أحمد كامل ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 8453 - 2025 / 9 / 2 - 16:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ اللحظة الأولى لتأسيس الكنيست الإسرائيلي سنة 1949، وجد المواطنون العرب الفلسطينيون أنفسهم أمام سؤال وجوديّ وسياسيّ معقد: هل المشاركة في البرلمان الإسرائيليّ تمثل فرصة للتأثير وحماية ما تبقى من حقوقهم المدنيّة، أم أنها فخ يهدف إلى إضفاء شرعيّة على نظام يقوم أساسًا على التمييز البنيويّ ويصعب تغييره من الداخل؟ هذا السؤال لم يكن يومًا ثانويًا، بل ظلّ حاضراً في الوعي الجمعيّ العربيّ في الداخل على امتداد أكثر من سبعة عقود، يتجدد مع كلّ دورة انتخابيّة، ويُعاد طرحه كلما برزت أزمة سياسيّة أو اجتماعيّة داخل المجتمع العربيّ. إنّ النقاش حول فعالية الأحزاب العربيّة في الكنيست ليس نقاشًا إجرائيًا حول عدد المقاعد أو عدد القوانين التي يتمّ تمريرها، بل هو نقاش يعكس عمق الأزمة البنيويّة التي يعيشها العرب في إسرائيل: أزمة هويّة، وأزمة تمثيل، وأزمة ثقة في قدرة الأدوات البرلمانيّة على إحداث فرق حقيقيّ.
لقد مرّ التمثيل العربيّ في الكنيست بمراحل متعددة. في العقود الأولى، ظهرت ما يُعرف بالأحزاب "التابعة" التي نشأت برعاية مباشرة من أحزاب صهيونيّة كبرى مثل مباي، وكانت وظيفتها الأساس جمع الأصوات العربيّة وتوجيهها بما يخدم الائتلافات الحاكمة، مقابل خدمات محليّة محدودة. هذه الأحزاب لم تستطع أن تحظى بشرعيّة واسعة في الشارع العربيّ، إذ اعتُبرت امتدادًا لسياسات الحكم العسكريّ الذي فرضته إسرائيل على القرى والمدن العربيّة حتى عام 1966. ومع انهيار هذه التجربة تدريجيًا، بدأ صعود التيارات الوطنيّة والقوميّة واليساريّة العربيّة، مثل الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة، التي حاولت ربط النضال المدنيّ اليوميّ بقضيّة الهويّة الفلسطينيّة الأوسع، وطرحت خطابًا يجمع بين المطالبة بالمساواة المدنيّة ورفض سياسات التمييز والاستيطان. لاحقًا، ظهرت أحزاب أخرى مثل التجمع الوطنيّ الديمقراطيّ، الذي تبنى خطاب "دولة لجميع مواطنيها"، والعربية للتغيير بزعامة أحمد الطيبي، وأخيرًا الحركة الإسلاميّة بشقّيها الشماليّ والجنوبيّ، حيث اختار الشق الجنوبيّ الاستمرار في اللعبة البرلمانيّة بينما فضّل الشقّ الشماليّ الانسحاب منها.
لكن اللحظة المفصليّة الأبرز جاءت في عام 2015 مع تشكيل "القائمة المشتركة" التي ضمت معظم الأحزاب العربيّة في إطار واحد. لقد شكّلت هذه القائمة حدثًا تاريخيًا لأنها جمعت قوى متباينة إيديولوجيًا تحت سقف برلماني واحد، الأمر الذي مكّنها من تحقيق إنجاز انتخابي غير مسبوق تمثل في الحصول على 13 مقعدًا، ما جعلها ثالث أكبر كتلة في الكنيست آنذاك. هذا الإنجاز أعطى دفعة قويّة لآمال المواطنين العرب بأنّ وحدتهم السياسيّة يمكن أن تشكّل وزنًا مؤثرًا في المعادلة الإسرائيليّة. إلا أنّ هذه التجربة سرعان ما اصطدمت بعقبات داخليّة وخارجيّة؛ فالتباينات الأيديولوجيّة بين مكوناتها، إضافة إلى الصراعات الشخصيّة والقياديّة، أدت إلى تفككها لاحقًا وانقسامها إلى قوائم متنافسة، وهو ما أعاد مشهد التشرذم وأضعف قوة الصوت العربي.
