|
|
الكتابة في رواية -عائشة تنزل إلى العالم السفلي- بثينة العيسى
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 00:20
المحور:
الادب والفن
تتحدث الرواية عن "عائشة" التي فقدت ولدها "عزيز" حيث كان يعاني من إعاقة فكان هزيلا لا يقدر أن: "يتحرك، لا يعرف كيف يأكل الخضار والفواكه الهروسة، ولا يرضع، وإذا رضع فإنه يتقيأ كل شيء خلال دقائق" ص56، وبما أنها فقدته وهو قريب منها، وكان يمكنها تلافي حادث الدهس الذي تعرض له، مما جعلها تحمل نفسها سبب فقدانه، فقدانها له، وفقدانه لنفسه، وهذا انعكس على نفستها، وجعلها تعذب/ تجلد نفسها: "أريد لثيابي أن تخصب برائحة جلدك، يا ولدي" ص42، وتحملها أكثر مما يجيب: "لقد أخطأت بحقك يا ولدي، وكان خطئي الأكبر أنني أنجبتك لأسباب أنانية، وشائهة، أنجبتك ليس رغبة فيك بقدر ما هي رغبة بجعل حياتي الفارغة أسهل وأخف وطأة، انجبتك لأنني كنت بائسة وجبانة" ص43، وهذا ما جعل الأحداث مثيرة، أم تجلد نفسها وتحاول من خلال هذا الجلد ان تقتص لفقيدها، تقتص لنفسها من نفسها، فمأساتها حولتها إلى امرأة مازوشية تتعامل مع العذاب على أنه وسيلة لخلاصها من الخطيئة التي اقترفتها. لكنها من خلال الكتابة تبدأت باستعادة عافيتها، فتكتشف أنها ضحية كحال عزيز: "بلغت ذنوبي مبلغها عندما بدأت أشعر في داخلي بأنني ضحية بقدر ما هو ضحيتي" ص60، وهنا تُقدم على خطوة أخرى، فتتمرد على "عدنان" زوجها الذي اعتبرته خصما لها، فهو الذي اشتراها بصك بيع: "لا يستطيع أن يعرفني، إلا بعد أن يكتب الكتاب، ويوقع عقد التمليك ويتم تسليم الصداق" ص36، من هنا، بعد أن تحررت قليلا من وقع الحدث عليها، استعادت توازنها وحقيقية كونها ملكا لعدنان، فتتمرد على هذه الملكية، وترفض حتى أن يعانقها: "من تظن نفسك؟ بعد كل هذه السنوات تقرر فجأة أن تجيء وتعطي نفسك الحق بأن تحتضنني، بأن تمسك بي على هذا النحو، تعطي نفسك الحق بأن تكون رجلي" ص101، وهنا يتماثل حال "عائشة" مع إنانا1/عشتار التي سلمت حبيبها "تموزي" لشياطبن العالم السفلي، ونلاحظ أن "عائشة" تستخدم عنصر تخيف آخر يتمثل في التمرد، وهذا ما ساعدها على تحررها وتجاوزها فقدان "عزيز" ومن ثم عبروها إلى العالم السفلي بحرية مطلقة، ودون أية قيود: "الزواج رباط، الرباط قيد، القيد حجاب، الحجاب عماء" ص222، إذن الكتابة والتمرد هما الوسيلة التي حررت عائشة من مأساتها وأوصلتها إلى بر الأمان، بعيد عن وقع الفقدان وما فيه من ألم ووجع. العنوان عندما يأتي العنوان "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" جامعا بين الحاضر/ الواقع وبين الماضي/ الأسطوري فهذا يشير عمق المأساة/ الألم الذي تمر به السارد/ة، ونلاحظ التغريب في "تنزل" وليس نزول عائشة، مما يجعل الواقع يغلب ما هو أسطوري، حيث استخدمت "عائشة" الأسطورة كوسيلة تعبر بها عن معاناتها كأم وكزوجة. ونلاحظ أن الساردة أعطت مأساتها بعدا مقدسا من خلال تركيزها على الرقمين سبعة وثلاثة، حيث نجدها تتجاوز ذكر الرقمين إلى تكرارها ألفاظ ثلاث مرات، وهذا يقودنا إلى أنها تكتب مأساتها من خلال العقل الباطن: "هل كانت تلك فعلا صفعات أوجهها إلى خدي؟ هل كنت أضرب نفسي؟ تعال يا عزيز سوف أضرب أمك ضربا مبرحا، قاسيا، سوف أعلقها من قدميها وأضربها وأضربها وأضربها حتى تلفظ قلبها المخروم من فهما، سوف أجلدها بالسوط وأقطعها بالساطور، وأطعمها لأسماك القرش، تعال يا ولدي قبل أن أقتلني فعلا... تعال يا حبيبي، تعال يا عزيز، لم أقصد والله لم أقصد أن أخيفك، إذا كنت تحب أمك فلن أضربها، لن لأوذيها.. إذا كنت تسامح أمك سأسامحها أنا أيضا وأقبلها بين عينيها وأقول لها هنيئا لك يا عائشة، تعال يا عزيز فأمك لم تقصد أن لا تلتفت في لك اليوم، لم تقد أن تتمنى موتك لم تقصد أن تكفر بأمومتها، لم تقصد أن تسمح لموتك بأن يحدث بهذا الشكل... تعال يا ولدي رحمة بي" ص182، نلاحظ تكرار وتتابع لفظ "وأضربها" ثلاثة مرات، ونلاحظ وجود ثلاثة أفعال "أجلدها، وأقطعها، وأطعمها" وهذه يشير إلى إحساسها بعمق الألم الذي تمر به، كما نجد تخاطب "عزيز" بثلاثة أصوات: " ولدي، يا حبيبي، عبد العزيز" وهذا يقودنا إلى عمق الأمومة التي تفجرت في "عائشة" مما جعلها تستعيض عن إهمالها بألفاظ متعلقة بكونها أم تحب أبنها، ونلاحظ أنها تتعامل مع نفسها بصيغة ضمير الغائب "لم تقصد" فبدت وكأنها لم تعد تحتمل المزيد من الألم مما جعلها تبعد نفسها من المشهد وتتناوله من الخارج من خلال صيغة أنت المخاطب. يمكننا تفسير هذا الاستخدام من خلال قولها: "عندما أحس بالألم، أو بالحزن، عندما أحس بالفرح، أو بالشوق، أو بالحب، أو بالكره، عندما أحس بشيء ما فأنا أطلق في الخلاء أغنية" ص211، فالساردة تكشف/ تعترف أنها في حالة الألم تلجأ إلى الأغنية/ التكرار لتعبر عما فيها، لتخرج/ لتتحرر من الألم، ما تمر / تحس /تشعر به. الكتابة والكاتبة/ الساردة عناصر الفرح/ التخفيف التي يلجأ إليها الأديب تتمثل في المرأة/ الرجل، الكتابة/ الفن، الطبيعة، التمرد/ الثورة، وبما أننا أمام أم مفجوعة بولدها، وهذا يكفي لتستخدم أحد عناصر الفرح/ التخفيف لتستطيع تجاوز مأساتها، في بدابة المأساة جاءت الكتابة تتماثل مع حال الساردة في بؤسها، فبدت هزيلة/ متعبة/ مرهقة: "لقد قررت أن تكون أيامي الأخيرة على هذه الشاكلة، أقصد: على شاكلة الكتابة، الكلمة "كائن هش ومتهافت، إنها تشبهني، وأنا .. في أيامي الأخيرة" ص13، نلاحظ حالة التوحد بين الكتابة والكاتبة التي تريد أن تكون أداتها/ وسيلتها مشابهة لها تماما. وفي حالة أخرى نجدها تتعامل مع الكتابة كوسيلة/ كأداة انتحار: "أكتب لأغرق، أغرق لأموت...أكتب موتي، غرقي" ص16، وهذا الاستخدام السلبي متعلق بيأس الساردة من استعادة فقيدها "عزيز" فأرادت أن تكون الكتابة أداتها للذهاب إلى العالم السفلي. وتجعل فعل الكتابة مقدسا من خلال: "ينبغي أن أكتب كل شيء في سبعة أيام، قبل أن يبتلعني الثقب العظيم" ص23، وهذا الاستخدام له علاقة بالعنوان، العالم السفلي الذي تتحكم به "إيرشكيجال" لكن، إذا ما أذا انتهت الساردة إلى العالم السفلي قبل إتمام الكتابة ستفقد ما نذرت نفسها لأجله، ابنها "عزيز" من هنا نجدها تستعيد دور الكتابة بطريقة عقلية وطبيعية: "أنا منذورة للكتابة، مصطفاة من أجلها، وأكتب وكأن قلبي محبرة" ص33، اللافت في هذا المقطع تأكدها لدور الكتابة كعنصر تخفيف، دورها في زوال بها الألم/ الحزن، فالكتابة تجعل مستخدمها يعيش حالة طبيعية/ سوية، وهذا هو المبرر لوجود رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي". حية بين أيدنا. تتجلى الساردة مع الكتابة حتى أنها أصبحت وسيلة تسلية بالنسبة بها: "أنت تلعبين بالكلمات، الكتابة لعبتك" ص189، وبهذا تكون قد وصلت ذروة التحرر من مأساتها، فالكتابة نقلتها من المأساة إلى التمتع، إلى العبث، تحاور نفسها، وتستعيد ماضيها، وكيف أنها أقدمت على الكتابة لتدون مأساتها وتبقيها حية/ حاضرة فيها وفيمن يقرأ كلماتها/ روايتها: "اخلعي عنك تلك التي تحبين: الكتابة ذريها وراءك وامضي من غير حروفك...