حيدر صادق صاحب
كاتب وشاعر شعبي
(Haider Sadeq Sahib)
الحوار المتمدن-العدد: 8539 - 2025 / 11 / 27 - 06:57
المحور:
الارشيف الماركسي
في مسار التطور التاريخي للأمم والمجتمعات، تبرز ظواهر سياسية واجتماعية تبدو للوهلة الأولى وكأنها ثوابت أبدية، غير أن التحليل الفلسفي الأعمق يكشف عن ديناميكية متجددة تخترق كل ما يبدو راسخاً. والحزب الشيوعي، بصفته ظاهرة تاريخية كبرى شكّلت القرن العشرين وأثرت في مصائر ملايين البشر، ليس استثناءً من هذه القاعدة. فالسؤال عن الأسباب الكامنة وراء عجزه عن النهوض واستعادة مكانته الحقيقية ليس مجرد استفسار سياسي تقليدي، بل هو استقصاء فلسفي عن طبيعة التحولات الجوهرية في العقل الجمعي، وعن العلاقة بين الفكرة وتجسيدها المادي، وعن إشكالية الزمن والتاريخ.
إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب أولاً تفكيك مصطلح "المكانة الحقيقية". فهل هي تلك المكانة الأسطورية المتخيلة التي رسمها الأدبيات الكلاسيكية في قرائها النظري؟ أم هي المكانة التاريخية التي احتلها الحزب في لحظات الثورة والتأسيس؟ أم هي مكانة مفترضة في عالم متغير لم يعد يعترف باليقينيات القديمة؟ هذا الالتباس الاصطلاحي هو نفسه أحد عناصر الإشكالية. فالحزب يعاني من أزمة هوية وجودية، فهو يحمل في داخله ذاكرة مجيدة لماضٍ لم يعد قائماً، ويعيش في حاضر يرفض أن يكون امتداداً لذلك الماضي، ويتطلع إلى مستقيم يجهل معالمه. هذه القطيعة بين الماضي والحاضر والمستقيم تخلق حالة من الشلل الفلسفي، حيث تصبح كل محاولة للتجديد مراجعة للتراث، وكل تمسك بالتراث انتحاراً بطيئاً في متغيرات العصر.
من المنظور المادي الجدلي، فإن البنى الفوقية السياسية والفكرية لا يمكن أن تبقى متماسكة إذا كانت البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية التي قامت عليها قد تداعت. لقد نشأ الفكر الشيوعي في حقبة الصناعة الثقيلة والطبقة العاملة التقليدية والصراع الطبقي الحاد. لكن عالم اليوم يشهد تحولات جذرية في بنية الإنتاج، حيث حلّت الرأسمالية المعرفية والمعلوماتية محل الرأسمالية الصناعية، وبرزت شرائح اجتماعية هجينة لا تنتمي بشكل واضح إلى البروليتاريا أو البرجوازية التقليديتين. لم يعد العامل في مصنع الآلات هو المحور، بل مبرمج الحواسيب، والعامل في قطاع الخدمات، ورواد الأعمال الرقمية. هذه التحولات العميقة تركت الحزب الشيوعي أمام معضلة وجودية: إما التمسك بخطاب طبقي تقليدي لم تعد له مرتكزات واضحة في الواقع الجديد، مما يجعله يبدو كأنه يحارب أشباحاً من الماضي، أو محاولة تطوير خطاب جديد يواكب المتغيرات، لكنه قد يفقد في هذه العملية جوهر هويته الأيديولوجية.
إن إشكالية العلاقة بين الوسيلة والغاية تظهر هنا بكل وضوح. ففي المراحل التاريخية السابقة، تبنى العديد من الأحزاب الشيوعية فكرة أن الغاية الثورية تبرر الوسائل، مما أدى إلى تبني أنظمة حكم شديدة المركزية، وأحياناً استبدادية، في سبيل "حماية الثورة". لكن هذه الوسائل أنتجت مع الزمن بيروقراطية متصلبة، وثقافة سياسية تقوم على الطاعة والامتثال بدلاً على الإبداع والمبادرة، وفجوة بين الخطاب الثوري والممارسة اليومية. لقد تحول الحزب في العديد من التجارب من أداة للتحرر إلى مؤسسة للحفاظ على الوضع القائم، من منظمة ثورية إلى جهاز إداري. هذه المفارقة التاريخية – تحول أداة التغيير إلى أداة للحفظ – هي من أعقد الإشكاليات التي تواجهها هذه الأحزاب اليوم. كيف يمكن لمنظمة بنت شرعيتها على فكرة الثورة والديناميكية أن تستمر بعد أن أصبحت جزءاً من النظام القائم؟ وكيف يمكنها تجديد خطابها دون أن تبدو وكأنها تتنكر لماضيها؟
إن مفهوم الديالكتيك أو الجدل الهيغلي-الماركسي نفسه يحمل بذور هذه الإشكالية. فالفكر الجدلي يقوم على فكرة التطور عبر تناقضات يتم حلها في تركيب أعلى. لكن العديد من الأحزاب الشيوعية توقفت عن ممارسة الجدل بشكل حقيقي، وحولت الفكر الماركسي من منهج نقدي متجدد إلى عقيدة مغلقة، ومن فلسفة للتحرر إلى أيديولوجيا للسيطرة. لقد أصبحت "الماركسية" في بعض التجارب مجرد تبرير نظري للواقع القائم بدلاً من أن تكون أداة لنقده وتجاوزه. هذا التحول من النقد إلى التبرير هو موت للفكر الماركسي الحقيقي، الذي كان في جوهره منهجاً للتشكيك في المسلّمات وفضح التناقضات الكامنة في الواقع.
