حيدر صادق صاحب
كاتب وشاعر شعبي
(Haider Sadeq Sahib)
الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 16:45
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بعد مسار طويل من البحث والتحليل، يبدو واضحاً أن فهم ظاهرة الفرد العراقي في تحولاته الجذرية من ذات مدنية ضمن مشروع دولة وطنية حديثة إلى كيان مجزأ في فضاء هوياتي متصارع يتطلب أكثر من المناهج السوسيولوجية التقليدية. نحن بحاجة إلى مقاربة أنثروبولوجية فلسفية تعيد تعريف الإنسان العراقي ليس كموضوع للدراسة بل كظاهرة وجودية معقدة، حيث تتداخل طبقات التاريخ والجغرافيا والذاكرة والصراع في تشكيل هوية متعددة الأبعاد ومتناقضة أحياناً. هذا البحث يحاول الغوص إلى أعماق النفس العراقية والبنى التحتية للوعي الجمعي العراقي عبر مقاربة متعددة التخصصات تجمع بين الفلسفة الوجودية والسوسيولوجيا النقدية والتحليل النفسي الجمعي وعلم اجتماع الكوارث والأنثروبولوجيا الحضرية. .
لنبدأ من سؤال جوهري: ما هي الذات العراقية؟ هل يمكن الحديث عن ذات واحدة أم أننا أمام تعددية للذوات داخل الفرد الواحد؟ يبدو أن الفرد العراقي يحمل في داخله ما يشبه "المتحف الوجودي" حيث تتعايش وتتصارع هويات متعددة: هوية وارث الحضارات السومرية والبابلية والآشورية، هوية المسلم العروبي أو الكردي أو التركماني أو المسيحي أو الإيزيدي أو الصابئي، هوية المواطن في الدولة الحديثة، هوية المنتمي للعشيرة أو الطائفة، هوية الضحية في حروب متتالية، هوية المقاوم أو الناجي أو المهاجر. هذه التعددية الداخلية ليست بالضرورة مرضية أو مفككة، بل يمكن أن تكون مصدر ثراء وجودي إذا ما تمت إدارتها ضمن إطار موحد. لكن المشكلة العراقية تكمن في أن هذه الهويات لم تتعايش بشكل انسجامي بل دخلت في صراع داخلي وخارجي، حيث حاولت كل نظام سياسي قمع بعضها وإبراز البعض الآخر، مما خلق ما يمكن تسميته "انفصام الهوية المؤسسي".
من منظور تاريخي طويل المدى، يمكن القول إن العراق عاش تحولاً جذرياً من "مجتمع الأمّة" في العصر الإسلامي الوسيط حيث كانت الهوية الدينية الإسلامية هي الإطار الجامع مع الاعتراف بالأقليات الدينية ضمن نظام الذمة، إلى "مجتمع الطوائف" في العصر العثماني حيث تم ترسيخ الانقسامات الطائفية والإثنية لأغراض إدارية وسياسية، إلى محاولة بناء "مجتمع المواطنة" في العصر الحديث الذي بدأ مع تأسيس الدولة العراقية عام 1921. لكن هذه المحاولة الأخيرة واجهت إشكاليات بنيوية عميقة، لأنها حاولت بناء هوية وطنية فوقية دون معالجة جذرية للانقسامات التحتية، بل أحياناً باستغلالها وتوظيفها سياسياً.
في العهد الملكي، حاولت النخبة الحاكمة بناء هوية عراقية حديثة عبر نظام تعليمي موحد وخدمة عسكرية إجبارية وترويج سردية وطنية تجمع بين الفخر بالتاريخ القديم والانتماء للدولة الحديثة. لكن هذه المحاولة كانت نخبوية ولم تلامس عمق المجتمع، بل احتفظت بتحالفات مع شيوخ العشائر ورجال الدين، مما خلق ازدواجية في النظام الاجتماعي. الفرد العراقي في تلك المرحلة كان يعيش انقساماً بين هويته الرسمية كمواطن عراقي وهويته الواقعية كعضو في عشيرة أو طائفة أو جماعة إثنية.
