|
|
الثورة التونسية: ثورة مستمر بين الشرارة الشعبية والالتفافات السياسية، نحو شغل - حرية - كرامة وطنية.
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 04:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عندما نتحدّث عن الثورة التونسية، فإننا لا نتحدث عن حدث هيّن في التاريخ، ولا عن لحظة مفردة من الانفعال الجماهيري، بل عن خروج جماهيري تاريخي عميق الجذور تحدّى منظومة عمرها أكثر من ثلاثة عقود، وأطلق صراعا طبقيا واجتماعيا وسياسيا لم يتوقف ولا يزال يتفاعل مع أحداث الحاضر. الثورة في تونس ليست قصة انهيار نظام سياسي فحسب، بل هي حصيلة تراكم طويل من الاحتقان الاجتماعي، الفوارق الاقتصادية، القهر الطبقي والتمييز الجهوي؛ تراكم بدأ منذ عقود طويلة قبل ديسمبر 2010، وتداعى على وقع سياسات اقتصادية واجتماعية مُتحيّزة لصالح نخبة صغيرة بينما تركت فئات واسعة من المجتمع في هامش الوعي السياسي والاقتصادي. في تونس، كان النمو الاقتصادي الظاهري الذي سجلته مؤشرات رسمية ، مثل نمو الناتج المحلي وتوسع بعض القطاعات الصناعية والخدماتية ، يسمح بأن ينظر إليها في الخارج كـ “نموذج تنموي” مقارنة ببعض دول إقليمية. لكن وراء هذه الأرقام، كانت هناك مفارقات عميقة كما كشفها خبراء الاقتصاد والمحللون الاجتماعيون. فمن جهة، حقق الاقتصاد معدلات نمو معقولة قبل 2011، لكن من جهة أخرى ظلّ الاقتصاد غير قادر على خلق فرص عمل حقيقية، خاصة للشباب المتعلّم، وظلّت البطالة متأرجحة بين مستويات عالية جدًا، خصوصًا في المناطق الداخلية والجنوبية من البلاد، حيث كانت معدلات البطالة والحرمان الاجتماعي أعلى بكثير من السواحل المزدهرة اقتصاديا. لم يكن هذا الفشل مجرد أرقام جامدة؛ بل كان واقعا معاشا يوميا للملايين من التونسيين، يعانون بطالة الشباب، وغياب فرص العمل اللائق، والتمييز الجهوي في التوظيف والخدمات، وممارسات المحسوبية والفساد التي فرضتها منظومة الحكم القديمة. في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت مؤشرات البطالة تقدّر بـ نحو 14% على الأقل على المستوى الوطني، بينما كانت ارتفعت إلى مستويات أعلى بين خريجي الجامعات، وفي بعض المناطق الداخلية تجاوزت 30%، وهو ما أظهر أن الاستراتيجية الاقتصادية القائمة لم تكن تخدم غالبية الشعب، بل تخدم فئة صغيرة مرتبطة بالسلطة الاقتصادية والسياسية. لكن الاحتقان الاجتماعي في تونس لم يبدأ في ديسمبر 2010. فقد شهدت العقود السابقة سلسلة من الاحتجاجات الاجتماعية التي كانت بمثابة شرارات تدريجية في بنية المجتمع التونسي: من انتفاضة الخبز في 1984 احتجاجا على رفع الأسعار وسياسات التقشف، إلى احتجاجات الحوض المنجمي في 2008 ضد البطالة والفساد في التوظيف بمنطقة غنية بالموارد لكنها مهمشة اقتصاديًا، إلى مجموعات احتجاجية مماثلة في بنقردان وسخيرة عام 2010 قبل الثورة مباشرة. كانت هذه التحركات الاجتماعية، رغم اختلاف سياقاتها وأهدافها الجزئية، تشير إلى تآكل شرعية السلطة والاتفاق الاجتماعي غير المعلن الذي كان النظام القديم يحاول الحفاظ عليه: إذ كان يدير القمع السياسي مقابل منح بعض الامتيازات الاجتماعية الأساسية. ومع تفاقم التفاوتات الاقتصادية، وبروز وعي اجتماعي يتصاعد عبر فئات الشباب والطبقات الشعبية المهمشة، بدأ العقد الاجتماعي ينفجر تدريجيًا حتى وصل إلى لحظة الشرارة الكبرى في 17 ديسمبر 2010. في هذا اليوم، عندما أقدم الشاب محمد البوعزيزي على إحراق نفسه في سيدي بوزيد احتجاجًا على تجويعه وفقدانه لفرص العيش الكريم، لم يكن ذلك مجرد حادثة فردية مرتجلّة كعمليات الانتحار حرقا التى سبقته في عدة ولايات، بل كان تعبيرا رمزيا ووجوديا عن غضب جماعي متراكم، وقد أثارت هذه اللحظة لدى الجماهير ما يكفي من الألم والرفض لإشعال احتجاجات انتشرت بسرعة في أنحاء البلاد. ومع وصول هذه الشرارة إلى العاصمة وبقية الجهات، ارتفع سقف المطالب ليشمل كسر الخوف، رفض الفساد، القضاء على التمييز الاجتماعي، والمطالبة بـ شغل، حرية، وكرامة وطنية ، شعارات أصبحت رمزا ليس فقط لثورة تونس بل لمقارعة منظومات الاستبداد في المنطقة بأسرها. هذه الثورة لم تكن انفجارا عاطفيا فحسب، بل نتيجة تراكمية لأزمة بنيوية في بنية الدولة نفسها: نظام سياسي استبدادي قائم على التحكم في أجهزة السلطة، الإفقار الطبقي، الإقصاء الجهوي، والفساد الهيكلي الذي جعل الاقتصاد في خدمة نخبة قريبة من السلطة بينما تركت الغالبية العظمى للمواطنين في هامش الوعي الاجتماعي والاقتصادي. الثورة إذًا هي لحظة تاريخية للتقاطع بين الضغوط الاجتماعية الراهنة والقدرة الجماهيرية على تحويل هذا الضغط إلى فعل سياسي ثوري يهدّد منظومة الاستبداد. وإذا كان سقوط نظام زين العابدين بن علي في 14 جانفي 2011 يمثل واحدة من أكثر اللحظات الاحتفالية في تاريخ تونس الحديث، فإن هذا السقوط لا ينبغي قراءته كـ “نهاية” الثورة، بل كـ مرحلة انتقالية مركزية في مسار طويل ومعقّد. فمنذ ذلك الحين، دخلت تونس في عملية إعادة تعريف نفسها، بين محاولات للدمقرطة الشكلية وتنظيمات حزبية جديدة، وصراع دائم بين القوى القديمة والقوى الجديدة التي حاولت احتواء الثورة ضمن لعبة المؤسسات، بدل أن تتحول إلى إعادة بناء جذري لعلاقات القوة داخل المجتمع والدولة. وبينما أعلنت بعض النخب السياسية أن الثورة “أنجزت” بعد الانتقال الديمقراطي الأولي، فإن الواقع لم يكن كذلك. إذ تشير الأحداث المتلاحقة ، من تحوّلات السلطة، صراع المؤسسات، ضعف الأحزاب، غياب برامج اجتماعية حقيقية، إلى إعادة تمركز السلطة في يد رؤساء وسياسات مركّزة ، إلى أن الغاية الأساسية للثورة لم تتحقق بعد، وأن المطالب الأساسية التي دفع الشعب للنزول إلى الشارع لا تزال مفتوحة على تغيرات أكبر في بنية السلطة والاقتصاد والمجتمع. إن هذه الثورة، في جوهرها، ليست حدثا بسيطا في التاريخ السياسي لتونس، بل عملية تاريخية مستمرة: عملية صراع بين إرادة الجماهير التي تطالب بالعدالة الاجتماعية والكرامة، وبين قوى تسعى للتحكم في مسار السلطة وضبط ذلك الصراع داخل حدود السياسة المؤسساتية فقط. وما يجعل الثورة التونسية حالة فريدة في المنطقة هو أنها لم تُنهِ النظام فقط، بل فتحت بابا من الأسئلة العميقة حول علاقة الشعب بالدولة، وبحول إمكانية تحقيق تغيير اجتماعي جذري عبر قوة الجماهير، ووعيها، وصلابتها في مواجهة كل أشكال الاستبداد، التهميش والتمييز.
1. النضالات الاجتماعية قبل 2010: من «ثورة الخبز» إلى الحوض المنجمي.