دعي الكتابة تتسرب من مسام روحك واشهدي بنفسك على انحلالها، يصيح بعضي ببعضي: كيف أخلع الكتابة عني؟ أنا الكاتبة ولا أكون إلا من خلالها" ص222و223، إذن الكتابة وسيلة الكاتبة/ الساردة لتكون كاتبة/ أديبة ودونها تمسي امرأة عادية، لا تختلف عن بقية النساء، لذا رفضت التخلي/ التنازل عن أداتها التي بها قدمت لنا مأساتها ومأساة حبيبها "عزيز". السرد جاءت الرواية بصيغة أنا الساردة، لكن أحيانا وجدناها تستخدم أنت المخاطب التي بها حاولت التخفيف على نفسها من وطأت الفقدان، فرغم أن صيغة أنت المخاطب كانت محدودة وفي مواضع خاصة، إلا أنها أسهمت في إضافة/ إيصال فكرة الحدث للمتلقي، فكرة جنون الساردة وفقدانها لحالة الاتزان. وهذا يقودنا إلى أن مضمون/ فكرة الرواية والشكل الذي قدمت به يتآلفان/ ينسجمان لخدم الأحداث والطبيعة الشخصية التي سردت الرواية. الرواية من منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، بيروت، الطبعة الرابعة عشرة 2017.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجموعة الأقدام تكتب، سردية بين المحطات والذاكرة كمال أبو صقر
-
الشكل والمضمون في رواية -نساء الظل- خالد محمد صافي
-
الفلسطيني القومي في ديوان -رهين النكبات 5- أسامة مصاروة
-
التألق في قصيدة -من ركن بعيد- محمد أبو زريق
-
التألق في قصيدة -من ركن بعيد- محمد أبو زريق
-
غزة والشاعر في ديوان -دم دافئ فوق رمل الطريق- سميح محسن
-
الشكل والمضمون في مجموعة -دوي الصوت فيهم-
-
الإنجليز وفلسطين في رواية -قلادة ياسمين- عامر أنور سلطان
-
إنجازات فخر الدين المعني في كتاب -الدولة الدرزية- بيجيه دوسا
...
-
وقفة مع كتاب -نافذة على الرواية الفلسطينية وأدب الأسرى- للكا
...
-
التجديد في الديوان الجديد أقمار افتراضية في ليل يطول - هاينك
...
-
التمرد والعبث في كتاب -فرناندو بيسوا- كميل أبو حنيش
-
رواية سعادة الأسرة ليو تولستوي، ترجمة مختار الوكيل
-
الإقطاع والاشتراكية في -قصص الدون- ميخائيل شولوخوف، ترجمة عب
...
-
الاجتماعي والسياسي في رواية -أنا يوسف يا أبي- باسم الزعبي
-
الأيديولوجيا في رواية عبر الشريعة بسام أبو غزالة
-
كتاب -غزة ليست فقط قصة حب أخرى- حسن يافا
-
كتاب -النزعة الصوفية والتأملية في شعر منذر يحيى عيسى- عبير خ
...
-
الحواس في -يسافر همسك- وفاء كامل
-
القتامة في -ما الملجأ؟- شيماء عبده
المزيد.....
-
-البعض لا يتغيرون مهما حاولت-.. تدوينة للفنان محمد صبحي بعد
...
-
زينة زجاجية بلغارية من إبداع فنانين من ذوي الاحتياجات الخاصة
...
-
إطلاق مؤشر الإيسيسكو للذكاء الاصطناعي في العالم الإسلامي
-
مهرجان كرامة السينمائي يعيد قضية الطفلة هند رجب إلى الواجهة
...
-
هند رجب.. من صوت طفلة إلى رسالة سينمائية في مهرجان كرامة
-
الإعلان عن الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي
...
-
تتويج الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
-
-ضايل عنا عرض- يحصد جائزتين في مهرجان روما الدولي للأفلام ال
...
-
فنانون سوريون يحيون ذكرى التحرير الأولى برسائل مؤثرة على موا
...
-
-تاريخ العطش- لزهير أبو شايب.. عزلة الكائن والظمأ الكوني
المزيد.....
-
مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
المزيد.....
|