أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - الحرية والحريات في صراع الهيمنة: الشيوعية والنضال من أجل الإنسان المستضعف















المزيد.....



الحرية والحريات في صراع الهيمنة: الشيوعية والنضال من أجل الإنسان المستضعف


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 18:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الحريات والاشتباك مع الهيمنة الطبقية:

الحرية ليست مجرد مفهوم نظري أو كلمة مترددة في كتب الفلسفة، الحرية هي شرط وجود الإنسان في العالم، وإرادته في مواجهة الواقع، وأداة لتشكيل مصيره ومصير مجتمعه. هي التجربة الحقيقية، اليوميّة، المتجددة، التي يواجه فيها الإنسان قيود الواقع الاجتماعي والسياسي، ويصارع كل أشكال الهيمنة والظلم التي تحاول أن تحصر حياته ضمن إطار ضيق، محدد، ومحكوم بالطبقة والنفوذ والسلطة الاقتصادية والسياسية.
في هذا العالم المترابط والمعقد، حيث تتشابك المصالح الاقتصادية مع السلطة السياسية، ويتداخل الفقر مع التهميش، يصبح السؤال عن الحريات سؤالا وجوديا وعملانيا في آن واحد: كيف يمكن للإنسان أن يمارس إرادته ويصبح فاعلا إذا كانت كل المؤسسات، كل الأنظمة، وكل التوزيعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تخنق إمكاناته؟ كيف يمكن للفلاح أو العامل أو الطالب أن يكون مبدعا وفاعلا إذا كانت الأرض ملكية لعائلات محددة، إذا كانت مبادراته الاقتصادية مقيدة بالقوانين والموروث الاجتماعي، إذا كانت المحاولات النقابية والجمعياتية مراقبة ومقيّدة؟
الحرية، في هذا السياق، لا تعني مجرد التحرر من القيود النظرية، بل القدرة على الفعل، والقدرة على إعادة رسم الواقع، والقدرة على بناء إرادة جماعية وفاعلية حقيقية في مواجهة الهيمنة. أي فصل بين الحرية والنضال الطبقي، بين الحرية والحريات العملية، هو فصل وهمي، يصب في خدمة الطبقات المهيمنة التي تحاول أن تعيد إنتاج سلطتها وتفرض هيمنتها على كل أبعاد حياة المجتمع. كما يقول ماركس: "الحرية الحقيقية هي القدرة على التحكم في ظروف حياتك بنفسك، وليس مجرد التحرر من القيود النظرية."
الحريات العملية هي تمثيل ملموس للحرية في الواقع اليومي. هي حرية التعبير، حرية الصحافة، حرية التنظيم النقابي والجمعياتي، حرية التظاهر، حرية المبادرة الاقتصادية، حرية الممارسة اليومية التي تمكن الإنسان من الدفاع عن نفسه وعن مجتمعه. هذه الحريات ليست إضافات ثانوية أو حقوق شكلية، بل هي أدوات تمكين للفئات المستضعفة، سلاح في مواجهة الهيمنة، وشرط جوهري لخلق مجتمع عادل وحقيقي. أي حرية بدون فعل، وأي فعل بدون قدرة على ممارسة الحريات العملية، يبقى شعارات فارغة، ومجرد زخارف لا تؤثر في واقع الناس.
التجربة الإنسانية، سواء في تونس أو في العالم، علمتنا أن الحرية لا تمنح، بل تنتزع. وأن أي مشروع نضالي لا يدمج بين النضال الطبقي وتمكين الحريات العملية يبقى ناقصا، عاجزا عن تحقيق التغيير. أي تحليل للحرية والحريات دون فهم العلاقة العضوية بينها وبين الطبقة المستضعفة، توزيع الثروات، الهيمنة الاجتماعية والسياسية، وواقع المؤسسات الاقتصادية والقانونية، هو تحليل ناقص، يفتقد الجوهر الثوري والحقيقي للنضال من أجل الإنسان والمجتمع.
وفي هذا السياق، يظهر دور الشيوعي كفاعل حقيقي، ليس مجرد مراقب نظري، ولا ناقد من بعيد، بل كمن يربط بين الواقع اليومي للفئات المستضعفة وبين الهيمنة المتراكمة في كل المؤسسات: الإدارة، الأمن، الإعلام، الاقتصاد، الثقافة، والتعليم. الشيوعي الحقيقي هو من يعرف أن الحرية والحريات العملية ليستا رياضة فكرية، بل أدوات نضال، ومساحات فعل، وضمان لتمكين المستضعفين من مواجهة المهيمنين، وخلق واقع جديد يتجاوز التهميش والقمع والاستغلال.
الحرية هنا تصبح ممارسة يومية، تجربة مستمرة، صراعا مستمرا ضد كل أشكال القمع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. إنها أفق مفتوح للنضال لا يمكن اختزاله في شعارات، أو في الحقوق الشكلية فقط، ولا في حقوق اقتصادية منزوعة من سياقها الطبقي والاجتماعي. كما تقول روزا لوكسمبورغ: "الحرية الحقيقية لا توجد إلا حيث توجد العدالة الاقتصادية والاجتماعية." أي أن أي حرية سياسية أو صحفية أو جمعياتية بدون مواجهة الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية، بدون تمكين الفئات المستضعفة، هي حرية وهمية، مجرد واجهة للنظام المهيمن، وتزوير للنضال الثوري الحقيقي.
في هذا النص، سنحاول الابحار في محاولة تحليل ، موسع، ثوري، متسلسل، يربط بين الحرية والحريات العملية، بين الفعل الفردي والجماعي، بين النضال الطبقي والتحرر الاجتماعي. سنقرأ التاريخ، نفحص تجارب الناس العاديين، نستعرض تجارب النضال والمقاومة، ونوضح كيف يمكن للحرية أن تصبح فعلا يوميا، وكيف يمكن للحريات العملية أن تكون أدوات نضال، لا مجرد شعارات جوفاء.
الهدف من هذه المقدمة الشاسعة هو وضع القارئ في قلب النقاش، ليس كمتفرج، بل كفاعل يجب أن يفكر، يقيّم، ويشارك في صراع مستمر من أجل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والمساواة الحقيقية. الحرية هنا ليست مجرد مفهوم، بل فضاء ملموس، شرط وجودي، وأداة نضال، والحريات العملية هي امتداد حقيقي للنضال، تجسيد للعدالة، وأفق لتحرير الإنسان والمجتمع من كل أشكال الهيمنة والاستغلال.