حين نتحدث عن فاعليّة الأحزاب العربيّة في الكنيست، لا بدّ من تحديد المقصود بالفعّاليّة. فهل هي القدرة على سنّ تشريعات تعالج قضايا المجتمع العربي؟ أم القدرة على منع تشريعات تمييزيّة؟ أم أنّها تكمن في رفع الصوت العربي داخل المؤسسة الإسرائيليّة وإيصال معاناة الناس إلى الرأي العامّ المحلي والعالمي؟ الواقع أنّ أدوات القياس هنا معقدة، لأنّ البيئة السياسيّة الإسرائيليّة قائمة على هيمنة الأحزاب الصهيونيّة التي تحدد قواعد اللعبة، وتضع حدودًا صارمة لما يمكن أن ينجزه النواب العرب. إنّ مقاعد العرب، التي نادرًا ما تتجاوز 10 إلى 15 مقعدًا، تظل هامشيّة إذا ما قورنت بمجموع مقاعد الكنيست (120). وحتى في لحظات قوة نسبيّة، كما حدث مع القائمة المشتركة، فإن القدرة على الانضمام إلى ائتلاف حكومي تبقى شبه معدومة، نظرًا لرفض معظم الأحزاب الصهيونيّة إشراك العرب في الحكم، واعتبارهم "خطرًا أمنيًا" أو "خطرًا على الطابع اليهودي للدولة".
رغم ذلك، لا يمكن إنكار أنّ الأحزاب العربيّة حققت بعض الإنجازات الملموسة. فقد نجح النواب العرب في دفع قضايا التعليم والإسكان والبنية التحتيّة إلى واجهة النقاش السياسي، كما أسهموا في تخصيص ميزانيات أكبر للسلطات المحليّة العربيّة، خصوصًا عبر خطط خمسيّة أقرتها الحكومات الإسرائيليّة تحت ضغط المطالب البرلمانيّة والمجتمعيّة. كذلك لعب النواب العرب دورًا بارزًا في كشف سياسات التمييز في الإعلام الإسرائيلي والدولي، حيث أصبح الكنيست منصة لإيصال الرواية الفلسطينيّة والدفاع عن الحقوق المدنية أمام جمهور واسع. كما أسهم بعض النواب في منع تمرير قوانين أو تعديلها بما يحد من طابعها التمييزي. غير أنّ هذه الإنجازات تبقى جزئيّة ومحدودة إذا ما قورنت بحجم التحديات البنيويّة التي يواجهها المجتمع العربي: أزمة السكن نتيجة سياسات التخطيط، هدم البيوت، معدلات الفقر والبطالة، تفشي العنف والجريمة، والفجوات العميقة في التعليم والصحة.
على الجانب الآخر، تواجه الأحزاب العربيّة انتقادات واسعة من داخل المجتمع العربي نفسه. فالكثير من المواطنين يشعرون بأن ممثليهم غارقون في صراعات شخصيّة وحزبيّة ضيقة، وأنهم عاجزون عن تحقيق إنجازات ملموسة على الأرض. الانقسام المتكرر بين الأحزاب، كما حدث في تفكك القائمة المشتركة، عمّق أزمة الثقة، وجعل نسبة التصويت العربي في بعض الدورات الانتخابيّة متدنيّة للغاية. يُضاف إلى ذلك أنّ الخطاب البرلماني كثيرًا ما يُنظر إليه على أنه خطاب نخبوي بعيد عن هموم الناس اليومية، خاصة في ظل تفشي العنف والجريمة الذي بات الهم الأول للأسر العربية. كثيرون يتساءلون: ما جدوى وجود نواب في الكنيست إذا كان الشارع العربي غارقًا في الدماء، والدولة تتقاعس عن جمع السلاح وملاحقة المجرمين؟ هذا السؤال يقوّض شرعيّة المشاركة البرلمانيّة ويدفع بعض الأصوات إلى تبني خيار المقاطعة باعتباره أكثر مصداقيّة.
لكن خيار المقاطعة بدوره ليس بلا إشكاليات. فالمقاطعة قد تعبّر عن موقف سياسي راديكالي يرفض إضفاء الشرعيّة على النظام، لكنها في الوقت ذاته تفرّغ الساحة البرلمانيّة من الصوت العربي وتتركها بالكامل للأحزاب الصهيونيّة. هذا الخيار يُضعف القدرة على التأثير حتى في الملفات المدنيّة اليوميّة التي تهم حياة الناس المباشرة. هنا يبرز الجدل المستمر: هل المطلوب هو تحسين شروط العيش اليوميّة ولو عبر المشاركة في مؤسسة محدودة الفاعليّة، أم أنّ المطلوب هو موقف مبدئي جذري حتى لو كانت له كلفة اجتماعيّة واقتصاديّة عالية؟ الواقع أنّ المجتمع العربي منقسم بين هذين الاتجاهين، وهذا الانقسام ينعكس بوضوح في نسب التصويت وتقلباتها بين دورة وأخرى.
