أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد كامل ناصر - ردّ على مقال الدكتور رافع يحيى: الحداثة وما بعد الحداثة بين الاستهلاك والوعي النقدي















المزيد.....

ردّ على مقال الدكتور رافع يحيى: الحداثة وما بعد الحداثة بين الاستهلاك والوعي النقدي


أحمد كامل ناصر

الحوار المتمدن-العدد: 8454 - 2025 / 9 / 3 - 16:01
المحور: الادب والفن
    


يُعدّ موضوع الحداثة وما بعد الحداثة من أكثر القضايا الفكرية والثقافية إثارة للجدل في عصرنا، بل ربما لا يمرّ أسبوع دون أن نصادف هذين المصطلحين في مقالات أو ندوات أو نقاشات أدبية. غير أنّ كثرة التداول لم تساهم دائمًا في وضوح الفهم، بل على العكس، كثيرًا ما تحوّلا إلى مفردتين براقتين تُستخدمان بلا تدقيق، كأنهما ملصقات جاهزة توضع على أي نص أو تجربة. في هذا السياق جاء مقال الأستاذ رافع يحيى بعنوان «الحداثة وما بعد الحداثة: مصطلحات للاستهلاك الثقافي»، وهو مقال يستحق الوقوف عنده مليًا لأنه لا يكتفي بعرض المفهومين بل يسعى إلى نقد طريقة توظيفهما في ثقافتنا العربية، ويكشف عن المخاطر المترتبة على تحوّلهما إلى شعارات أكثر من كونهما أدوات تحليلية.
لعلّ ميزة المقال الأولى أنّه قدّم مدخلًا مبسطًا للقارئ العام لفهم الخلفيات الفلسفية لهذين المفهومين. فقد وضع الحداثة في إطارها الأوروبي المرتبط بعصر التنوير، حيث كان الإيمان بالعقلانية والتقدم العلمي والفردانية والقدرة على صياغة المصير الفردي والجماعي هو المحرك الأساسي. ثم أشار إلى أنّ ما بعد الحداثة جاءت كرد فعل نقدي على هذه اليقينيات، فطرحت الشك في الحقيقة المطلقة، والتعددية في المعنى، والتشكيك في السرديات الكبرى التي صاغت وعي الإنسان الحديث. ولعلّ قوة هذا التمهيد تكمن في وضوحه واختصاره؛ فهو لا يغرق القارئ في التفاصيل الفلسفية المعقدة، لكنه يعطيه المفاتيح الأساسية لفهم الموضوع قبل الانتقال إلى النقاش النقدي.
بعد هذه المقدمة، ينتقل الكاتب إلى المشهد العربي، حيث يرى أنّ المصطلحين فقدا عمقهما الفلسفي وتحولا إلى أدوات استهلاكية. فقد شهدت الساحة الأدبية العربية منذ ستينيات القرن العشرين موجة واسعة من تبني «الحداثة» كشعار أكثر من كونها مشروعًا متكاملًا. بعض الشعراء على سبيل المثال، كانوا يصفون قصائدهم بأنها حداثية لمجرد تحرّرها من الوزن التقليدي، بغض النظر عن ما إذا كانت تحمل رؤية فكرية أو جمالية متماسكة. وكذلك بعض النصوص الروائية والمسرحية وُصفت بأنها «ما بعد حداثية» لأنها اعتمدت على التشظي أو كسر خطية السرد، رغم أن التجريب ظل شكليًا في كثير من الأحيان. هنا يضع رافع يحيى إصبعه على ظاهرة حقيقية: الاستسهال في استخدام المفاهيم الكبرى بوصفها وسومًا تمنح النصوص طابعًا معاصرًا حتى لو لم تكن متجذرة في مشروع فكري متماسك.
ويزداد المقال قيمة عندما يلتفت إلى مجال نادرًا ما يُناقش في هذا السياق، وهو أدب الأطفال. فالكاتب يحذر من خطورة توصيف بعض كتب الأطفال بأنها «ما بعد حداثية» لمجرد أنها وظّفت تقنيات جديدة مثل كسر خطية السرد أو إشراك الطفل القارئ في بناء النص. والحقيقة أن هذا التنبيه بالغ الأهمية، لأن أدب الأطفال لا يُقاس فقط بمعايير جمالية أو تجريبية، بل تحكمه اعتبارات تربوية ونفسية دقيقة. فالطفل ليس متلقّيًا بالغًا، والتجريب في النصوص الموجهة له ينبغي أن يكون مرتبطًا بهدف تربوي أو معرفي، وإلا فقد يتحول إلى عبث لا يخدم غاية التعليم أو التربية. هنا يذكّرنا المقال بضرورة احترام خصوصية الحقول الأدبية وعدم إسقاط مفاهيم فلسفية عامة عليها بشكل مباشر.
