حيدر صادق صاحب
كاتب وشاعر شعبي
(Haider Sadeq Sahib)
الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 15:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في قاع المحيط الهادئ، تمتد كابلات من الألياف الضوئية كأعصاب خفية تربط بين القارات، تحمل في ثناياها ليس مجرد بيانات، بل أرواحاً بشرية في رحلة هربٍ غير مسبوقة. نحن لا نتحدث عن هجرة تقليدية تعبر حدوداً مرئية، بل عن هجرة من نوع جديد: هروب الأفراد من واقعهم المادي إلى عوالم افتراضية يصنعونها بأنفسهم، حاملين معهم جراح هوياتهم الممزقة. هؤلاء هم "اللاجئون الرقميون"، ليس بمعنى أنهم فقدوا منازلهم المادية بالضرورة، لكنهم فقدوا الإحساس بالانتماء إلى الفضاءات السياسية والاجتماعية التقليدية. إنهم يفرون من دول فاشلة في تأمين الكرامة، أو من أنظمة قمعية تسيطر على أدق تفاصيل الحياة، أو من مجتمعات ترفض تنوعهم، أو ببساطة من عالم مادي بات عاجزاً عن تلبية الحاجة الإنسانية الأساسية: حاجة الفرد إلى أن يكون ذا قيمة، وأن يكون مسموعاً، وأن يكون حراً في تشكيل هويته.
عندما يتجول إنسان بملامح افتراضية من اختياره في شارع رقمي في ديسينترالاند أو يتشارك أرضاً رقمية في ذا ساندبوكس مع أناس من قارات لم يسمع بها قط، فهو ليس مجرد لاعب في لعبة. إنه مواطن ينشئ نسخة جديدة من نفسه، نسخة غير خاضعة لسلطة جواز السفر أو لون البشرة أو الإرث العائلي. هنا، في هذا العالم المتشابك الذي نسميه الميتافيرس أو العوالم الافتراضية الغامرة، تولد أسئلة سياسية وجودية تهدد المفاهيم التي قامت عليها الدولة القومية لقرون: ما هي الهوية عندما تستطيع أن تغير مظهرك وجنسك وعمرك وعرقك بنقرة زر؟ ما معنى السيادة عندما تكون الأرض ملكية رقمية يشتريها أحدهم ببيتكوين؟ وما معنى المواطنة عندما يتجمع الناس في مجتمعات تحكمها "القوانين البرمجية" و"الدساتير الخوارزمية" أكثر من القوانين الوضعية؟
لطالما كانت الهوية ساحة صراع سياسي، أداة للتوحيد وأخرى للإقصاء. لكن في العالم الرقمي، ينقلب هذا الصراع رأساً على عقب. فالهوية لم تعد معطى ثابتاً تمنحه الدولة عند الميلاد عبر شهادة الجنسية، ولم تعد مرتبطة حكماً بجغرافيا محددة. لقد أصبحت الهوية مشروعاً ذاتياً ديناميكياً، عملية بناء مستمرة، أشبه بلوحة فنية تفاعلية يضيف إليها الفرد ألواناً جديدة كل يوم. الشاب الكردي من سوريا الذي يعيش في مخيم للاجئين، يمكنه داخل الفضاء الافتراضي أن يكون محامياً ناجحاً، يجادل في قضايا افتراضية لكنها تمنحه إحساساً بالكرامة والكفاءة الذي حرم منه في العالم المادي. المرأة السعودية التي قد تواجه قيوداً على ملابسها وتحركاتها، يمكنها في عالم افتراضي أن تكون مستكشفة فضائية، تجسد جسداً رقمياً (أفتار) يعبر عن قوتها دون خوف. هذه التمكينات، رغم افتراضيتها، لها آثار نفسية عميقة: إنها تخلق وعياً جديداً بالإمكانيات، وتزرع سؤالاً مزعجاً: "لماذا لا أستطيع أن أكون هذا الشخص في العالم الحقيقي؟"
هذا السؤال هو القنبلة السياسية التي يحملها الميتافيرس في داخله. فعندما يختبر الإنسان حريات افتراضية واسعة، فإن تسامحه مع القيود الواقعية يتراجع. هنا يتحول الميتافيرس من مجرد أداة ترفيه أو هروب، إلى حاضنة لروح التمرد، ومنصة للتجريب السياسي والاجتماعي. المجتمعات الافتراضية تختبر أنماط حكم لم تكن ممكنة: ديمقراطيات مباشرة حيث يصوت كل عضو في الثانية، مجتمعات لا هرمية تحكمها شفرة مصدر مفتوحة، أو حتى ممالك رقمية حيث يعلن أحدهم نفسه إمبراطوراً على جزيرة افتراضية اشتراها بمبلغ زهيد. هذه التجارب، وإن بدت ساذجة، إلا أنها تخلق "ذاكرة جماعية" جديدة عن الحكم والانتماء، وتزرع بذور ما يمكن تسميته "المواطنة الرقمية العالمية"، حيث يتشكل الولاء للمجتمع الافتراضي والقيم التي يتبناها، أكثر من الولاء للدولة الجغرافية.