1.1 انتفاضة الخبز 1984: أول مواجهة حقيقية بين النظام والمجتمع: في أواخر عام 1983 اتخذت الحكومة التونسية قرارا بزيادة أسعار الخبز والحبوب بنسبة تتجاوز 100%، وجاء هذا القرار ضمن برنامج تقشفي مرتبط بشروط القرض من صندوق النقد الدولي، الذي اشترط تخفيض الإنفاق الحكومي وإلغاء بعض الدعم الاجتماعي، وهو جزء من أجندات النيوليبرالية التي كانت تُفرض على دول الجنوب في تلك المرحلة. إعلان رفع أسعار الخبز ، وهو غذاء أساسي تقضي الأسر الفقيرة نسبة تصل إلى 80% من ميزانية قوتها عليه ، لم يكن مجرد تعديل اقتصادي؛ بل كان انتهاكًا للعقد الاجتماعي غير المكتوب بين الدولة والمجتمع. وهنا يتجلى العمق الطبقي في احتجاجات 1984: ليس احتجاجا من غلاء الأسعار، بل رفضا صارخا لاستهداف الطبقات الشعبية في قوتها اليومي. انطلقت الاحتجاجات في الجنوب (دوز، قبلي، سوق الأحد، الحامة) ثم امتدت سريعا إلى العاصمة، مما يشير إلى أن الاحتجاج كان متأصلا في شعور جماعي بالاستبعاد والمظالم البنيوية. وقد استخدمت الدولة العنف القمعي، وأُعلنت حالة الطوارئ، وأسفرت هذه المواجهات عن عشرات القتلى ومئات الجرحى، وكثفت السلطات من الاعتقالات في صفوف المحتجين. ما يمكننا استخلاصه هنا ليس فقط رفض زيادة الأسعار، بل رفض هيكل سلطة اقتصادي يضع عبء الأزمة على الفقراء، بينما تحمّل الطبقات العليا والأجهزة المالية الدولية تكاليفها على الجماهير. لقد أصبحت «انتفاضة الخبز» رمزا مبكرا للصراع الطبقي في تونس، حيث تحوّل خبز الشارع إلى شعار للكرامة الإنسانية ضد سياسات التقشف والاضطهاد. حتى اليوم، لا يزال هؤلاء المحتجون يطالبون بتفعيل العدالة الانتقالية وإنصاف الضحايا الذين سقطوا في تلك المواجهات، في إدانة ضمنية لاستمرار نفس السياسات الاقتصادية التي أُطلقت قبل أربعة عقود.
1.2 انتفاضة الحوض المنجمي 2008: احتجاج ضد البطالة والفساد واستغلال الموارد: بعد عقود من السياسات الاقتصادية التي لم تتعامل مع أسباب عدم المساواة في توزيع الثروة، اندلع في يناير 2008 احتجاج اجتماعي واسع في منطقة قفصة الحوض المنجمي، وهي منطقة غنية بالفوسفات لكنها عانت البطالة والفقر ولا فرص اقتصادية حقيقية لسكانها. المظاهرات في الحوض المنجمي لم تكن ردّ فعل لحادثة واحدة، بل نتيجة سنوات من الإقصاء الاقتصادي والبطالة المتواصلة لآلاف من الشباب والخريجين، بعد أن خسرت المنطقة نسبة كبيرة من وظائفها في شركة الفسفاط بسبب سياسات إعادة الهيكلة. واجهت الدولة هذه الاحتجاجات بقوة قمعية كبيرة، مستخدمة الغاز المسيل للدموع، والرصاص المطاطي، وحتى الذخيرة الحيّة، ما أسفر عن استشهاد متظاهرين وإصابات واسعة. لكن رغم ذلك ظل نضالهم علامة بارزة في الوعي الثوري الشعبي، وتُعتبر هذه الحركة واحدة من أقوى الاحتجاجات الاجتماعية منذ انتفاضة الخبز عام 1984. وقد اعتبر الكثير من المراقبين أن انتفاضة قفصة كانت «شرارة ثورية مبكرة»، لأنها أظهرت أن السياسات الاقتصادية لم تكن قادرة على معالجة عدم المساواة وآثار البطالة المزمنة على الشرائح الاجتماعية المهمشة، وأن أجيالا جديدة من الشباب كانت مستعدة للتحول من الاحتجاج الاقتصادي إلى المطالبة السياسية الشاملة.
كلا الحركتين — 1984 و2008 — تكشفان بعدا طبقيا عميقا: في الأولى، صراع الطبقات الشعبية ضد سياسات قهرية حدّدت قوت يومها؛ وفي الثانية، تصادم بين أجيال محرومة بالنظر إلى فشل الدولة في توفير فرص حياة كريمة. وهاتان الحركتان لم تمحَيا من الذاكرة الجماهيرية، بل شكّلان قاعدة ظهارية للتوترات الاجتماعية التي انفجرت في 2010–2011.
2. شرارة الثورة التونسية: 17 ديسمبر 2010 ، لحظة الانكسار وتجسيد الغضب الاجتماعي.
إن 17 ديسمبر 2010 لم يكن مجرد يوم احتجاج، بل نقطة تحول تاريخية استثنائية في مسار النضال الاجتماعي والسياسي في تونس. حرق محمد البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد كان الفعل الفردي الذي جمع كل تراكمات الغضب الاجتماعي والاقتصادي في لحظة واحدة، تجسيدا رمزيا لشعور جماعي بالظلم واليأس. لم يكن مجرد احتجاج على الفساد البيروقراطي أو على التعسف الأمني، بل إعلان عن رفض شامل لمنظومة اجتماعية وسياسية كرّست الإقصاء والفقر والبطالة لعقود.
2.1 السياق الاجتماعي والاقتصادي: تراكم الأزمات: منذ انتفاضة الخبز 1984، ومن ثم انتفاضة الحوض المنجمي 2008، تراكمت في تونس الاحتجاجات الطبقية والاقتصادية، حيث واجهت الدولة جميع محاولات الإصلاح الاجتماعي بالقمع واللامبالاة. الشباب العاطل، الخريجون من دون فرص، النساء العاملات في القطاع غير الرسمي، وحتى العمال في المناطق الصناعية والهامشية، كلهم جمعهم شعور متنامٍ بالخذلان من الدولة والنخبة الحاكمة. الفقر والتهميش في الجهات الداخلية، إلى جانب ارتفاع الأسعار وتراجع الدعم الاجتماعي، شكّل بيئة صالحة للانفجار الاجتماعي. وهذه ليست أزمة فردية، بل أزمة بنيوية في العلاقة بين الدولة والطبقات الشعبية، إذ أثبتت السنوات السابقة أن الدولة تتعامل مع المواطنين كأرقام، وليس كحقوق، وأن المنظومة الاقتصادية والسياسية فشلت في تلبية الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.
2.2 الانتفاضة: من سيدي بوزيد إلى كل الجهات: ما يميز 17 ديسمبر هو تسارع الانضمام الجماهيري للحراك، من سيدي بوزيد إلى القصرين وتالة، ثم إلى أغلب الجهات الداخلية، وصولا إلى العاصمة تونس. لم يكن الحراك عفويا وحسب، بل كان امتدادا طبيعيا لتراكمات الغضب الاجتماعي والسياسي لسنوات. هذا الانتقال من احتجاج محلي إلى حركة وطنية يشير إلى وعي جماعي متنامٍ بأن القهر الاجتماعي ليس فرديًا بل منهجي، وأن الانفجار الجماهيري قادر على مواجهة منظومة الاستبداد. لقد ظهرت شعارات واضحة مثل "شغل، حرية، كرامة وطنية"، وشكلت حلقة متصلة مع نضالات سابقة، لكنها كانت أكثر قوة وحدّة. لقد أظهرت أن الثورة ليست مجرد احتجاج ، بل عملية تراكمية مستمرة تبدأ بشرارة، وتكتسب زخمها عبر التحاق الجماهير وصعود مطالبها من المحلية إلى الوطنية.
