خورشيد الحسين
كاتب وباحث سياسي
(Khorshied Nahi Alhussien)
الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 09:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
دراسة تحليلية مقارنة مع أمثلة من لبنان ومصر وسوريا والخليج)
. المقدمة
يمثّل "النظام العربي الرسمي" منظومة سياسية معقّدة تشكّلت عبر قرن من التغيرات السياسية والاجتماعية، ولا تزال قائمة رغم عوامل التفكك والانهيار الإقليمي. فمنذ تفكك السلطنة العثمانية وتقاسم النفوذ الاستعماري، وحتّى لحظة الترتيبات الإقليمية الراهنة (اتفاقات أبراهام و«الشرق الأوسط الجديد»)، أخفق العالم العربي في ترسيخ نظام سياسي حديث ذي شرعية تعاقدية مستقرة. عوضاً عن ذلك، ظل أسير بنى سلطوية هجينة تجمع بين المؤسسية الشكلية والسيطرة الفعلية للأجهزة الأمنية وشبكات المال والولاء الأهلي.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل بنية النظام العربي السلطوي، وتحولات المجتمع، وتطور النخب، مع تقديم أمثلة تطبيقية من لبنان، مصر، سوريا، ودول الخليج، في إطار منظور أكاديمي يستند إلى الأدبيات العربية والغربية المعاصرة.
الفرضية الرئيسية: تجادل هذه الدراسة بأن صمود النظام العربي لا ينبع من شرعيته الشعبية أو قوته الذاتية، بل من ديمومة بُنيته الهجينة القائمة على التوفيق بين الواجهة المؤسسية، والسيطرة الأمنية، والرأسمالية السياسية، والقدرة على إدارة الانقسام الأهلي.
. نشأة النظام: من الكيان السياسي الإداري إلى الدولة
لم تنشأ معظم الدول العربية كنتيجة لتطور داخلي طبيعي أو سيرورة تكوين أمة، بل كانت امتداداً لإرث ما بعد الاستعماري، حيث الحدود سبقت الدولة، والدولة سبقت تكوين الأمة.
وبالتالي، نشأت هذه الدول محمولة على:
ضعف الشرعية الداخلية: غياب العقد الاجتماعي التأسيسي.
الاعتماد على القوة: ترسيخ الحكم عبر أجهزة الضبط لا الإجماع الوطني.
استمرار البنى التقليدية: الاستثمار في الطائفة، القبيلة، الجهة، والعائلة كأدوات حكم موازية.
التبعية الاقتصادية والسياسية للخارج: الارتكاز على الدعم الدولي والموارد الريعية.
ومن هنا بدأ أول خلل بنيوي: الدولة العربية المعاصرة هي كيان سياسي إداري يضبط السكان، ولا يعبّر عنهم بالضرورة.
. البنية الداخلية للنظام العربي: الطبقات المتراكبة
يمكن توصيف النظام السلطوي العربي عبر أربع طبقات متراكبة تعمل بشكل متناغم لضمان ديمومة السيطرة:
.1 الطبقة العلوية: الدولة الشكلية (الواجهة)
تشمل هذه الطبقة: الدستور، الحكومة، البرلمان، القضاء الرسمي، والإعلام العام.
الوظيفة: ضرورية لشرعية النظام أمام العالم الخارجي ولإدارة الشؤون البيروقراطية الدنيا، لكنها لا تمتلك قدرة الحكم الفعلية.
مثال لبنان: يمتلك واحدة من أكثر "الدول الشكلية" تطوراً (برلمان، حكومة، قضاء). لكن القرار الفعلي يُتخذ عبر شبكات زعماء الطوائف، المصالح الإقليمية، والقوى المسلحة.
مثال مصر: دستور وانتخابات وبرلمان. لكن هذه المؤسسات الشكلية تبقى أدوات ضبط ومشروعية، بينما يُصنع القرار الفعلي في دائرة السلطة الأمنية–العسكرية العليا.
.2 الطبقة الفعلية: جهاز السيطرة الأمني–العسكري
هذه هي مركز الثقل الحقيقي للسلطة السياسية، وتشمل: الأجهزة الأمنية، الجيش، شبكات الاستخبارات، ودائرة الرئاسة/القيادة. في أغلب الدول العربية، نشأت السلطة السياسية على قاعدة تحوّل "الحارس إلى سيّد".
