أحمد كامل ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 8452 - 2025 / 9 / 1 - 16:19
المحور:
قضايا ثقافية
لم يعد الحديث عن التعليم في الداخل الفلسطيني مجرد حديث ثقافي أو نقاش نخبوي حول أدوات التدريس وطرائق التعلم، بل أصبح قضية مصيرية تتعلق بمستقبل أجيال كاملة، وبقدرتها على الصمود والبقاء في مواجهة تحديات سياسية واقتصادية متشابكة. فالمناهج التعليمية التي تُدرَّس في المدارس العربية في الداخل الفلسطيني لا تزال، إلى حدّ كبير، أسيرة رؤى تقليدية وضعت في ظروف تاريخية مغايرة تمامًا لما نعيشه اليوم. هي مناهج تكرّس الحفظ الآلي على حساب التفكير النقدي، وتدفع الطلبة إلى اجترار المعارف بدلاً من إنتاجها، وتخفق في إعدادهم لمواجهة سوق عمل محلي بات أكثر تعقيدًا وتنافسية في ظل العولمة والتطور التكنولوجي. إن هذه المناهج تبدو وكأنها مفصولة عن الواقع المعيشي للشباب الفلسطيني في الداخل، بل وكأنها أداة أخرى من أدوات تهميشه وإبقائه في دائرة الضعف الاقتصادي والاجتماعي.
لقد شهد العالم تحولات هائلة خلال العقدين الأخيرين، فرضتها الثورة الرقمية، وتطور الاقتصاد القائم على المعرفة، وتزايد أهمية المهارات الناعمة مثل التفكير الإبداعي وحل المشكلات والعمل الجماعي. غير أن مناهجنا المدرسية، بدلًا من أن تواكب هذه التحولات، ظلت تراوح مكانها عند أسلوب تلقيني كلاسيكي يركز على الكم أكثر من النوع، وعلى المعلومة الجامدة أكثر من الكفاءة العملية. والنتيجة أن الطالب الذي يتخرج من المدرسة العربية في الداخل يجد نفسه، بعد اثني عشر عامًا من التعليم، أمام فجوة عميقة بين ما تعلمه في الصفوف وبين ما يتطلبه سوق العمل المحلي. هذا السوق الذي تحكمه سياسات اقتصادية معقدة، ومحدودية الفرص أمام العرب، وتمييز بنيوي يحد من اندماجهم الكامل، يحتاج إلى خريجين يمتلكون ليس فقط المعرفة النظرية، بل أيضًا مهارات تقنية ومهنية ولغوية تؤهلهم للتنافس الحقيقي. ومع ذلك، يستمر النظام التعليمي في إنتاج آلاف الشهادات التي لا تترجم إلى وظائف، بل تضاف إلى طابور البطالة الطويل.
إن جزءًا من الأزمة يعود إلى السياسة الرسمية التي تفرض على المدارس العربية مناهج موحدة لا تعكس خصوصية المجتمع الفلسطيني في الداخل ولا تترجم احتياجاته الفعلية. فبينما يتم تحديث المناهج في المدارس العبرية بشكل أسرع نسبيًا وبما يواكب التطورات العلمية والتكنولوجية، نجد أن المدارس العربية محاصرة بمحتويات تعليمية تفتقر إلى المرونة ولا تفسح مجالًا للتجريب أو الابتكار. الطالب العربي يُطالَب بأن يكون نسخة مطابقة للمناهج الرسمية، في حين أنه يعيش واقعًا اجتماعيًا واقتصاديًا مختلفًا تمامًا. هذا الانفصال بين النصوص التعليمية والواقع الاجتماعي لا ينتج إلا شعورًا بالاغتراب لدى المتعلم، الذي يتساءل عن جدوى ما يدرسه وعن علاقته بمستقبله المهني.
تتضاعف هذه الإشكالية حين ننظر إلى مؤسسات التعليم العالي في الداخل. فالكثير من الطلبة ينهون الثانوية العامة دون امتلاك أساس متين في اللغات الأجنبية أو في المهارات الرقمية، ما يعيق دخولهم إلى تخصصات مطلوبة مثل علوم الحاسوب، الهندسة، الطب، أو حتى العلوم الاجتماعية الحديثة التي تتطلب أدوات تحليلية متقدمة. وهكذا يندفع عدد كبير منهم إلى تخصصات تقليدية مشبعة لا توفر فرص عمل حقيقية، مما يساهم في ارتفاع معدلات البطالة أو في أفضل الحالات القبول بوظائف متدنية الأجر لا تتناسب مع سنوات الدراسة الطويلة. نحن هنا أمام حلقة مفرغة: مناهج ضعيفة تؤدي إلى تأهيل أكاديمي هش، والذي بدوره يفضي إلى صعوبات اندماج في سوق عمل محلي متقلص أساسًا بفعل التمييز الهيكلي.
