خورشيد الحسين
الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 21:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
- هل يمكن لشعبٍ أُريد له أن يُمحى من الخرائط أن يحافظ على خرائط وعيه؟
- كيف تُقاوِم هويةٌ وطنية محاصرة محاولات استبدالها بهويات فرعية أو مصطنعة؟
- أهي النكبة التي بدأت عام 1948 أم أنها لا تزال تتجدد كل يوم في الوعي والذاكرة؟
- ما مصير الهوية الفلسطينية حين يصبح المنفى وطناً، والوطن ذكرى معلّقة على جدار؟
- وهل تكفي المقاومة وحدها لحماية هويةٍ تُحاصرها السياسة والحداثة والعولمة في آن؟
ا
منذ أن ارتُكبت النكبة عام 1948، لم يكن الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي صراعًا على الأرض وحدها، بل على الذاكرة أيضًا؛ على صورة الإنسان الفلسطيني في وعيه أولاً، وفي وعي العالم من بعده. فمنذ اللحظة الأولى، لم تكتفِ الصهيونية بالاستيلاء على الأرض، بل سعت إلى سرقة السردية التي تُبرّر وجودها فوق تلك الأرض، وجعل الفلسطينيّ غريبًا في وطنه، ثم غريبًا عن ذاته في المنافي. ومع مرور العقود، لم يهدأ هذا الصراع الرمزي والثقافي، بل اشتدّ مع تحوّل الهوية الفلسطينية إلى ميدان مقاومةٍ لا تقلّ ضراوة عن الميدان العسكري.
تتناول هذه الدراسة المخاطر التي تحيق بالهوية الفلسطينية في زمنٍ تبدو فيه المعركة على الوعي أشدّ فتكًا من المعركة على الجغرافيا. فالمسألة لم تعد مقتصرة على التهجير أو الاحتلال المباشر، بل امتدت إلى محاولات إعادة تشكيل الإنسان الفلسطيني وفق منطق "الواقع الجديد"، عبر أدوات التعليم والإعلام والتكنولوجيا والانقسام السياسي والعولمة الثقافية. إن ما يجري اليوم هو إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني بمفرداتٍ إسرائيلية، وإعادة تعريف الانتماء بمفاهيم مرتبطة بـ"السلام الاقتصادي" و"الواقعية السياسية"، في وقتٍ تُمحى فيه الرموز ويُستبدل فيها الوعي الجمعي بوعيٍ استهلاكي هشّ.
منذ النكبة وحتى اليوم، تتأرجح الهوية الفلسطينية بين الثبات في الذاكرة والانكسار تحت ضغط التحولات. إنها هويةٌ صنعتها التجربة والدمع والمنفى، وواجهت استعمارًا استيطانيًا أراد أن يطمسها عبر المكان، والسياسة، والتاريخ، وحتى اللغة. هذه الدراسة محاولة لتفكيك المخاطر التي تحاصر تلك الهوية: من طمس الرموز وتزييف الوعي، إلى الانقسام الداخلي والشتات، مرورًا بالتحديات الثقافية والإعلامية التي تحاول تفريغ الفلسطيني من مضمونه الإنساني والوطني، وصولًا إلى السؤال الأعمق: هل لا تزال المقاومة قادرة على حماية جوهر الهوية في زمنٍ تحكمه العولمة ونظام التفاهة؟
المحور الأول: الجذور التاريخية للهوية الفلسطينية
ليست الهوية الفلسطينية صناعة طارئة أو نتيجة ردّ فعلٍ على المشروع الصهيوني فحسب، بل هي نتاج تراكمٍ حضاري وثقافيّ ضاربٍ في عمق التاريخ العربي والإسلامي لبلاد الشام. من مدنٍ مثل القدس وغزة ويافا ونابلس والخليل، تشكّل الوعي الجمعي الفلسطيني في تفاعلٍ مستمر مع محيطه العربي، محتفظًا بخصوصيته التي جمعت بين العمق الديني والانتماء الوطني والارتباط بالأرض.