2.3 تحليل طبقي وسياسي: يمكن قراءة 17 ديسمبر كـتجسيد لصراع الطبقات بين القوى الشعبية وبين النخبة السياسية والاقتصادية. الطبقة الشعبية لم تنتظر القرار من النخبة، بل أخذت زمام المبادرة في مواجهة القهر. وفي هذا الصراع، لعبت المناطق المهمشة دورا رياديا: حيث أثبتت أن المركزية السياسية والاقتصادية في العاصمة لم تمنع الجماهير من أن تصنع تاريخها الخاص. كما أن هذه الشرارة أكدت أن الوعي الجماعي يمكن أن يحول الاحتجاج الاجتماعي إلى فعل سياسي ثوري. فالتظاهرات والاعتصامات والإضرابات التي تلت حرق البوعزيزي لم تكن مجرد احتجاج على حادثة فردية، بل محاولة لتفجير عقد اجتماعي متراكم، وتحويل شعور الظلم إلى مطلب سياسي واضح يطال النظام ككل.
2.4 خاتمة تحليلية للنقطة : إن 17 ديسمبر 2010، مع كل ما رافقه من توسع احتجاجي وانخراط واسع للشباب والنساء والعمال، لم يكن تحققا للثورة، لكنه أطلق الشرارة الحقيقية التي ستتطور لاحقا إلى إسقاط النظام في 14 جانفي 2011. وقد أبرزت هذه اللحظة أن الثورة التونسية ليست حدثا منفصلا، بل مسارا تراكميا يمتد على عقود، يجمع بين الوعي الاجتماعي، المطالب الاقتصادية، والرفض السياسي للنظام. ومن هذه النقطة، يمكننا فهم أن الثورة كانت ولا تزال ثورة مستمرة، رغم كل الانحرافات، الالتفافات، والطعن في مسارها.
3. 14 جانفي 2011: سقوط النظام ليس نهاية، بل بداية مسار جديد معقد: كانت الثورة التونسية، منذ انطلاقها في 17 ديسمبر 2010، قد كسرت حاجز الخوف الاجتماعي مع بدء التحاق الجماهير من الجهات الداخلية، وأعلنت صراحة أنها قادرة على مواجهة منظومة الاستبداد. لكن ما حدث في 14 جانفي 2011 لم يكن لحظة “التفاف” انقلابي على إرادة الشعب، بل كان ذروة ضغط شعبي متراكم أخرج نظام بن علي من السلطة بعد أكثر من 23 عاما من الحكم المستبد. هذا اليوم شكل انهيارا فعليا لمنظومة الاستبداد في هيكلها السياسي والأمني بعدما أيقن الجميع، من أعلى هرم الدولة إلى أسفل الشارع، أن استمرار بن علي أصبح غير ممكن في وجه إرادة شعبية جارفة. قبل سقوطه، حاول بن علي في 10 جانفي أن يهدئ الشارع بتهديدات ووعود شكلية ، في خطاب أعلن فيه عن خلق “ثلاثمئة ألف وظيفة” للمعطلين ، محاولة يجري تداولها اليوم كمناورة نفسية استعراضية تهدف لإقناع شباب الحراك بالرجوع إلى بيوتهم، وهو ما رفضته الجماهير في مختلف الولايات. لكن 14 جانفي كان أكثر من خروج رأس النظام. لقد أظهر أن منظومة السيطرة الأمنية التي اعتقد أنها متماسكة، بما في ذلك الشرطة وجهازها القمعي، انهارت أمام الضغط الثوري. القوات الأمنية انحرف بعضها عن تطبيق الأوامر، وفي العديد من المدن انسحب رجال الشرطة من الشوارع بينما غطّت وحدات الجيش الصحاري والمدن لحماية المؤسسات العامة، في مشهد لم يكن مألوفًا منذ عقود. وإذا كان سقوط بن علي نتيجة لاندفاع الجماهير على الأرض، فإنه أيضا نتيجة لـصراعات داخل النظام نفسه، وارتباك جهاز الدولة أمام سيل المتظاهرين، وهيكليات السلطة التي لم تعد قادرة على السيطرة، الأمر الذي جعل فرار الرئيس ضرورة عاجلة حتى لا يغرق النظام في أزمة أكبر. ولعل هذا جزء من الإجابة عن السؤال المفخخ الذي ظّل مطروحا حول ما إذا كان الهروب “بفعل خارجي” أو بفعل اختلالات داخل السلطة نفسها، بعيدا عن كل سردية مبسّطة تفرغ الثورة من محتواها الشعبي. لكن الواقع بعد 14 جانفي لم يكن تجاوزا نهائيا لمشكلات الثورة ولنضالاتها. بالفعل، شهدت تونس في السنوات التالية تحولات سياسية مهمة: انتخابات حرة، دستور جديد سنة 2014، انفراج حرية الإعلام، ومحاكمات رموز النظام القديم. هذه المكاسب السياسية لم تكن بسيطة: لقد أطلقت تونس ما اعتبر نموذجا للتداول السلمي للسلطة في المنطقة، ما يجعل من الثورة التونسية حالة خاصة في الإقليم. لكن هذا المسار "الديمقراطي" الذي بدا واعدا لم يكن خاليا من الارتدادات والتراجعات، بل كان مربكا ومعقدا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، حيث ترافقت الحرية السياسية مع تردّي الأوضاع المادية للمواطنين واستمرار مشكلات البطالة والفقر، وهو ما أضعف قدرة التحول الديمقراطي على تحقيق الخدمات الاجتماعية المنشودة، الأمر الذي سيُظهر التناقضات في المرحلة لاحقا. وفي القراءة الطبقية، فإن سقوط بن علي كان هزيمة لطبقة سياسية فاسدة ومكمّلة لمنظومة الاستبداد، لكنه كان أيضا بداية سجال طويل بين قوى الثورة المضادة وقوى الشعب الحقيقية، حيث تبيّن أن سقوط رأس النظام لا يضمن بالضرورة سقوط هيكل النفوذ السياسي والاقتصادي الذي أنتجه. لهذا السبب، فإن 14 جانفي ، رغم قيمته الكبرى ، ليس نهاية الثورة، بل بداية صراع جديد في بنية السلطة نفسها.
4. الثورة بعد 14 جانفي: التناقضات، السرديات الثنائية، وتحول الوعي الجماعي.
في اللحظة التي أُطيح فيها بن علي، كان يمكن اعتبار تونس على مفترق طرق تاريخي: إما البدء في نقلة نوعية في علاقة الدولة بالمجتمع، أو الدخول في صراع استيعاب الثورة ضمن فضاءات برلمانية وسياسية لا تغيّر بنى السلطة الفعلية. ما حدث فعليا كان خليطا من الاثنين: لقد تم تحقيق مكاسب سياسية ، ومنها صياغة دستور جديد عام 2014 ورفع سقف الحريات العامة، لكن هذه المكاسب لم تترجم إلى تغييرات اقتصادية واجتماعية جوهرية تلبي تطلعات الجماهير التي انتفضت في 2010–2011 ، و من هنا نفهم انه وقع اقصاء خفي للديمقراطية الاجتماعية و طمرها و اختصار الثورة في مسالة الديمقراطية السياسية . السرد ثنائي القطب الذي تمارسه بعض الأطراف ، تقسيم الثورة إلى “17 ديسمبر النقية” مقابل “14 جانفي الخائنة” ، هو في جوهره سردية سياسية تهدف إلى تفتيت اللحظة الثورية إلى قصتين منفصلتين، كل واحدة منها تعطي تفسيرا أحادي البعد بعيدا عن الحقيقة الاجتماعية المعقدة. الثورة، كما يراها الواقع، عملية متصلة: شرارة اندلعت في الجهات الداخلية، أثرت في كل شرائح المجتمع، ودفعت الجماهير نحو التحرك السياسي والاجتماعي في آن واحد. وبالفعل، منذ تلك اللحظة، حدثت تغيّرات اجتماعية وسياسية لا يمكن تجاهلها. فقد أصبحت المشاركة السياسية أوسع، وتمكنت قطاعات واسعة ، مع أن ترجمت بشكل شكلي أحيانا ، من التعبير عن نفسها بحرية أكبر في الفضاء العام، سواء من خلال انتخابات حرة أو من خلال منابر إعلامية لم تكن ممكنة في عهد الاستبداد. لكن هذه الحرية الشكلية واجهت واقعا اقتصاديا واجتماعيا صعبا: البطالة بقيت مرتفعة، الخصخصة وسياسات التقشف استمرّت، وكثير من القوى التي افترض أن الثورة ستقصيها، مثل بعض ركائز الجهاز الأمني والبيروقراطية، تمكنت من الحفاظ على نفوذها أو إعادة تكوينه. هذه التحولات أوصلت البلاد إلى حالة تناقض ثوري: على مستوى السياسة الحرية موجودة، لكن على مستوى العدالة الاجتماعية يبدو المسار متوقفا أو متراجعا، ما جعل الكثيرين يشعرون أن الثورة “انتهت سريريا لكنها مستمرة واقعيا”. هذا التناقض العميق هو ما جعل بعض التحليلات تتحدث عن “أزمة الثورة”، أي الانفصال بين المكاسب السياسية الشكلية وبين البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي تنتظر التنفيذ الحقيقي، في ظل صراع مستمر بين قوى الثورة المضادة وقوى الشعب. إن الثورة، بهذا المعنى، لم تكن مجرد إسقاط نظام؛ بل حركة اجتماعية مفتوحة ما زالت تعيد تشكيل وعي الجماهير وأولوياتها، وتحافظ على صراعها الطبقي ضد منظومة تستمر في إعادة إنتاج شروط القهر الاجتماعي والاقتصادي. هذا يبرز حقيقة أساسية: الثورة ليست حدثا بل عملية مستمرة تحول علاقات القوة داخل المجتمع وتعيد تفسير معنى الدولة والسلطة والعدالة
5. الالتفاف السياسي بعد الثورة: استنزاف الحراك الاجتماعي وتحويل الثورة إلى لعبة مؤسساتية معقدة.
