أحمد كامل ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 8473 - 2025 / 9 / 22 - 20:17
المحور:
قضايا ثقافية
يُعَدّ جمال عبد الناصر أحد أبرز القادة العرب في القرن العشرين، وهو شخصيّة محوريّة في التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ للعالم العربيّ. فقد مثّلت سيرته وتجربته نموذجًا نادرًا للقائد الذي استطاع أن يتجاوز حدود وطنه ليصبح رمزًا للأمّة بأسرها، وأن يجمع بين الوطنيّة المصريّة الصّلبة والفكر القوميّ العربيّ الطّموح. ولئِن كان من الطبيعيّ أن يُثار حول شخصيّته جدل واسع، بين من يعتبره بطلاً قوميًّا ومحرّرًا من الاستعمار وبين من يرى في تجربته أخطاءً كارثيّة، إلا أنّ الثابت أنّ عبد الناصر ظلّ، حتى بعد رحيله، حاضرًا في وجدان العرب، وملهمًا لأجيال متعاقبة، ورمزًا لفكرة العزّة والكرامة والقدرة على التحدي.
ولد جمال عبد الناصر في الإسكندريّة عام 1918 لأسرة متوسطة الحال، حيث كان والده موظفًا في مصلحة البريد، وقد عكست نشأته ظروف الطبقة الوسطى المصريّة بكلّ ما حملته من تحديات ماديّة وقيم وطنيّة راسخة. في طفولته، تأثّر ناصر بشدّة بأجواء الحركة الوطنيّة المصريّة التي كانت تقاوم الاحتلال البريطانيّ، وشارك في المظاهرات الطلابيّة، ما ترك في نفسه أثرًا عميقًا عزّز شعوره بالمسؤوليّة القوميّة. وقد روى هو نفسه في مذكّراته أنّه شعر لأولّ مرّة بمعنى الكرامة الوطنيّة حين رأى مظاهرة تقمع بعنف من قِبل جنود الاحتلال، وهو في الرابعة عشرة من عمره (هيكل، 1972، ص. 17).
بعد إنهائه دراسته الثانويّة، التحق بالكليّة الحربيّة، ليبدأ مسيرة مهنيّة عسكريّة صاغت شخصيّته القياديّة. في الجيش، تعرّف على مجموعة من الضباط الشباب الذين يشاطرونه الحلم بالتغيير والخلاص من التبعيّة والاستعمار، وهو ما تطوّر لاحقًا إلى "تنظيم الضباط الأحرار". كان ناصر، كما يصفه زملاؤه، شديد الانضباط ويمتلك قدرة فذّة على التنظيم والتأثير، إلى جانب حسّ وطنيّ متّقد. وقد ساعدته تجاربه في حرب فلسطين عام 1948 على إدراك عمق الأزمة العربيّة، إذ رأى بأمّ عينه كيف أدّت الخلافات الداخليّة وسوء الإدارة إلى الهزيمة، فكانت تلك التجربة حافزًا محوريًّا لتسريع خططه نحو الثورة (رمضان، 1998، ص. 64).
جاءت ثورة 23 يوليو 1952 لحظة فاصلة في التاريخ المصريّ والعربيّ. فقد تمكّن الضبّاط الأحرار بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر من إسقاط النظام الملكيّ الفاسد، وإنهاء حقبة طويلة من التبعيّة للاحتلال البريطانيّ. غير أنّ الدّور الحقيقيّ لعبد الناصر لم يتأخّر في البروز، إذ استطاع خلال سنوات قليلة أن يفرض نفسه زعيمًا للحركة الثوريّة، ثم رئيسًا لمصر. كانت الثورة في جوهرها، كما أكدّ ناصر نفسه، تعبيرًا عن إرادة الشعب المصريّ في الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة، لا مجرد انقلاب عسكريّ (راجع حمروش، 1984، ص. 112).