لكن النكبة عام 1948 شكّلت اللحظة المفصلية التي حوّلت الهوية من حالةٍ طبيعية إلى "هوية مقاومة". فمنذ ذلك اليوم، لم تعد الهوية الفلسطينية مجرّد انتماء ثقافي أو تاريخي، بل أصبحت فعلًا سياسيًا في حدّ ذاتها، إذ صار الحفاظ على الذات مقاومةً، وحماية الذاكرة تحديًا وجوديًا. ومع قيام الكيان الصهيوني، بدأت عملية نزع الاعتراف بالفلسطيني ذاته، من خلال محو القرى والمدن، وتغيير الأسماء، وطمس المعالم المادية والثقافية في محاولةٍ لاستئصال الجذور الرمزية للهوية.
في المنفى والشتات، نمت الهوية الفلسطينية كزهرةٍ في صخر الغياب. فكل مخيمٍ تحوّل إلى أرشيفٍ للذاكرة، وكل جيلٍ حمل ذاكرة لم يعشها، لكنها أصبحت جزءًا من دمه. ومن هنا برزت قدرة الفلسطيني على تحويل المعاناة إلى وعي، واللجوء إلى وطنٍ معنوي حين حُرم من وطنه الجغرافي. ومع أن هذا الوعي حافظ على جوهر الانتماء، إلا أنه ظل مهددًا بالتفتت تحت وطأة الانقسامات الجغرافية والسياسية والثقافية التي فرضها واقع اللجوء.
المحور الثاني: الاحتلال والاستيطان – هندسة الطمس الممنهج
مارس الاحتلال الإسرائيلي منذ بدايته سياسةً تقوم على "إلغاء الوجود الفلسطيني" ماديًا ورمزيًا. فإلى جانب مصادرة الأرض، عمد إلى مصادرة التاريخ ذاته. فقد سعت إسرائيل إلى فرض روايتها على المكان، من خلال إعادة تسمية الجبال والقرى والأنهار، وكتابة تاريخٍ بديل يُقدّمها وريثةً لأسطورةٍ توراتية تمتدّ آلاف السنين، متجاهلةً الشعب الذي عاش وصنع التاريخ الفعلي لتلك الأرض.
إن أخطر ما فعله المشروع الصهيوني ليس الاحتلال العسكري فحسب، بل إنتاج "وعيٍ بديل" يحاول أن يقنع العالم، بل والفلسطيني نفسه، بأن الهوية الفلسطينية مجرّد أسطورة معاكسة للأسطورة الصهيونية. فتمّ توظيف التعليم والإعلام والفنّ وحتى علم الآثار لترسيخ هذه السردية، بينما تُمارس في المقابل سياسة التجريف الثقافي في القدس والضفة، وتحويل غزة إلى سجنٍ مغلقٍ تُقطع عنه الحياة بكل أشكالها.
لقد فهمت إسرائيل باكرًا أن السيطرة على الوعي أخطر من السيطرة على الأرض، وأنّ احتلال الذاكرة يجعل من استعادة الأرض مجرّد حلمٍ مؤجل. ولذلك نراها تستهدف المناهج الدراسية، وتحظر الرموز الوطنية، وتجرّم رفع العلم الفلسطيني في القدس، وتفرض على الفلسطينيين داخل أراضي 48 أن يعيشوا "إسرائيليين بالهوية القانونية، وفلسطينيين مكبوتين بالوجدان".
المحور الثالث: الانقسام الداخلي وتمزق الهوية
ربما لم تتعرض الهوية الفلسطينية في تاريخها الحديث لجرحٍ أعمق من جرح الانقسام السياسي الذي تفجّر بعد عام 2007. لقد انقسمت الجغرافيا إلى سلطتين، وانقسم الخطاب إلى سرديتين، وانقسمت الرؤية إلى مشروعين متنافرين: أحدهما يرفع شعار المقاومة، والآخر يرفع شعار التسوية. وبينهما تمزق الوعي الفلسطيني بين أملٍ مؤجل وواقعٍ مأزوم.