بعد سقوط بن علي في 14 جانفي 2011، دخلت تونس في مرحلة جديدة من تاريخها، عنوانها الاختبار الحقيقي للثورة: هل الثورة هي مجرد إسقاطٍ لرمز استبدادي، أم هي بداية إعادة تأسيس بنى سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة؟. الإجابة على هذا السؤال تكشف لنا سرّا خطيرا في مسار الثورة التونسية: ما إن بدأت الثورة تتحول إلى عمل سياسي مؤسساتي ، انتخابات، برلمان، أحزاب ، حتى بدأت تفقد جزء كبيرا من روحها الاجتماعية والتغييريّة الجوهرية.
5.1 من الشارع إلى الأروقة: الثورة تتساقط في فخ المؤسسات: ما إن انتهت مرحلة إسقاط النظام، حتى انخرطت الطبقة السياسية الجديدة في تحالفات وتوافقات سياسية سعت إلى تحويل مطالب الجماهير إلى صياغات دستورية وترتيبات حزبية. لكن هذه المرحلة، بدل أن تكون تكملة للثورة في اتجاه تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، غدت غالبا ميدانا لصراعات نخب سياسية محصورة في أروقة المؤسّسات. كان من أوضح تجليات ذلك عنصر حركة النهضة الإسلامية ، التي تمكّنت من الفوز بأكبر عدد من المقاعد في أول انتخابات 2011 ، وقد تم التعامل معها من بعض دوائر النخب باعتبارها شريكا “اعتداليا” في الحكم، لكن تجاربها اللاحقة في الحكم كشفت محدودية قدرتها على تحقيق إصلاحات اقتصادية اجتماعية حقيقية. لقد تبنّت النهضة في كثير من الأحيان سياسات اقتصادية ليبرالية أو تقشفية لم تغير جذريا من واقع البطالة والتهميش في المناطق الداخلية، وهو ما انعكس لاحقا على شعبيتها الانتخابية في 2014 و2019، حيث انخفضت نتائجها الانتخابية تدريجيا. وهنا يظهر التناقض المركزي: الثورة قامت على مطالب اقتصادية واجتماعية عميقة، لكن التحوّل المؤسساتي سرعان ما طمسه النزاع حول مواقع السلطة والمناصب في البرلمان والحكومات، وهو ما سمح لقوى ما قبل الثورة أو لتحالفات وسطية أن تعيد إنتاج نفوذها في الدولة، في حين بقيت المطالب الأساسية غير محقّقة.
5.2 المؤسسات كساحة صراع داخلي بدل تمثيل الجماهير: حين اندلعت الثورة، كانت الجماهير تتوقع أن النظام السياسي المستقبلي الناشئ ، برلمانا منتخبا، وهيئات سياسية متعددة ، سيخدم مطالب “شغل، حرية، كرامة وطنية”. لكن في الواقع، وجد كثير من النشطاء أنفسهم أمام أحزاب ضعيفة التنظيم، مليئة بالانقسامات الداخلية، ومفتقرة إلى مشروع طبقي واضح. وظهر هذا بوضوح في الجبهة الشعبية ، التي كانت محاولة لتوحيد اليسار ، إذ عانت من انقسامات حول تفسير الثورة نفسها ومن صراعات رئاسة داخلية حالت دون بناء مشروع قوي قاعدي ومستقل. أما القوى القديمة ، بما فيها أحزاب ما قبل الثورة وأنصاف النخب ، فقد أدركت سريعا أن المشهد المؤسساتي يوفر فرصا للنفوذ دون مواجهة مباشرة مع الشارع، فبدأت تركز على المناورات السياسية وتحالفات الظرف، بدل أن ترفع صوت الجماهير الفقيرة والمهمشة. وهكذا تحوّل البرلمان من أداة للتغيير الاجتماعي إلى ساحة صراع نخبوي داخلي يغيب عنه صوت الطبقات الشعبية.
6. الانقسامات السياسية، التصادم الطبقي، وتراجع البرامج الاجتماعية: قراءة متعمقة بعد 14 جانفي.
مرحلة ما بعد 14 جانفي ليست مجرد “مواجهة بين اليمين واليسار” أو بين “علمانيين وإسلاميين”، بل كانت مرحلة صراع عميق بين القوى الشعبية التي رفعت الثورة من أجل العدالة الاجتماعية وبين نظام سياسي يتصارع على إعادة إنتاج نفسه. دون تحليل طبقي عميق لهذه المرحلة، تفقد القراءة الثورة حركيتها ومعناها.
6.1 صعود الإسلاميين ثم تراجعهم: تجربة النهضة: تعد حركة النهضة أبرز نموذج لهذا التحول. بعد أن حققت نجاحا انتخابيا في 2011، وشاركت في صياغة دستور 2014، واجهت حركة النهضة تحديات داخلية وخارجية جسيمة: انخفاض الثقة الشعبية في قدرتها على تحسين الظروف المادية للمواطنين، وتحوّل خطابها إلى توافق سياسي مع تيارات أخرى بدلا من تنفيذ برامج اجتماعية عميقة. هذا الانحدار الشعبي للحركة ، التي تناقلت أرقامها الانتخابية انخفاضا تدريجيا بعد 2011 ، لم يكن نتيجة فقط لخلافات أيديولوجية، وإنما ارتبط ارتباطا وثيقا برفض الجماهير لخطط حكومية لم تلامس الواقع الاقتصادي الصعب، مثل البطالة المتفشية التي بلغت مستويات قياسية تصل إلى حوالي 30% بين خريجي الجامعات في بعض المناطق حسب دراسات لاحقة للثورة.
6.2 التآكل الطبقي واستمرار الأزمة الاقتصادية: الاستمرار في سياسات معتمدة على الاقتصاد الليبرالي، وعدم معالجة العيوب البنيوية في نموذج التنمية، جعلا مسار ما بعد الثورة فشلا اقتصاديا اجتماعيا مدوّ. فالأوضاع الاقتصادية لم تشهد تحسنا ملموسا في العقود الماضية، بل ازدادت قوتها لدى فئات قليلة، بينما ظلّت الجهات الداخلية والمناطق المهمشة تعاني أعلى معدلات البطالة والفقر. وفي ظل هذا الفشل في تحقيق العدالة الاجتماعية، بدأ المجتمع يتفاعل مع السياسة بطريقة انفصالية عن المؤسسات التقليدية: تراجعت المشاركة في انتخابات كثيرة، وخفّت الثقة في الأحزاب التقليدية، حتى أن بعض المحللين يشيرون اليوم إلى ضعف واضح في البنية الحزبية نفسها بعد أن تقلّص نشاط الأحزاب وتشتّت دورها كمنابر جماهيرية حقيقية.
