك مصالحها». لكن إدراك هذه المصالح يتطلب تحديثا مستمرا، ليشمل الطبقات الحديثة، الهوية، والتحولات الرقمية.
ب — الشعبوية اليسارية كأداة تحريك الجماهير: الشعبوية اليسارية تقدم جسرا لإعادة الشعب إلى قلب السياسة. فهي: -تعبّر عن غضب المهمشين ضد النخبة المالية -تجمع بين القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية -تحرّك الجماهير عبر المسيرات، الشبكات، والحملات الرقمية -تعيد تفسير الديمقراطية بوصفها ممارسة حية وليس مجرد صناديق اقتراع كما قال لاكلو: «الشعبوية ليست خطأ، بل الوسيلة الوحيدة لإعادة السياسة إلى أولئك الذين فقدوا صوتهم».
ج — الدمج بين القديم والجديد: اليسار الحديث أمام مهمة مركبة: -الحفاظ على قوة التحليل الكلاسيكي -تبني استراتيجيات الشعبوية اليسارية لمخاطبة الجماهير -إعادة تصميم الحزب ليكون شبكة ديناميكية، قادرة على التفاعل مع التحولات الرقمية والاجتماعية هذه المعادلة تجعل من اليسار قوة ممكنة، قادرة على إعادة بناء مشروع تحرري عالمي، يربط بين الطبقة العاملة الجديدة، الحركات البيئية، الشباب، النساء، وكل الفئات المضطهدة.
د — إعادة تعريف المشروع التاريخي: المشروع التاريخي لليسار لم يعد محصورا في الدولة أو الطبقة الصناعية، بل أصبح مشروعا عالميا متعدد الأبعاد، يربط بين: -العدالة الاجتماعية -حقوق الإنسان -العدالة البيئية -العدالة الاقتصادية -الديمقراطية المباشرة كما قال هارفي: «اليسار اليوم هو القدرة على إعادة صياغة الواقع، بحيث يصبح قابلا للعدالة للجميع».
هـ — خاتمة استراتيجية: اليسار الحديث، ليبقى فعالا، يحتاج إلى: -فهم عميق لتاريخه وإرثه الكلاسيكي -استيعاب الشعبوية اليسارية كأداة تواصل جماهيري -تحديث تنظيمه لتقليص البيروقراطية وإتاحة المشاركة -القدرة على الدمج بين قضايا الاقتصاد، الهوية، والبيئة وكما ختم آلان باديو: «الفكر السياسي الحقيقي يبدأ حين يشعر الناس أن العالم غير مقبول، ويبحثون عن طريقة لتغييره».
إن الوصول إلى نهاية هذه القراءة في مسارات اليسار الكلاسيكي، الحديث، والشعبوية اليسارية، لا يعني مجرد اختتام سرد تاريخي أو تلخيص أفكار، بل هو دعوة للتفكير في المسؤولية التاريخية والسياسية التي يتحملها اليسار اليوم. فكما كان اليسار على مدى أكثر من قرنين قوة للتغيير الاجتماعي والسياسي، فقد أصبح اليوم أمام تحد مزدوج: الحفاظ على إرثه الفكري والتاريخي، وفي الوقت نفسه التكيف مع الواقع المعقد لمجتمع القرن الحادي والعشرين، حيث تتداخل العولمة، التكنولوجيا، الهويات المتعددة، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية. إنّ اليسار الكلاسيكي، الذي نشأ من رحم الأمميات الأربع، أعطانا أدوات تحليلية قوية لفهم الصراع الطبقي، السلطة الاقتصادية، ودور الدولة، لكنه لم يعد وحده قادرًا على احتواء التغيرات العميقة في طبيعة الإنتاج، شكل الطبقة العاملة، والتحولات الرقمية التي أعادت تعريف مفاهيم القوة، الثروة، والهيمنة. ومن هنا، يبرز اليسار الحديث كإعادة قراءة لهذه الإرث، من خلال إدراكه أن البروليتاريا لم تعد وحدها مركز الصراع، وأن الشعب لم يعد مجرد مفهوم اقتصادي بل تحالف وجداني بين جميع الفئات المضطهدة، سواء كانت عمالية، شبابية، نسوية، بيئية أو رقمية. كما تقول شانتال موف: «الشعب ليس كتلة اقتصادية، بل تحالف وجداني بين الغاضبين». لقد أظهرت الشعبوية اليسارية قدرتها على إعادة السياسة إلى الجماهير، وإحياء الشعور بالمسؤولية الجماعية، ليس فقط عبر