هذا الانقسام لم يكن سياسيًا فحسب، بل مسّ جوهر الهوية ذاتها. إذ تحوّل الانتماء الوطني من جامعٍ لكل الفلسطينيين إلى انتماءاتٍ فصائلية ومناطقية، وصارت الهوية رهينة الانتماء الحزبي أو الولاء للجهة المموِّلة، في تكرارٍ مأساوي لمشهد التناحر الذي استغلّه العدو لتكريس سرديته عن "شعبٍ منقسمٍ على ذاته". والنتيجة أن الهوية التي كانت توحّد الفلسطينيين في المنفى، باتت تُجزَّأ داخل الوطن.
وما يزيد المأساة أن الانقسام لم يبقَ سياسيًا بل أصبح ثقافيًا واجتماعيًا. فكل منطقة باتت تملك رموزها وخطابها ومناهجها الخاصة، وكأننا أمام هوياتٍ فلسطينية متعددة لا هوية واحدة. وهكذا، أُضعفت القاعدة التي تقوم عليها فكرة الشعب الواحد، وتراجعت القيم الجامعة لصالح الولاءات الجزئية، ما جعل الفلسطيني يواجه خطر التلاشي من الداخل لا بفعل الاحتلال فقط، بل بفعل ذاته أيضًا.
المحور الرابع: الشتات والهوية الممزقة بين الذاكرة والمنفى
في المخيمات، تتجسد الهوية الفلسطينية بوصفها ذاكرة لا تموت. غير أن أجيال الشتات الجديدة تواجه تحديًا مختلفًا: كيف تحافظ على هويةٍ لم تعشها، وتدافع عن وطنٍ لم تره؟ فالمنافي التي كانت في السابق بيئة مقاومة، أصبحت اليوم بيئة اندماجٍ أو نسيان، حيث يتعرض الفلسطيني في الغرب أو في اللجوء العربي لمحاولات ناعمة لمحو ذاكرته عبر الاندماج القسري أو الاستيعاب الثقافي.
لقد أنتج الشتات هويةً هجينة: نصفها حنينٌ ونصفها اغتراب. ومع الوقت، بدأ الخطر الأكبر يتمثل في انتقال الهوية من "الذاكرة الجماعية" إلى "النوستالجيا الفردية"، أي من وعيٍ عامٍّ بالمصير المشترك إلى شعورٍ ذاتي بالحنين، ما يعني تحولها من مشروع مقاومة إلى ذكرى جمالية. وهنا يصبح الخطر حقيقيًا: أن تتحوّل فلسطين من وطنٍ مغتصب إلى فكرة شاعرية في الوعي الإنساني، ومن كفاحٍ سياسي إلى قصةٍ رمزية تُروى في المهرجانات.
المحور الخامس: الصراع الثقافي والإعلامي – حرب السرديات
المحور الخامس: الصراع الثقافي والإعلامي – حرب السرديات
في زمنٍ تحكمه الصورة أكثر من الكلمة، صار الإعلام ساحة المواجهة الأشدّ فتكًا بالهوية الفلسطينية. فآلة الدعاية الإسرائيلية تسعى لتشويه الفلسطيني وتصويره إمّا كإرهابيٍّ عدميٍّ يرفض "السلام"، أو كضحيةٍ عاجزةٍ بلا مشروع، بينما يتمّ تقديم إسرائيل كدولة ديمقراطية في محيطٍ متوحش. في المقابل، تراجعت القدرات الإعلامية العربية والفلسطينية على مواجهة هذه الرواية في ظلّ التطبيع الإعلامي، وسيطرة المحتوى السطحي على وعي الأجيال.
تُخاض اليوم حربُ سردياتٍ لا تقلّ خطرًا عن الحرب العسكرية، إذ تسعى العولمة الثقافية إلى تفريغ الهوية من محتواها المقاوم وتحويلها إلى هويةٍ ثقافية بلا مضمون سياسي. وحتى بعض المبادرات الثقافية الفلسطينية بدأت تقع في فخّ "التسويق للمعاناة" بدلًا من توظيف الفنّ كأداة نضال. وهكذا، يُختزل الفلسطيني في صورةٍ إنسانية مبتورة، بينما تُحجب هويته السياسية والتحررية.
