أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - أبنة الضوء والصفعة















المزيد.....

أبنة الضوء والصفعة


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8548 - 2025 / 12 / 6 - 16:09
المحور: الادب والفن
    


​لم تكن الدكتورة آمال الساعدي إلا ابنةَ الضوء، تربّت في كنف العلم، وارتدت معطفها الأبيض كما ترتدي الروحُ نورًا يدرأ عنها غبار الحياة. كانت بغداد، بمآذنها وأزقتها وليلها الذي يلمع فوق دجلة، تنظر إليها كابنةٍ من بناتها، تمشي بثقةٍ بين الناس، تُضمد أوجاعهم، وتمنح صوتها للضعفاء منهم. كانت حياتها خيطًا حريريًا من النظام واليقين.
​حتى جاء مساءٌ لم تكن السماء فيه صافيةً على قدر ما كانت متربّصة.
​على جسر الجادرية، حيث يمتزج وهج السيارات بظلّ الماء الداكن، وقع احتكاك صغير بين سيارتها ورجلٍ يضع عطرًا أثقل من اسمه… كاظم سامي. حادثٌ يُغسل باعتذارين سريعين وابتسامة مهذبة، وظنّت آمال أن الصفحة طُويت.
​لكن القدر، يا صاحبي، لا يكتب على ورق بل على الروح.
​بعد يومين، وجدت آمال نفسها واقفةً في مركز شرطة الكرادة. لم تكن الصدمة في مكانها، بل في الكلمات التي تدور حولها كبقعة زيت: مبلغ مفقود، سرقة، اتهام صريح. كانت تتلفت كمن يبحث عن المنطق بين الوجوه، لكن لم يمدّ لها أحدٌ خيط فهم.
​المحقق، بنظراته الفاحصة، كان يرى فيها قصة محتملة، لا دكتورة فاضلة. كل جملة تنطق بها لتدافع عن نفسها كانت تُقرأ كبند ضعيف في قائمة اتهام طويلة. شعرت آمال بالبرد يتسرّب إلى عظامها وهي تتذكر وجه كاظم ، كيف كانت عيناه تلمعان للحظة بخبثٍ لم تفهمه حينها. خرجت من المركز والمدينة من حولها بدأت تفقد ألوانها.
​ولم يكن الخذلان الأكبر من المحققين، بل من المنزل.
​زوجها، الذي حسبته سندًا يميل إليه الجبل، مال وجهه نحو البرود. عندما سألته بعينين تائهتين ماذا سنفعل، لم يجب على السؤال بل على الخوف الذي سكنه. رفع يده بحركة تعب، ولم يلمسها. وقال جملةً انطفأت بها كلّ إشارات الأمان:
​"ما أتحمّل الناس تحچي… ابتعدي يا آمال. ولو قليلًا."
​وليس أشدّ من سقوط امرأةٍ نبيلةٍ من قلب زوجها، إلا سقوطها من قلب مدينتها. أدركت آمال أن سمعتها التي بنتها سنوات قد تحوّلت إلى قشرة زجاجية كسرتها مجرد همسة عابرة.
​في زمنٍ كهذا، حين تتكاثر الخناجر وتغيب الأكتاف، يجيء القدر بشخصٍ واحدٍ ليقف في صفّ الحقيقة.
​كان ذلك الشخص هو المحامي محمود حسن ، رجلٌ صقلته المحاكم حتى صار صوته أكثر اتّزانًا من مطرقة القاضي. لم يرَ في آمال امرأة مكسورة فحسب، بل رأى براءةً تُصارع ماءً عكرًا ومؤامرةً وضيحة، فقرّر أن يغوص في العمق.
​سافر محمود إلى البصرة، مستودع الأسرار القديمة. لم تكن رحلته سهلة، بل كانت رحلة تتبّع خيوط واهية في أقبية القمار ومقاهي الليل الرثة. اضطر أن يجلس مع وجوه لا تعرف النور، ويستمع إلى حكايات الديون والابتزاز التي لا تُكتب.
​هناك، في غرفة خلفية تفوح منها رائحة الدخان المرير، وبين دفاتر الديون الممزقة ولعنات الخاسرين، وجد اسم كاظم سامي محفورًا بخطّ الخيبة: مقامرٌ محترف، يغزل الكذب كما يغزل المدمن سلاسله. دفع محمود ثمنًا باهظًا ليعود إلى بغداد وهو يحمل اعترافًا شفويًا من أحد شركاء كاظم بأن الأخيرة كانت مؤامرة مدبرة. الحقيقة كانت معه، لكنها كانت حقيقةً تحتاج إلى اعتراف رسمي، والاعتراف يحتاج إلى معركة.
​آمال، وقد فُتِحت عليها أبواب القسوة كلّها، لم تعد تبحث عن تبرئة في قاعة المحكمة؛ فقد صار الشرف عندها أوسع من ورقة قاضٍ، وأعمق من توقيع. كانت تبحث عن وجهها الضائع.
​وفي ليلةٍ شعرت فيها بأن بغداد ضاقت عليها حتى صارت غرفةً بلا نافذة، شدّت حقيبة صغيرة وسافرت نحو الجنوب، نحو البصرة؛ المدينة التي يختبئ فيها الرجل الذي سرق حياتها قبل أن يتّهمها بسرقته.
​في شقته الصغيرة بمنطقة العشار، وقفت أمامه بثبات امرأةٍ لم يعد لديها ما تخسره. المكان كان مظلماً، كروحه.