في السنوات الأخيرة، برزت تجربة الحركة الإسلاميّة (الشق الجنوبي) بقيادة منصور عباس، التي أحدثت جدلاً واسعًا حين قررت خوض تجربة المشاركة في ائتلاف حكومي إسرائيلي لأول مرة في تاريخ العرب في الداخل. هذه الخطوة اعتُبرت جريئة ومثيرة، لأنها كسرت "تابو" تقليديًا يقوم على رفض الانضمام لأي حكومة إسرائيليّة. الحركة الإسلامية بررت خطوتها بأنها تسعى لتحقيق إنجازات عملية للمجتمع العربي من داخل مراكز القرار، وقد نجحت بالفعل في انتزاع وعود وميزانيات بمليارات الشواكل لصالح السلطات المحليّة العربيّة. لكنّ التجربة كشفت أيضًا حدود هذا الخيار، إذ اصطدمت الحركة بقيود الائتلافات اليمينية التي لم تتبنّ أجندة حقيقيّة للمساواة، وأظهرت أنّ الانخراط في الحكومة لا يعني بالضرورة القدرة على إحداث تغيير جوهري في السياسات التمييزية. لقد دفع هذا الجدل إلى إعادة طرح السؤال القديم مجددًا: هل المطلوب براغماتيّة مباشرة تسعى إلى جني المكاسب المعيشية، أم ثبات على الموقف المبدئي الذي يرفض الاندماج المشروط في منظومة تعتبر العرب أقليّة غير مرغوب فيها؟
من زاوية أخرى، يمكن القول إنّ فعّاليّة الأحزاب العربيّة ليست فقط في ما تحققه داخل الكنيست، بل في قدرتها على تمثيل الصوت العربي وإبقائه حاضرًا في الحلبة السياسيّة. فغياب هذا الصوت يعني تهميشًا كاملًا لقضايا العرب، بينما وجوده – حتى وإن كان محدود التأثير – يبقي هذه القضايا على جدول الأعمال الوطني والإعلامي. ومع ذلك، فإنّ استمرار حالة الانقسام، وفقدان الثقة الشعبيّة، والافتقار إلى استراتيجيّة موحدة، كلها عوامل تجعل هذا الصوت ضعيفًا ومتقطعًا. وهذا يفسر إلى حد بعيد حالة الإحباط التي يشعر بها الكثير من الشباب العرب الذين لا يرون في الكنيست منصة قادرة على تلبية طموحاتهم الوطنيّة والمدنيّة.
إنّ التحدي الأكبر الذي يواجه الأحزاب العربيّة اليوم هو كيفية إعادة بناء الثقة مع جمهورها، عبر تجاوز الصراعات الحزبيّة الضيقة وصياغة برنامج موحد يعالج القضايا الأكثر إلحاحًا: مكافحة العنف والجريمة، أزمة السكن، تحسين جودة التعليم، تعزيز الخدمات الصحيّة، والدفاع عن الأرض والمسكن. هذه القضايا تمسّ حياة الناس مباشرة وتشكل المدخل الأساسي لاستعادة الثقة. في المقابل، يحتاج العرب أيضًا إلى تطوير استراتيجيات موازية خارج الكنيست، عبر المجتمع المدني والجمعيات الحقوقيّة والعمل الشعبي المحلي، بحيث لا يكون البرلمان هو الساحة الوحيدة للنضال.
اجمالاً لما تقدّم، يمكن القول: إنً فعالية الأحزاب العربيّة في الكنيست تبقى محدودة ببنية النظام السياسي الإسرائيلي الذي يضع قيودًا صارمة على أي إمكانيّة للتأثير الجوهري. ومع ذلك، فإنّ وجود هذه الأحزاب ضروري للحفاظ على الحد الأدنى من التمثيل والدفاع عن الحقوق المدنيّة، حتى وإن كان هذا الوجود محفوفًا بالتحديات والتناقضات. إنّ المعضلة ليست في مجرد المشاركة أو المقاطعة، بل في القدرة على ابتكار استراتيجية سياسية شاملة تعترف بحدود الممكن داخل الكنيست، وتوسع في الوقت ذاته فضاءات العمل خارج البرلمان لبناء قوة مجتمعية حقيقيّة. ربما يكون المستقبل رهينًا بمدى قدرة الأحزاب العربيّة على تجاوز خلافاتها، والانفتاح على قوى شبابيّة ومجتمعيّة جديدة، وصياغة خطاب يجمع بين الواقعيّة السياسية والتمسك بالحقوق الجماعيّة. عندها فقط يمكن الحديث عن فاعليّة حقيقيّة، لا بمعناها العددي أو الإجرائي الضيق، بل بمعناها الوجودي الذي يضمن بقاء الصوت العربي حاضرًا وقادرًا على المقاومة والتأثير، ولو في حدود الممكن والممنوع.
الطيرة – 2.9.2025
#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