أحمد كامل ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 13:50
المحور:
الادب والفن
ارتبط مفهوم الأطلال في الوعي العربي منذ أقدم العصور بجدلية الحضور والغياب، الذاكرة والنسيان، الأمل واليأس، إذ شكّل هذا الرمز الشعري مادةً خصبة للأدباء والشعراء عبر مختلف العصور. وإذا كان الطلل في الشعر الجاهلي قد اتخذ شكل الوقوف على بقايا الديار المهدمة والأنقاض التي تركها الأحباب الراحلين، فإن الأدب الحديث أعاد ابتكار هذا الرمز وصاغه في ضوء التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي عصفت بالعالم العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. لقد تحول الطلل من مجرد مشهدٍ حسيٍّ لبقايا العمران إلى استعارة كبرى تعبّر عن الذاكرة الجمعية، وعن الخراب الذي لحق بالمدن والإنسان في آن واحد، وعن التوتر بين الرغبة في التذكر والخوف من الغياب النهائي. ومن هنا، فإن دراسة الأطلال في الأدب الحديث لا تعني مجرد تتبع استعادة صورة قديمة، بل الغوص في كيفية إعادة إنتاجها لتصبح سردية معاصرة عن الهوية، وعن علاقة الإنسان العربي بماضيه، وعن محاولاته الدؤوبة لاستنطاق الرموز التراثية في مواجهة حاضر مأزوم.
لقد ظل الأدب الحديث، شعرًا ونثرًا، مشغولاً بفكرة الأطلال باعتبارها نقطة تماس بين التاريخ والذاكرة الفردية والجماعية. فنزار قباني مثلاً يستحضر صورة الخراب ليس فقط بوصفه فقدانًا مكانيًا، بل كجرح داخلي يرمز إلى الخسارة الإنسانية في سياقات الحروب والهزائم (أنظر قباني، 1992، ص. 114). أما بدر شاكر السياب فقد جعل من صورة الأنقاض في قصائده استعارة لانكسار الذات وانهيار الحلم القومي، حيث تتجاور الأطلال مع الأمطار في بناء جدلية بين الخراب والخصب (السياب، 1968، ص. 77). ومن جهته، فإن أدونيس حوّل الطلل إلى فضاء للتفكيك وإعادة البناء، حيث يرى أن الوقوف على الأطلال ليس مجرد بكاء على الماضي، بل تفكيك لبنية الذاكرة وإعادة إنتاجها نقديًا (أدونيس، 2002، ص. 56). وفي هذا السياق، فإن الأطلال لم تعد في الأدب الحديث مجرد أثر عمراني، بل أصبحت علامة نصية كثيفة الدلالات، تنفتح على التاريخ والسياسة والوجود الإنساني برمّته.
تتجلى أهمية الأطلال في الأدب الحديث في كونها تُعبِّر عن ذاكرة جمعية مضطربة. فإذا كان الوقوف على الأطلال في الجاهلية يرمز إلى فراق المحبوب ورحيله، فإن الطلل في العصر الحديث يرمز إلى ما هو أبعد من ذلك: إلى الخراب السياسي والاجتماعي الذي شهده العالم العربي في ظل الاستعمار وما بعده. فقد أصبحت المدن المدمرة في الحروب، مثل بيروت وبغداد ودمشق، أطلالاً حقيقية تُستدعى في النصوص الأدبية بوصفها شواهد على غياب الأمن والاستقرار. في رواية باب الشمس لإلياس خوري، مثلاً، تصبح المخيمات الفلسطينية أطلالاً للذاكرة، حيث تتداخل حياة المنفيين مع أطلال القرى التي دُمّرت، ويتحوّل النص إلى محاولة سردية للحفاظ على الذاكرة في مواجهة محوها (راجع خوري، 1998، ص. 231). وهنا يظهر أن الأطلال ليست مجرد ذكرى رومانسية، بل أداة للمقاومة الثقافية، إذ تُستعاد للتشبث بالهوية ومنع الاندثار.