لا يمكن فصل أزمة المناهج في الداخل الفلسطيني عن السياق السياسي الأوسع... ورغم ذلك، فإن تحميل السياسة وحدها مسؤولية الأزمة قد يكون نوعًا من التبسيط المخل، إذ إن داخل المجتمع العربي نفسه لا يزال هناك قصور في الوعي بضرورة تغيير النظرة إلى التعليم. كثير من أولياء الأمور ما زالوا يركزون على تحصيل العلامات العالية أكثر من تركيزهم على نوعية المهارات المكتسبة، والمدارس نفسها غالبًا ما تلهث وراء نسب النجاح في امتحانات البجروت باعتبارها معيارًا وحيدًا للتفوق، بينما تتجاهل مؤشرات أكثر أهمية مثل القدرة على التفكير المستقل أو الابتكار أو ريادة الأعمال. بهذا المعنى، نحن أمام أزمة مركبة: سلطة تفرض مناهج غير مناسبة، ومجتمع يتقبلها أو يتعايش معها، ومؤسسات تعليمية تفتقر إلى الجرأة في تجريب بدائل حقيقية.
إن الحديث عن آثار هذه المناهج التقليدية على حياة الشباب الفلسطيني في الداخل يظهر انعكاساتها على البنية الاجتماعية برمتها. فالشاب الذي يُمضِي سنوات طويلة في التعليم دون أن يخرج بمهارات عملية قادرة على إدماجه في سوق العمل، يجد نفسه في مواجهة إحباط وجودي. إنه يكتشف فجأة أن المعرفة التي تعب من أجل تحصيلها لا تمنحه مقعدًا في الاقتصاد الحديث، ولا تحميه من البطالة، ولا تفتح له بابًا لحياة كريمة. هذه الفجوة بين التوقعات والواقع تولّد شعورًا بالخيبة وفقدان الثقة في النظام التعليمي، وتدفع بالكثيرين إلى البحث عن حلول فردية خارج السياق، مثل الهجرة إلى الخارج، أو القبول بوظائف لا تتناسب مع مستواهم العلمي، أو حتى الانسحاب من الحياة العامة. إنها مأساة جيل يكتشف أن التعليم، الذي يفترض أن يكون بوابة المستقبل، أصبح مجرد شهادة ورقية لا تسمن ولا تغني.
حين ننظر إلى سوق العمل المحلي، نرى أن التحديات تتضاعف. فمن ناحية هناك سياسات تمييزية واضحة تحد من وصول الشباب العرب إلى قطاعات مركزية في الاقتصاد، مثل التكنولوجيا المتقدمة، الصناعات الأمنية، وحتى بعض مؤسسات الدولة. ومن ناحية ثانية، هناك منافسة شرسة داخل القطاعات المتاحة، وهي منافسة لا يمكن مواجهتها بالاعتماد على مناهج تقليدية لا تزرع في الطالب روح المبادرة ولا تعلّمه كيف يحوّل المعرفة إلى منتج أو خدمة. في الاقتصاد الرقمي الحالي، تُعتبر القدرة على البرمجة أو التعامل مع البيانات أو التفكير الإحصائي شرطاً أساسياً لأي وظيفة ذات أفق. لكن المناهج المدرسية العربية لا تعطي هذه المهارات سوى هامش ضيق، وغالباً بطريقة نظرية لا تسمح بتطوير الكفاءات العملية. النتيجة أن الطالب العربي يصل إلى الجامعة أو إلى سوق العمل متأخراً بخطوات عديدة عن زملائه اليهود، الذين يحصلون على فرص أكبر في المدارس المجهزة، والدورات اللامنهجية، والمراكز المجتمعية التي تدعم التعلم العصري.
الأزمة إذن ليست في الطالب، بل في السياق التعليمي والاجتماعي الذي يُنتج طالباً ناقص العدة. ومن المؤسف أن هذا القصور ينعكس بشكل مباشر على أوضاع المجتمع بأسره. فارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، خصوصًا خريجي الجامعات، يؤدي إلى تآكل الثقة بالمؤسسات، وإلى انتشار ظواهر اجتماعية سلبية مثل العنف، والجريمة المنظمة، والتفكك الأسري. كثير من الدراسات أشارت إلى وجود علاقة مباشرة بين البطالة المستمرة والشعور بالإقصاء الاجتماعي، وهو ما يفسر جانباً من الأزمات البنيوية التي يعيشها المجتمع العربي في الداخل. وعندما نفكّر في جذور هذه الظواهر، سنجد أن أحد منابعها الأساسية هو فشل التعليم في توفير مسار واضح ومضمون نحو المستقبل.