1. الحرية والحريات: التفريق الذي يحدد مسار النضال.

أول خطأ فلسفي وسياسي يقع فيه كثيرون هو الخلط بين الحرية والحريات. الحرية، بالمعنى العميق، هي حالة وجودية للإنسان، القدرة على الفعل والاختيار دون قيود قسرية أو ابتزاز اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي. الحريات، من جهة أخرى، هي التجليات العملية لهذه الحرية: الحقوق، القوانين، المؤسسات، والتنظيمات التي تجعل القدرة على الفعل ممكنة على أرض الواقع.
كما تقول هانا أرندت: "الحرية ليست فعلا بل قدرة على الفعل." بمعنى آخر، الحرية هي الإمكانية المطلقة، أما الحريات فهي تطبيق هذه الإمكانية على أرض الواقع، أدوات يمكن ملاحظتها وقياسها، وتتيح اختبار مدى قدرة الإنسان على ممارسة خياراته دون قيود.
إذا أخذنا مثالا على ذلك في تونس، نجد أن حقوق التعبير، الانتخاب، العمل النقابي، التظاهر، والمشاركة في النقاش العام، موجودة نصيا في الدستور، لكنها في الواقع مقيدة عبر قوانين موسعة، وتفسيرات أمنية قاسية، وضغوط اقتصادية واجتماعية. هنا تظهر نقطة جوهرية: الحرية بدون الحريات العملية تبقى مجرد وهم، والحريات بدون فهم الصراع الطبقي وظروف الإنتاج الاجتماعي تبقى ناقصة، لأنها لا تعكس قدرة الإنسان المستضعف على الفعل الفعلي.
الحرية الحقيقية ليست شعارات مكتوبة، بل نشاط مستمر وتجربة يومية، مقاومة للهيمنة، وإعادة صياغة للواقع الاجتماعي والسياسي. كما يؤكد أنطونيو غرامشي: "القوانين السائدة ليست إلا أدوات لإضفاء الشرعية على الهيمنة الطبقية." أي أن الحريات الحقيقية ليست فقط حقوقا مكتوبة، بل قدرة على ممارسة إرادة الفرد والجماعة في مواجهة القوى المهيمنة.
الحريات إذن هي وجه الحرية العملي، فهي قياس لقدرة الإنسان على مواجهة قوى السيطرة والهيمنة، وعلى فرض شروط وجوده في الواقع الاجتماعي. كل محاولة لفصل الحريات عن النضال الطبقي أو من سياق الهيمنة الاقتصادية هي محاولة بورجوازية لتجميل الواقع، أو لتقديم حرية زائفة لأشخاص محكومين بطبقاتهم.

2. الصراع الطبقي كأساس لفهم الحريات.

الشيوعية، منذ ماركس ولينين، لم تنظر إلى الحريات كأهداف منفصلة عن الواقع الاجتماعي، بل كرست مفهوما مترابطا: الحرية الحقيقية لا يمكن أن توجد إلا في مجتمع يتم فيه تفكيك الهياكل الطبقية. الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، والسيطرة البورجوازية على الموارد الاقتصادية والسياسية والإعلامية والثقافية، تجعل أي حرية سياسية أو اقتصادية مجرد سراب.
كما يقول ماركس في رأس المال: "في المجتمع الرأسمالي، ما يبدو حرية هو مجرد حرية الفقراء في الاختيار بين قيودهم المحدودة." أي أن الحرية النظرية، دون تحويلها إلى قدرة فعلية، تتحول إلى خدعة اجتماعية. الحرية الاقتصادية الليبرالية، التي تحدد قدرة الإنسان على المبادرة الفردية أو الاستثمار، تصبح حقا محدودا ومشروطا بالموقع الطبقي وامتلاك رأس المال.
في تونس، كمثال حي، نرى الطبقات المهيمنة تتحكم في الاقتصاد الزراعي والصناعي، وفي سوق العقارات والإعلام، وتعيد إنتاج نفسها عبر السيطرة على التعليم والسياسة والثقافة. أي ممارسة للحريات دون مواجهة هذه الهيمنة تظل رمزية أو شكلانية، ولا تغير شيئا من الفجوة الطبقية.
هنا يظهر دور الشيوعي بوضوح: فهو لا يناضل فقط من أجل الحرية النظرية، بل من أجل القدرة الواقعية للمستضعفين على ممارسة هذه الحرية. أي توفير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تجعل الحرية ممكنة لكل فرد، وليس فقط للطبقات المهيمنة.
كما تقول روزا لوكسمبورغ: "الحرية لا يمكن أن توجد إلا حيث توجد العدالة الاقتصادية والاجتماعية." هذا يعني أن أي فصل بين الحريات والنضال الطبقي ليس مجرد خطأ نظري، بل فعل أيديولوجي يخدم مصالح القوى المهيمنة، ويحوّل الإنسان إلى أداة في نظام لا يحترم إنسانيته، ويجعل الحرية مجرد شعار على الورق أو حقوق تصاغ لتناسب مصالح الأغنياء والقادة فقط.
إن فهم الحريات كجزء من النضال الطبقي يعني إعادة النظر في كل الممارسات الاجتماعية والسياسية: الحقوق الاقتصادية، حرية التعبير، الحق في التعليم، الوصول إلى العدالة، كلها لا يمكن فهمها إلا من خلال العدسة الطبقية. كل محاولة لفصل هذه الحقوق عن تحليل الطبقات الاجتماعية وتحولات الهيمنة الاقتصادية والسياسية هي محاولة لتطويق الحرية وجعلها أداة لإعادة إنتاج السلطة، وليس وسيلة للتحرر.

3. الحرية الاقتصادية: بين الحق الفردي والهيمنة الطبقية.