وإذا انتقلنا إلى حقل النقد الثقافي، نجد أن مفهوم الأطلال في الأدب الحديث قد ارتبط بما يسميه جان أسمان "الذاكرة الحضاريّة" التي لا تقتصر على استدعاء الماضي، بل تعمل على إعادة تشكيله من أجل خدمة الحاضر والمستقبل (Assmann, 2011, p. 45). فالكاتب العربي حين يستحضر الأطلال في نصه، فإنه لا يكتفي بالبكاء على الماضي، بل يوظفها أداة لقراءة الحاضر وتفسيره. إن الطلل هنا يصبح وسيطًا بين الفرد وجماعته، بين التاريخ الشخصي والتاريخ القومي، بين الخراب المادي وإمكان إعادة البناء. ومن هذا المنظور، فإن الأطلال تتحول إلى سرديات متجددة للذاكرة والغياب، إذ تشير في آن واحد إلى ما كان وما لم يعد، إلى ما هو حاضر في الذاكرة وغائب في الواقع.
لقد اتخذت الأطلال في الأدب الحديث أشكالاً متعددة تتجاوز الشعر والرواية إلى المسرح والفن التشكيلي وحتى السينما. ففي المسرح، نجد أن سعد الله ونوس مثلاً استحضر صورة الخراب في مسرحياته بوصفها انعكاسًا لانهيار الحلم القومي بعد هزيمة 1967، حيث تحولت الخشبة إلى طلل رمزي يجسد خراب البنية الاجتماعية والسياسية (ونوس، 1995، ص. 89). أما في الفن التشكيلي العربي، فقد ظهرت لوحات تجسد البيوت المدمرة والقرى المهجورة بوصفها أطلالاً حديثة تثير الأسئلة حول الذاكرة والهوية. وفي السينما، نجد أن أفلامًا مثل بيروت الغربية لزياد دويري (1998) صورت مدينة بيروت كطلل كبير يختزن قصص الفقد والتشظي والذاكرة الجريحة. إن هذا التعدد في تمثيل الأطلال يثبت أن الرمز لا يقتصر على حقل إبداعي بعينه، بل يشكّل عنصرًا بنيويًا في الخيال العربي الحديث.
ويمكن القول إن إعادة إنتاج ثيمة الأطلال في الأدب الحديث لم تكن بريئة، بل جاءت في سياق جدل بين التراث والحداثة. فبينما كان الشعراء الجاهليون يقفون على الأطلال ليبكوا المحبوب، فإن الشعراء الحداثيين يقفون عليها ليبكوا الأمة بأكملها، أو ليعيدوا مساءلة التاريخ. إن الطلل في هذا السياق يتحول إلى نصٍّ مفتوح يتيح إعادة قراءة الماضي وتفكيكه، وهو ما نجده بوضوح في شعر أدونيس الذي يرى أن مهمة الشعر الجديد ليست المحافظة على التراث كما هو، بل إعادة بنائه من جديد (أدونيس، 2002، ص. 103). وعلى هذا النحو، فإن الأطلال تعكس صراع الأدب الحديث مع سؤال الهوية: هل نحن أبناء ماضٍ منتهٍ أم أبناء حاضر يتشكل من جديد؟ وهل الطلل علامة على موت الهوية أم على استمرارها رغم الخراب؟
إن العلاقة بين الأطلال والذاكرة في الأدب الحديث تتجسد كذلك في تجربة المنفى والاغتراب. فالكثير من الأدباء العرب الذين عاشوا في المنفى استعادوا صورة الأطلال بوصفها رمزًا للوطن المفقود. محمود درويش مثلاً استعاد صورة القرى الفلسطينية المدمرة لتصبح أطلالاً للذاكرة الجماعية، حيث تتحول القصيدة إلى سجل يحفظ ما مُحِي من الواقع (درويش، 2000، ص. 65). إن الأطلال هنا ليست أنقاضًا مادية وحسب، بل هي أيضًا أنقاض معنوية، أنقاض العلاقات الإنسانية، واللغة، والذاكرة. وفي هذا المعنى، فإن الطلل يشير إلى الغياب بقدر ما يشير إلى الحضور، إذ لا يمكن الحديث عن الأطلال إلا من خلال استحضار ما غاب عنها.