انتهج عبد الناصر منذ البداية سياسة واضحة قوامها الاستقلال الوطنيّ والتحرّر الاقتصاديّ. ففي الداخل، أطلق برنامج الإصلاح الزراعيّ الذي قضى على الإقطاع ووزع الأراضي على الفلاحين، ما شكّل نقلة نوعيّة في البنية الاجتماعيّة المصريّة. كما شجع التصنيع الوطنيّ وأسس قطاعًا عامًّا واسعًا ليقود عمليّة التنمية. ومن أبرز إنجازاته مشروع السدّ العالي، الذي لم يكن مجرد إنجاز هندسيّ ضخم، بل رمزًا لقدرة الأمّة على التحكم في مواردها الطبيعيّة وبناء مستقبل مستقلّ. وقد عُدّ السدّ العالي، كما وصفه أحد المؤرخين، "أيقونة الإرادة المصريّة في عهد عبد الناصر" (رزق، 2002، ص. 201).
أما على المستوى الخارجيّ، فقد تبنّى عبد الناصر سياسة عربيّة قوميّة، جعلت منه زعيمًا يتجاوز حدود مصر. فقد كان يؤمن بوحدة العرب باعتبارها السبيل لمواجهة الاستعمار وبناء قوّة حضاريّة حقيقيّة. وقد تجسّد هذا الحلم مؤقتًا في تجربة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 تحت اسم الجمهوريّة العربيّة المتّحدة. ورغم فشل التجربة بعد ثلاث سنوات، فإنّها تركت أثرًا عميقًا في الوجدان العربيّ، وأكّدت أنّ حلم الوحدة ليس مجرد شعار، بل مشروع قابل للتحقق إذا ما توفرت الإرادة السياسيّة. وقد أشار طارق البشري إلى أنّ "تجربة الوحدة كانت رغم قصرها لحظة تكثّفت فيها آمال العرب جميعًا في إمكانيّة تجاوز حدود التجزئة" (البشري، 1983، ص. 154).
شكّلت أزمة قناة السويس عام 1956 منعطفًا تاريخيًّا في مسيرة عبد الناصر. فقد أعلن تأميم القناة في خطوة جريئة أربكت القوى الاستعماريّة، ما أدّى إلى العدوان الثلاثيّ الذي شنّته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر. ورغم التفوّق العسكريّ للمعتدين، تمكّن عبد الناصر من الصمود بفضل المقاومة الشعبيّة والدعم الدوليّ، لينسحب المعتدون في نهاية المطاف. لقد جعل هذا الانتصار عبد الناصر زعيمًا عالميًّا لحركات التحرّر الوطنيّ، وكرّس مكانته في العالم العربيّ بوصفه القائد القادر على التحدّي والانتصار (أنظرعبد الملك، 1969، ص. 89).
لم تكن السياسات الناصريّة خاليّة من التحديات والأزمات. فقد واجه عبد الناصر معارضة داخليّة، خاصّة من التيّار الإسلاميّ المتمثّل في جماعة الإخوان المسلمين، الذين اصطدم معهم بقسوة في منتصف الخمسينيات. كما عانى مشروعه الاقتصاديّ من البيروقراطيّة وضعف الكفاءة أحيانًا. غير أنّ التحدي الأكبر جاء مع هزيمة يونيو 1967 أمام إسرائيل، المعروفة بالنكسة. فقد مثّلت الهزيمة صدمة قاسية للأمّة العربيّة، وجرحت صورة عبد الناصر في عيون الجماهير. ومع ذلك، فقد أظهر ناصر في خطاب التنحّي ثم التراجع عنه بعد مطالبة الجماهير ببقائه، أنّ مكانته الشعبيّة لم تتأثّر جذريًّا، وأنّه ظلّ رمزًا للكرامة رغم الانكسار (هيكل، 1972، ص. 305).
كان عبد الناصر خطيبًا بارعًا يمتلك قدرة نادرة على التواصل مع الجماهير. فقد كانت خطاباته، التي تُنقل عبر الإذاعة والتلفزيون، لحظات ينتظرها العرب من المحيط إلى الخليج. كان يستخدم لغة قريبة من الناس، مزيجًا من الفصاحة والبساطة، ما جعل خطابه يبدو شخصيًّا لكلّ مستمع. وقد وصفه أنور عبد الملك بأنّه "قائد لم يحتج إلى وسائط معقدة للتأثير، بل كان صوته وحده يكفي ليمنح الملايين شعورًا بالقوّة والانتماء" (عبد الملك، 1969، ص. 42).