التحول الكبير حدث مع صعود الدولة الريعية القوية بعد ثورة 1958 وتأميم النفط عام 1972. هنا بدأ مشروع طموح لبناء "المواطن الحديث" عبر توسيع التعليم المجاني والخدمات الصحية والسكن الاجتماعي والتوظيف الحكومي. كانت هذه الفترة (العقدان السبعانيات والثمانينيات) هي العصر الذهبي للطبقة الوسطى العراقية، حيث شهدت البلاد نمواً غير مسبوق في أعداد المتعلمين والمهنيين والفنانين. الفرد العراقي في هذه المرحلة بدأ يشعر بانتماء حقيقي للدولة التي وفرت له الخدمات والفرص، وبدأت الهويات الأولية تتراجع لصالح الهوية الوطنية. لكن هذا المشروع كان يعاني من عيوب بنيوية خطيرة: أولاً، كان مشروعاً شمولياً فرض هوية موحدة من فوق دون احترام كافي للتنوع الثقافي والديني والإثني. ثانياً، كان مشروعاً قمعياً سياسياً، حيث لم يسمح بالتعددية الحزبية أو حرية التعبير. ثالثاً، كان مشروعاً ذكورياً إلى حد كبير، رغم تحسن وضع المرأة التعليمي والمهني، لكن في إطار هيمنة الذكورة السياسية والاجتماعية.
الحرب العراقية -الإيرانية (1980-1988) كانت نقطة تحول كارثية في هذا المسار. لم تكن مجرد حرب بين دولتين، بل كانت عملية تحويل جذرية للفرد العراقي من مواطن إلى جندي، ومن مدني إلى مقاتل. الدولة استخدمت الحرب كأداة لإعادة صياغة الهوية الوطنية على أسس عسكرية ووجودية، حيث صور النظام الحرب كصراع وجودي بين "العروبة" و"الفارسية"، بين "القومية" و"الطائفية". هذه العملية خلقت جيلاً من العراقيين عاشوا تجربة القتال والموت والدمار كجزء من تكوينهم النفسي والاجتماعي. كما عمقت الحرب الانقسام الطائفي، حيث صورت إيران على أنها تمثل "الخطر الشيعي"، بينما صور النظام العراقي نفسه على أنه حامي "السنة العرب". لكن في الواقع، كان الجنود العراقيون من جميع المكونات يقتلون ويُقتلون في هذه الحرب العبثية.
مرحلة الحصار الاقتصادي (1990-2003) كانت كارثة إنسانية وحضارية بكل المعايير. هنا شهد الفرد العراقي انهياراً كاملاً لعقد الدولة الاجتماعي. فالدولة التي وعدت بالرعاية والخدمات أصبحت عاجزة عن توفير أبسط مقومات الحياة. هذا الانهيار قاد إلى تحولات عميقة في البنية الاجتماعية والنفسية للفرد العراقي: أولاً، انهيار الطبقة الوسطى التي كانت عماد الدولة الحديثة، حيث تحول أطباء ومهندسون وأساتذة جامعات إلى باعة متجولين أو مهاجرين. ثانياً، عودة الهويات الأولية بقوة كشبكات أمان بديلة عن الدولة المنهارة، حيث عادت العشيرة والطائفة لتوفر الحماية والرزق في غياب الدولة. ثالثاً، انتشار الفقر والمرض وسوء التغذية، مما أثر على البنية الجسدية والنفسية لجيل كامل من الأطفال الذين نشأوا في ظل الحصار. رابعاً، تآكل القيم المدنية وانتشار قيم البقاء بأي ثمن، حيث تحول الفساد من ظاهرة استثنائية إلى طريقة حياة للتعامل مع شح الموارد.
الغزو الأمريكي عام 2003 وما تلاه من احتلال كان الصدمة الأكثر عنفاً في تاريخ العراق الحديث. هنا لم ينهار النظام السياسي فقط، بل انهارت الدولة بكل مؤسساتها: الجيش والشرطة والجهاز الإداري والنظام التعليمي والصحي. هذا الانهيار الشامل خلق فراغاً وجودياً هائلاً، ملأته قوى متنافسة: الأحزاب السياسية الطائفية، الميليشيات المسلحة، الجماعات الجهادية، العشائر، المنظمات الإجرامية. الفرد العراقي وجد نفسه فجأة بلا دولة تحميه، بلا قانون ينظم حياته، بلا أمن يضمن سلامته. في هذا الفراغ، عادت الهويات الأولية بقوة، ليس كخيار ثقافي بل كضرورة وجودية. الطائفة والعشيرة أصبحتا مصدر الحماية والرزق في عالم مفكك وخطير.
