حيدر صادق صاحب
كاتب وشاعر شعبي
(Haider Sadeq Sahib)
الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 19:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن التفكير في نظام يخلف الرأسمالية ليس ترفاً تأملياً بل هو إلحاح واقعي تنبع ضرورته من عمق الأزمات البنيوية التي يشهدها النظام العالمي الحالي أزمات تتجاوز الدورات الاقتصادية التقليدية لتشمل انهياراً متعدد الأبعاد يمس أركان الوجود البشري ذاته والبحث عن بديل يقتضي تجاوز النقد السطحي نحو تشريح معمق لجذور الأزمة الحضارية التي تمثل الرأسمالية ذروتها التاريخية ومن ثم بناء تصور مركب يستوعب دروس الفشل التاريخي للبدائل السابقة ويستشرف تحولات المستقبل بكل تعقيداته.
الرأسمالية كنظام عالمي متكامل ليست مجرد ترتيب اقتصادي بل هي نظام حياة شمولي ينتج علاقات اجتماعية وقيماً ثقافية وهياكل نفسية تتكيف مع منطق تراكم رأس المال واستحواذه هذا النظام الذي بلغ مرحلته النيوليبرالية المتطرفة حول كل مظاهر الحياة إلى سلع وكل العلاقات الإنسانية إلى تعاقدات وكل القيم إلى مقاييس كمية وهو في مسيرته التاريخية حقق تقدماً هائلاً في قوى الإنتاج لكنه فعل ذلك عبر علاقات إنتاج استغلالية وعبر علاقة عدوانية مع الطبيعة وعبر تشكيل إنسان منفصل عن ذاته وعن الآخرين.
التشخيص العميق للأزمة الحالية يكشف أنها أزمة مركبة تضم خمس طبقات مترابطة الطبقة الأولى هي الأزمة الاقتصادية البنيوية المتمثلة في اتجاه معدلات الربح للانخفاض المزمن على المدى الطويل مما يدفر إلى مزيد من التمويل المالي والاستحواذ الاحتكاري والاستغلال المكثف للعمل والطبيعة الطبقة الثانية هي الأزمة الاجتماعية المتجسدة في التفاوت الهائل الذي بلغ مستويات غير مسبوقة حيث يملك 1% من سكان العالم أكثر من ضعف ثروة 6.9 مليار شخص الطبقة الثالثة هي الأزمة البيئية التي وصلت إلى نقطة اللاعودة مع تغير المناخ وفقدان التنوع الحيوي والتلوث الشامل حيث تقود منطق النمو اللانهائي إلى تدمير الأساس المادي للحياة نفسها الطبقة الرابعة هي الأزمة السياسية والديمقراطية مع تحول المؤسسات التمثيلية إلى أداة في يد النخب الاقتصادية وهيمنة الشركات العابرة للقومية على القرار السيادي الطبقة الخامسة هي الأزمة الوجودية والقيمية المتمثلة في انتشار الاغتراب والاكتئاب وفقدان المعنى في مجتمعات الوفرة المادية.
فهم هذه الأزمات المتشابكة يوضح أن الإصلاح الجزئي داخل النظام لم يعد مجدياً بل إن محاولات إصلاح النظام من داخله غالباً ما تؤدي إلى تعميق أزماته فالنيوليبرالية نفسها كانت استجابة لأزمة الربح في سبعينيات القرن الماضي ولكنها عوضت عن ذلك بخلق فقاعات مالية وزيادة اللامساواة مما ولد أزمة أعمق وهذا يقود إلى استنتاج أن التغيير الجذري بات ضرورة تاريخية وليس خياراً أيديولوجياً.
لكن أي نظام بديل يواجه تحديات نظرية وعملية هائلة التحدي النظري يتمثل في ضرورة تقديم إجابة مقنعة عن كيفية تنظيم مجتمع معقد بطريقة أكثر كفاءة وعدلاً وديمقراطية من السوق الرأسمالي مع تجنب أخطاء النماذج الاشتراكية التاريخية والتحدي العملي يتمثل في كيفية تحقيق الانتقال في ظل هيمنة القوى الرأسمالية العالمية المسلحة بكل أدوات القوة الناعمة والخشنة.