ولعلّ القيمة الكبرى التي يقدّمها مقال رافع يحيى تكمن في شجاعته النقدية. فهو لا يهاجم الأشخاص ولا يكتفي بالتنظير، بل يفتح النقاش حول مسألة أساسية: كيف تتحول المفاهيم إلى شعارات تُستخدم للاستعراض الفكري أو للتسويق الأدبي بدل أن تكون أدوات لفهم الواقع وتحليله؟ هذا الطرح يعكس وعيًا نقديًا حقيقيًا، خصوصًا في زمن يميل فيه الكثيرون إلى ترديد المصطلحات الكبرى من دون مساءلة أو تفكير. إنّ التحذير من «الاستهلاك الثقافي» لا يعني رفض الحداثة أو ما بعدها، بل يعني ضرورة العودة إلى أصولهما الفلسفية والوعي بشروط توظيفهما في بيئتنا الثقافية.
ومع ذلك، أودّ أن أسجل على المقال ملاحظة واحدة فقط، وهي غياب الأمثلة التطبيقية المباشرة. فلو قدّم الكاتب نموذجًا شعريًا من السياب أو أدونيس، أو مثالًا روائيًا من بعض التجارب العربية التي وُصفت بأنها ما بعد حداثية، أو حتى استشهد بكتاب أطفال معاصر جرى توصيفه بهذا الوصف، لكان نقده أكثر إقناعًا وأقرب إلى ذهن القارئ. إنّ الأمثلة ليست مجرد عرض عابر بل هي ضرورة لإثبات أنّ الظاهرة موجودة بالفعل وليست حكمًا عامًا. على سبيل المثال، كثير من النقاد أطلقوا على بعض قصائد السياب وصف «حداثية» فقط لأنها خرجت من الوزن الخليلي إلى التفعيلة، بينما جوهرها ظلّ قريبًا من الرومانسية التقليدية. وفي أدب الأطفال، يمكن أن نجد بعض المحاولات التي كسرت التسلسل الزمني للسرد أو اعتمدت على الصور البصرية المبالغ فيها، فوُصفت بأنها «ما بعد حداثية» في حين أنها لم تتجاوز حدود التجريب الشكلي. مثل هذه النماذج كانت ستعطي مقال رافع يحيى قوة إضافية وتحوّله من تشخيص عام إلى تحليل ملموس.
لكن هذه الملاحظة لا تقلّل من قيمة المقال، فالمقال في صورته الحالية يضع الإطار العام للنقاش، وربما يأتي من بعده من يستكمل المهمة بأمثلة وتطبيقات. وما يظل حاضرًا في ذهن القارئ بعد قراءة النص هو تلك الدعوة الملحّة إلى التفكير في علاقتنا بالمفاهيم الكبرى: هل نستخدمها بوعي نقدي أم نردّدها كشعارات براقة؟ وهل يكفي أن نستعير من الغرب مفاهيمه كما هي، أم أننا بحاجة إلى مساءلتها وإعادة تأصيلها ضمن واقعنا العربي؟ وهل يصح أن نتحدّث عن «ما بعد حداثة» عربية في وقت ما زالت فيه أسئلة الحداثة نفسها معلّقة لم تجد جوابًا نهائيًا؟
بهذا المعنى، فإن مقال رافع يحيى لا يقدّم أجوبة جاهزة بقدر ما يحرّض على طرح الأسئلة. وهو بهذا يحقّق أهم وظيفة للمقال النقدي: إثارة التفكير، ودفع القارئ إلى مراجعة مسلّماته، وتحفيزه على البحث والتأمل. ولعلّ أجمل ما في النص أنّه يقدّم كل ذلك بلغة سلسة يفهمها القارئ غير المتخصص، فلا يشعر أنّه غريب عن النقاش الفلسفي، بل يشارك فيه بوعي متدرّج.
إنّ قيمة هذا المقال تكمن في أنه يوقظ وعينا من سبات المصطلحات. نحن نعيش في زمن تُغري فيه العناوين البراقة والنظريات المستوردة، لكننا نحتاج إلى من يذكّرنا أنّ كل مصطلح له جذوره الفلسفية وسياقاته التاريخية، وأن استنباته في أرضنا لا يكون صحيحًا إلا إذا ارتبط بواقعنا وأسئلتنا. وما قام به رافع يحيى في مقاله هو بالضبط هذا التنبيه: العودة إلى الجوهر بدل الانشغال بالقشور.
خلاصة لما تقدّم، يمكن القول: إنّ مقال «الحداثة وما بعد الحداثة: مصطلحات للاستهلاك الثقافي» هو مساهمة جادة وضرورية في النقاش الثقافي العربي. قوته تكمن في وضوحه، وفي قدرته على تبسيط موضوع معقد، وفي التفاته إلى أدب الأطفال، وفي نقده الجريء للاستعراض الثقافي. بكلّ الأحوال، يظل المقال دعوة صريحة إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالمفاهيم الكبرى، لا باعتبارها شعارات بل باعتبارها أدوات لفهم التحولات. وهو بهذا يقدّم للقارئ العربي خدمة كبيرة: يفتح أمامه نافذة على التفكير النقدي الهادئ، بعيدًا عن ضجيج الشعارات وضبابية الاستخدامات الاستهلاكية.
الطيرة – 3.9.2025