صناديق الاقتراع، بل عبر التعبير المباشر في الشوارع، الشبكات الرقمية، والفضاءات المجتمعية المختلفة. فالديمقراطية الحقيقية، كما أكد غرامشي، ليست مجرد مؤسسات رسمية، بل ممارسة مستمرة تُعيد تعريف السلطة وتعيد تمركزها بين يد الشعب: «الديمقراطية ليست تعطيلًا للنزاع، بل وسيلة لصنع القوة الجماهيرية». ومن منظور التنظيم الحزبي، أظهرت التجارب التاريخية أن البيروقراطية الجامدة لا تنتج القوة، وأن الانفتاح على المرونة، الشبكات الرقمية، واللجان القاعدية، يمكن أن يخلق حزبا قادرا على التفاعل مع كل التحولات الاجتماعية والاقتصادية. إن دمج الإرث الكلاسيكي مع استراتيجيات الشعبوية الحديثة يمثل الطريق الأمثل للحفاظ على الانضباط، دون أن يتحول الحزب إلى مؤسسة مغلقة، كما أكد هوبسباوم: «الأحزاب القديمة تموت عندما تتوقف عن التعلم من العالم، والحركة الشعبية تموت عندما تفقد رابطها مع الجماهير». أما التحدي الأكبر اليوم، فهو إعادة تعريف البروليتاريا والهويات المتقاطعة بما يشمل جميع الفئات المضطهدة، وربط هذه المجموعات في مشروع سياسي واحد يواجه النيوليبرالية العالمية، الاستغلال الرقمي، والهيمنة المالية عبر الشبكات العابرة للقوميات. فالبروليتاريا الجديدة ليست فقط عمال المنصات أو الفلاحين والعاملات الزراعيين، بل تشمل الشباب المهمش، النساء، الأقليات، وكل من تسلب حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكما يقول ديفيد هارفي: «البروليتاريا لم تختفِ، بل تبدّلت أشكالها لتواكب التكنولوجيات الجديدة وأساليب الاستغلال الحديثة». إن هذا الواقع المعقد يضع اليسار أمام مسؤولية استراتيجية مزدوجة: -التمسك بالتحليل الكلاسيكي -العميق الذي يفهم طبيعة الرأسمالية، الدولة، والصراع الطبقي. -الابتكار في أدوات التعبئة والتنظيم لمواءمة الحزب والحركة مع التحولات الرقمية، الاجتماعية، والاقتصادية الجديدة، بما يتيح للشعب التعبير عن إرادته وممارسة سلطته. والخلاصة الكبرى أن مهمة اليسار اليوم ليست مجرد الدفاع عن الماضي أو الاحتفاء بالإرث، بل صناعة المستقبل بوعي واع للتحديات المعاصرة. فاليسار يجب أن يكون القوة القادرة على الجمع بين العدالة الاجتماعية، الديمقراطية الحقيقية، المشاركة الشعبية، والوعي البيئي، ليصبح مشروعا متكاملا قادرا على مواجهة جميع أشكال الهيمنة، سواء كانت اقتصادية، سياسية، ثقافية أو رقمية. كما قال آلان باديو: «الفكر السياسي الحقيقي يبدأ حين يشعر الناس أن العالم غير مقبول، ويبحثون عن طريقة لتغييره». وهكذا، تغدو نهاية هذه القراءة، التي جمعت بين اليسار الكلاسيكي، الحديث، والشعبوية اليسارية، ليست نهاية للنص، بل بداية لفهم جديد لمسار سياسي وفكري ممتد، حيث يكون اليسار قوة للتحرر، مشروعا للعدالة، ومواكبة للعصر، قادرا على إعادة بناء الروابط بين جميع فئات المجتمع ومواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بروح ثورية، متجددة، وشاملة. في النهاية، يبقى السؤال المحوري للقرن الحالي: كيف يمكن لليسار أن يحافظ على جوهره الثوري ويواكب تحولات العصر الرقمي والاجتماعي، ليظل صوتا حقيقيا للشعوب المضطهدة في عالم سريع التغير؟ وهي مهمة يفرضها التاريخ، المجتمع، والوعي البشري، وهي مهمة لا تزال مفتوحة، تحتاج إلى إرادة جماعية، وقيادة ذكية، وتفاعل دائم مع نبض الحياة الجماهيرية.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أمريكا اللاتينية: المكسيك وكولومبيا وفنزويلا والبرازيل بين ا
...