لكن هذا العالم الوردي من الحرية والتجريب له ظل طويل مظلم. فسياسات الهوية في العالم الرقمي ليست تحرراً خالصاً. إنها بحد ذاتها ساحة جديدة للصراع والهيمنة والاستغلال. من يسيطر على المنصة؟ شركات تكنولوجية عملاقة مقرها في كاليفورنيا أو شنزن. هذه الشركات تصنع "دستور" العالم الافتراضي من خلال "شروط الخدمة" التي يوقع عليها المستخدم دون قراءتها عادة. هي التي تقرر ما هو مقبول من خطاب، وما هي الحقوق الرقمية التي يتمتع بها "المواطنون"، وكيف يتم حل النزاعات. هنا تظهر إشكالية "السيادة الرقمية". الدول التقليدية تجد سلطتها تتآكل أمام سلطة هذه الشركات الخاصة التي تحكم ملايين "المواطنين الرقميين". الصين تريد ميتافيرس خاضعاً لرقابة صارمة، متوافقاً مع "القيم الاشتراكية الأساسية". الغرب يتحدث عن ميتافيرس مبني على قيم حرية التعبير والخصوصية. ومن سيفوز؟ قد يعتمد الأمر على من يسيطر على البنية التحتية الرقمية والبروتوكولات الأساسية.
هذا الصراع على السيادة يخلق فئة جديدة من المستضعفين: "اللاجئون الرقميون من الدرجة الثانية". فليس كل من دخل العالم الافتراضي يتمتع بنفس الحقوق. هناك من يملكون قطع أراض رقمية فاخرة وعملات NFT نادرة، وهناك من يتجولون في المساحات العامة مجاناً لكن دون قدرة على تملك شيء. تظهر طبقات جديدة: الأغنياء الرقميون والفقراء الرقميون. وقد تتحول الهويات الافتراضية نفسها إلى سلعة، حيث يشتري الأثرياء هويات رقمية مرموقة (مثل أفاتار فنان مشهور أو بطل رياضي) بينما يبقى الفقراء بهويات افتراضية باهتة. هل سنشهد نشوء "عنصرية رقمية" جديدة قائمة على جودة الأفاتار أو قيمة المقتنيات الرقمية؟ الأرجح نعم.
وفي خضم هذا كله، تظهر أسئلة قانونية شائكة تكاد تكون سوريالية: من له سلطة التحقيق في جريمة افتراضية كالسرقة الرقمية أو التحرش في عالم الميتافيرس؟ إذا كان المعتدي في كوريا الجنوبية والضحية في البرازيل والمنصة مسجلة في جزر كايمان والخادم في فنلندا، فأي قانون ينطبق؟ كيف تفرض الضرائب على دخل ولد من بيع عقارات افتراضية؟ بعض الدول بدأت تدرك حجم التحدي. فالسويد، على سبيل المثال، عينت سفيراً للتقنية، وكوريا الجنوبية تطور استراتيجية وطنية للميتافيرس. لكن الغالبية العظمى من الدول ما زالت تنظر إلى هذه العوالم كألعاب، لا كساحات سياسية واقتصادية ناشئة.