الحرية الاقتصادية، كما يطرحها الليبراليون، تفهم عادة على أنها قدرة كل مواطن على الاستثمار، امتلاك المشاريع، والمبادرة الاقتصادية دون قيود كبيرة من الدولة. بمعنى آخر، هي حق الفرد في استثمار ثروته كما يشاء، بغض النظر عن أصل هذه الثروة، ودون قيود تقليدية، طالما التزم بالقوانين الرسمية والدفع الضريبي. هذا الفهم يجعل الحرية الاقتصادية جزءًا من منظومة الحريات، ويصورها كأحد الأسس التي يبنى عليها المجتمع الحرّ.
لكن، من منظور ثوري وشيوعي، هذا الحق الليبرالي ليس إلا واجهة لتمويه الهيمنة الطبقية. كما يوضح ماركس في رأس المال: "الحرية الاقتصادية للبورجوازية تعني حرية استغلال الفقراء بطرق قانونية." الحرية الاقتصادية الفردية في نظام رأسمالي محدودة للغاية، لأنها مرتبطة بالقدرة على امتلاك رأس المال، وليس بالقدرة على الإنتاج أو العمل.
في تونس، كمثال حي، نجد أن المبادرة الاقتصادية ليست متاحة بالتساوي: الفرد الذي يملك رأس المال أو ميراثا كبيرا من العائلة قادر على إنشاء مشروع، بينما الفلاح الصغير أو العامل المستأجر يجد نفسه مقيدا بالقوانين غير المرنة، وباحتكار الموارد، وبقيود السوق التي تعيد إنتاج السلطة الاقتصادية للطبقات المهيمنة. فمثلا، صاحب مزرعة كبيرة يستطيع استيراد الأعلاف وشراء المعدات، بينما الفلاح الصغير يجد نفسه محدودا حتى في عدد الدجاج الذي يمكن تربيته، أو في القدرة على الوصول إلى الأسواق.
هنا يظهر الفرق الجوهري بين الحق الليبرالي في المبادرة والحق الثوري في مصدر الرزق: الأول يكرس حرية الأغنياء على حساب الفقراء، بينما الثاني يسعى لإعادة توزيع الموارد بطريقة تتيح للطبقات المستضعفة القدرة على ممارسة الحرية بشكل فعلي. كما تقول روزا لوكسمبورغ: "الحرية الحقيقية لا تقاس بعدد الحقوق المعلنة، بل بمدى قدرتك على العيش بكرامة وممارسة إرادتك في مجتمعك."
من هذا المنظور، الشيوعي لا يرفض الحرية الاقتصادية بشكل قاطع، لكنه يشترط أن تتحقق في إطار العدالة الاجتماعية، أي أن تكون متاحة للجميع، وليس لأفراد الطبقات المهيمنة فقط. أي حرية اقتصادية بدون إصلاح هيكل التوزيع الطبقي هي حرية وهمية، مجرد شعار لتجميل الوضع القائم، أو لتأصيل الهيمنة الاقتصادية.

4. الحريات الاقتصادية والاجتماعية كأداة للنضال الطبقي.

الحرية الاقتصادية ليست غاية في حد ذاتها، بل أداة للنضال الطبقي. في حالة غياب العدالة الاقتصادية، تصبح الحريات السياسية مجرد شعارات على الورق، وحقوق التعبير والمبادرة مجرد وسائل لإعادة إنتاج السلطة الطبقية. كما يقول أنطونيو غرامشي: "القوانين والحقوق ليست إلا أدوات لإضفاء الشرعية على الهيمنة."
في التجربة التونسية، نلاحظ كيف أن توزيع الثروة والتحكم في الموارد يحدد من يستطيع ممارسة الحرية الاقتصادية، ومن يظل مقيدا بالقوانين، أو حتى معرضا للعقوبات، رغم التزامه بالقوانين الرسمية. فالفلاح الذي يمتلك 50 دجاجة قد يمنع من التوسع، بينما العائلة المهيمنة يمكنها أن تتحكم في السوق، وتستغل ثروتها في الاستثمار والمضاربة، وتفرض شروطها على باقي المجتمع.
هذا يوضح أن الشيوعي، في نضاله من أجل الحريات، لا يمكن أن يتجاهل البعد الاقتصادي والاجتماعي: أي محاولة للفصل بين الحريات الاقتصادية والاجتماعية والنضال الطبقي هي محاولة لتجميل السلطة، وتحويل الحرية إلى وهم، كما يقول ماركس: "الحرية الحقيقية للفقراء لا يمكن أن توجد في مجتمع تُحتكر فيه وسائل الإنتاج."
من هنا، يظهر الرابط العضوي بين الحرية الاقتصادية والاجتماعية والنضال الطبقي: الفلاح، العامل، المواطن المستضعف، يحتاج إلى حرية ممارسة حقه في مصدر رزقه، وفي الوصول إلى الموارد الاقتصادية، وفي المشاركة في القرارات التي تؤثر على حياته. بدون هذه الحرية العملية، تبقى أي حرية سياسية أو حقوق دستورية مجرد كلمات على الورق، أو شعارات لسلطة تحاول إعادة إنتاج نفسها.
كما تقول هانا أرندت: "لا يمكن للفرد أن يكون حرا إذا لم يمتلك القدرة على الفعل في المجال العام." وهذا المجال العام يشمل الاقتصاد، المجتمع، السياسة، وحتى الثقافة. أي نضال من أجل الحريات لا يأخذ بعين الاعتبار السيطرة الاقتصادية والاجتماعية لن يكون سوى نوع من الانحراف الإيديولوجي، أو تحريف للمفهوم الثوري للحرية.
باختصار، الحريات الاقتصادية والاجتماعية ليست إضافة للحقوق أو امتدادا لليبرالية، بل هي الشرط الأساسي لتحويل الحرية من إمكانية نظرية إلى واقع ملموس، وهي أدوات لتمكين المستضعفين من ممارسة إرادتهم، وكسر الهيمنة الطبقية التي تحاصر قدرتهم على الفعل، وتجعلهم مجرد أدوات ضمن منظومة سلطوية تعمل على إبقاءهم تحت السيطرة.

5. الفئات المستضعفة والحرية: بين الواقع الاجتماعي والنظريات الليبرالية.