6.3 أزمة الجمهورية ومكانة الدولة الجديدة: التحولات بعد الثورة لم تفضِ إلى دولة قوية تمثل الشعب الحقيقي، بل إلى جمهورية هشّة تواجه صراعا داخليا بين سلطات متضاربة. وقد تجلّى هذا في السنوات الأخيرة من خلال توسيع صلاحيات رأس الدولة على حساب المؤسسات التشريعية والقضائية، وتراجع استقلالية القضاء وتقييد الحريات المدنية، بما في ذلك الاعتقالات السياسية المتزايدة في 2023–2025 لأعضاء أحزاب وناشطين بتهم واسعة يمكن أن تعدّ تراجعا عن مكتسبات الثورة نفسها. وتمحورت هذه المرحلة حول تراجع التمثيل الشعبي الحقيقي في هياكل الدولة الرسمية، لصالح تركيز السلطة في يد فرد أو زمرة صغيرة تدّعي تمثيل إرادة الشعب، لكنها في الواقع تحجّم الصوت الشعبي وتجعل من المسار الاقتصادي والاجتماعي مجرد خلفية لصراع مؤسساتي. ما بعد الثورة في تونس ليس مجرد فترة انتقال سياسي أو نزاع بين فصائل سياسية؛ بل هو مرحلة إعادة صوغ للعلاقات بين الدولة والطبقات الاجتماعية. لقد تحول الحراك الشعبي الجماهيري إلى لعبة مؤسساتية تداولية بين قوى سياسية عاجزة عن ترجمة مطالب الشعب الاقتصادية والاجتماعية. في حين أن الثورة بدأت كرفض للهيمنة الطبقية والاستبداد، فإن مؤسسات ما بعد الثورة ، البرلمانات، الأحزاب، التحالفات السياسية ، أخفقت في أن تكون أدوات حقيقية لإحداث تغيير جذري في بنية الاقتصاد والمجتمع، ولم تُدمج برنامج “شغل، حرية، كرامة وطنية” في سياسات حكومية حقيقية. النتيجة: الثورة لم تهزم، لكنها دخلت في مرحلة نزاع عميق بين إرادة الشعب وبين الهيمنة المؤسساتية الجديدة التي أعادت إنتاج قدر كبير من نفس تمركز السلطة على حساب مطالب الجماهير البسيطة اليومية.
7. ظهور قيس سعيد: توجه شعبي في لحظة إحباط سياسي واقتصادي عميق.
7.1. سياق ما بعد الثورة: إحباط عميق وثغرة ناظمة للمشهد السياسي: بعد أكثر من عشر سنوات على سقوط بن علي، وجد الشارع التونسي نفسه في مأزق عميق: على الرغم من الإنجازات الديمقراطية الشكلية التي أتيح تحقيقها بعد 14 جانفي 2011 ، من تعددية حزبية إلى دستور جديد إلى مساحة واسعة للحريات العامة ، فإن الواقع الاجتماعي والاقتصادي لم يتحسن بشكل جوهري. البطالة بقيت مرتفعة، خاصة بين الشباب، وتدهورت القوة الشرائية، وازدادت اللامبالاة الشعبية تجاه الأحزاب التقليدية التي فرضت عليها صياغة مسار ما بعد الثورة. الكل تقريبا بات يرى في هذه الطبقة السياسية جزء من الأزمة نفسها، وليس الحل لها. هذا الإحباط انعكس في ركود الشارع، خمول القوى السياسية، وتراجع شعبية الأحزاب المؤسسة في السنوات الأخيرة، بل حتى اختفائها من المشهد السياسي فعليا. مدرّس السياسة هشام العجبوني وصف ذلك بأن الخمول السياسي في تونس نتج عن حالة إحباط عميق لدى القوى السياسية والمدنية، في ظل ما يوصف بصعود نظام فردي جديد بقيادة سعيد. على المستوى الاقتصادي أيضا، ظل الاقتصاد يواجه تراجعا وركودا هيكليا: نمو منخفض، بطالة شديدة بنسب عالية خاصة في صفوف الشباب، وتدهور الخدمات، بينما ظلت التفاوتات الجهوية والاجتماعية قائمة بقوة. وقد عبر محللون عن أن الأزمة السياسية في تونس ليست منفصلة عن الأزمة الاقتصادية، بل أن تدهور الاقتصاد ونقص فرص الشغل كان سببًا رئيسيًا في فقدان الثقة في النخبة السياسية السابقة.
7.2. ظهور سعيد: رمز الرفض بلا انتماء حزبي: وسط هذا الإحباط العام، برز قيس سعيد كرمز منفصل عن المنظومات الحزبية التقليدية. قبل أن يصبح اسما سياسيا بارزا، كان سعيد أستاذا مساعدا في القانون الدستوري، يظهر في الإعلام بتفسيرات دستورية هادئة وبعيدة عن الصراعات الحزبية التقليدية. هذا الظهور الأكاديمي لم يرتبط بأي حزب منذ البداية، ما سمح له أن يقرأ كـصوت خارج اللعبة السياسية التقليدية، وهو ما رآه كثير من التونسيين «نقيا» نسبيا مقارنة بنخب ما بعد الثورة التي تورطت في مناورات سياسية متعثرة ومتذبذبة. لم يكن صعوده مجرد صدفة، بل نتاج إحباط شعبي من النموذج الحزبي الذي لم يحقق العدالة الاجتماعية بعد الثورة. سعيد استثمر ذلك بتقديم نفسه كمرشح “غير حزبي” يقدم نفسه كـممثل للوشائج الشعبية غير الممثّلة في البرلمان أو الأحزاب. حتى أن بعض التونسيين قالوا إن سعيد “كان الحل الوحيد الممكن” وسط ضعف الخيارات البديلة، أو خرجوا بتأكيدات أن الأحزاب فشلت في القبض على نبض الجماهير.
7.3. الانتخابات والتصويت لسعيد: “الثورة الثانية” في وعي الجماهير: ظهور سعيد في الانتخابات وانتصاره ، في سياق ضعف الأحزاب التقليدية وانقسامها ، مثّل ردّة فعل شعبيّة ضد السياسات الليبرالية والإخفاق في تحسين الواقع المعيشي. محللون في دراسة عن الانتخابات التونسية وصفوا فوز مرشّح مستقل مثل سعيد ليس فقط كـ «عقاب للأحزاب» بل كتعبير عن **أمل في ثورة ثانية قادرة على إصلاح مسار الأول». هذا لا يعني أن سعيد ولد زعيما ثوريا؛ بل يعني أن الشارع بحث عن ممثل يمثّل رفضه للوضع القائم، حتى وإن لم يكن برنامجه واضحا أو بعيدا عن المركزية الفردية.
7.4. منصب الرئيس: من بروتوكول إلى مركز سلطة مركّز: رغم أن بعض السرديات تصفه كمنصب بروتوكولي فارغ، لم يبق المنصب كذلك بعد التعديلات الدستورية التي قام بها سعيد. فقد أعاد صياغة الدستور لتعزيز صلاحيات رئيس يشكّل السلطة التنفيذية بشكل مركّز، بما يقلّص رقابة البرلمان والقضاء على نفوذهما في مواجهة قرارات الرئيس، وهي تغييرات أثارت انقسامات سياسية داخل البلاد وخارجها. لكن هذا التمركز في السلطة لم يترجم إلى تحسينات اقتصادية واقعية و ارجاع و تطبيق الديمقراطية الاجتماعية حتى الآن، بل ازداد الشارع إحباطا حين أصبحت السلطة ، بدل أن تكون أداة تحقيق مطالب الثورة ، اكملت المشوار و الغت الهامش الديمقراطي السياسي ، و بالتالي اضحت أداة قمع سياسي وقضاء على المعارضة بمعايير تثير جدلا واسعا حول شرعيتها، كما أظهرت حملات الاعتقالات والمحاكمات التي طالت قيادات معارضة وشخصيات سياسية بارزة، بتهم سياسية موضوعة ضمن قوانين فضفاضة مثل التآمر على أمن الدولة.
8. استمرار الثورة: تراجعات حقيقية وصراع طبقي مفتوح.
8.1. أزمة الديمقراطية والتحوّل نحو “السلطة الفردية”: منذ أحداث 25 يوليو 2021، حين أعلن سعيد تجميد البرلمان وتوسّع صلاحياته، دخلت تونس مرحلة يمكن وصفها بـ التحوّل من مسار ديمقراطي هش إلى نظام تتركّز فيه السلطة في يد الرئيس، مع تراجع قدرات المؤسسات المدنية والبرلمانية والقضائية على الرقابة. كثير من المعارضين يرون في هذه التحولات انقلابا مؤسساتيا عمليا، إذ تم إغلاق أو تقييد عمل مؤسسات مستقلة، مثل المجلس الأعلى للقضاء، والاعتماد على آليات قمع سياسي واسعة النطاق. حملات القمع القضائي ضد المعارضة ، بما في ذلك أحكام بالسجن الطويل على شخصيات سياسية معروفة بتهم تتعلق بالتآمر ، أثارت انتقادات داخل تونس وخارجها حول تراجع الحريات الأساسية واسترجاع بعض ملامح الاستبداد التي كانت الثورة قد طمحت لإزالتها.