الأدهى من ذلك أن المناهج الحالية لا تفشل فقط في إعداد الطالب مهنيًا، بل إنها تسلبه القدرة على التفكير النقدي. الطالب الذي يُدرَّب على الحفظ والتلقين دون أن يُشجَّع على طرح الأسئلة أو تحدي النصوص، يصبح في نهاية المطاف أسيرًا لعقلية الاتباع لا الإبداع. وهنا نلمس خطرًا آخر، إذ إن مجتمعًا لا ينتج عقولاً ناقدة وإبداعية سيظل معتمدًا على الآخرين، وسيبقى في موقع التابع بدل القائد. في زمن العولمة، حيث تتغير المعارف بسرعة مذهلة، لا يكفي أن نلقّن أبناءنا معارف جامدة، بل علينا أن نُكسِبهم مهارات التفكير المستقل والتعلم الذاتي مدى الحياة. غير أن المناهج في بلداتنا العربيّة، ما زالت بعيدة عن هذا الهدف، بل إن بعض المعلمين، بحكم ضغط النظام والامتحانات، يرسخون أكثر ثقافة الحفظ على حساب الابتكار.
إذا عقدنا مقارنة سريعة مع تجارب دول أخرى في محيطنا العربي أو حتى في العالم، سنكتشف حجم الفجوة. هناك دول صغيرة مثل سنغافورة أو فنلندا نجحت في تحويل التعليم إلى رافعة اقتصادية كبرى، لأنها أدركت مبكراً أن الاستثمار في الإنسان هو السبيل الوحيد للتنمية المستدامة. ركّزت تلك الدول على مهارات القرن الحادي والعشرين: الإبداع، التكنولوجيا، التعاون، وحل المشكلات، وربطت المناهج التعليمية بشكل مباشر باحتياجات سوق العمل. والنتيجة أن خريجي مدارسها باتوا يقودون قطاعات اقتصادية متطورة. في المقابل، يظل الطالب الفلسطيني في الداخل عالقاً في مناهج لا تصنع منه فاعلاً اقتصادياً، بل مجرد متلقٍ للمعرفة، عاجزاً عن تحويلها إلى قوة إنتاجية. هذه المقارنة ليست للتقليل من قدرات طلابنا، بل لإبراز أن الخلل يكمن في النظام، لا في الأفراد.
الحل لا يمكن أن يكون نظريًا، فالأزمة التعليمية في الداخل الفلسطيني أزمة بنيوية تمس هوية المجتمع وقدرته على الاستمرار في ظل تحديات سياسية واقتصادية خانقة. أي إصلاح لا بد أن يكون شاملاً، يستند إلى فلسفة واضحة تجعل من التعليم مشروعًا للتحرر والتمكين، لا مجرد وسيلة لتخريج أجيال مقيدة بأغلال الشهادة الورقية. المطلوب أولاً هو إعادة تعريف الغاية من التعليم، بحيث يصبح إعداد الإنسان الحر المبدع القادر على العمل والمساهمة في المجتمع هو الهدف، لا مجرد النجاح في الامتحانات.
إدماج التكنولوجيا في التعليم أصبح ضرورة لا خيارًا، من البرمجة الأساسية إلى تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي، ويجب أن يكون مقرونًا بتدريب المعلمين على أساليب حديثة للتدريس. كذلك التوجيه المهني يحتاج إلى برامج ممنهجة تساعد الطالب على اكتشاف ميوله ومواهبه وربطها باحتياجات سوق العمل المحلي. إدماج البعد الثقافي، والارتقاء بالتعليم المهني، وإنشاء بدائل تعليمية مجتمعية، كلها خطوات أساسية نحو إصلاح شامل.
التجربة التاريخية تؤكد أن الشعوب التي آمنت بقوة التعليم استطاعت أن تنتزع فرصها رغم كل الظروف. التعليم ليس مجرد وسيلة للحصول على وظيفة، بل هو رافعة لتحرير الإنسان وإطلاق طاقاته الكامنة. إصلاح المناهج يعني فتح نافذة أمل لمستقبل مختلف، حيث تصبح المدرسة مصنعًا للأمل لا مقبرة للأحلام. الخيار بأيدينا، لكن الوقت يمر بسرعة، وكل عام يضيع يعني جيلًا جديدًا يضاف إلى قائمة الضحايا. لقد آن الأوان لأن نتوقف عن الشكوى ونبدأ بالفعل. المناهج ليست قدرًا محتومًا، بل هي نصوص وضعها بشر ويمكن أن يغيرها بشر، والسؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا اليوم ليس: هل نستطيع التغيير؟ بل: هل نملك الشجاعة والإرادة لبدء هذا التغيير؟
الطيرة – 1.9.2025
#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