الليبرالية تقيم الحرية على أساس المواطن الفرد، الذي يُفترض أن يمتلك القدرة على اتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية بحرية، سواء في السوق أو في المشاركة السياسية. لكن الواقع يكشف أن هذا التصور غالبا ما يكون وهميا، لأنه يتجاهل التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية التي تحدد من يمكنه ممارسة هذه الحرية ومن لا يمكنه.
في تونس، نجد أن الفلاح الصغير، العامل غير المؤهل، أو المواطن العادي الذي لا يمتلك رأس المال أو النفوذ الاجتماعي، يواجه قيودا عملية تمنعه من ممارسة حقوقه الاقتصادية والسياسية. مبادرة اقتصادية بسيطة، مثل إنشاء مزرعة صغيرة أو مشروع تجاري، يمكن أن تصطدم بعوائق قانونية أو اقتصادية، أو حتى اجتماعية، بسبب سيطرة طبقات محددة على السوق والموارد. كما نرى في تجربة الفلاح الذي يمتلك 50 دجاجة، بينما العائلة الكبيرة المسيطرة على الأراضي والأسواق يمكنها أن توسع مشاريعها بلا قيود، مستغلة ثروتها في التحكم بالسوق وفرض شروطها على بقية المجتمع.
هنا يظهر الفرق بين الحرية النظرية في الليبرالية، والحرية العملية التي يطالب بها الشيوعي. الأول يرى أن كل مواطن حر بمجرد توفر القانون، والثاني يرى أن الحرية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا توافرت الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمكّن المستضعف من ممارسة حقوقه بشكل فعلي. كما تقول روزا لوكسمبورغ: "الحرية الحقيقية لا توجد إلا حيث توجد العدالة الاقتصادية والاجتماعية."
وليس فقط الحرية الاقتصادية هي التي تتأثر بالهيمنة الطبقية، بل كل أشكال الحريات: السياسية، الجمعياتية، والصحفية. أي فئة مستضعفة تحاول تنظيم نفسها سياسيًا، تأسيس جمعية، أو نشر رأي نقدي في الصحافة، تواجه عقبات مباشرة من السلطات أو من القوى الاقتصادية المهيمنة، التي تستعمل القوانين والإدارات والقضاء لتقييد هذه المبادرات، وخلق جو من الخوف والترهيب يمنع التجمع والنقد.
كما يؤكد الفيلسوف أنطونيو غرامشي: "الهيمنة ليست فقط قوة، بل قدرة على التحكم في ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله." أي أن السيطرة على الفضاء العام، بما فيه الإعلام والجمعيات السياسية والمدنية، هي جزء من الهيمنة التي تحدد من يمكنه ممارسة حريته ومن لا يمكنه.
من هذا المنطلق، يصبح الشيوعي ملزما بفهم الظروف الواقعية للفئات المستضعفة، ودراسة كيفية تأثير البنى الاقتصادية والاجتماعية على حقوقهم السياسية والمدنية، وعدم الاقتصار على خطاب نظري مجرد، لأن الفصل بين الحقوق والحريات وبين الواقع الطبقي هو فصل وهمي يخدم مصالح القوى المهيمنة.

6. الحريات السياسية والجمعياتية والصحفية: أدوات النضال الطبقي وفضاءات الفعل.

الحريات السياسية والجمعياتية والصحفية ليست مجرد حقوق دستورية أو شعارات على الورق، بل هي أدوات عملية لتمكين الفئات المستضعفة من ممارسة إرادتها، والمشاركة في تشكيل واقعها الاجتماعي والسياسي. من دون هذه الحريات، يصبح أي نضال طبقي مجرد كلام فارغ، وحقوق الإنسان مجرد شعار إعلامي.
في تونس، تجربة الجمعيات المستقلة، والنقابات، والصحافة الحرة، تظهر مدى الصراع بين الحق في الفعل والهيمنة الطبقية. أي محاولة للفلاح أو العامل أو الطالب لتنظيم نفسه، أو للمواطن لإطلاق مشروع إعلامي نقدي، يمكن أن تواجه تصعيدا قانونيا، إداريا، أو اقتصاديا، باسم حماية "الأمن الوطني" أو "مصلحة الدولة". مثال واضح هو تقييد حرية الصحافة من خلال تهديدات قانونية أو مقاضاة صحفيين مستقلين، أو حظر جمعيات تدافع عن حقوق الفئات المهمشة، وهو ما يعكس استخدام الدولة للقانون كأداة هيمنة وليس حماية للحريات.
كما تقول هانا أرندت: "لا يمكن للفرد أن يكون حرا إذا لم يمتلك القدرة على الفعل في المجال العام." وهذا المجال العام يشمل السياسة، المجتمع المدني، الإعلام، والثقافة. أي نضال من أجل الحريات، سواء كانت سياسية أو صحفية أو جمعياتية، لا يمكن فصله عن النضال الطبقي، لأنه يتعرض مباشرة للهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
الشيوعي هنا يقوم بدور مزدوج:
-فهم الواقع الاجتماعي والاقتصادي للفئات المستضعفة، بما فيها العوائق القانونية والإدارية والاقتصادية التي تمنعهم من ممارسة حقوقهم.
-العمل على فتح فضاءات الفعل من خلال تنظيم جماعات، إنشاء جمعيات، دعم صحافة مستقلة، وتمكين الناس من التعبير عن مطالبهم، حتى في مواجهة القوانين المقيدة، والتهديدات المباشرة أو غير المباشرة.
كما يقول لينين: "الحرية الحقيقية لا يمكن أن توجد إلا حيث تكون السلطة في يد الشعب، وليست في يد طبقة واحدة." أي أن أي ممارسة حقيقية للحريات لا يمكن أن تتحقق إلا إذا ارتبطت مباشرة بصراع الطبقات، وإعادة توزيع السلطة الاقتصادية والسياسية.
من هذا المنظور، يمكن القول إن الحريات السياسية والجمعياتية والصحفية ليست مجرد امتياز أو حق ثانوي، بل جزء عضوي من النضال الطبقي ذاته. أي محاولة لفصل هذه الحريات عن النضال الاجتماعي والاقتصادي هي محاولة لإخفاء العلاقة بين الحرية والهيمنة، وتحويل الإنسان إلى أداة في منظومة سلطوية تعمل على إعادة إنتاج نفسها، كما نراه في سياسات التضييق على الصحافة والجمعيات في السياق التونسي والعالمي.