لم يقتصر تأثير عبد الناصر على السياسة، بل امتدّ إلى الثقافة والوعي الجمعيّ العربيّ. فقد شجع على حركة ثقافيّة وفنيّة واسعة، وارتبط اسمه بمرحلة ازدهار السينما والمسرح والموسيقى العربيّة. كما دعم المؤسسات التعليميّة والبحثيّة، مؤكّدًا أنّ النهضة لا تكتمل إلّا بالعلم والمعرفة. ولعلّ أبرز ما ميّز هذه المرحلة هو شعور العرب بأنّهم يعيشون زمنًا استثنائيًّا، زمنًا يمكن فيه للحلم القوميّ أن يتحقق، وللوطن أن ينهض.
على الرغم من التباين في تقييم إرث عبد الناصر، بين من يراه بطلًا قوميًّا ومن يحمله مسؤوليّة الهزائم والأزمات، فإنّ المشترك بين هذه الآراء أنّ عبد الناصر لم يكن قائدًا عاديًّا، بل ظاهرة تاريخيّة. فقد جمع بين الكاريزما الشخصيّة والقدرة السياسيّة، بين الحلم الكبير والعمل الواقعيّ، بين الوطنيّة المصريّة والهويّة العربيّة. وهو ما جعل ذكراه حيّة في القلوب رغم مرور عقود على رحيله.
رحل جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، إثر أزمة قلبيّة مفاجئة، في لحظة كان فيها العالم العربيّ يواجه تحديات كبرى. وقد شكّلت جنازته حدثًا مهيبًا، إذ شارك فيها ملايين المصريين والعرب، في مشهد عبّر عن عمق ارتباط الجماهير به. لم يكن ذلك مجرد وداع لقائد سياسيّ، بل كان وداعًا لرمز ارتبطت به آمال أمّة بأسرها. وقد كتب محمد حسنين هيكل، رفيق دربه الفكريّ والسياسيّ، أنّ "وفاة ناصر كانت لحظة انكسار عاطفيّ للأمّة، لكنّها في الوقت نفسه أكّدت أنّه لم يكن مجرد حاكم، بل زعيم يسكن القلوب" (هيكل، 1972، ص. 410).
إنّ دراسة شخصيّة جمال عبد الناصر تكشف عن معادلة معقّدة: فهو قائد جمع بين النجاحات الكبرى والإخفاقات المريرة، بين الانتصارات الرمزيّة والانكسارات الواقعيّة. لكنّه، رغم ذلك، ظلّ رمزًا للعزّة الوطنيّة والقوميّة. وربما يكمن سرّ خلوده في أنّه جسّد مشاعر شعوب بأكملها، فصار رمزًا لمعنى الكرامة والحريّة، وأصبح حضوره في الوجدان العربيّ أكبر من أي حساب سياسيّ. لقد كان بحقّ القائد الذي سكن قلوب العرب، والذي بقيت ذكراه حيّة تُلهم الأجيال الجديدة بالسعي إلى الاستقلال والوحدة والكرامة.
الطيرة- 22.9.2025
ثبت بالمراجع
• البشري، طارق. (1983). الحركة السياسية في مصر 1945–1952. القاهرة: دار الشروق.
• حمروش، أحمد. (1984). قصة ثورة يوليو. القاهرة: دار المستقبل العربي.
• رزق، يونان لبيب. (2002). الثورة المصرية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
• رمضان، عبد العظيم. (1998). تحالف قوى الشعب العامل. القاهرة: دار المعارف.
• عبد الملك، أنور. (1969). فكر عبد الناصر. بيروت: دار الطليعة.
• هيكل، محمد حسنين. (1972). عبد الناصر والعالم. القاهرة: دار الأهرام.
#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