أحمد كامل ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 18:54
المحور:
الادب والفن
تسعى هذه الدراسة النقديّة إلى تحليل بنية الجدليّة المزدوجة (الغياب والحضور) في رواية "الخليفة - سرديّة بطعم سيرة ذاتيّة" للدكتور أحمد هيبي، وتحديد موقعها كنصّ مؤسس في الأدب الفلسطينيّ في الداخل. تنطلق الدراسة من فرضيّة أنّ الرواية تشكّل "كتابة مضادّة للتغييب"، إذ تعتمد على آليّة استعادة الذاكرة الفرديّة (موت الأخ الأول كغياب وجودي) لإعادة تشكيل الهويّة الجماعيّة المشظاة عقب نكبة 1948. يركّز التحليل على تفكيك أنساق الشخصيّات المركزيّة (الأب، الأمّ، الشيخ الأنصاري) بوصفهم تجسيداً لجيل الريف المفقود والذاكرة العابرة، وعلى تحليل توتّر العلاقة بين لغة البيت ولغة السلطة (العربيّة/العبريّة). وتخلص الدراسة إلى أنّ الرواية تتجاوز حدود السيرة التقليديّة لتصبح تركيبًا فنيًا يقوم على التشظّي المنظم، محولة الفقد إلى مادة سرديّة رفيعة، وناقلة بذلك جذوة الوعي من جيل إلى جيل، مما يجعلها وثيقة سرديّة لإنتاج ذاكرة جيل كامل.
يحتلّ الأدب الفلسطينيّ في الداخل موقعًا معرفيًا وجماليًا مركبًا، إذ يتشكّل في ظلّ ظروف سياسيّة وثقافيّة استثنائيّة أعقبت نكبة 1948. لقد وجد الفلسطينيّ الذي بقي داخل حدود الدولة الجديدة نفسه أمام مفارقة وجوديّة عميقة: البقاء في المكان مع خسارة التاريخ، والحفاظ على اللغة في بيئة تتطلب لغة أخرى، وصون الذاكرة في فضاء يجري فيه محو الواقع ونقله قسرًا إلى سرديّة رسميّة مضادّة. في ظلّ هذا الواقع، تحوّل الأدب الفلسطينيّ في الداخل إلى ممارسة استعادة، وإلى كتابة مضادّة للتغييب، وإلى شكل من أشكال المقاومة الثقافيّة التي تعلي من شأن الذاكرة بوصفها وعاء للهويّة. وتاريخ هذا الأدب منذ الخمسينيّات حتى اليوم يكشف تطورًا متدرجًا من الشعر المقاوم إلى السرد الروائيّ والسيريّ الذي يسعى إلى إعادة رسم الخرائط المفقودة، وإلى إحياء الأصوات التي انقطعت بانقطاع الزمن الفلسطينيّ.
وفي سياق هذه المقاومة السرديّة، وإذ تشكّلت الكتابة السرديّة الفلسطينيّة المعاصرة على ثلاثة محاور أساسيّة: المكان، الذاكرة، والهوية؛ فإنّ السيرة الذاتيّة الروائيّة تمثّل الإطار الأكثر قدرة على استيعاب الانكسار التاريخيّ الذي تعرّض له الفلسطينيّ في الداخل. ومن هذا المنطلق، نرى أنّ هذا النوع السرديّ يسمح بدمج الذاتيّ بالجمعيّ، وبربط التجربة الفرديّة بالمسار التاريخيّ الكليّ.
ومن هنا، تأتي أهميّة رواية "الخليفة- سرديّة بطعم سيرة ذاتية" للدكتور أحمد هيبي، التي لا تكتفي بكتابة الطفولة أو تسجيل أحداث الحياة، بل تقدّم سرديّة تعيد تشكيل الذات في ظلّ توتّر مستمر بين الفقد والحضور، وبين الماضي الذي يعود بإلحاح والحاضر الذي يتقدّم بصعوبة. وبالنظر إليها بعين ناقدة، نجد أنّ الرواية ليست سيرة، وليست حكاية واقعيّة بالمعنى الضيّق، بل هي تركيب جماليّ للذاكرة، تكتب من موقع الداخل لا من موقع المراقبة الخارجيّة، وتعيد بناء عالم الطفولة والقرية والمدينة واللغة بوصفها مكوّنات هويّة متشظّية.