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
-
بعد غزة… الضفة الغربية على صفيح النار: التهجير القسري والاست
...
-
الدّولة البوليسية المعاصرة
-
من مانهاتن إلى القصبة: حين تتكلم الأزمات بلغتين
-
السّرياليّة والسّرياليّة الثوريّة. من الحلم إلى التمرّد: في
...
-
النضال البيئي بين العفوية والتنظّم في تونس: الواقع والآفاق.
-
بين تاريخ الوصاية وإغراءات «الإعمار»: ما يقترَح اليوم ليس مج
...
-
مشروع قانون المالية لسنة 2026: بين الوهم الاجتماعي وتكريس ال
...
-
الديني و الماركسي في خندق المقاومة وحدود الالتقاء: من طهران
...
-
اتفاق شرم الشيخ: عودة الانتداب بثوب أمريكي – قراءة في مشروع
...
-
غزة والمقاومة: غنيمة التّاريخ وبوصلة الأحرار
-
من -الشعب يريد- إلى -النهضة تقرر- إلى -الرئيس يقرر
-
الأفقية والقاعدية: تفكيك مفاهيمي وتحليل تطبيقي.
-
البناء القاعدي والتسيير الذاتي: بين النظرية، التجارب، والتحو
...
-
السلاح ، المخدرات و الادوية ، اسلحة للثراء و اخضاع الشعوب.
-
تحليل مقتضب للنرجسية الفردية و السّلطة والشعبوية.
-
الاعتراف بالدولة الفلسطينية: خطوة ناقصة في معركة طويلة ضد ال
...
-
الأدب العربي والترجمة: ساحة المقاومة والوعي.
-
الأدب والتكنولوجيا: بين انفتاح النص وقلق المستقبل.
المزيد.....
-
خلاف غير مسبوق يهزّ المنظومة الأمنية الإسرائيلية ونتنياهو يت
...
-
مصر - الجزائر: الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يؤكد على الطا
...
-
غموض بحالة عنصري الحرس الوطني بعد تعرضهما لإطلاق نار بواشنطن
...
-
تايلاند تغرق في فيضانات تاريخية بسبب أمطار لم تهطل منذ 300 ع
...
-
انقلاب يهزّ غينيا بيساو: عسكريون يعتقلون الرئيس ويعلّقون الع
...
-
فيديو - حريقٌ كارثي في هونغ كونغ: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 3
...
-
موريتانيا: تنبؤ بـ-سجن الرئيس- بعد انتهاء مأموريته؟
-
فيديو: أبرز ملامح مشروع الخدمة العسكرية الطوعية في فرنسا
-
الاتحاد الأوروبي يعلق على استدعاء الرئيس التونسي قيس سعيد لل
...
-
ويتكوف يزور موسكو الأسبوع المقبل لبحث السلام في أوكرانيا
المزيد.....
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
المزيد.....
|