​طلبت منه بصوت هادئ اعترافًا يعيد إليها ما تبقّى من وجهها، أن يعترف بكذبه للشرطة، لتغلق صفحة العار.
​ارتبك كاظم. راوغ. ثم ظهرت في عينيه شرارة الطمع ذاتها التي تُخيف الملائكة من البشر. عندما رفضت آمال أن تدفع له مبلغاً ليصمت، تبدّل ملامحه سريعًا، وصار كوحشٍ أُفرغ من صبره.
​قال بتهكّم قاس: "عودي إلى بغداد يا دكتورة. الناس تنسى، أما أنا فلن أذكرك إلا إذا دفعتِ."
​في تلك اللحظة، لم تعد آمال ترى أمامه مقامراً محتالاً، بل رأت كل الوجوه التي خذلتها، وجه زوجها ووجوه المدينة التي صفعتها. نظرت إليه بعينين صار فيهما اليأس قراراً، وقالت بنبرة قطعت حبال صبره الأخيرة:
​"أنت لم تسرق مالي يا كاظم. أنت سرقتِ حياتي وسمعتي. ولن أعود إلى مدينتي إلا عندما أرى ثمن هذا الشرف مدفوعاً."
​هذا التحدي الساطع كسيف في الظلام، دفع كاظم إلى الجنون. رفع كأسًا زجاجية ثقيلة. اقترب منها، خطوة... خطوتان. انفلت صراخه يملأ الغرفة، وهبّت الرغبة في افتراسها، في تدميرها الأخير.
​وفي اللحظة التي يتقدّم فيها الموت نحوها، وفي تلك اللحظة الحرجة التي غاب فيها التفكير الواعي وبقي فيها الإصرار على البقاء سيد الموقف…
​لم تفكر اليد، بل انقضّت غريزيًا.
​التقطت آمال قطعة معدنية ثقيلة كانت على طاولة قريبة، وضربته لتستنقذ ما تبقى من وجودها. كانت ضربة دفاع أخير... وقصاص مرير.
​فسقط على الأرض بلا تنهيدة، بلا صرخة… بلا رجوع.
​ساد صمتٌ يشبه قيام الليل قبل أن يؤذّن الفجر.
​كانت تفكر: كيف يمكن لامرأةٍ كانت تداوي الأرواح وتُرممها… أن تُضطر للدفاع عن روحها بهذا الشكل، وأن تكون هي القاتلة في النهاية؟
​قُيدت آمال، ودخلت زنزانةً ضيقة في التسفيرات، كأنها الحفرة الأخيرة التي أودعتها المدينة فيها. لم تبكِ، ولم تحتجّ، بل جلست قرب نافذة عالية لا تُطلّ إلا على جزء من السماء، جزءٍ بالكاد يكفي لإنقاذ قلبٍ واحد.
​كانت بغداد خارج الجدار، تضحك، وتبكي، وتنسى… ومع ذلك لم تنتبه أن إحدى بناتها تُكسر بصمت.
​وضعت آمال كفّها على صدرها وقالت كأنما تخاطب الله من وراء سبعة جدران، وهي تنظر إلى بقعة السماء الضيقة:
​"يا ربّ… إن كان الناس قد رشقوني بالطين، فلا تجعل الطين خاتمتي، بل طُهرًا أغتسل به وأخرج من ظلماتهم إلى نورك."
​وهكذا يا صاحبي،
لم يكن سقوط كاظم هو المأساة، بل كانت المأساة مدينةٌ كاملة رفعت يدها، وصفعت وجه امرأة بريئة... ثم مضت.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طفل أطفأته بغداد
- ميراث الريح
- أنسحاب الضوء
- على ضفة نهر العشار
- ظلّ عند بوابة الشقائق
- ظل سمر
- خطيئة السابع عشر
- الهروب .... وعودة الروح
- ريح الحنوب في قلب المستنصرية
- الظلّ الذي قتل الحُب
- غيلةُ الروح
- حين تعبر الريح مزرعة الحمّاد
- أنين الدار
- ​همسة الخلاص: الظل الثالث في السعدون
- الزهور التي تكذِب
- رسالةٌ وصلت متأخرة
- جراخ الازقة
- ذكرياتٌ من طُشّارِ العُمر
- بين السماء والأرض
- ذكريات راحلة


المزيد.....




- الأونروا تطالب بترجمة التأييد الدولي والسياسي لها إلى دعم حق ...
- أفراد من عائلة أم كلثوم يشيدون بفيلم -الست- بعد عرض خاص بمصر ...
- شاهد.. ماذا يعني استحواذ نتفليكس على وارنر بروذرز أحد أشهر ا ...
- حين كانت طرابلس الفيحاء هواءَ القاهرة
- زيد ديراني: رحلة فنان بين الفن والشهرة والذات
- نتفليكس تستحوذ على أعمال -وارنر براذرز- السينمائية ومنصات ال ...
- لورنس فيشبورن وحديث في مراكش عن روح السينما و-ماتريكس-
- انطلاق مهرجان البحر الأحمر السينمائي تحت شعار -في حب السينما ...
- رواية -مقعد أخير في الحافلة- لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام ...
- الخناجر الفضية في عُمان.. هوية السلطنة الثقافية


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - أبنة الضوء والصفعة