إنّ المدخل النقديّ لتحليل هذه الجدليّة يبدأ من الغياب الأول، حيث لاحظنا أنّ الراوي يفتتح نصّه من لحظة خسارة سابقة لولادته: موت الأخ الأول. يقول الراوي: "كنت أخي بالفعل الذي مات، وسلبته اسمه وميلاده" (هيبي، ص. 6). وهذا التصريح المبكّر يضع القارئ أمام بنية سرديّة لا تقوم على الخطّ المستقيم، بل على الفجوة والغياب. فالطفل الذي يولد بديلًا عن آخر لا يبدأ حياته من الصفر، بل يبدأها مثقلًا بذاكرة ليست ذاكرته، ومطلوبًا منه أن يملأ فراغًا لا يمكن ملؤه. وفي موضع آخر يؤكّد هذا الانشطار بقوله: "أصبحت شخصين، أنا الذي أتكلم الآن، وأخي الذي أخذت مكانه" (هيبي، ص. 6). إنّ وجوده نفسه معاد تشكيله تحت ضغط غياب سابق، وهذا يجعل السرديّة كلّها قائمة على ثنائيّة الهويّة: هويّة معطاة بالقوّة، وهويّة تبنى بالفعل. وعند دراستنا لشخصيّات الرواية المحوريّة كأنساق اجتماعيّة، يقدّم النصّ صورة الأب بوصفه تجسيدًا لمرحلة كاملة من التاريخ الاجتماعيّ الفلسطينيّ: رجل يعمل في المقاثي، يتحكّم في دورة العمل الزراعيّ، يمارس السلطة الأبويّة الصارمة، لكنّه في الوقت ذاته رجل هشّ في عمق تكوينه. يظهر الأب أولًا في مشهد القوّة، عاملًا في الأرض، منكبًا على زرع البطيخ، وصامتًا في مواقفه الكبرى. ثم يقدّمه النصّ في مرحلة الشيخوخة حيث ينكشف ضعفه: "تمدّد فوق نقّالة من خشب، وصار أوهى من خُلد الزرع الذي كان يقتله" (هيبي، ص. 44). نرى أنّ هذه الصورة المركّبة بين القوّة والانكسار لا تمثل شخصًا واحدًا فقط، بل تمثّل جيلًا بكامله، جيلًا كان متماسكًا في بنيته الريفيّة، ثم فقد الإطار السياسيّ والاجتماعيّ الذي يحيط به. وبالمقابل، تظهر الأمّ من جهتها بوصفها قوّة حماية صامتة، لا تتدخّل في مجرى الأحداث الكبرى، لكنّها حاضرة كلّيًا في التفاصيل الصغيرة. في أحد المشاهد المركزيّة يقول الراوي: "كانت أمي تريد أن ترافقني إلى المدرسة، تخاف عليّ من وعورة الطريق ومن الأولاد الكبار" (هيبي، ص. 71). يمكننا القول إنّ الأم ليست سلطة، بل ملجأ؛ ليست نقيض الأب، بل مكمّلة لوظيفته في عالم فقد توازناته. ويقدّم السرد الأم بوصفها آخر صلة بين الطفل والعالم الآمن، قبل أن يدخل مراحل التبدّل والتشظّي.
وفي سياق علاقة الذات بالمكان، الذي يمثل حضور الهوية الجغرافيّ، تمثّل القرية المكان الأول لبناء الوعي، ولا يقدّمها الكاتب بوصفها فكرة رومانسيّة بل بوصفها فضاءً حيًا: مقاثي البطيخ، والورود البرية، والمخاوف الليلية، والطرق الوعرة، والبيادر، والتجار الذين ينتظرون "ولا يأتي إلا قليلًا" (هيبي، ص. 44). ومن أبرز المشاهد مشهد بيع البطيخ: "كنّا نبيع البطيخ أبي وأنا وسائق التندّر… وكنت أنادي على البطيخ بأعلى صوتي" (هيبي، ص. 54-55). هذا المشهد، وإن بدا بسيطًا، يحمل في انتباهته الأولى صورة الاقتصاد الريفي القائم على العمل والتعب والأمل القليل. وفي موضع آخر يقول الراوي واصفًا الليالي الريفيّة: "كنت أظنّ أنّ الحياة جميلة، مع رائحة الرياحين المنبعثة من الوادي… لولا أحداث أخرى مرّت بنا" (هيبي، ص. 53). يتضح لنا جليًا أنّ القرية ليست مجرّد مكان طفولة؛ إنّها البنية العميقة للهويّة قبل أن يبدأ الزمن في التبدّل. وتتكامل هذه البنية مع البعد الثقافيّ والأسطوريّ، حيث يتداخل البعد الشعبيّ والأسطوريّ في الرواية بطريقة تكشف الوعي الثقافيّ الذي تربّى فيه الطفل. يذكر الراوي كتب: شمس المعارف، والسحر الأحمر وحكايات الجنّ والخضر، ويصفها بأنّها "كتب مخبأة كأنها كنز مطمور" (هيبي، ص. 5). نرى أنّ هذا البعد الأسطوريّ ليس عنصرًا زخرفيًا، بل هو جزء من المنظومة الإدراكيّة للقرية. إنّه يمثّل الرؤية الشعبيّة للعالم قبل أن تدخل اللغة الحديثة، وهو بذلك يشكل قاعدة تأويليّة لجزء من شخصيّة الراوي.