لكن عملية "الطائفنة" لم تكن عفوية أو طبيعية، بل كانت مشروعاً سياسياً ممنهجاً. فالنظام السياسي الذي تأسس بعد 2003 قام على أساس المحاصصة الطائفية والإثنية، حيث تم توزيع المناصب والموارد حسب الانتماء الطائفي أو القومي وليس الكفاءة أو الجدارة. هذا النظام خلق حوافز مادية وسياسية قوية للانتماء الطائفي، حيث أصبحت الهوية الطائفية "رأس مال رمزياً" يمكن تحويله إلى منافع مادية: وظيفة، عقد، ترخيص، حصة في الموازنة. وهكذا تحولت الطائفية من هوية ثقافية إلى هوية مصلحية، مما أعطاها ديمومة وقوة أمام أي محاولة للإصلاح.
العنف الطائفي الذي بلغ ذروته عام 2006-2008 كان تجسيداً دراماتيكياً لهذا التحول. لم يكن عنفاً عشوائياً بل كان عنفاً تأسيسياً يهدف إلى إعادة رسم الخريطة الديموغرافية والهوياتية للعراق. عبر التطهير الطائفي للمناطق المختلطة، تم خلق "غيتوات" طائفية نقية، حيث يصبح التعايش مستحيلاً. هذا العنف لم يقتل الأبرياء فحسب، بل قتل فكرة العراق الموحد، وقتل ثقافة التعايش التي كانت سائدة في العديد من المناطق، وقتل الثقة بين المكونات المختلفة. الأجيال التي نشأت خلال هذه الفترة تربت على الخوف من الآخر المختلف، على الشك فيه، على كراهيته أحياناً. هذا هو الإرث الأكثر خطورة للعنف الطائفي: تشويه النفسية العراقية وتدمير الرأسمال الاجتماعي الذي كان يربط المجتمع.
صعود داعش عام 2014 كان فصلاً جديداً من المأساة العراقية. هنا واجه الفرد العراقي شكلاً جديداً من العنف: العنف التكفيري الذي لا يعترف بأي هوية إلا هويته الضيقة. داعش لم تستهدف "الآخر" الديني أو الطائفي فقط، بل استهدفت أيضاً "الآخر" داخل نفس المكون، أي المسلمين السنة الذين يرفضون تفسيرها المتطرف للإسلام. هذا العنف الشمولي خلق تحالفات غير متوقعة، حيث وجد السنة أنفسهم بين مطرقة داعش وسندان الميليشيات الشيعية. كما أعاد داعش إنتاج خطابات الهوية القديمة بطرق جديدة، حيث قدمت نفسها كمدافعة عن "السنة المضطهدين" في العراق، بينما صورت الميليشيات الشيعية نفسها كمدافعة عن "المذهب الشيعي" ضد "التكفيريين".
من منظور سوسيولوجيا الجسد، يمكن تحليل تأثير هذه التحولات على الجسد العراقي. فالجسد العراقي لم يعد مجرد جسد فردي، بل أصبح جسداً سياسياً وطائفياً وإثنياً. الجسد الشيعي ليس كالجسد السني، والجسد الكردي ليس كالجسد العربي، والجسد الإيزيدي ليس كالجسد المسيحي. هذا التجسيد للهويات خلق أنماطاً مختلفة من العنف تجاه الأجساد المختلفة: الاختطاف، التعذيب، الاغتصاب، التفجير، الذبح. الجسد العراقي أصبح ساحة للصراع الهوياتي، وأداة للترهيب والانتقام، ورمزاً للهيمنة. لكن في المقابل، ظهرت أشكال من مقاومة الجسد، حيث تحول الجسد إلى أداة للاحتجاج والتضامن، كما في المظاهرات السلمية حيث يعرض المتظاهرون أجسادهم للعنف دون رد عنيف.
من منظور سوسيولوجيا المكان، شهدت المدن العراقية تحولات دراماتيكية. بغداد التي كانت مدينة التعايش والتنوع أصبحت مدينة الجدران العالية والمناطق المحاصرة. الخريطة الحضرية أعيد رسمها على أسس طائفية، حيث أصبح الانتقال من منطقة إلى أخرى مغامرة محفوفة بالمخاطر. هذا الفصل المكاني عزز الفصل الاجتماعي، حيث فقد العراقيون فرص التفاعل اليومي مع المختلف، مما سمح للصور النمطية والتحيزات بالنمو دون رادع. كما تحولت المدن إلى سجلات حية للعنف، حيث أصبحت الجدران المحروقة والمباني المدمرة والشواهد القبورية جزءاً من المشهد الحضري، تذكر الأحياء باستمرار بفظائع الماضي.