8.2. قمع المجتمع المدني وتراجع المساحات الحرة: في خريف 2025، شهدنا تقييدا جديدا لعشرات منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك جمعيات بارزة مثل جمعية النساء الديمقراطيات والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بتهم «تمويلات مشبوهة» تشبه ذريعة الحكومات السلطوية لتقييد المجتمع المدني. هذه الخطوات جاءت في وقت تواجه فيه البلاد احتجاجات جديدة، بعضها احتجاجات بيئية واجتماعية في مناطق مثل قابس، حيث نظم السكان احتجاجات ضد التلوث والمشكلات الصحية في مناطقهم، وهو دليل على أن الاحتجاجات الشعبية لم تمت، لكنها تواجه تضييقا مؤسساتيا.
8.3. موجات احتجاج شعبي تُعيد رفع شعارات الثورة نفسها: في ديسمبر 2025، خرج التونسيون في مظاهرات مستمرة لأسابيع احتجاجا على الحملة القمعية ضد المعارضة والمطالبة بإطلاق السجناء السياسيين، وردّدوا شعارات الثورة نفسها مثل “الشعب يريد إسقاط النظام”، في تذكير قوي بأن الوعي الجماهيري لم ينطفئ وأن الثورة ليست حدثا من الماضي بل عملية صراع متواصل بين إرادة الجماهير والقوى السلطوية.
8.4. الركود السياسي والشعور العام بالإحباط: في الذكرى الرابعة عشرة للثورة، عبّر مراقبون عن حالة ركود وإحباط عام لدى التونسيين، ناتجة عن تدهور الأوضاع المعيشية، ارتفاع الأسعار، بطالة مزمنة، وغياب نشاط قوي للمعارضة، ما يعكس أيضا حالة خمول سياسي واسع وسط فئات واسعة من الشعب، وكذلك تراجع قدرة الأحزاب على تعبئة الشارع. هذا الإحباط لا يعني موت الثورة، بل تشوّش روحها أمام تحوّلات السلطة والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي غيّبت مطالب الشغل والعدالة الاجتماعية لصالح مناورات سياسية وصراعات داخلية في السلطة. يمكن قراءة ما يمر به المجتمع التونسي اليوم من صراع كامتداد طبيعي لمسار الثورة نفسه ، مسار لم يتوقف عند 14 جانفي 2011، بل استمرّ في مواجهة قوى الثورة المضادة، النخب السياسية التقليدية، وأشكال جديدة من السلطة المركّزة. الثورات لا تختزل في لحظة واحدة أو في تحول سياسي فوري؛ الثورة هي معركة طويلة بين إرادة الشعب وقوى تمسك بالهيمنة السياسية والاقتصادية. في تونس اليوم، الصراع يتخذ أوجها متعددة: -على المستوى السياسي، يحدث صراع بين نماذج الحكم المؤسساتية التشاركية ونموذج السلطة الفردية المركّزة. -على المستوى الاجتماعي، هناك احتجاجات شعبية مستمرة تعيد رفع شعارات الثورة نفسها ضد الفقر والبطالة وتدهور الخدمات. على المستوى الاقتصادي، ما تزال الأزمة الحادة في البطالة والتفاوتات الطبقية مصدرا رئيسا للتوتر والغليان الشعبي. الوعي الجماهيري لم ينته؛ بل تغيّر شكله، وتحول من تراكمات ثورية إلى صراع حقيقي على معنى الدولة، العدالة، والكرامة. الثورة لم تمت، لكنها في مرحلة تشابك عميق بين إرادة الشعب والتجاذبات السلطوية التي ما زالت تحاول إعادة تشكيل ملامح النظام على حساب مطالب الشارع. وهنا تتجلّى حقيقة الثورة التونسية: هي ليست حدثا منتهيا في الماضي، ولا مشروعا محدودا في المؤسسات فقط، بل عملية مستمرة تصطدم بكل منظومة سلطوية تحاول إلغاء صوت الجماهير وحقوقها الطبقية والاجتماعية.
9. لماذا الثورة لم تكتمل بعد؟ استمرار الصراع الطبقي، والأزمة الاقتصادية والاجتماعية في تونس.
إنّ النقطة الجوهرية التي تجدر الإشارة إليها في هذا السياق هي أن الثورة التونسية ليست حدثا من الماضي ولا شيئا متوقفا في الزمن. الثورة عملية مستمرّة تتغذّى من أزمات المجتمع اليومية وتجارب الجماهير التي لم تحصل على مطالبها الأساسية منذ انطلاق الشعارات الأولى في 2010. لو كان المسار الثوري قد اكتمل في لحظة تاريخية معيّنة، لما بقيت المشكلات نفسها قائمة، ولا كانت الاحتجاجات تتصاعد، ولا كان العاطلون عن العمل يخرجون إلى الشارع يطالبون بحقهم في العمل وكرامة الحياة.
9.1. تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية كدليل على استمرار الثورة: خلال العام 2025، سجلت تونس تصاعدا ملحوظا للغاية في الحركة الاحتجاجية الاجتماعية والاقتصادية، ما يشير إلى أن الثورة لا تزال حيّة في الوعي الشعبي، بل إن مطالبها الأساسية لم تُنفذ بعد: في التقرير الأول من عام 2025، سجّلت الأجهزة الحقوقية أكثر من 1132 احتجاجا في الأشهر الثلاثة الأولى وحدها، مع ارتفاع كبير مقارنة بالسنوات السابقة، وكان معظم هذه التحركات متعلقًا بمشكلات الشغل وظروف العمل وحقوق العمال والمستحقات المتأخرة وتحسين ظروف التشغيل. كما رصد المرصد الاجتماعي 2387 حركة احتجاج منذ بداية سنة 2025 مقابل 1161 في نفس الفترة من العام السابق، وهو ارتفاع بنسبة أكثر من 105٪، ما يعكس تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية المتصلة بقضايا التشغيل والوضع المهني والفجوات في السياسات الحكومية. في الأشهر اللاحقة (جوان و جويلية 2025)، ظلّت التحركات الاحتجاجية قوية، حيث عرفت تونس مئات الاحتجاجات المهنية والاجتماعية التي ركّزت على الحق في الشغل، وتثبيت العاملين، وتحسين الأجور وظروف العمل، وأسفرت عن نزول قطاعات متعددة إلى الشارع، من المدرسين المعوّضين إلى العمال في القطاع العام والمحتجين في القطاع الصحي. العربي الجديد هذه البيانات تظهر بوضوح أن ثمة دافعا اجتماعيا قويا لم يزل يدفع جماهير الشعب إلى الشارع ، ليس فقط احتجاجات إنشائية أو تطالب بتحسينات صغيرة، بل احتجاجات ذات طابع مهني واجتماعي عميق تتعلق بالعدالة في الشغل، الوظيفة، التسوية المهنية، والأمن الاجتماعي. وهذا يشير مباشرة إلى أن الثورة التونسية لم تنته ، بل ما تزال في صراع اجتماعي مستمر.
9.2. البطالة، الفقر، وتراجع الثقة في المنظومة السياسية: من أكبر المشاكل التي تواجه تونس بعد الثورة هي أزمة البطالة الهيكلية وانتشار الفقر بين الشباب وحاملي الشهادات الجامعية. ففي نهاية 2024 دخلت معدلات البطالة مستوى عاليا، وبحلول عام 2025 بلغت البطالة حوالي 15.3% في العموم، وارتفعت إلى 24% بين حاملي الشهادات العليا، في ظل نمو اقتصادي ضعيف جدا. العربي الجديد هذا الارتفاع في البطالة بين الشباب المتعلّم يضاعف الإحباط الطبقي، لأن الفئات الشابة التي كانت أمل الثورة في تطوير المجتمع وإعادة بناءه بعد 2011 أصبحت ترى أن الثورة لم تفلح في تحقيق الشغل والكرامة التي أعلنت عنها في شعاراتها. وبدل أن تبدِّل منظومة الإنتاج لمصلحة الأغلبية الشعبية، ظلّت السياسات الاقتصادية عاجزة عن خلق فرص عمل حقيقية، بل إن كثيرًا من الخريجين ظلوا خارج سوق العمل أو في وظائف غير مستقرة.