وعلى المستوى النظري، يمكن ربط حضور الأطلال في الأدب الحديث بالمقاربات الفلسفية للذاكرة والغياب. فبول ريكور، في كتابه الذاكرة، التاريخ، النسيان، يرى أن الذاكرة ليست مجرد تسجيل ميكانيكي للأحداث، بل عملية تأويلية معقدة تحضر فيها الرغبة والنسيان معًا (Ricoeur, 2004, p. 21). وإذا أسقطنا هذا المفهوم على الأدب العربي الحديث، نجد أن استدعاء الأطلال ليس استعادة محايدة للماضي، بل هو إعادة كتابته وفقًا لأسئلة الحاضر واحتياجاته. فالكاتب حين يصف الأطلال، فإنه في الحقيقة يعيد صياغة ذاكرته وذاكرة جماعته، محولاً الخراب إلى خطاب ثقافي.
ومع كل ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا: هل الأطلال في الأدب الحديث تمثل فقط سرديات الحزن والخراب، أم أنها تنطوي أيضًا على إمكان للتجدد والأمل؟ الواقع أن النصوص الحديثة لا تخلو من إشارات إلى إمكان النهوض من تحت الركام. فالسياب، على سبيل المثال، يقرن الأطلال بالمطر، أي بالخصب وتجدد الحياة (السياب، 1968، ص. 102). وكذلك درويش حين يكتب عن القرى المدمرة، فإنه في الوقت نفسه يكتب عن الأمل في العودة، وعن الذاكرة التي تحمي الهوية من الفناء (درويش، 2000، ص. 88). ومن هنا، فإن الأطلال ليست نهاية مفتوحة على العدم، بل بداية ممكنة لسرديات جديدة، تعكس قدرة الأدب على تحويل الخراب إلى مادة للحياة.
يمكن القول: إنّ ثيمة الأطلال في الأدب الحديث لم تعد مجرد صورة شعرية جامدة تستعيد ماضيًا مندثرًا، بل أصبحت فضاءً رحبًا تتقاطع فيه السرديات المتعددة للذاكرة والغياب. فهي مرآة تحمل في طياتها معاني الخراب من جهة، وملاذًا يحفظ هوية الفرد والجماعة من جهة أخرى. في الأدب الحديث، تحوّل الطلل إلى استعارة نقدية تكشف عن هشاشة البناء الاجتماعي والسياسي، كما صار إطارًا لإعادة التفكير في التاريخ وتدوينه من جديد. من هنا، فإن الأطلال لم تفقد بريقها بوصفها رمزًا جماليًا، بل اتخذت بعدًا إنسانيًا يتجاوز حدود الشعر إلى فضاءات السرد الروائي والمسرحي والفني. إن الذاكرة التي تُستحضر عبر الأطلال لا تعني الحنين الساذج، بل الوعي العميق بالغياب والقدرة على تحويل الخراب إلى خطاب يعيد إنتاج الهوية من جديد. وبذلك يصبح حضور الأطلال في الأدب الحديث سردية متجددة للذاكرة والغياب، تعكس قدرة الأدب العربي على إعادة ابتكار رموزه الكلاسيكية في ضوء تحديات الحاضر وأسئلته المفتوحة.
ثبت بالمراجع
• أدونيس (2002). الكتاب: أمس المكان الآن. بيروت: دار الساقي.
• أسمان، جان (2011). الذاكرة الثقافية. ترجمة: جورج كتورة. بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
• خوري، إلياس (1998). باب الشمس. بيروت: دار الآداب.
• درويش، محمود (2000). جداريّة. بيروت: رياض الريس.
• السياب، بدر شاكر (1968). ديوان بدر شاكر السياب. بيروت: دار العودة.
• قباني، نزار (1992). الأعمال الشعرية الكاملة. بيروت: منشورات نزار قباني.
• ونوس، سعد الله (1995). الأعمال الكاملة. بيروت: دار الآداب.
• Assmann, J. (2011). Cultural Memory and Early Civilization: Writing, Remembrance, and Political Imagination. Cambridge: Cambridge University Press.
• Ricoeur, P. (2004). Memory, History, Forgetting. Chicago: University of Chicago Press.
#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