7. ضرب الحريات: القمع كأداة لإعادة إنتاج الهيمنة الطبقية، قراءة متعمقة.

القمع المنهجي للحريات ليس حادثة عابرة، ولا مجرد ممارسة بيروقراطية، بل هو آلية متكاملة لإعادة إنتاج الهيمنة الطبقية بشكل دقيق. أي تقييد للحرية السياسية أو الجمعياتية أو الصحفية لا يقتصر على كبح نشاط الأفراد، بل يعيد رسم الخريطة الاجتماعية للسلطة، بحيث تبقى الفئات المستضعفة خارج دائرة الفعل والنفوذ، بينما تحافظ الطبقات المسيطرة على سيطرتها المطلقة.
في تونس، مثلا، نرى أن أي نشاط جمعياتي مستقل أو نقابي أو إعلامي قد يصوّر على أنه تهديد لأمن الدولة أو حتى فعل إرهابي، وهو ما يعكس تحويل القانون إلى أداة قمع، لا أداة عدالة. هذا التحويل ليس عشوائيا، بل يتقاطع مع مصالح نخب اقتصادية وسياسية تتحكم في موارد الدولة والإدارة والإعلام والثقافة، وتضمن لنفسها امتيازات مستمرة عبر التضييق على أي فعل شعبي أو جماعي.
كما يقول ميشيل فوكو: "السلطة ليست فقط ما يمارس بالقوة، بل ما يمارس على المعرفة، على الفكر، وعلى حدود الممكن قوله." أي أن قمع الحريات هو استراتيجية شمولية للتحكم في المجال العام، وفرض الهيمنة على ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله. من هذا المنظور، أي تضييق على حرية التعبير، حرية الصحافة، حرية التنظيم المدني أو النقابي، هو استمرار للهيمنة الاقتصادية والاجتماعية، وليس مجرد انتهاك لحقوق شكلية.
تاريخيا، يمكن الرجوع إلى تجارب عديدة: في تشيلي قبل الانقلاب، كانت أي محاولة للصحافة المستقلة أو النقابات الجامعية تخنق عبر القانون والرقابة والاعتقالات. في تونس، منذ سنوات، تم التضييق على الجمعيات التي تعمل في الريف والفئات المهمشة، ومنع الصحفيين من تغطية قضايا الفقر والبطالة والفساد، وهو ما يكرّس هيمنة النخب الاقتصادية والسياسية ويعيق أي مشروع نضالي شعبي.
هنا تظهر الحقيقة الجوهرية: القمع ليس نهاية الموضوع، بل بداية الفهم العميق لآليات الهيمنة الطبقية. أي شيوعي يريد أن يكون فعّالا يجب أن يدرك أن الدفاع عن الحريات العملية، سواء كانت سياسية أو جمعياتية أو صحفية، هو جزء لا يتجزأ من مهمته التاريخية، لأنه يضمن قدرة الفئات المستضعفة على المشاركة الفعلية في صياغة واقعها ومصيرها.

8. الحريات والنضال الطبقي: وحدة عضوية لا انفصال فيها.

الحريات ليست مجرد شعارات، وليست فقط حقوقا مكتوبة، بل فضاءات فعل ملموسة تتيح للمستضعفين أن يمارسوا إرادتهم. أي فصل بين الحريات والنضال الطبقي هو فصل زائف يخدم مصالح الهيمنة ويعطل مشروع التحرر.
في هذا الإطار، الشيوعي ليس مجرد مراقب نظري، بل فاعل مباشر في خلق فضاءات حرية حقيقية. هذا يشمل:
-الحرية السياسية والجمعياتية: تمكين المواطنين من تنظيم أنفسهم، تشكيل جمعيات ونقابات، والمشاركة في الحياة السياسية بدون قيود غير عادلة.
-الحرية الصحفية والفكرية: تمكين الصحفيين والمثقفين من كشف الحقائق، فضح الظلم، وتوجيه النقد للممارسات الطبقية.
-الحرية الاقتصادية: ضمان قدرة الفئات المستضعفة على ممارسة حقها في مصدر رزقها، وتحقيق استقلال اقتصادي نسبي يمكنه تعزيز المشاركة المدنية والسياسية.
كما يقول غرامشي: "الهيمنة ليست مجرد قوة، بل هي القدرة على الهيمنة على ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله." أي أن أي حرية سياسية أو صحفية أو جمعياتية بدون مواجهة الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية هي حرية وهمية، مجرد قناع لتجميل الوضع القائم.
تجربة تونس تثبت ذلك بشكل واضح:
-أي محاولة للفلاح أو العامل أو المواطن المهمش لتنظيم نفسه أو التعبير عن رأيه أو المشاركة في تظاهرات سلمية تواجه التضييق القانوني والأمني.
-الجمعيات المستقلة والنقابات والفعاليات الطلابية والسياسية تتعرض للإغلاق أو التضييق الإداري.
-الصحافة المستقلة تواجه الرقابة المباشرة والملاحقة القانونية، وهو ما يحد من قدرتها على كشف فساد النخب أو توعية الفئات المستضعفة.
هنا يظهر أن النضال الطبقي والحريات العملية مرتبطان ارتباطا عضويا. الدفاع عن الحريات هو وسيلة لتمكين الفئات المستضعفة، وهو شرط أساسي لتحويل النضال من مجرد شعارات إلى تغيير ملموس في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. أي شيوعي يتجاهل هذا الرابط يكون قد حاد عن مهمته التاريخية، وأصبح جزء من الهيمنة التي يفترض أنه يقاومها.
كما تؤكد روزا لوكسمبورغ: "الحرية الحقيقية لا توجد إلا حيث توجد العدالة الاقتصادية والاجتماعية." أي أن أي حرية سياسية أو صحفية أو جمعياتية بدون مواجهة الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية هي حرية وهمية. وبهذا المنطق، يصبح الدفاع عن الحريات جزء لا يتجزأ من العمل الثوري، وليس مجرد واجب حقوقي أو سياسي ثانوي.
الخلاصة: أي محاولة لفصل الحريات عن النضال الطبقي هي فصل زائف، هدفه تحييد الفئات المستضعفة عن فعلها، وضمان استمرار الهيمنة الطبقية. أما من يربط بين النضال الطبقي والحريات العملية، فهو شيوعي حقيقي، فاعل ثوري، قادر على تحويل الشعارات إلى واقع ملموس، وتمكين المستضعفين من لعب دورهم في المجتمع وصياغة مستقبلهم.