ومع تقدّم أحداث الرواية، وفي مرحلة المواجهة مع لغة السلطة، تنتقل إلى مشهد المدرسة، حيث تتكشف العلاقة بين الطفل ولغة السلطة. ففي مشهد قراءة الرسالة العبريّة يقول: "معظم كلمات الرسالة غريبة… وبدت الأسطر متشابكة… حتى رأيت ارتباكي" (هيبي، ص. 148). ثم يأتي إنقاذ الجار الأكبر: "اقرأ الرسالة بصوت عال، وأنا أقول لك ما فيها" (هيبي، ص. 148). يمكن تحليل هذه اللحظة بوصفها لحظة تكوينيّة في وعي الطفل الفلسطينيّ داخل الداخل؛ إنّها تكشف التوتّر بين لغتين: لغة البيت "العربيّة"، ولغة الدولة "العبريّة". تتجسّد جدليّة "الحضور" الأكثر رمزيّة في شخصيّة الشيخ الأنصاريّ، حيث تبلغ الرواية نقطة التحوّل عندما يدخل الراوي مدينة طبريا ويلتقي الشيخ الأنصاريّ، الصيدليّ الذي بقي بعد تهجير أهل المدينة. يصف الراوي المدينة قائلاً: "تمّ تدمير الأحياء العربيّة، واختفى الطابع العربيّ الإسلاميّ لطبريا" (هيبي، ص. 123). نعتبر شخصيّة الشيخ الأنصاريّ من أكثر البنى السرديّة أهميّة في الرواية؛ فهو شاهد على زمن مُزال، ويمثل الذاكرة التي تحاول البقاء في مكان فقد وجوده العربيّ. يرتبط الراوي به بصورة تكاد تكون صوفيّة، وعندما يموت الشيخ يترك رسالة كأنّه يقول فيها: انتظرتك طويلًا ولم تأتِ… أخشى أن تكون الغيبوبة القادمة هي الأخيرة… أنت ضمير العالم، جذوة البراءة التي لا تنطفئ (راجع هيبي، ص. 155-156). نؤكّد أنّ هذه الرسالة تشكّل لبّ الرواية الرمزيّ؛ إنّها انتقال الذاكرة من جيل إلى جيل، لتضمن استمرار الحضور رغم الغياب. أمّا فيما يخصّ الأسلوب، الذي يعزّز من تماسك النصّ حوّل ثيمة الفقد، فإنّ اللغة التي يعتمدها أحمد هيبي لغة دقيقة منضبطة، لا تنساق إلى البلاغة المجانيّة، بل تعتمد على الصورة الواضحة. يقول الراوي: «تبدو الأشياء أبدية كدرب المدرسة… إلى أن يختفي الأب وتختفي الأمّ… ولا يعود شيء كما كان» (هيبي، ص. 63). نرى أنّ هذه الجملة نموذج للغة الرواية التي تجمع بين التكثيف والدقّة والانفعال الهادئ. وعلى مستوى البنية السرديّة الكليّة، تقوم الرواية على التشظّي المنظّم: فصول قصيرة، استرجاعات، انقطاعات زمنيّة، وصلات بين الماضي والحاضر، وتكرار قصديّ لبعض الصور. ومن وجهة نظرنا، فإنّ هذا التشظّي لا ينتج فوضى، بل يخلق وحدة شعوريّة؛ إذ يبقى الصوت السرديّ ثابتًا، وتبقى الرؤية واحدة، ويتكرر الوعي بالفقد بوصفه محورًا بنيويًا. وبعد هذا التحليل المفصّل، يمكننا القول إنّ أحمد هيبي نجح في سرديته نجاحًا ملحوظًا، لأنّه استطاع أن يقدّم نصًا ينتمي إلى السيرة لكنّه يتجاوزها، وينتمي إلى الرواية لكنّه يخرق تقاليدها، وينتمي إلى الذاكرة لكنّه يعيد تشكيلها فنيًا. إنّ قوّة النصّ ليست في حبكته، بل في بنيته الوجدانيّة والمعرفيّة، وفي قدرته على تحويل الفقد إلى مادة سرديّة، وعلى جعل الهويّة المتشظّية موضوعًا فنيًا رفيعًا. ونعتقد أنّ هذا الإنجاز يضع الرواية في مصاف الأعمال المؤسسة.
ختامًا، نخلص إلى القول: إن "الخليفة" تخرج من إطار التجربة الخاصّة لتصبح نصًا مؤسّسًا في كتابة السيرة الروائيّة الفلسطينيّة داخل الداخل، لأنّها تعيد بناء علاقة الإنسان بالمكان واللغة والزمن، وتقدّم سرديّة مضادّة للانمحاء، وتفتح أفقًا نقديًا لفهم التحولات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة التي عاشها مجتمع كامل. إنّها رواية تستحق أن تُقرأ في سياق الأدب الفلسطينيّ، لا لأنها تحكي قصّة فرد واحد، بل لأنّها تعيد إنتاج ذاكرة جيل كامل بلغة فنيّة واعيّة، ورؤية نقديّة حادة، وصوت سرديّ شديد الاتساق مع ذاته.
ملاحظة: تجدر الإشارة إلى أنّ رواية "الخليفة سرديّة بطعم سيرة ذاتيّة" هي عمل منشور ذاتيًا، حيث قام المؤلف، الدكتور أحمد هيبي، بدور الناشر، ولم تستخدم دار نشر رسميّة لإصدارها. وعليه، فإنّ التوثيق المرجعيّ للرواية يعكس طبيعة النشر الخاصّ
الطيرة – 5.12.2025
#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