سوريا نموذجاً: تشكلت "الدولة الفعلية" عبر منظومة الأجهزة الأمنية المتنافسة (المخابرات العسكرية، الأمن السياسي)، المرتبطة بشبكات رجال الأعمال والطائفة الممسكة بالمفاصل. ومع الحرب، تضاعفت هذه البنية عبر الميليشيات الحليفة واقتصاد الحرب.
مصر نموذجاً آخر: القوات المسلحة هي "العمود الفقري" للنظام منذ 1952. لكن منذ 2013، تزايد حجم الاقتصاد العسكري بشكل هائل، ليصبح الجيش المستثمر الأكبر والضامن السياسي، ما يجعل "الدولة الفعلية" هي تحالف الجيش والأجهزة مع تحالفات المال القريبة من القيادة.
.3 الطبقة الاقتصادية: الرأسمالية السياسية والاقتصاد الريعي
ابتداءً من التسعينيات، تشكلت نخبة اقتصادية جديدة ارتبطت بالنظام عبر: الخصخصة، الامتيازات، الاحتكارات، والصفقات الكبرى. هذه الطبقة لا تهدف إلى بناء اقتصاد إنتاجي، بل إلى ضمان "ديمومة النظام" عبر آليات المحاصصة والريع.
الخليج نموذجاً: يكتسي المال طابعاً عائلياً–سيادياً. الشركات الكبرى مرتبطة بالعائلة الحاكمة، والإنفاق العام هو مصدر الثروة الأساسي. بالتالي، يصبح الاقتصاد جزءاً عضوياً من العمارة السياسية، وليس مجالاً مستقلاً.
لبنان نموذجاً آخر: تتداخل الرأسمالية مع المصارف والطوائف (نظام الكارتيلات). المال السياسي قائم على المصارف والعقارات وشبكات التهريب، بحيث لا يستقيم القرار السياسي دون احتساب مصالح "نخب المال – الطائفة".
.4 الطبقة الأدنى: العصبيات (الطائفة – القبيلة – الجهة)
هذه البنية التقليدية لم تتراجع، بل تحولت إلى أدوات حكم ووسائد أمان للنظام:
الطائفة في لبنان وسوريا.
القبيلة في الخليج وبعض مناطق الأردن واليمن.
الجهة والعائلة في المغرب والأردن.
النظام العربي يعمل على تثبيت وتغذية العصبيات لأنها تشكل: مصدر ولاء، صمام ضغط، وعقبة بنيوية أمام تشكل معارضة وطنية جامعة.
. المجتمع العربي: من النسيج الاجتماعي إلى التشظي
تؤثر تحولات المجتمع بشكل مباشر على صمود أو تفكك النظام:
.1 المجتمع الأبوي–التقليدي (1950–1970): مجتمع ريفي، هرمي، يثق بالزعيم والشيخ. كان قابلاً للانخراط في مشاريع كبرى (قومية، اشتراكية).
.2 المجتمع المدني المشوَّه (1980–2010): تشكُّل طبقة وسطى هشة، ارتبطت بالوظيفة الحكومية والهجرة، لكنها بقيت بلا هوية سياسية واضحة أو عمق ثقافي جديد.
.3 مجتمع الانقسام (2011–2025): الثورات والحروب أنتجت: تشظي الهوية، صعود الميليشيات، انهيار الثقة بالسلطات، وتصاعد الوعي الطائفي والقبلي. سيطرة الوجدان الفردي على الوجدان الجماعي.
نتيجة ذلك: المجتمع لم يعد رافعة للنظام، لكنه أيضاً لم يعد خطراً وجودياً عليه بسبب تفككه الداخلي.
. النخب العربية: من المشروع الوطني إلى الوكيل الثقافي
تطور دور النخبة يعكس مسار ترويض السلطة للمثقف والفاعل السياسي:
.1 نخبة التحرر (1950–1970): قادة استقلال، ضباط ثوريون، مفكرون وحدويون. كانت تحمل مشروعاً وطنياً واضحاً.
.2 نخبة الدولة (1970–2000): تدجين المثقفين عبر: الإعلام الرسمي، الجامعات الحكومية، والمناصب والامتيازات. أصبحت النخب واجهة معرفية للنظام أكثر من كونها قوة تغيير.
.3 نخبة المنظمات والسفارات (2000–2025): مع تراجع الدولة وصعود التمويل الخارجي، تحولت النخبة إلى جزء من "اقتصاد المعرفة" الدولي، ما يضعها في وضعية وكيل ثقافي/سياسي يتبع أجندات وتمويلات خارجية، ويعمل بمرجعيات نظرية ومنهجية لا تنبع بالضرورة من سياق المنطقة.