9. الحريات كامتداد عضوي للنضال الطبقي: وحدة لا انفصال فيها.

في العمق، الحريات ليست مجرد حقوق مكتوبة، وليست مجرد شعارات على الورق، بل أدوات عملية لتحويل الإرادة من وهم إلى واقع. أي فصل بين الحريات والنضال الطبقي هو فصل وهمي، يستخدمه النظام السياسي والاقتصادي للحفاظ على هيمنته. فحين تمنع الدولة التجمعات السلمية أو التضييق على الجمعيات النقابية أو الصحفية، فإنها لا تضرب حقا مجردا، بل تعرقل قدرة الفئات المستضعفة على ممارسة إرادتها وتحويل مطالبها إلى فعل ملموس.
في تونس، نجد أن أي محاولة للفلاح أو العامل أو المواطن المهمش لتنظيم نفسه، أو التعبير عن رأيه في الإعلام، أو المشاركة في التظاهرات، يتم تصويرها قانونيا على أنها "تحريض على تغيير هياكل الدولة" أو حتى "عمل إرهابي". هذا ليس مجرد تشدد قانوني، بل إعادة إنتاج منهجية الهيمنة الطبقية، حيث تتحكم الطبقات المسيطرة في كل مفاصل الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتضمن لنفسها امتيازات مستمرة عبر قمع قدرة الفئات المستضعفة على الفعل.
الميتافيزيقا الثورية للشيوعي تفترض أن الحرية الحقيقية لا يمكن أن توجد إلا في سياق مواجهة الهيمنة، كما تقول روزا لوكسمبورغ: "الحرية الحقيقية لا يمكن أن توجد إلا حيث توجد العدالة الاقتصادية والاجتماعية." أي أن أي حرية سياسية أو صحفية أو جمعياتية بدون مواجهة الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية هي حرية وهمية، مجرد أداة لتجميل السلطة وإخفاء الصراع الحقيقي للطبقات.
في هذا السياق، أي ممارسة للحريات العملية ، من حق التظاهر، الحق في الصحافة المستقلة، الحق في التنظيم النقابي والجمعياتي ، ليست ثانوية، بل جزء من برنامج نضالي ثوري. الفعل الذي يطالب بهذه الحريات، ويعمل على توسيع فضاءات الفعل للفئات المستضعفة، هو امتداد طبيعي للنضال الطبقي، وليس انحرافا إيديولوجيا أو تحريفا للمبادئ الماركسية أو اللينينية.
النظرية الثورية الشاملة تقول إن النضال ضد الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هو شرط وجودي لوجود الحرية: بدون مواجهة الهيمنة، تصبح الحريات مجرد شعارات جوفاء، والحقوق الديمقراطية مجرد قناع لتجميل السلطة الطبقية.

10. واجب الشيوعي: الدفاع عن المستضعفين وممارسة الحرية الحقيقية.

الشيوعي الذي يحترم مهمته التاريخية لا يمكن أن يسكت عن الظلم. أي سكوت هنا ليس حيادًا، بل خيانة للإنسانية وللمبادئ الثورية. الدفاع عن الحريات ليس رفاهية، بل الجوهر الأخلاقي والسياسي للشيوعي.
هنا تتجلى وظيفة الشيوعي في بعدين متكاملين:
-تمكين الفئات المستضعفة: من خلال الدفاع عن حقها في مصدر رزقها، تمكينها من المبادرة الاقتصادية، الحق في التنظيم النقابي والجمعياتي، وحق التعبير السياسي والصحفي.
-مواجهة الهيمنة: بمهاجمة كل أشكال السيطرة التي تمنع المستضعفين من ممارسة حقوقهم، سواء كانت سياسية، اقتصادية، اجتماعية، أو ثقافية.
التجربة التونسية توضح هذا بشكل صارخ: أي قيود على الحق في التظاهر السلمي، أي منع للجمعيات أو النقابات المستقلة من ممارسة نشاطها، أي تضييق على الصحافة الحرة، هي استمرار مباشر للهيمنة الطبقية. وهنا يظهر أن الدفاع عن الحريات ليس خيارًا، بل شرط وجودي للثورة ولوجود الإنسان كفاعل حر.
لينين يؤكد: "لا يمكن تحقيق الحرية الحقيقية في مجتمع تحكمه طبقة واحدة دون مساعدة الفئات المظلومة على استعادة إرادتها." أي أن الدفاع عن الحريات هو واجب لا يتجزأ عن النضال الطبقي. أي شيوعي يتجاهل هذه الحقيقة يكون قد فقد جوهر الثورة، وأصبح جزء من النظام الذي يقمع الفئات المستضعفة ويعيد إنتاج هيمنة الطبقات المسيطرة.
بالإضافة لذلك، الحرية لا تتوقف عند حدود المجال السياسي أو الصحفي، بل تشمل الحريات الاقتصادية والاجتماعية، لأنها مرتبطة مباشرة بقدرة الفئات المستضعفة على العيش بكرامة والمشاركة الفعالة في المجتمع. أي شيوعي يحصر نضاله في مواجهة الملكية الفردية أو الطبقة البرجوازية دون الدفاع عن هذه الحريات يفشل في بناء مجتمع إنساني حقيقي.
هنا يكتمل المنظور: الحرية الحقيقية، بكل أبعادها، هي امتداد طبيعي للنضال الطبقي. أي فعل يهدف لتحرير هذه الحرية، وتوسيع فضاءات الفعل للمستضعفين، هو فعل ثوري جوهري وحقيقي، لا يمكن فصله عن مهمة الشيوعي التاريخية. أي شيوعي يسكت عن هذا، أو يرفض الدفاع عن هذه الحرية العملية، يفقد صفة الإنسانية، ويصبح تابعًا للهيمنة التي يفترض أنه يقاومها.
كما تقول هانا أرندت: "الحرية لا تعني مجرد غياب القيود، بل القدرة على الفعل في المجال العام." أي أن أي مشروع ثوري حقيقي يجب أن يربط بين الحرية والحريات، بين العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وبين النضال السياسي والاجتماعي، بحيث يصبح الإنسان ليس مجرد ضحية للهيمنة، بل فاعلا حقيقيا لمصيره ومصير مجتمعه.