الأخطر من ذلك هو احتمال نشوء "دول افتراضية" كاملة، تدعي السيادة وتنشئ أنظمة ضريبية وقانونية خاصة بها. بعض المشاريع مثل "ناشيونز" تسمح لأي شخص بإنشاء دولة افتراضية وجذب مواطنين. ماذا لو قررت إحدى هذه "الدول" إصدار جوازات سفر رقمية، أو عقد معاهدات تحالف مع دول افتراضية أخرى، أو حتى إعلان الحرب؟ هل ستعترف الأمم المتحدة بها؟ أم أن الصراع سينتقل إلى حرب إلكترونية حقيقية حيث تهاجم إحدى الدول البنية التحتية الرقمية لأخرى؟
ما نراه اليوم هو مجرد البداية الخرقاء لما قد يصبح التحول السياسي الأكبر منذ معاهدة ويستفاليا التي أسست لفكرة الدولة القومية. اللاجئ الرقمي هو طليعة هذا التحول. إنه شخص يقول، بشكل صامت ولكن فعّال: "لقد تخلّيت عن محاولة إصلاح وطني أو مجتمعي في العالم المادي. سأبني وطني الخاص في العالم الرقمي." وهذا الفعل بحد ذاته هو أشد أشكال الاحتجاج السياسي: الهروب. لكنه هروب نحو بناء، نحو خلق بدائل. الخطر ليس في الهروب ذاته، بل في أن تصبح هذه العوالم الافتراضية ملاذات للاستقطاب المتطرف، حيث يهرب الناس إلى غرف الصدى التي تعزز كراهيتهم للآخر المختلف، أو حيث تتحول إلى واحات للجريمة المنظمة وغسيل الأموال تحت غطاء الخصوصية واللامركزية.
المستقبل يحمل أحد سيناريوهين متطرفين، أو مزيجاً منهما. السيناريو الأول: عالم ميتافيرس منقسم إلى كتل رقمية، "إنترنت بلداني" على المنشطات، حيث يكون للمواطن الصيني ميتافيرس خاضع للرقابة، وللأوروبي ميتافيرس يحمي البيانات بشكل صارم، وللأمريكي ميتافيرس متوحش تعمه الرأسمالية المفرطة. والسكان الرقميون في كل فقاعة يعتقدون أن عالمهم الافتراضي هو "العالم الحقيقي". السيناريو الثاني: ظهور "دولة رقمية عالمية" واحدة مهيمنة، ربما تفرضها لغة برمجة واحدة أو عملة رقمية واحدة أو منصة واحدة تبتلع الجميع، مما يؤدي إلى تهميش لا مثيل له للثقافات واللغات والهويات المحلية.
بين هذين الطريقين، هناك مسار ثالث ضبابي وغير مضمون: مسار حيث تتعلم الدول والمجتمعات التقليدية التكيف، حيث تنشأ أشكال هجينة من الحكم والسيادة، تدمج بين الحقوق الرقمية والمادية. حيث يُعترف بالهوية الرقمية كجزء من كيان الإنسان القانوني والاجتماعي. حيث تطور منظمات دولية جديدة لتنظيم العلاقات بين العوالم الافتراضية، على غرار قوانين البحار أو قوانين الفضاء الخارجي. حيث يصبح "اللاجئ الرقمي" مواطناً ذا حقوق في عالمه الافتراضي، دون أن يفقد بالضرورة حقوقه في العالم المادي، بل ربما تستخدم منصات الميتافيرس كمساحات آمنة للحوار بين أطراف متناحرة في الواقع، أو كساحات لتجريب سياسات جديدة قبل تطبيقها.
ختاماً، الظاهرة التي نسميها "اللاجئون الرقميون" هي مجرد البداية المرئية لتحول عميق في طبيعة المجتمع السياسي نفسه. إنها تعيد إلى الواجهة أسئلة قديمة متجددة: ما هي الدولة؟ ما هي الهوية؟ ما معنى الحرية في فضاء لا تحده جغرافيا؟ الأجوبة التي ستتكون في العقد المقبل، سواء من خلال الصراع أو التعاون بين القوى القديمة (الدول) والقوى الجديدة (المنصات الرقمية والمجتمعات الافتراضية)، ستشكل مصير ليس فقط أولئك الذين يهربون إلى العالم الرقمي، بل مصير جميعنا. لأن الحدود بين العالمين تتلاشى بسرعة، وسيصبح كل واحد منا، بشكل ما، لاجئاً ومواطناً في عوالم متعددة في آن واحد. السؤال الحقيقي هو: هل سنكون لاجئين خائفين منهوبي الهوية، أم رواد فضاء بشريون نستكشف أبعاداً جديدة للوجود والانتماء؟ الإجابة تكمن في كيفية فهمنا لهذه الظاهرة اليوم، وفي قرارات نعتبرها تقنية لكنها في العمق سياسية بحتة، ستتخذ في مكاتب المبرمجين وقاعات البرلمانات على حد سواء.
#حيدر_صادق_صاحب (هاشتاغ)
Haider_Sadeq_Sahib#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