. آليات ديمومة النظام: السيطرة والتكيف
يعتمد النظام العربي على مسارين متوازيين لضمان الحكم:
.1 الحكم عبر مؤسسات شكلية
تؤدي هذه المؤسسات وظيفة "العرض السياسي" والاحتواء، لا وظيفة الحكم الفعلي:
برلمانات انتخابية أو مجالس شورى ديكورية (الخليج).
حكومات ضعيفة تتحمل مسؤولية الأداء الاقتصادي والخدماتي.
قضاء محدود الاستقلال.
.2 الحكم عبر مؤسسات فعلية
هي الأدوات التي تصنع القرار وتنفذه فعلياً:
الأجهزة الأمنية والجيش.
شبكات المال (الاقتصاد الريعي والتحالفات التجارية).
الولاءات العائلية والطائفية.
التحالفات الدولية.
.3 استراتيجيات السيطرة والتكيّف
توزيع الامتيازات وشراء الولاءات ضمن شبكات النخبة.
صناعة وإدارة الأزمات والحفاظ على الانقسام الأهلي.
تحييد النخب عبر الترهيب والترغيب (الجزرة والعصا).
الارتباط الوثيق بالخارج لضمان الدعم المالي ومنع الانقلاب الداخلي.
التلاعب الاقتصادي (مثل رفع الدعم، تخفيض العملة، توظيف الأزمات).
. حالات تطبيقية مختصرة
لبنان: نموذج الدولة الواجهة–العميقة–الموازية. يتميز بدولة شكلية متقدمة، لكن الدولة الفعلية قائمة على الطوائف والسلاح، والمال السياسي مُهيمن. وهو نظام محاصصة متكامل.
مصر: نموذج الدولة الأمنية المؤسسية. يتميز بمركزية الدولة، وقوة الجيش، واقتصاد عسكري ضخم، ونخب إعلامية خاضعة، وجهاز بيروقراطي هائل.
سوريا: نموذج تحلل الدولة وبقاء النظام. يتميز بتحالف أمني–طائفي هش، واقتصاد حرب، وهيمنة الميليشيات المحلية والخارجية، وانهيار الدولة لصالح الشبكات الموالية.
الخليج: نموذج الدولة الريعية–الأبوية. يتميز باستقرار قائم على الريع، وولاءات قبلية/عائلية، ودولة مركزية قوية، وشرعية تاريخية تقوم على التوزيع الاقتصادي.
. الخلاصة: بنية الصمود في النظام السلطوي العربي
إن النظام العربي ليس كتلة واحدة، لكنه يتشارك في بنية واحدة هجينة: واجهة مؤسسية + سلطة أمنية + اقتصاد ريعي/احتكاري + نخب مُطوّعة + مجتمع مُفكك.
قوة وصمود هذا النظام لا تستمد من شرعيته، بل من:
تفكك المجتمع وإدارة الانقسام الأهلي.
تحالفه الاستراتيجي مع الخارج وسيطرته على نقاط التماس الدولية.
احتكاره للموارد الرئيسية عبر الرأسمالية السياسية.
تحييده المنهجي للنخب عبر إخضاعها للتمويل أو الترهيب.
قدرته على التكيف بين الشكلي والفعلي.
ولهذه الأسباب البنيوية، بقي النظام السلطوي صامداً رغم كل الزلازل التي ضربت المنطقة منذ 2011.
المراجع المقترحة (للنشر الأكاديمي)
Anderson, Lisa. The State and Social Transformation in Tunisia and Libya. Princeton University Press.
Ayubi, Nazih. Overstating the Arab State. I.B. Tauris.
Hinnebusch, Raymond. Authoritarianism in the Middle East. Lynne Rienner.
Hudson, Michael. Arab Politics: The Search for Legitimacy.
Khalidi, Rashid. The Iron Cage: The Story of the Palestinian Struggle for Statehood.
سلامة، غسان. "السياسة العربية والعالم".
عزمي بشارة. "المجتمع المدني"، "الطائفة والطائفية".
عبد الله العروي. "مفهوم الدولة".
فواز طرابلسي. "تاريخ لبنان الحديث".
يزيد صايغ. "دولة حزب البعث: سوريا".
جلبير الأشقر. "الشعب يريد".
أ
#خورشيد_الحسين (هاشتاغ)
Khorshied_Nahi_Alhussien#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