11. الحرية كشرط وجودي للإنسان: العلاقة العضوية بالنضال المستمر.

في العمق، الحرية ليست مجرد حالة اجتماعية أو سياسية، ولا يمكن اختزالها في حقوق مكتوبة أو شعارات على الورق. الحرية هي الحالة الوجودية للإنسان، الشرط الذي يتيح له أن يكون فاعلاً، وأن يحكم على واقعه ويعيد تشكيله. أي محاولة لتقليصها إلى مجرد امتيازات شكلية أو حقوق مصرح بها هي محاولة لتجميل الهيمنة وإخفاء الصراع الحقيقي للطبقات.
في تونس، كما في تجارب عالمية مشابهة، نرى أن أي ممارسة فعلية للحرية تواجه تحديات معقدة:
المواطن الذي يسعى لتنظيم نفسه سياسيا أو جمعياتيا يتعرض للتضييق القانوني، الترهيب الأمني، والملاحقات الإدارية.
الصحافة المستقلة تواجه التضييق المالي، الرقابة المباشرة، والتهديد القانوني المستمر.
الفئات الاقتصادية الصغيرة، التي تسعى لممارسة حقها في مصدر رزقها أو توسيع نشاطها، تتقاطع مع قوانين وامتيازات طبقية تمنعها من النمو، وتحصر الفوائد لدى نخب اقتصادية مهيمنة.
هنا تظهر الحقيقة الجوهرية: الحرية الحقيقية لا يمكن أن توجد إلا عبر النضال المستمر، الذي يربط الحقوق الفردية بالمصلحة الجماعية، والفضاء السياسي بالفضاء الاقتصادي والاجتماعي. كما تقول هانا أرندت: "الحرية لا تعني مجرد غياب القيود، بل القدرة على الفعل في المجال العام." أي أن الحرية تتطلب فضاءات ملموسة يمكن فيها للإنسان أن يمارس إرادته، وأن يشارك في صياغة مصيره ومصير مجتمعه.
النضال الطبقي هنا لا يقتصر على مواجهة الملكية أو الاستبداد الرسمي فقط، بل يشمل:
-مواجهة الهيمنة الاقتصادية التي تمنع المستضعفين من الحصول على مصدر رزقهم، أو من ممارسة المبادرة الاقتصادية بحرية.
-مواجهة الهيمنة الاجتماعية التي تفرض القيود على التنظيم المدني، الجمعياتي، النقابي والسياسي.
-مواجهة الهيمنة الثقافية والإعلامية التي تحاصر قدرة الإنسان على التفكير الحر والنقد والمبادرة الفكرية.
أي فعل نضالي يهدف لتحرير هذه الحرية، وتمكين الفئات المستضعفة من ممارسة إرادتها، هو جزء لا يتجزأ من الثورة الحقيقية. أي فصل بين الحرية والنضال الطبقي هو فصل وهمي، يستخدم لتبرير السيطرة واستمرار الهيمنة.

12. الخاتمة: الحرية، الحريات، والنضال الثوري الشامل.

في نهاية هذه الرحلة التحليلية، نصل إلى استنتاج لا يمكن تجاوزه: الحرية ليست مجرد كلمة فلسفية أو شعارات شكلية، بل هي شرط وجود الإنسان، والمجتمع، والثورة نفسها. الحرية هي الحالة التي يستطيع فيها الإنسان أن يمارس إرادته، أن يكون فاعلا، وأن يشارك في صياغة واقعه ومصيره ومصير مجتمعه. أي فصل بين الحرية والنضال الطبقي، بين الحرية والحريات العملية، هو فصل وهمي، يخدم مصالح الطبقات المسيطرة، ويجعل كل الشعارات مجرد زخرف فارغ.