الاقتصاد السياسي للهوية في العراق يشكل نموذجاً فريداً من "رأسمالية المحاصصة". في هذا النظام، تتحول الهوية الطائفية أو القومية إلى "وسيلة إنتاج" يمكن من خلالها الحصول على فرص اقتصادية. النظام السياسي القائم على المحاصصة يوزع الموارد (النفط أساساً) على المكونات السياسية حسب وزنها الانتخابي والديموغرافي، وهذه المكونات بدورها توزعها على أنصارها عبر شبكات الزبائنية. هذه الآلية تقتل الإنتاجية والابتكار، لأن النجاح الاقتصادي لا يعتمد على الجدارة بل على الولاء. كما تخلق اقتصاداً طفيلياً يعتمد على الاستيراد والسمسرة والعمولات بدلاً من الإنتاج والتصنيع. الفرد العراقي في هذا النظام إما أن ينخرط في شبكات المحاصصة ويصبح جزءاً من النظام الفاسد، أو يبقى على هامش الاقتصاد ويعاني من الفقر والبطالة.
من منظور التحليل النفسي-الاجتماعي، يعيش الفرد العراقي حالة من "الصدمة التاريخية المتراكمة". هذه ليست صدمة واحدة بل سلسلة من الصدمات المتتالية: صدمة الحرب مع إيران، صدمة غزو الكويت والعقوبات، صدمة الاحتلال، صدمة العنف الطائفي، صدمة داعش. كل صدمة تترك آثارها النفسية: القلق، الاكتئاب، انعدام الثقة، الخوف، الشك المرضي. لكن الأكثر خطورة هو أن هذه الصدمات لم تعالج، بل تم قمعها أو تهميشها في ثقافة تفتقر إلى الوعي بالصحة النفسية. هذا أدى إلى انتشار "الصدمة بين الأجيال"، حيث تنقل الآثار النفسية للصدمة من جيل إلى جيل عبر التربية والأسرة. الأطفال الذين نشأوا في بيئات عنيفة يعانون من اضطرابات نفسية قد تنعكس على سلوكهم الاجتماعي والأكاديمي، مما يخلق حلقة مفرغة من العنف والاضطراب.
الدين في العراق تحول من نظام عقائدي وقيمي إلى هوية سياسية وأداة للصراع. لكن هذه الصورة الأحادية تحتاج إلى تفكيك. ففي الواقع، هناك تيارات دينية متعددة في العراق: هناك التدين التقليدي غير السياسي، التدين السياسي الحزبي، التدين الصوفي، التدين التجديدي النقدي، التدين الشعبي، وحتى اللادينية المضمرة خاصة بين الشباب. كل هذه التيارات تتصارع على تعريف "الدين الصحيح" وعلاقته بالدولة والمجتمع. لكن هيمنة الخطاب الطائفي والسياسي على الدين أفقد الدين دوره كقوة توحيدية وأخلاقية، وحوله إلى أداة تقسيم وتفكيك. في المقابل، ظهرت حركات دينية تدعو إلى تجاوز الطائفية وإعادة الروح الإنسانية والأخلاقية للدين، لكنها لا تزال هامشية في مواجهة الخطابات المهيمنة.
المرأة العراقية عاشت تحولات دراماتيكية معقدة. من ناحية، شهدت تراجعاً كبيراً في حريتها وحقوقها بسبب صعود الإسلام السياسي وتأثير العشيرة. قوانين الأحوال الشخصية أصبحت أكثر تشدداً، والعنف الأسري منتشر، والتمييز في سوق العمل حاد. لكن من ناحية أخرى، اضطرت المرأة لتحمل أعباء إضافية كمعيلة للأسرة في غياب الرجل بسبب الحروب والعنف. كما برزت نساء في المجال العام كسياسيات وناشطات ومدافعات عن حقوق الإنسان. هذا التناقض بين التقييد والتهميش من جهة والتمكين القسري من جهة أخرى خلق وضعاً معقداً للمرأة العراقية، حيث تعيش حالة من "المواطنة الناقصة": لها حقوق سياسية شكلية (مقاعد في البرلمان) لكنها محرومة من حقوق أساسية في الحياة الشخصية والعائلية.