إن أزمة الحزب الشيوعي المعاصر هي أيضاً أزمة علاقته بالمجتمع. فبينما كان الحزب في السابق يعتبر نفسه "طليعة الجماهير" و"ضمير الطبقة العاملة"، فإنه اليوم في العديد من البلدان يعيش حالة انفصام عن المجتمع الحقيقي. لقد أصبح خطابه في كثير من الأحيان خطاباً نخبوياً موجهاً إلى الداخل، مليئاً بالمصطلحات والمفاهيم التي لا تتحدث بلغة الناس العاديين ولا تعبر عن همومهم اليومية. لقد فقد الحزب تدريجياً قدرته على التعبير عن أحلام الناس البسطاء، وتحول إلى منظمة تناقش قضايا نظرية بعيدة عن الهموم اليومية للعمال والفلاحين والفقراء الذين يفترض أنه يمثلهم. هذه القطيعة بين الخطاب النظري والواقع المعيش خلقت فجوة من السخرية واللامبالاة بين الجماهير تجاه الحزب.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه الحزب الشيوعي اليوم هو تحدي التعددية والاختلاف. فالعالم المعاصر لم يعد يحتمل اليقينيات المطلقة والأحادية الفكرية. لقد برزت هويات متعددة – قومية، دينية، جندرية، ثقافية – ترفض أن تُختزل في الصراع الطبقي التقليدي. كما أن فكرة "الحقيقة المطلقة" التي تمتلكها "الطليعة الواعية" أصبحت موضع شك في عصر ما بعد الحداثة الذي يؤكد على تعدد الحقائق وتنوع وجهات النظر. الحزب الشيوعي، الذي بنى فلسفته على فكرة امتلاك الحقيقة العلمية في فهم قوانين التاريخ والمجتمع، يجد نفسه اليوم في عالم لا يعترف بهذه الحقيقة الواحدة، بل يرى في ادعاء امتلاك الحقيقة شكلاً من أشكال الاستبداد الفكري.
إن مسألة الديمقراطية تشكل تحدياً وجودياً آخر. فبينما تتبنى الأحزاب الشيوعية خطاباً ديمقراطياً في الغالب، فإن تراثها التاريخي ارتبط في أذهان الكثيرين بنموذج "المركزية الديمقراطية" الذي تحول في ممارسات كثيرة إلى مركزية بدون ديمقراطية، وإلى نظام هرمي صارم يقمع الاختلاف الداخلي ويعتبره انحرافاً عن الخط الصحيح. في عصر أصبحت فيه الشفافية والمحاسبة والمشاركة الشعبية قيماً راسخة، يبدو هذا النموذج التنظيمي أقرب إلى أنظمة الماضي منه إلى متطلبات المستقبل. كيف يمكن للحزب أن يدعي تمثيل مصالح الجماهير إذا كان لا يسمح بالرأي المختلف داخل صفوفه؟ وكيف يمكن أن يكون أداة للتحرر إذا كان يكرس داخله علاقات سلطوية؟
إن العلاقة مع التراث تطرح معضلة أخرى. فالحزب الشيوعي يحمل تراثاً فكرياً ضخماً من ماركس وإنجلز ولينين وستالين وماو وغيرهم. هذا التراث يشكل مصدر قوة وهوية، لكنه في الوقت نفسه أصبح عبئاً ثقيلاً. فكيف يتعامل الحزب مع الأخطاء التاريخية الفادحة التي ارتكبت باسم الماركسية؟ كيف يواجه مسألة الجرائم والانتهاكات التي حدثت في تجارب "الاشتراكية الواقعية"؟ إن إنكار هذه الأخطاء يجعل الحزب يبدو غير موثوق، والاعتراف الكامل بها قد يهز أساس شرعيته. بين نقيضي الإنكار والاعتراف الكامل، هناك مسار شائك من النقد الذاتي الجريء الذي لا يتخلى عن الجوهر التحرري للفكر الماركسي، لكنه في الوقت نفسه لا يتستر على الأخطاء والتجاوزات.