9.3. هشاشة الاقتصاد التونسي: الإحباط الاقتصادي لا يقف عند البطالة فحسب، بل يشمل بنى الاقتصاد الكلي الذي لا يزال هشًا فقط على الورق: رغم تسجيل بعض المؤشرات مثل انخفاض التضخم إلى 5% في سبتمبر 2025، وهو تحسّن ظاهري يتجاوز الواقع الاجتماعي، فإن هذا لا يعالج الأزمة الهيكلية للعجز في الإنتاج، ضعف الاستثمار الإنتاجي، وسيطرة لوبيات السوق على العديد من القطاعات. في المقابل، يعاني الاقتصاد من تدهور في العديد من المؤشرات الأساسية، وتراجع في النمو الحقيقي مقارنة بتوقعات صندوق النقد الدولي، ما يترك الفئات الشعبية في حالة من الشلل الاقتصادي. كما تظهر حسابات المجتمع المدني أن الاقتصاد التونسي ظلّ معتمدا على الهياكل الهشة والتوريد بدل الإنتاج المحلي المدعّم بالعدالة الاجتماعية، ما يفاقم الاعتماد على السلع المستوردة ويقلّل السيادة الاقتصادية. كل هذه المؤشرات تعكس أزمة اقتصادية مزمنة لم تعالج جذورها طوال الفترة التي تلت الثورة، ما يجعل مطالب الشغل والكرامة والعدالة الاجتماعية أهدافًا لم تُنجَز بعد.
10. الثورة التونسية مستمرة: الحتمية التاريخية والوعي الجماهيري في مواجهة تحوُّلات السلطة.
10.1. الصراع بين إرادة الشعب والسلطة المركّزة: واحدة من أهم خصائص الثورة التونسية هي أنها لم تكدّس في الماضي، بل امتدت إلى الحاضر على شكل صراع بين إرادة الشعوب المنتفضة من أجل حياة كريمة، وبين تحوّلات السلطة التي ركّزت السلطة في المؤسسة التنفيذية وزعزعت الأدوار الحكومية برمّتها. فالاحتجاجات والاجتماعات الجماهيرية في 2025 لا ترفع فقط شعارات تحسين الأجور أو الشغل، بل تدعو إلى الحرية السياسية، حقوق العمال، وإسقاط السلطة الاستبدادية المركّزة ، نفس المطالب التي رفعتها الثورة في 2010. ولعلّ أبرز دليل على تصاعد هذا الصراع هو الاحتجاجات الهائلة التي شهدتها البلاد في ديسمبر 2025، حيث خرجت الجموع في مظاهرات منتظمة طوال الأسابيع ضد القمع المتزايد، الاعتقالات السياسية، وتراجع الحريات، مردّدة شعارات مثل “الشعب يريد إسقاط النظام”.
10.2. تحوّلات السلطة ليست نهاية الثورة بل “انقلابًا ضد الثورة”: ليس صحيحا القول إن الثورة انتهت بمجرد حلول شكل جديد للسلطة. ما يظهر في تونس اليوم هو صراع بين إرادة الشعب وبين مركزية قاسية للسلطة في يد مؤسسة رئاسة قوية، وقد تجلّى ذلك في الاجراءات التي اتخذت منذ 2021 لحلّ البرلمان، توسيع صلاحيات الرئيس، وإقامة نظام يشكّل سلطة تنفيذية قارّة على حساب الرقابة الشعبية والمؤسساتية. وهذا النوع من التحوّلات لا يحسم الثورة، بل يطلق صراعات أحدث حول معنى الدولة والشعب وسيادة العدالة الاجتماعية ، وهو ما يعرّف النقطة الأساسية في أي عملية ثورية قيد التطور.
10.3. احتجاجات عمالية شعبية: استمرار روح الثورة في الميدان: إن الأرقام الميدانية للاحتجاجات في 2025 توضّح أن الشارع لا يزال المكان الحقيقي للثورة، وأن الجماهير لم تسحب من صراع التغيير: الاحتجاجات المتعلقة بحقوق العمل والفئات المهنية هي الغالبية العظمى من التحركات الاجتماعية، مما يكشف عن أن مطالب الشغل والكرامة لا تزال مركزية في الحركة الشعبية. العربي الجديد الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT) ما زال يلعب دورا مهما في تنظيم الاحتجاجات والاعتصامات المطالِبة بالحقوق النقابية والمدنية، من بينها النزاعات حول خفض الأجور، انخفاض ظروف العمل، ورفض التراجع عن الحقوق الأساسية. كل هذه الدلائل تؤكد أن الثورة في تونس لم تمت ولا يمكن اختزالها في صيغة مؤسساتية جامدة. بل الثورة تعاود تنظيم نفسها في أوجه جديدة من الصراع الاجتماعي والسياسي الذي يجمع بين مطالب الشغل والحرية والكرامة.
10.4. الحتمية التاريخية أمام الثورات: تونس مثال حي: الثورة حركة طويلة متصلة بالصراع الطبقي والاجتماعي والاقتصادي، تشبه دائريا صراع الشعوب من أجل تحرير نفسها من منظومات الاستبداد والهيمنة. وفي تونس اليوم، يمكن أن نقرأ استمرارية الثورة في: + تصاعد الحراك الاجتماعي والاقتصادي في مختلف القطاعات، رغم القمع المؤسساتي. + احتجاجات يومية وجماهيرية على السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة، مما يبيّن أن مطالب الثورة الأساسية لم تلبّ بعد. +صراع سياسي يعيد إنتاج الحدود بين إرادة الشعب ومنظومة مركّزة من السلطة، مما يجعل الثورة نفسها صراعا مفتوحا بين إرادة التغيير الجماهيري وبين الرغبة في الحفاظ على السلطة التقليدية بصورتها الجديدة. فالثورة التونسية ليست قصة منتهية في ذاكرة التاريخ، بل هي صراع مفتوح بين إرادة الجماهير وطبقات اجتماعية وسياسية تحاول توجيه المسار نحو مصالحها. رغم الإجراءات السلطوية وتحوّلات السلطة الاقتصادية والسياسية، فإن الشارع لا يزال ينبض، والاحتجاجات تتصاعد، ومطالب الشغل والحرية والكرامة لا تزال في قلب الصراع الاجتماعي. الثورة تبقى ثورة عندما يظل الشعب يقاوم حتى تحقيق مطالبه الطبقية والاجتماعية الجوهرية؛ وثورة تونس، كما نراه في 2025، لم تنتهِ بعد.
11.الخاتمة: الثورة التونسية المستمرة ، صراع الشعب ضد الاستبداد والظلم الاجتماعي.
إن ما تعكسه الثورة التونسية منذ شرارتها الأولى في 17 ديسمبر 2010 وحتى اليوم ليس مجرد حدث تاريخي عابر، ولا قصة محكومة بالزمن المنصرم، بل هي مسار ثوري ممتد ومتواصل، يجمع بين تراكم النضالات الشعبية والمقاومة اليومية ضد أشكال الاستبداد المتجددة، والفشل الاقتصادي والاجتماعي المتواصل، والتحديات السياسية المتشابكة التي تواجه الشعب التونسي في كل محطة من محطات بناء الدولة الحديثة. فالثورة لم تقتصر على إسقاط رأس النظام في 14 جانفي 2011، ولم تكن مجرد انتصار لحظة، بل كانت بداية عملية مستمرة للتغيير، وشرارة انكسار الخوف، وفضح المظالم المتراكمة لعقود.