للتغلب على هذه التحديات يجب بناء تصور مركب يستفيد من تراكم المعرفة الإنسانية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والفلسفة والبيئة ويستوعب دروس التجارب التاريخية ويتفاعل مع التحولات التكنولوجية والثقافية المعاصرة هذا التصور يجب أن يقوم على عدة أركان مترابطة.
الركن الأول يتعلق بمسألة الملكية والحوكمة الاقتصادية هنا يجب التمييز بين الملكية الخاصة للأشياء الشخصية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي تتيح الاستغلال والتحكم الاجتماعي الحل لا يكمن في تأميم شامل بيروقراطي بل في خليط مرن من أشكال الملكية والإدارة تشمل تعاونيات عمالية ديمقراطية مؤسسات مملوكة للمجتمع المحلي مشاريع مملوكة للدولة تخضع لرقابة شعبية مباشرة مشاريع خاصة صغيرة في قطاعات غير استراتيجية تخضع لضوابط اجتماعية وبيئية صارمة المهم هو تحويل مراكز القرار الاقتصادي من حفنة من الرأسماليين والمدراء إلى المنتجين والمستهلكين والمجتمعات المحلية المتأثرة بالقرارات
الركن الثاني يتعلق بآلية توزيع الموارد وتحديد الأولويات الاقتصادية هنا يجب تجاوز الثنائية العقيمة بين السوق والتخطيط المركزي الشامل نحو نموذج هجين ذكي يقوم على التخطيط الديمقراطي اللامركزي للمجالات الاستراتيجية مثل الطاقة والنقل والرعاية الصحية والتعليم مع السماح بآليات سوق منظمة ومراقبة اجتماعياً في قطاعات السلع غير الأساسية التخطيط الديمقراطي يمكن أن يعتمد على منصات رقمية تشاركية تجمع احتياجات المجتمعات المحلية وتنسقها على المستوى الإقليمي والوطني مع استخدام تحليلات البيانات الضخمة لتقييم الآثار البيئية والاجتماعية. .
الركن الثالث هو إعادة تعريف العمل والقيمة هنا يجب التمييز بين العمل المجرد الذي ينتج قيمة تبادلية في السوق والعمل الملموس الذي ينتج قيم استعمالية حقيقية الهدف هو تقليص الأول تدريجياً عبر الأتمتة والتقنية لتحرير الوقت البشري لصالح الثاني الذي يشمل العمل الإبداعي والعناية بالآخرين والعمل المجتمعي والإنتاج الإيكولوجي هذا يستلزم فصل الدخل عن العمل المأجور عبر نظام الدخل الأساسي الشامل مع الحفاظ على حوافز المشاركة في الأعمال الضرورية اجتماعياً
الركن الرابع هو التحول البيئي الجذري النظام البديل يجب أن يكون إيكولوجياً في صميم بنيته لا كإضافة لاحقة هذا يعني الانتقال من اقتصاد خطي يستخرج ويستهلك ويلقي إلى اقتصاد دائري يعيد الاستخدام والتدوير ويعمل ضمن حدود قدرة النظم البيئية على التجدد وهذا يتطلب إعادة تصميم شاملة للبنى التحتية الحضرية ولأنظمة الطاقة والنقل والزراعة ولأنماط الاستهلاك
الركن الخامس هو إعادة بناء الديمقراطية على أسس جديدة الديمقراطية التمثيلية الحالية قد استولت عليها النخب الاقتصادية الحل هو الديمقراطية التشاركية والتداولية التي تجمع بين تمثيل الأقاليم والمجتمعات المحلية وتمثيل الفئات الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية في هيئات تشريعية متعددة المستويات مع حجز نسبة من المقاعد للمجالس العمالية والمجالس البيئية والمجالس النسائية والشبابية