الشباب العراقي يمثل جيلاً ضائعاً بين مطرقة الماضي وسندان المستقبل. نشأ هذا الجيل في ظل العنف وعدم الاستقرار، وعانى من نظام تعليمي منهار، وواجه مستقبلاً بلا فرص عمل. لكن في نفس الوقت، هذا الجيل هو الأكثر تعليماً والأكثر اتصالاً بالعالم عبر الإنترنت، والأكثر تطلعاً للتغيير. الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت عام 2019 كانت تعبيراً عن تمرد هذا الجيل على النظام السياسي القائم برمته. لم تكن احتجاجات طائفية أو إثنية، بل كانت احتجاجات وطنية ترفع شعارات "نريد وطناً". لكن قمع هذه الاحتجاجات بعنف أظهر حدود التغيير السلمي في نظام يعتمد على القوة والعنف للحفاظ على نفسه.
من منظور مستقبلي، يبقى السؤال: هل يمكن إعادة بناء الفرد العراقي والاجتماع العراقي بعد كل هذا الدمار؟ الإجابة معقدة لكنها ليست مستحيلة. إعادة البناء تتطلب مشروعاً متكاملاً على عدة مستويات: أولاً، مستوى المصالحة الوطنية الحقيقية التي تعترف بجميع ضحايا العنف وتضمن العدالة الانتقالية. ثانياً، مستوى إصلاح النظام السياسي للتخلص من المحاصصة وبناء دولة المواطنة المتساوية. ثالثاً، مستوى إعادة بناء الاقتصاد ليكون إنتاجياً يوفر فرص العمل للشباب. رابعاً، مستوى إصلاح النظام التعليمي ليعلم قيم التسامح والمواطنة. خامساً، مستوى العناية بالصحة النفسية لمعالجة آثار الصدمات المتراكمة.
لكن الأهم من كل هذا هو إعادة بناء الثقة: ثقة الفرد بالدولة، ثقة المواطن بالمؤسسات، ثقة المكونات المختلفة ببعضها البعض. هذه الثقة التي دمرت عبر عقود من الخيانة والعنف تحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير لاستعادتها. ربما يكون الفن والأدب هما المدخل الأهم لإعادة بناء هذه الثقة، فمن خلال القصة والرواية والشعر والسينما يمكن إعادة اكتشاف الإنسانية المشتركة، يمكن تجاوز الخطابات الطائفية إلى الخطاب الإنساني، يمكن استعادة الذاكرة الجمعية بكل تعقيداتها وتناقضاتها.
الفرد العراقي، رغم كل المعاناة، يبقى حاملاً لإرث إنساني عظيم. تاريخ العراق علمنا أن الحضارات قد تتعرض لانتكاسات كبيرة، لكنها تحمل في داخلها بذور النهوض مجدداً. المهمة الآن هي تحويل هذه البذور إلى شجرة قوية قادرة على الاستمرار، عبر مشروع وطني جامع يعيد الاعتبار للفرد العراقي كمواطن له كرامته وحقوقه، لا كرقم في معادلات المحاصصة أو وقوداً في صراعات الآخرين. هذا المشروع ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وجهداً ثقافياً طويل الأمد، ودعماً دولياً حقيقياً لا يتدخل في الشؤون الداخلية بل يساعد العراقيين على بناء دولتهم بأنفسهم.
في النهاية، مصير الفرد العراقي مرتبط بمصير العراق ككل، ومصير العراق مرتبط بإرادة أبنائه في بناء مستقبل أفضل. رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، والخطوة الأولى هي الاعتراف بالكارثة ثم الشروع في معالجتها بجدية وإخلاص. العراق يستحق أن يعود من جديد، والفرد العراقي يستحق أن يحيا بكرادة وأمان في وطنه. هذه ليست أمنية رومانسية بل ضرورة وجودية لإنسان عانى كثيراً وانتظر طويلاً ليحقق حلمه البسيط في العيش الكريم تحت سماء وطنه.
((15 تشرين الثاني 2025))
#حيدر_صادق_صاحب (هاشتاغ)
Haider_Sadeq_Sahib#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