لقد رأينا أن الحريات العملية ، الاقتصادية، السياسية، الجمعياتية، والصحفية ، ليست إضافات ثانوية أو مطالب تكميلية، بل أدوات جوهرية لتحرير الفئات المستضعفة وتمكينها من ممارسة إرادتها. أي محاولة لتقييدها، سواء عبر القانون، الأمن، الإدارة، أو الإعلام، هي استمرار للهيمنة الطبقية، تهدف إلى إعادة إنتاج السلطة وإخفاء الصراع الاجتماعي الحقيقي. كما يقول غرامشي: "الهيمنة ليست مجرد قوة، بل هي القدرة على الهيمنة على ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله."
في هذا السياق، يبرز دور الشيوعي بوضوح: فهو ليس مجرد مراقب نظري، ولا مجرد ناقد خارجي، بل فاعل مباشر في خلق فضاءات الحرية الحقيقية، وتمكين المستضعفين من ممارسة إرادتهم. الشيوعي الذي يسكت عن الظلم أو يختزل نضاله في المواجهة الاقتصادية فقط، أو يرفض الدفاع عن الحريات السياسية والصحفية والجمعياتية، يكون قد فقد جوهر الثورة، وأصبح تابعًا للهيمنة التي يفترض أنه يقاومها. أما من يرى في الحريات وسيلة لتحرير المستضعفين وتمكينهم من الفعل، فهو حارس الإنسانية، وفعل ثوري حي، يربط بين النظرية والتطبيق، بين النضال الطبقي والتحرر الفعلي.
التجربة التونسية وغيرها من التجارب العالمية تظهر بوضوح أن أي مشروع ثوري لا يدمج بين الحرية والحريات، بين النضال الطبقي والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وبين الحق في مصدر الرزق والحق في التنظيم المدني والسياسي، يفشل في بناء مجتمع حر حقيقي. التاريخ يعلمنا أن الفئات المستضعفة التي لا تمنح فضاءات فعل ملموسة، مهما نادت بالمبادئ والحقوق، تبقى تحت رحمة النخب المسيطرة، وتصبح كل الشعارات مجرد وعود جوفاء.
كما تؤكد روزا لوكسمبورغ: "الحرية الحقيقية لا توجد إلا حيث توجد العدالة الاقتصادية والاجتماعية." أي أن أي حرية سياسية أو صحفية أو جمعياتية بدون مواجهة الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية هي حرية وهمية. وهنا تتجلى وحدة النضال الطبقي والحريات العملية: كل فعل يوسع فضاءات الفعل للفئات المستضعفة، ويكسر قيود الهيمنة، هو جزء من الثورة الحقيقية، ومن بناء مجتمع إنساني كامل ومستدام، حيث الحرية ليست شعارًا، بل واقعًا يوميًا يمارسه كل فرد بمشاركته الفعلية في صراع مستمر ضد كل أشكال الهيمنة.
في النهاية، يصبح الإنسان، من خلال النضال، ليس مجرد ضحية للهيمنة، بل فاعلا حرا، قادرا على تحويل إرادته إلى فعل ملموس، ومشاركا في صياغة مستقبله ومستقبل مجتمعه. وكل عملية تقيد هذه الحرية أو تمنع ممارسة الحريات العملية هي هجوم مباشر على الإنسان، وعلى العدالة الاجتماعية، وعلى الثورة نفسها.
الدرس المركزي الذي نتعلمه هو أن الحرية والحريات ليستا خيارا ثانويا، بل ضرورة وجودية، وأدوات جوهرية للثورة والمجتمع الحر والمستضعفين الذين يسعون لاستعادة كرامتهم وحقهم في الحياة. ومن هنا، فإن كل شيوعي، وكل ناشط ثوري حقيقي، يجب أن يكون مدافعا عن الحريات العملية، متمسكا بالنضال الطبقي، ومكرسا جهوده لتحويل الشعارات إلى واقع ملموس، وضمان قدرة كل فرد على ممارسة إرادته الحقيقية بدون قيود طبقية أو سياسية أو اجتماعية.
كما يقول ماركس: "الحرية الحقيقية هي القدرة على التحكم في ظروف حياتك بنفسك، وليس مجرد التحرر من القيود النظرية." أي أن أي مشروع ثوري حقيقي يجب أن يربط بين الحرية والحريات، بين النظرية والتطبيق، وبين الفعل الفردي والجماعي، ليصبح المجتمع مكانا حقيقيا للإنسانية، بعيدا عن الهيمنة والاستغلال والقمع.
في هذا السياق، تصبح الحريات العملية امتدادا عضويا للنضال الطبقي، وشرطا أساسيا لتحقيق العدالة والكرامة الإنسانية. وكل فعل يساهم في توسيع فضاءات الفعل للفئات المستضعفة، وكل مقاومة للهيمنة، هو جزء من الثورة الحقيقية، ومن بناء مجتمع إنساني متكامل، حيث الحرية ليست مجرد شعار، بل ممارسة يومية، وفضاء ملموس للعيش الكريم والمساواة والتحرر الحقيقي.



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تونس الآن الآن ..
- فنزويلا في قلب الصراع العالمي
- الحرية والمواطنة في مواجهة آلة القمع وبناء جدار الخوف... قرا ...
- قراءة في أحزاب اليسار الكلاسيكية، واليسار الثوري الحديث، وال ...
- أمريكا اللاتينية: المكسيك وكولومبيا وفنزويلا والبرازيل بين ا ...
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ...
- بعد غزة… الضفة الغربية على صفيح النار: التهجير القسري والاست ...
- الدّولة البوليسية المعاصرة
- من مانهاتن إلى القصبة: حين تتكلم الأزمات بلغتين
- السّرياليّة والسّرياليّة الثوريّة. من الحلم إلى التمرّد: في ...
- النضال البيئي بين العفوية والتنظّم في تونس: الواقع والآفاق.
- بين تاريخ الوصاية وإغراءات «الإعمار»: ما يقترَح اليوم ليس مج ...
- مشروع قانون المالية لسنة 2026: بين الوهم الاجتماعي وتكريس ال ...
- الديني و الماركسي في خندق المقاومة وحدود الالتقاء: من طهران ...
- اتفاق شرم الشيخ: عودة الانتداب بثوب أمريكي – قراءة في مشروع ...
- غزة والمقاومة: غنيمة التّاريخ وبوصلة الأحرار
- من -الشعب يريد- إلى -النهضة تقرر- إلى -الرئيس يقرر
- الأفقية والقاعدية: تفكيك مفاهيمي وتحليل تطبيقي.
- البناء القاعدي والتسيير الذاتي: بين النظرية، التجارب، والتحو ...
- السلاح ، المخدرات و الادوية ، اسلحة للثراء و اخضاع الشعوب.


المزيد.....




- طعمها ممتع ولذيذ.. أطباق لحم الدببة البنية ضمن قائمة هذا الم ...
- الرئيس اللبناني يطالب وفد مجلس الأمن الدولي بالضغط على إسرائ ...
- مسؤول أممي: -يجب الضغط على إسرائيل لإنهاء هجماتها على غزة-، ...
- بوتين متحدياً الضغوط الأميركية بعد لقاء مودي: نفط روسيا سيصل ...
- براتب 2600 يورو وحوافز.. خطة الخدمة العسكرية الألمانية
- ترامب: أحلام ومآسي صانع السلام المولع بإشعال النيران!
- بوتين في الهند وماكرون في الصين.. رسائل كثيرة لمن؟
- لبنان: المحادثات مع إسرائيل -تهدف أساسا لوقف الأعمال العدائي ...
- الشعاب الـمرجانية.. عالم تحت البحر على حافة الانهيار
- الفروسية تنهض من رماد الحرب.. فرسان اليمن يطاردون الأمل رغم ...


المزيد.....

- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - الحرية والحريات في صراع الهيمنة: الشيوعية والنضال من أجل الإنسان المستضعف