11.1. مسار مستمر ومتعدد الطبقات: لقد وضعت الثورة التونسية في قلب التاريخ الحديث للبلاد مسألة العدالة الاجتماعية، الكرامة الوطنية، وحق العمل، وبهذا المعنى، فإن أي تقييم للثورة لا يمكن أن يكون مقصورا على سقوط النظام أو نجاح انتقال سياسي جزئي. الثورة جذرية بطبيعتها لأنها تضع الشعب في مواجهة كل أشكال الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي: من الهياكل البيروقراطية المستبدة، إلى طبقات الفساد، إلى الهيمنة الاقتصادية التي تستغل الموارد الوطنية على حساب الأغلبية الشعبية. إن استمرار الاحتجاجات والاعتصامات، وتنامي الوعي الطبقي والسياسي في أوساط الشباب والفئات العاملة، دليل على أن الثورة مستمرة في الميدان، وأن إرادة الشعب التونسي لم تخمد بفعل الانقلابات الصورية، ولا بمسارات التسييس والتوظيف الانتخابي للثورة من قبل بعض القوى السياسية أو الهياكل الحكومية. فالشعارات التي رفعت في 17 ديسمبر، ثم في 14 جانفي، والتي شملت "شغل، حرية، كرامة وطنية"، ما زالت قائمة اليوم في المظاهرات، وفي نضالات النقابات، وفي كل محاولة للمطالبة بحق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
11.2. خيانة المنظومة وتحولات السلطة: لكن الثورة، رغم استمراريتها، لم تكن من دون طعون ومحاولات الالتفاف: من ترويض الجماهير المعتصمة في اعتصام القصبة 2 لقبول حكومة باجي قائد السبسي، ابن منظومة بورقيبة وبن علي، إلى هندسة الانضمام الرمزي للجبهة اليسارية إلى هيئات مثل هيئة بن عاشور، مرورًا بتسليم مقاليد السلطة لجماعات مثل النهضة، جميعها محطات أظهرت قدرة النظم القديمة والقوى السياسية الجديدة على تشويه المسار الثوري، وابتلاع شعاراته، وتأجيل تحقيق أهدافه الأساسية. ومع ذلك، بقيت الثورة متجذرة في وعي الجماهير التي لم تتخلى عن شعاراتها حتى في أصعب الظروف.
11.3. تحديات الجبهة الشعبية واليسار: كما شهدت تجربة الثورة تدخل اليسار، رغم ضعفه، من خلال توحيد فصائله في الجبهة الشعبية، محاولا الموازنة بين المشاركة البرلمانية لتحقيق التغيير والتحرك الشوارعي، وكان لذلك أثر محدود لكن مهم، خاصة في تعديل أو إسقاط نصوص دستورية في دستور 2014. غير أن هذا الضعف الداخلي والانفجارات حول الزعامة أثبتت أن الثورة لا يمكن حصرها في هياكل حزبية أو في صراعات على الزعامة، بل هي قوة جماهيرية حية ومتجددة، قادرة على فرض أجندتها رغم الانقسامات.
11.4. الحضور الشعبي المستمر: وفي أعقاب موت السبسي، وظهور شخصية قيس سعيد، تجلت مرة أخرى مقاومة الشعب للسلطة السياسية التقليدية: فقد كان الشعب محبطا من جميع الأحزاب، لكن ظهرت شخصية شعوبية، غير حزبية، تعبّر عن روح الثورة في شعاراتها ومواقفها، خاصة في قضايا العدالة الدولية، كالقضية الفلسطينية، والشأن الوطني الداخلي، ما منحها حضورا شعبيا واسعا، حتى في صفوف من كانوا جزء من المنظومة القديمة أو المعارضة التقليدية. ومع ذلك، يجب التذكير بأن المنصب الرئاسي في هذه المرحلة أصبح منصبا بروتوكوليا فقط، رئيسا مجردا من كل القرارات، بلا مخارب حقيقية، ما يوضح أن الثورة لا تزال تواجه تحديات هائلة في تحويل الزخم الشعبي إلى تغيير حقيقي على مستوى الدولة والسياسات الاقتصادية والاجتماعية.
11.5. الحتمية التاريخية واستمرار المسار الثوري: الثورة التونسية محكومة بالحتمية التاريخية: فهي نتيجة تراكم الاستبداد، الفقر، البطالة، القهر الاجتماعي، والتهميش الطبقي. ما لم تتحقق هذه المطالب على أرض الواقع، فإن الثورة ستظل حية، تعيد إنتاج نفسها في الاعتصامات، الاحتجاجات، المظاهرات، والإضرابات. وكل محاولة للالتفاف أو التحوير أو التشويه التاريخي لن تطيح بالوعي الجماهيري الذي أصبح جزءًا من النسيج الوطني. التاريخ أثبت أن الثورات التي تتوقف على لحظة سياسية واحدة أو سقوط رأس نظام لا تعكس أبدا قوة الشعب الحقيقية. الثورة التونسية ثورة مستمرة، قوية، حية، وتعود دائما إلى ميدان الصراع كلما حاولت القوى التقليدية احتواؤها أو تحييدها.
11.6. خلاصة نهائية: إن الخلاصة الواضحة هي أن الثورة التونسية لم تمت ، ولم تهزم، ولم تنته في 14 جانفي 2011، بل هي مسار طويل ومستمر يواجه صعوبات داخلية وخارجية، تحاول السلطة القديمة والجديدة الالتفاف على مطالب الشعب ومحو شعاراته. ومع ذلك، فإن إرادة الشعب، وتراكم الوعي الثوري، واحتجاجات الشارع اليومية، ووعي الشباب، كلها دلائل على أن الثورة ستستكمل مهامها المرحلية، وستظل تدفع نحو شغل، حرية، وكرامة وطنية، رغم كل الانحرافات، الغدر، الطعن، أو التشويه، وفق ما تفرضه الحتمية التاريخية والتراكم الطبقي والاجتماعي. باختصار، الثورة التونسية ثورة مستمرة، لا تعرف الانطفاء، وستظل حاضرة كلما استمر الظلم الاجتماعي والسياسي، وسينتصر الوعي الجماهيري على كل المحاولات لإجهاضه.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهيمنة الفرنسية، الفرنكفونية، وإصلاح التعليم العالي والمراك
...
-
الاشتراكية بين الأمس واليوم: مشروع حضاري لإعادة إنتاج الإنسا
...
-
الانقلابات العسكرية في إفريقيا: بين الهيمنة والريع وفرصة الث
...
-
الفعل الثوري والبيئة: حين يصبح الدفاع عن الأرض جزء من معركة
...
-
القطاع والضفة بين معماريّة الخراب ومخطّطات الاقتلاع: جغرافيا
...
-
الحرية والحريات في صراع الهيمنة: الشيوعية والنضال من أجل الإ
...
-
تونس الآن الآن ..
-
فنزويلا في قلب الصراع العالمي
-
الحرية والمواطنة في مواجهة آلة القمع وبناء جدار الخوف... قرا
...
-
قراءة في أحزاب اليسار الكلاسيكية، واليسار الثوري الحديث، وال
...
-
أمريكا اللاتينية: المكسيك وكولومبيا وفنزويلا والبرازيل بين ا
...
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
-
بعد غزة… الضفة الغربية على صفيح النار: التهجير القسري والاست
...
-
الدّولة البوليسية المعاصرة
-
من مانهاتن إلى القصبة: حين تتكلم الأزمات بلغتين
-
السّرياليّة والسّرياليّة الثوريّة. من الحلم إلى التمرّد: في
...
-
النضال البيئي بين العفوية والتنظّم في تونس: الواقع والآفاق.
-
بين تاريخ الوصاية وإغراءات «الإعمار»: ما يقترَح اليوم ليس مج
...
-
مشروع قانون المالية لسنة 2026: بين الوهم الاجتماعي وتكريس ال
...
-
الديني و الماركسي في خندق المقاومة وحدود الالتقاء: من طهران
...
المزيد.....
-
صحيفة التايمز: لقاء بين وفدين إسرائيلي ويمني
-
عون: تطور العلاقات مع سوريا -بطيء-.. وجاهزون لترسيم الحدود
-
إدارة ترامب تستعين بشركات خاصة لشنّ -حروب سيبرانية-
-
ماذا قال ترامب عن ظهوره في صور من أرشيف إبستين؟
-
الزعيم كيم يكرّم وحدة عسكرية شاركت في معارك كورسك بروسيا
-
هل ستصادر أمريكا المزيد من أصول النفط الفنزويلية؟.. ترامب ير
...
-
بيانات ملاحية تكشف تحركات عسكرية.. ما الذي يجري قبالة الساحل
...
-
ظهور ترامب وكلينتون وغيتس في مجموعة جديدة من صور إبستين
-
مصادر لرويترز: أميركا حجبت معلومات مخابرات عن إسرائيل خلال ع
...
-
أميركا حجبت معلومات مخابراتية عن إسرائيل خلال عهد بايدن
المزيد.....
-
قراءة في تاريخ الاسلام المبكر
/ محمد جعفر ال عيسى
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
المزيد.....
|