الركن السادس هو الأممية الجديدة في مواجهة العولمة النيوليبرالية النظام البديل يجب أن يكون أممياً يعترف بالترابط المصيري للبشرية لكنه أممية قائمة على تضامن الشعوب لا على هيمنة الأسواق والشركات عبر الوطنية وهذا يتطلب إصلاحاً جذرياً للمؤسسات الدولية وإنشاء هيئات ديمقراطية عالمية لإدارة المشاعات العالمية كالمناخ والمحيطات والفضاء الخارجي
أما بخصوص الاشتراكية كإطار للبديل فيجب القول إن الاشتراكية التاريخية قدمت إسهامات أساسية في نقد الرأسمالية وفي التأكيد على أولوية العدالة الاجتماعية لكنها أيضاً ارتكبت أخطاء فادحة تمثلت في المركزية المفرطة وإلغاء التعددية وتقديس الدولة وتجاهل المسألة البيئية والنسوية لذلك فإن أي اشتراكية للمستقبل يجب أن تكون ديمقراطية جذرية بيئية نسوية لا مركزية تعددية وهذا يستدعي حواراً خلاقاً بين تيارات الفكر التحرري المختلفة بين الاشتراكية والنسوية والحركة البيئية والفكر مابعد الاستعماري وفلسطات الاعتراف والتقليد التضامني والتعاوني فالمسألة الطبقية رغم مركزيتها لا تكفي لفهم تداخل أشكال القمع القائمة على الجنس والعرق والموقع الجغرافي والعلاقة مع الطبيعة
أما الانتقال إلى هذا النظام البديل فهو التحدي الأكبر الحل لا يكمن في انتظار الثورة الكبرى ولا في الاكتفاء بالإصلاحات التصحيحية بل في استراتيجية متعددة المسارات تشمل بناء مؤسسات بديلة في قلب المجتمع الرأسمالي مثل التعاونيات وبنوك الوقت ومشاريع الطاقة المجتمعية والإصلاحات الهيكلية الجذرية التي تفرضها الحركات الاجتماعية عبر النضال السياسي مثل فرض ضرائب ثروة تصاعدية وتأميم القطاعات الاستراتيجية والتوسع الهائل في القطاع العام وتغيير الأنظمة القانونية لدعم الملكية الاجتماعية مع العمل على المستوى الثقافي لتغيير القيم السائدة من الفردية والاستهلاك إلى التضامن والبساطة الطوعية
التكنولوجيا تلعب دوراً متناقضاً فمن ناحية تقنيات المراقبة الرقمية والذكاء الاصطناعي يمكن أن تشكل أدوات لتحكم أكثر شمولية للنخب الحاكمة لكن التقنيات نفسها يمكن أن تخدم التنسيق الديمقراطي اللامركزي وتحرير البشر من العمل المتعب وتوسيع المشاركة الشعبية في صنع القرار السؤال من يسيطر على التكنولوجيا ولمصلحة من وفي الختام النظام البديل للرأسمالية لن يولد بين ليلة وضحاها ولن يكون نقياً من التناقضات لكن اتجاه التغيير يجب أن يكون واضحاً التحول من مجتمع قائم على المنافسة والاستغلال والهيمنة إلى مجتمع قائم على التعاون والتضامن والتحرر من مجتمع يقدس الملكية الفردية لوسائل الإنتاج إلى مجتمع يجعل الملكية الاجتماعية أساساً للنشاط الاقتصادي من مجتمع يجعل النمو الاقتصادي غاية في ذاته إلى مجتمع يجعل الرفاه البشري والاستدامة البيئية معايير للتقدم من مجهرية نخبوية تديرها أقلية إلى ديمقراطية شاملة يشارك فيها الجميع والاشتراكية كتراث نقدي وكمشروع تحرري تبقى مرجعية أساسية لكنها يجب أن تتجدد وتتفتح على الحكمة الإنسانية المتنوعة المستقبل لا يحمل اسماً جاهزاً إنه مشروع مفتوح يحتاج إلى خيال جريء وإلى إرادة سياسية وإلى نضال يومي إنها معركة مصيرية بين قوى تريد أن تحول العالم إلى سلعة وبين قوى تريد أن تحوله إلى وطن إنساني مشترك
#حيدر_صادق_صاحب (هاشتاغ)
Haider_Sadeq_Sahib#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