#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأحزاب العربية في الكنيست: حضور بلا تأثير!
- المناهج التعليميّة لا تواكب العصر ولا تلبي احتياجات سوق العم ...
- من الصمت إلى الصوت: إصلاح التعبير الشفوي في التعليم الابتدائ ...
- تراجع الأدب العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين: بين الواقع ...
- ضعف تمثيل النساء العربيات في مواقع القرار في الداخل الفلسطين ...
- هل الأدبُ يعكسُ الواقعَ النفسيّ أم يشكّله؟ قراءةٌ نقديّةٌ في ...
- الإدمان الرقمي.. حياة مسروقة خلف الضوء الأزرق
- الشعر في زمن الفيسبوك والواتساب وتحوّلات صورة الشاعر العربي ...
- هل يمكن تحقيق الوحدة وإعادة بناء القائمة المشتركة
- دور المرأة في التعليم بالداخل الفلسطيني: وقائع وفرص وتحديات
- دور المعلم الفلسطيني في الداخل الإسرائيلي في بناء الوعي ومنا ...
- جدلية الانتماء والاغتراب في سيرة وليد الصادق: قراءة في كتاب ...
- قراءة في قصة -الخطيب المُسْتَبْرِد- للكاتب القاصّ سمير كتاني
- الشعر العربي كان وما زال فن وصناعة في آن واحد
- محمود أمين العالم وأدونيس ناقدان للأدب العربي الحديث
- النّقد الأدبيّ في خمسينات القرن العشرين؛ بداية لمرحلة نقديّة ...
- تعلّم اللّغة العربيّة في الجامعات والمعاهد العليا في إسرائيل
- قراءة في قصّة -الرّحلة القصيّة في طلب الكُنافة النابُلسيّة- ...
- كتابة القصيدة الشعريّة -الأنشودة- في أدب الأطفال المحليّ
- إشكاليّة الترجمة في الكتابة المحليّة الموجّهة للأطفال


المزيد.....




- شاهد..من عالم الأفلام إلى الواقع: نباتات تتوهج في الظلام!
- مقاومة الاحتلال بين الكفاح المسلح والحراك المدني في كتاب -سي ...
- دور الكلمة والشعر في تعزيز الهوية الوطنية والثقافية
- لا شِّعرَ دونَ حُبّ
- عبد الهادي سعدون: ما زلنا نراوح للخروج من شرنقة الآداب القلي ...
- النّاقد السّينمائي محمد عبيدو ل “الشعب”: الكتابات النّقدية م ...
- الرّباط تحتضن عرض مسرحيّة (البُعد الخامس) لعبد الإله بنهدار ...
- والدة هند رجب تأمل أن يسهم فيلم يجسد مأساة استشهاد طفلتها بو ...
- دواين جونسون يشعر بأنه -مُصنّف- كنجم سينمائي -ضخم-
- أياد عُمانية تجهد لحماية اللّبان أو -كنز- منطقة ظفار


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد كامل ناصر - ردّ على مقال الدكتور رافع يحيى: الحداثة وما بعد الحداثة بين الاستهلاك والوعي النقدي