المحور السادس: المقاومة – حين تتجسد الهوية في الفعل
المحور السادس: المقاومة – حين تتجسد الهوية في الفعل
رغم كل محاولات الطمس والتزييف، تبقى المقاومة – بمختلف أشكالها – هي التعبير الأصدق عن الهوية الفلسطينية. فحين يقف الفلسطيني في غزة أو جنين أو القدس مدافعًا عن بيته وأرضه، فإنه لا يدافع عن قطعة أرضٍ فحسب، بل عن ذاكرةٍ ووعيٍ وانتماء. المقاومة ليست ردّ فعلٍ عسكريًا فحسب، بل هي فعلُ بقاءٍ ثقافي ومعرفيٍّ في وجه مشروعٍ استعماري يريد تحويل الفلسطيني إلى كائنٍ بلا ماضٍ ولا مستقبل.
لقد أثبتت الانتفاضات المتعاقبة، من الحجر إلى السكين إلى الصاروخ، أن الهوية الفلسطينية قادرة على التجدد من رحم الألم. وكل جيلٍ جديد يولد وهو يحمل في قلبه الوعي بأن "فلسطين ليست ذكرى بل قدر". ومن هنا، فإن صمود الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة هو جوهر الحفاظ على الهوية، لأنه يثبت للعالم أن الوجود الفلسطيني ليس حالة عابرة بل حقيقة لا يمكن محوها.
يا إخوة العرب
إذا استمرّ المشهد على حاله – انقسامٌ، واستيطان، وشتاتٌ منهك، وتطبيعٌ متسارع – فإن الهوية الفلسطينية لن تُمحى بالضرورة، لكنها قد تتآكل من الداخل، كما تتآكل الشجرة حين يُقطع عنها الماء ببطء. الخطر الحقيقي ليس أن تُنسى فلسطين، بل أن تُعاد صياغتها بوعيٍ غريبٍ عنها، أن تُختزل في شعارات، وأن يفقد أبناؤها الإحساس بها كقدرٍ وواجب.
إن مستقبل الهوية الفلسطينية ليس مسألة أكاديمية أو عاطفية، بل مسألة بقاءٍ وكرامةٍ ووجود. فإما أن تبقى هذه الهوية حيّة بفعل المقاومة الثقافية والسياسية، وإما أن تتحول إلى "تراثٍ رمزي" تتداوله الأجيال كما تُتداول الأساطير. وهنا تكمن مسؤولية الشباب الفلسطيني والعربي: أن يُعيدوا وصل ما انقطع، وأن يدركوا أن الدفاع عن الهوية لا يكون بالندب والبكاء، بل بالوعي والفعل والبناء.
فإن نحن خسرنا معركة الوعي، فلن تُعيدها ألف معركةٍ بالسلاح. وإن نحن تركنا هويتنا فريسةً للتفكك، فلن تُجدي صرخات العالم بعد أن نُمحى من ذاكرته. لذلك، فإن الهوية الفلسطينية اليوم ليست فقط قضية فلسطين، بل هي امتحانٌ لضمير الأمة كلها. فإما أن نكون أمناء على الذاكرة، أو نصبح شهودًا على اندثارها.
الهوية الفلسطينية، بهذا المعنى، لم تعد سؤالًا عن الماضي، بل عن المستقبل: أيّ وعيٍ سنورّثه لأطفالنا؟ وأيّ فلسطينٍ ستسكن فيهم حين يسكنون هم العالم؟ إنها أمانةٌ في أعناق الجيل الجديد، فإما أن ينهضوا بها، أو يكتبوا بأنفسهم سطر النهاية في قصة شعبٍ رفض أن يُمحى، لكنه تعب من طول البقاء.
#خورشيد_الحسين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