إن عالم اليوم يعاني من أزمات وجودية كبرى – من تغير مناخي يهدد وجود البشرية، إلى تفاوت اجتماعي هائل، إلى أزمات روحية ومعنوية في ظل هيمنة القيم المادية الاستهلاكية. هذه الأزمات تبدو وكأنها تقدم فرصة ذهبية للأحزاب الشيوعية التي تنتقد الرأسمالية منذ نشأتها. لكن الغريب أن هذه الأحزاب تبدو عاجزة عن تقديم بديل مقنع. والسبب الجوهري في هذا العجز هو أن نقدها للرأسمالية بقي في كثير من الأحيان نقداً مجرداً، غير قادر على تقديم رؤية عملية لكيفية تنظيم مجتمع بديل يحقق الازدهار مع العدالة، والحرية مع المساواة، والابتكار مع الاستدامة البيئية.
إن إشكالية العنف والسلطة تحتل مكاناً مركزياً في هذه الأزمة. فتراث الحزب الشيوعي ارتبط تاريخياً بفكرة "ديكتاتورية البروليتاريا" و"الثورة المسلحة" كوسيلة للتغيير. لكن في عالم اليوم، حيث أصبحت المجتمعات أكثر تعقيداً، وحيث ترتبط المصالح العالمية بشكل غير مسبوق، أصبحت فكرة التغيير عبر العنف غير مقبولة وغير واقعية. كما أن التجارب التاريخية أثبتت أن الوسائل العنيفة تلد أنظمة عنيفة، وأن الغاية النبيلة لا تبرر الوسائل الدموية. لكن التخلي الكامل عن فكرة الصراع الطبقي والثورة قد يعني التخلي عن جوهر الهوية الماركسية. هذه المعضلة الأخلاقية والسياسية تقف عائقاً أمام تطوير خطاب تحويلي قادر على إلهام الجماهير.
إن الحزب الشيوعي اليوم يعاني من أزمة تجسير الهوة بين النظرية والممارسة. فبينما يمتلك تراثاً نظرياً غنياً في تحليل تناقضات الرأسمالية، فإنه يبدو عاجزاً عن تقديم حلول عملية للمشاكل اليومية التي تواجه الناس. كيف يمكن تحسين نظام التعليم؟ كيف يمكن تطوير نظام صحي عادل؟ كيف يمكن مواجهة البطالة среди الشباب؟ كيف يمكن تطوير تكنولوجيا صديقة للبيئة؟ هذه الأسئلة العملية تبقى في كثير من الأحيان بدون إجابات مقنعة من الأحزاب الشيوعية، التي تفضل البقاء في مستوى النقد العام بدلاً من النزول إلى ساحة الحلول العملية.
إن العلاقة مع الدين تشكل عائقاً آخر في العديد من المجتمعات. فالفكر الماركسي التقليدي نظر إلى الدين على أنه "أفيون الشعوب"، واعتبره ظاهرة ستزول مع تطور المجتمع الاشتراكي. لكن الواقع أثبت أن الدين يمثل حاجة روحية عميقة عند مليارات البشر، وأنه ليس مجرد أداة في يد الطبقات الحاكمة. في مجتمعات حيث الدين جزء أساسي من الهوية والثقافة، يبدو الموقف العدائي من الدين كقطيعة مع جذور الشعب وتراثه. لكن في الوقت نفسه، أي تنازل عن النقد العلمي للدين قد يبدو كتراجع عن المبادئ المادية الأساسية للماركسية.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه الحزب الشيوعي هو تحدي إعادة تعريف نفسه في عالم لم يعد يعترف باليقينيات الكبرى، ولا بالأيديولوجيات الشمولية، ولا بادعاءات امتلاك الحقيقة المطلقة. إن النهضة الحقيقية للحزب تتطلب جرأة فلسفية لنقد الذات نقداً جذرياً، والشجاعة للاعتراف بالأخطاء التاريخية، والإبداع الفكري لتطوير ماركسية مناسبة للقرن الحادي والعشرين، ماركسية قادرة على استيعاب دروس ما بعد الحداثة، ونتائج العلوم الحديثة، وتحديات العولمة، وأزمات البيئة، وطموحات الحرية الفردية، دون أن تفقد جوهرها النقدي التحرري.
إن مستقبل الحزب الشيوعي لا يكمن في الحنين إلى ماض مجيد، ولا في التخلي الكامل عن تراثه، بل في القدرة على ممارسة الجدل الحقيقي مع الواقع الجديد، وفي الشجاعة لتجاوز النماذج البالية، والإبداع في صياغة رؤية جديدة للاشتراكية، تكون ديمقراطية حقاً، وإنسانية حقاً، وتحررية حقاً. فقط عبر هذه المصارحة الفلسفية الجريحة مع الذات والتاريخ، وعبر هذه المراجعة النقدية الشاملة للتراث والممارسة، يمكن للحزب الشيوعي أن يجد طريقه نحو النهوض واستعادة مكانته ليس كحزب سلطة، بل كضمير للعدالة، وروح للتحرر، وأمل للمستقبل.
#حيدر_صادق_صاحب (هاشتاغ)
Haider_Sadeq_Sahib#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